فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب وكالة المرأة الإمام في النكاح

(بابُُ وكالَةِ الإمْرَأةِ الإمامَ فِي النِّكَاحِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم تَوْكِيل الْمَرْأَة الإِمَام فِي عقد النِّكَاح وَالْوكَالَة يَعْنِي: التَّوْكِيل مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَالْإِمَام، بِالنّصب مَفْعُوله، وَفِي بعض النّسخ وكَالَة الْمَرْأَة.



[ قــ :2214 ... غــ :2310 ]
- حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قَالَ جاءَتْ امْرأةٌ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ يَا رسولَ الله إنِّي قَدْ وهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِي فَقالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا قَالَ قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا معَكَ مِنَ القُرآنِ.
.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَرْأَة لما قَالَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قد وهبت لَك نَفسِي، كَانَ ذَلِك كَالْوكَالَةِ على تَزْوِيجهَا من نَفسه أَو مِمَّن رأى تَزْوِيجهَا مِنْهُ، وَقد جَاءَ فِي كتاب النِّكَاح أَنَّهَا جعلت أمرهَا إِلَيْهِ صَرِيحًا، وَهُوَ طَرِيق من طرق حَدِيث الْبابُُ، وَبِهَذَا يُجَاب عَمَّا قَالَه الدَّاودِيّ أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استأذنها، وَلَا أَنَّهَا وكلته.
وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: اسْمه سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج، وَسَهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد وَفِي النِّكَاح عَن عبد الله بن يُوسُف أَيْضا.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي النِّكَاح عَن القعْنبِي.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن هَارُون بن عبد الله.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَت امْرَأَة) ، اخْتلف فِي اسْمهَا، فَقيل: هِيَ خَوْلَة بنت حَكِيم، وَقيل: هِيَ أم شريك الْأَزْدِيَّة.
وَقيل مَيْمُونَة، ذكر هَذِه الْأَقْوَال أَبُو الْقَاسِم بن بشكوال فِي كتاب (المبهمات) : وَالصَّحِيح أَنَّهَا خَوْلَة أَو أم شريك، لِأَنَّهُمَا، وَإِن كَانَتَا مِمَّن وهبت نفسهما للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه لم يتَزَوَّج بهما، وَأما مَيْمُونَة فَإِنَّهَا إِحْدَى زَوْجَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا يَصح أَن تكون هَذِه، لِأَن هَذِه قد زَوجهَا لغيره، وَقد روى الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة سماك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس.
قَالَ: لم يكن عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأَة وهبت نَفسهَا لَهُ، لِأَنَّهُ لم يقبلهن وَإِن كن حَلَالا.
قَوْله: (وهبت لَك من نَفسِي) ويروى: (وهبت لَك نَفسِي، بِدُونِ كلمة: من.
قَالَ النَّوَوِيّ: قَول الْفُقَهَاء: وهبت من فلَان كَذَا، مِمَّا يُنكر عَلَيْهِم.
قلت: لَا وَجه للإنكار لِأَن: من، تَجِيء زَائِدَة فِي الْمُوجب، وَهِي جَائِزَة عِنْد الْأَخْفَش والكوفيين.
قَوْله: (فَقَالَ رجل: زوجنيها) ، وَلَفظه فِي النِّكَاح: (فَقَامَ رجل من أَصْحَابه فَقَالَ: يَا رَسُول الله { إِن لم يكن لَك بهَا حَاجَة فزوجنيها) .
قَوْله: (قد زَوَّجْنَاكهَا بِمَا مَعَك من الْقُرْآن) .
وَاخْتلفت الرِّوَايَات فِي هَذِه اللَّفْظَة، فَفِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: (زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: ملكتكها، وَفِي رِوَايَة لَهُ: أملكناكها، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر الْهَرَوِيّ: أمكناكها، وَفِي أَكثر رِوَايَات (الْمُوَطَّأ) : أنكحتكها، وَكَذَا فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم فِي أَكثر نسخه: ملكتكها، على بِنَاء الْمَجْهُول، وَكَذَا نَقله القَاضِي عِيَاض عَن رِوَايَة الْأَكْثَرين لمُسلم،.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: رِوَايَة من روى: ملكتكها، وهم، قَالَ: الصَّوَاب رِوَايَة من روى: زوجتكها، قَالَ: وهم أَكثر وأحفظ.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وَيحْتَمل صِحَة اللَّفْظَيْنِ، وَيكون جرى لفظ التَّزْوِيج أَولا فملكها، ثمَّ قَالَ لَهُ: إذهب فقد ملكتكها بِالتَّزْوِيجِ السَّابِق.
قلت: هَذَا هُوَ الْوَجْه، وَقد ذكرنَا أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي التَّوْحِيد، وَلكنه مُخْتَصر جدا.
وَأخرجه فِي كتاب النِّكَاح فِي: بابُُ تَزْوِيج الْمُعسر، وَلَفظه: جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: يَا رَسُول الله}
جِئْت أهب لَك نَفسِي.
قَالَ: فَنظر إِلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَصَعدَ النّظر إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثمَّ طأطأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأسه، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَة أَنه لم يقضِ فِيهَا شَيْئا، جَلَست، فَقَامَ رجل من أَصْحَابه، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن لم يكن لَك بهَا حَاجَة فزوجنيها.
قَالَ: وَهل عنْدك من شَيْء؟ قَالَ: لَا، وَالله يَا رَسُول الله! فَقَالَ: إذهب إِلَى أهلك فَانْظُر.
هَل تَجِد شَيْئا؟ فَذهب ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَالله يَا رَسُول الله مَا وجدت شَيْئا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أنظر وَلَو خَاتمًا من حَدِيد، وَلَكِن هَذَا إزَارِي.
قَالَ: مَاله رادء فلهَا نصفه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا تصنع بإزارك إِن لبسته لم يكن عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْء، وَإِن لبسته لم يكن عَلَيْك مِنْهُ شَيْء؟ فَجَلَسَ الرجل حَتَّى إِذا طَال مَجْلِسه، قَامَ فَرَآهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موليا، فَأمر بِهِ، فدعي، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ لَهُ: مَاذَا مَعَك من الْقُرْآن؟ قَالَ: معي سُورَة كَذَا وَكَذَا، عَددهَا، قَالَ: تقرؤهن عَن ظهر قَلْبك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: إذهب فقد ملكتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن.
وَإِنَّمَا سقنا هَذَا هَهُنَا لِأَنَّهُ كالشرح لحَدِيث الْبابُُ يُوضح مَا فِيهِ من الْأَحْكَام.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ يشْتَمل على أَحْكَام:
الأول فِيهِ: جَوَاز هبة الْمَرْأَة نَفسهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ من خَصَائِصه، لقَوْله تَعَالَى: { وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي} (الْأَحْزَاب:: 05) .
الْآيَة ... قَالَ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: لَا تحل الْهِبَة لأحد بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: أجمع الْعلمَاء على أَنه لَا يجوز أَن يطَأ فرجا وهب لَهُ وَطْؤُهُ دون رقبته بِغَيْر صدَاق.

الثَّانِي فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجوز لَهُ اسْتِبَاحَة من شَاءَ مِمَّن وهبت نَفسهَا لَهُ بِغَيْر صدَاق، وَهَذَا أَيْضا من الخصائص.

الثَّالِث: اسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالْحسن بن حَيّ، على أَن النِّكَاح ينْعَقد بِلَفْظ الْهِبَة، فَإِن سمى مهْرا لزمَه، وَإِن لم يسم فلهَا مهر الْمثل؟ قَالُوا: وَالَّذِي خص بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تعرى الْبضْع من الْعِوَض لَا النِّكَاح، بِلَفْظ الْهِبَة: وَعَن الشَّافِعِي لَا ينْعَقد إلاَّ بِالتَّزْوِيجِ أَو الْإِنْكَاح، وَبِه قَالَ ربيعَة وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَدَاوُد وَآخَرُونَ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم: إِن وهب ابْنَته وَهُوَ يُرِيد إنكاحها فَلَا أحفظه عَن مَالك، وَهُوَ عِنْدِي جَائِز كَالْبيع، وَحَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن أَكثر الْمَالِكِيَّة الْمُتَأَخِّرين، ثمَّ قَالَ: الصَّحِيح أَنه لَا ينْعَقد بِلَفْظ الْهِبَة نِكَاح كَمَا أَنه لَا ينْعَقد بِلَفْظ النِّكَاح هبة شَيْء من الْأَمْوَال وَفِي الْجَوَاهِر، أَرْكَان النِّكَاح أَرْبَعَة: الصِّيغَة: وَهِي كل لفظ يَقْتَضِي التَّمْلِيك على التَّأْبِيد فِي حَال الْحَيَاة كالإنكاح وَالتَّزْوِيج وَالتَّمْلِيك وَالْبيع وَالْهِبَة، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، قَالَ القَاضِي أَبُو الْحسن، وَلَفظ الصَّدَقَة، وَفِي (الرَّوْضَة) للنووي: وَلَا ينْعَقد بِغَيْر لفظ التَّزْوِيج والإنكاح، وَكَذَا قَالَ فِي (حاوي) الْحَنَابِلَة.

الرَّابِع فِيهِ: اسْتِحْبابُُ عرض الْمَرْأَة نَفسهَا على الرجل الصَّالح ليتزوجها.

الْخَامِس: فِيهِ: أَنه يسْتَحبّ لمن طلبت إِلَيْهِ حَاجته وَهُوَ لَا يُرِيد أَن يَقْضِيهَا أَن لَا يخجل الطَّالِب بِسُرْعَة الْمَنْع، بل يسكت سكُوتًا يفهم السَّائِل ذَلِك مِنْهُ، أللهم إلاَّ إِذا لم يفهم السَّائِل ذَلِك إلاَّ بِصَرِيح الْمَنْع، فَيصح.
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن أبي حَازِم: التَّصْرِيح بِالْمَنْعِ، بقوله فَقَالَ مَالك: مَا لي الْيَوْم فِي النِّسَاء حَاجَة.

السَّادِس فِيهِ: أَن من طلب حَاجَة يُرِيد بهَا الْخَيْر فَسكت عَنهُ لَا يرجع من أول وهلة لاحْتِمَال قَضَائهَا فِيمَا بعد، وَفِي رِوَايَة للطبراني: فَقَامَتْ حَتَّى راقبنا لَهَا من طول الْقيام ... الحَدِيث، بل لَا بَأْس بتكرار السُّؤَال إِذا لم يجب.

السَّابِع فِيهِ: أَنه لَا بَأْس بِالْخطْبَةِ لمن عرضت نَفسهَا على غَيره إِذا صرح المعروض بِالرَّدِّ أَو فهم مِنْهُ بِقَرِينَة الْحَال.

الثَّامِن: فِيهِ: إنعقاد النِّكَاح بالاستيجاب وَإِن لم يُوجد بعد الْإِيجَاب قبُول، وَقد بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ: بابُُ إِذا قَالَ الْخَاطِب للْوَلِيّ: زَوجنِي فُلَانَة، فَقَالَ: زوجتكها بِكَذَا وَكَذَا، جَازَ النِّكَاح وَإِن لم يقل الزَّوْج رضيت أَو قبلت، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ،.

     وَقَالَ  الرَّافِعِيّ: إِن هَذَا هُوَ النَّص، وَظَاهر الْمَذْهَب قَالَ وَحكى الإِمَام وَجها، أَن من الْأَصْحَاب من أثبت فِيهِ الْخلاف.

التَّاسِع: أَن التَّعْلِيق فِي الاستيجاب لَا يمْنَع من صِحَة العقد،.

     وَقَالَ  شَيخنَا: قد أطلق أَصْحَاب الشَّافِعِي تَصْحِيح القَوْل بِأَن النِّكَاح لَا يقبل التَّعْلِيق، قَالَ الرَّافِعِيّ: إِنَّه الْأَصَح الَّذِي ذكره الْأَكْثَرُونَ، وحكوا عَن أبي حنيفَة صِحَة النِّكَاح مَعَ التَّعْلِيق.
قلت: مَذْهَب الإِمَام أَنه إِذا علق النِّكَاح بِالشّرطِ يبطل الشَّرْط وَيصِح النِّكَاح، كَمَا إِذا قَالَ: تَزَوَّجتك بِشَرْط أَن لَا يكون لَك مهر.

الْعَاشِر: فِيهِ: اسْتِحْبابُُ تعْيين الصَدَاق، لِأَنَّهُ أقطع للنزاع وأنفع للْمَرْأَة، لِأَنَّهَا إِذا طلقت قبل الدُّخُول وَجب لَهَا نصف الْمُسَمّى، بِخِلَاف مَا إِذا لم يسم الْمهْر فَإِنَّهُ إِنَّمَا تجب الْمُتْعَة.

الْحَادِي عشر: فِيهِ: جَوَاز تَزْوِيج الْوَلِيّ وَالْحَاكِم الْمَرْأَة للمعسر إِذا رضيت بِهِ.

الثَّانِي عشر: فِيهِ: أَنه لَا بَأْس للمعسر المعدم أَن يتَزَوَّج امْرَأَة إِذا كَانَ مُحْتَاجا إِلَى النِّكَاح، لِأَن الظَّاهِر من حَال هَذَا الرجل الَّذِي فِي الحَدِيث أَنه كَانَ مُحْتَاجا إِلَيْهِ، وإلاَّ لما سَأَلَهُ مَعَ كَونه غير وَاجِد إلاَّ إزَاره، وَلَيْسَ لَهُ رِدَاء، فَإِن كَانَ غير مُحْتَاج إِلَيْهِ يكره لَهُ ذَلِك.

الثَّالِث عشر فِي قَوْله: إزارك إِن أَعْطيته جَلَست وَلَا إِزَار لَك، دَلِيل على أَن الْمَرْأَة تسْتَحقّ جَمِيع الصَدَاق بِالْعقدِ قبل الدُّخُول، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَنحن نقُول: لَا تسْتَحقّ إلاَّ النّصْف، وَبِه قَالَ مَالك، وَعنهُ كَقَوْل الشَّافِعِي.

الرَّابِع عشر: اسْتدلَّ الشَّافِعِي بقوله: وَلَو خَاتمًا من حَدِيد، على أَنه يَكْتَفِي بِالصَّدَاقِ، بِأَقَلّ مَا يتمول بِهِ كخاتم الْحَدِيد وَنَحْوه.
وَفِي (الرَّوْضَة) : لَيْسَ للصداق حد مُقَدّر بل كل مَا جَازَ أَن يكون ثمنا ومثمنا أَو أُجْرَة جَازَ جعله صَدَاقا، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَمذهب مَالك: أَنه لَا يرى فِيهِ عددا معينا، بل يجوز بِكُل مَا وَقع عَلَيْهِ الِاتِّفَاق، غير أَنه يكون مَعْلُوما: وَعَن مَالك: لَا يجوز بِأَقَلّ من ربع دِينَار،.

     وَقَالَ  ابْن حزم: وَجَائِز أَن يكون صَدَاقا كل مَا لَهُ نصف، قل أَو كثر، وَلَو أَنه حَبَّة بر أَو حَبَّة شعير أَو غير ذَلِك، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أكره أَن يكون الْمهْر مثل أجر الْبَغي، وَلَكِن الْعشْرَة وَالْعشْرُونَ.
وَعنهُ: السّنة فِي النِّكَاح الرطل من الْفضة، وَعَن الشّعبِيّ: أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ أَن يتَزَوَّج الرجل على أقل من ثَلَاث أواقي.
وَعَن سعيد بن جُبَير: أَنه كَانَ يحب أَن يكون الصَدَاق خمسين درهما،.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز أَن يكون الصَدَاق أقل من عشرَة دَرَاهِم.
لما روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن شريك عَن دَاوُد الزعافري عَن الشّعبِيّ، قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا مهر بِأَقَلّ من عشرَة دَرَاهِم، وَالظَّاهِر أَنه قَالَ ذَلِك توقيفا، لِأَنَّهُ بابُُ لَا يُوصل إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاس فَإِن قلت.
قَالَ ابْن حزم: الرِّوَايَة عَن عَليّ بَاطِلَة لِأَنَّهَا عَن دَاوُد بن يزِيد الزعافري الأودي وَهُوَ فِي غَايَة السُّقُوط، ثمَّ هِيَ مُرْسلَة لِأَن الشّعبِيّ لم يسمع من عَليّ حَدِيثا.
قلت: قَالَ ابْن عدي: لم أر حَدِيثا مُنْكرا جَاوز الْحَد، إِذْ روى عَنهُ ثِقَة، وَإِن كَانَ لَيْسَ بِقَوي فِي الحَدِيث فَإِنَّهُ يكْتب حَدِيثه وَيقبل إِذا روى عَنهُ ثِقَة، وَذكر الْمزي: أَن الشّعبِيّ سمع عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَئِن سلمنَا أَن رِوَايَته مُرْسلَة فقد قَالَ الْعجلِيّ: مُرْسل الشّعبِيّ صَحِيح، وَلَا يكَاد يُرْسل، إلاَّ صَحِيحا.
وَأما الْجَواب عَن قَوْله: وَلَو خَاتمًا من جَدِيد، فَنَقُول: إِنَّه خَارج مخرج الْمُبَالغَة، كَمَا قَالَ: تصدقوا وَلَو بظلف محرق، وَفِي لفظ: وَلَو بفرسن شَاة، وَلَيْسَ الظلْف والفرسن مِمَّا ينْتَفع بهما وَلَا يتَصَدَّق بهما وَيُقَال: لَعَلَّ الْخَاتم كَانَ يُسَاوِي ربع دِينَار فَصَاعِدا، لِأَن الصواغ قَلِيل عِنْدهم كَذَا قَالَه بعض الْمَالِكِيَّة، لِأَن أقل الصَدَاق عِنْدهم ربع دِينَار.
وَيُقَال: لَعَلَّ التماسه للخاتم لم يكن ليَكُون كل الصَدَاق بل شَيْء يعجله لَهَا قبل الدُّخُول.

الْخَامِس عشر: احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، والظاهرية على أَن: التَّزْوِيج على سُورَة من الْقُرْآن مُسَمَّاة جَائِز، وَعَلِيهِ أَن يعلمهَا.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور: قد ذهب الشَّافِعِي إِلَى هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إِن لم يكن شَيْء يصدقها وَتَزَوجهَا على سُورَة من الْقُرْآن فَالنِّكَاح جَائِز، وَيعلمهَا السُّورَة من الْقُرْآن.
.

     وَقَالَ  بعض أهل الْعلم: النِّكَاح جَائِز وَيجْعَل لَهَا صدَاق مثلهَا.
وَهُوَ قَول أهل الْكُوفَة وَأحمد وَإِسْحَاق.
قلت: وَهُوَ قَول اللَّيْث بن سعد وَأبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَأحمد فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ وَإِسْحَاق.
.

     وَقَالَ  ابْن الجووزي: فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن تَعْلِيم الْقُرْآن يجوز أَن يكون صَدَاقا، وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَالْأُخْرَى: لَا يجوز، وَإِنَّمَا جَازَ لذَلِك الرجل خَاصَّة.
وَأَجَابُوا عَن قَوْله: قد زَوَّجْنَاكهَا بِمَا مَعَك من الْقُرْآن، أَنه إِن حمل على ظَاهره يكون تَزْوِيجهَا على السُّورَة لَا على تعليمها، فالسورة من الْقُرْآن لَا تكون مهْرا بِالْإِجْمَاع، فَحِينَئِذٍ يكون المعني: زوجتكها بِسَبَب مَا مَعَك من الْقُرْآن وبحرمته وببركته، فَتكون الْبَاء للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { أَنكُمْ ظلمتم أَنفسكُم باتخاذكم الْعجل} (الْبَقَرَة: 45) .
وَقَوله تَعَالَى: { فكلاً أَخذنَا بِذَنبِهِ} (العنكبوت: 04) .
وَهَذَا لَا يُنَافِي تَسْمِيَة المَال.
فَإِن قلت: جَاءَ فِي رِوَايَة: على مَا مَعَك من الْقُرْآن.
وَفِي مُسْند أَسد السّنة: مَعَ مَا مَعَك من الْقُرْآن؟ قلت: أما: على، فَإِنَّهُ يَجِيء للتَّعْلِيل أَيْضا كالباء كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} (الْبَقَرَة: 581) .
والمعني لهدايته إيَّاكُمْ وَيكون المعني زوجتها لأجل مَا مَعَك من الْقُرْآن يَعْنِي لأجل حرمته وبركته، وَلَا يُنَافِي هَذَا أَيْضا تَسْمِيَة المَال.
وَأما: مَعَ، فَإِنَّهَا للمصاحبة، وَالْمعْنَى: زوجتكها لمصاحبتك الْقُرْآن، فَالْكل يعود إِلَى معنى وَاحِد، وَهُوَ أَن التَّزْوِيج إِنَّمَا كَانَ على حُرْمَة السُّورَة وبركتها لَا أَنَّهَا صَارَت مهْرا، لِأَن السُّورَة من الْقُرْآن لَا تكون مهْرا بِالْإِجْمَاع، كَمَا ذكرنَا.
فَإِن قلت: الأَصْل فِي: الْبَاء، أَن تكون للمقابلة فِي مثل هَذَا الْموضع، كَمَا فِي نَحْو قَوْلك: بِعْتُك ثوبي بِدِينَار.
قلت: لَا نسلم أَن الأَصْل فِي: الْبَاء، أَن تكون للمقابلة، بل الأَصْل فِيهَا أَنَّهَا مَوْضُوعَة للإلصاق حَتَّى قيل: إِنَّه معنى لَا يفارقها، وَلَو كَانَت للمقابلة هَهُنَا للَزِمَ أَن تكون تِلْكَ الْمَرْأَة كالموهوبة، وَذَلِكَ لَا يجوز إلاَّ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن فِي إِحْدَى رِوَايَات البُخَارِيّ: فقد ملكتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن، فالتمليك هبة، وَالْهِبَة فِي النِّكَاح اخْتصَّ بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله تَعَالَى: { خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} (الْأَحْزَاب: 05) .
فَإِن قلت: معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن، بِأَن تعلمهَا مَا مَعَك من الْقُرْآن أَو مِقْدَارًا مِنْهُ وَيكون ذَلِك صَدَاقهَا، أَي: تعليمها إِيَّاه، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا جَاءَ فِي رِوَايَة لمُسلم: انْطلق فقد زوجتكها فعلمها من الْقُرْآن.
وَجَاء فِي رِوَايَة عَطاء: فعلمها عشْرين آيَة.
قلت: هَذَا عدُول عَن ظَاهر اللَّفْظ بِغَيْر دَلِيل، وَلَئِن سلمنَا هَذَا، فَهَذَا لَا يُنَافِي تَسْمِيَة المَال، فَيكون قد زَوجهَا مِنْهُ مَعَ تحريضه على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَيكون ذَلِك الْمهْر مسكوتا عَنهُ إِمَّا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أصدق عَنهُ كَمَا كفر عَن الواطىء فِي رَمَضَان إِذْ لم يكن عِنْده شَيْء، وودى الْمَقْتُول بِخَيْبَر إِذْ لم يخلف أَهله، كل ذَلِك رفقا بأمته وَرَحْمَة لَهُم، أَو يكون أبقى الصَدَاق فِي ذمَّته وأنكحها نِكَاح تَفْوِيض، حَتَّى يتَّفق لَهُ صدَاق، أَو حَتَّى يكْسب بِمَا مَعَه من الْقُرْآن صَدَاقا، فعلى جَمِيع التَّقْدِير لم يكن فِيهِ حجَّة على جَوَاز النِّكَاح بِغَيْر صدَاق من المَال.

السَّادِس عشر: فِيهِ: أَنه لَا بَأْس بِلبْس خَاتم الْحَدِيد، وَقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: إِنَّه لَا يكره لهَذَا الحَدِيث، وَلِحَدِيث معيقيب: كَانَ خَاتم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَدِيد ملوي عَلَيْهِ فضَّة، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى تَحْرِيمه وَتَحْرِيم الْخَاتم النّحاس أَيْضا لحَدِيث: أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ خَاتم من شبه، قَالَ: مَالِي أجد مِنْك ريح الْأَصْنَام؟ فطرحه، ثمَّ جَاءَ وَعَلِيهِ خَاتم من حَدِيد، فَقَالَ: مَا لي أرى عَلَيْك حلية أهل النَّار؟ فطرحه.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا.

السَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على ولَايَة الإِمَام للنِّكَاح، فَقَالَ: بابُُ السُّلْطَان ولي، لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَوَّجْنَاكهَا بِمَا مَعَك من الْقُرْآن.

الثَّامِن عشر فِيهِ: دلَالَة على أَنه لَيْسَ للنِّسَاء أَن تمْتَنع من تَزْوِيج أحد أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُزَوّجهَا مِنْهُ، غَنِيا كَانَ أَو فَقِيرا، شريفا كَانَ أَو وضيعا، صَحِيحا كَانَ أَو ضَعِيفا.
وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن قَوْله تَعَالَى: { وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا ... } (الْأَحْزَاب: 63) .
الْآيَة، نزلت فِي زَيْنَب لما خطبهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لزيد بن حَارِثَة، فامتنعت، وَفِي إِسْنَاده ضعف.

التَّاسِع عشر: فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز الْخطْبَة على الْخطْبَة مَا لم يتراكنا، لَا سِيمَا مَعَ مَا رأى من زهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا.

الْعشْرُونَ: فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز النّظر للمتزوج وتكراره، والتأمل فِي محاسنها، فهم ذَلِك من قَوْله: فَصَعدَ النّظر إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ.
وَأما النظرة الأولى فمباحة للْجَمِيع.

الْحَادِي والعشريون: فِيهِ دَلِيل على إجَازَة إنكاح الْمَرْأَة دون أَن يسْأَل: هَل هِيَ فِي عدَّة أم لَا، على ظَاهر الْحَال، والحكام يبحثون عَن ذَلِك احْتِيَاطًا، قَالَه الْخطابِيّ.

الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: قَالَ القَاضِي: فِيهِ جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَهُوَ مَذْهَب كَافَّة الْعلمَاء، وَمنعه أَبُو حنيفَة إلاَّ للضَّرُورَة، وعَلى هَذَا اخْتلفُوا فِي أَخذ الْأُجْرَة على الصَّلَاة، وعَلى الْأَذَان وَسَائِر أَفعَال الْبر، فَروِيَ عَن مَالك كَرَاهَة جَمِيع ذَلِك فِي صَلَاة الْفَرْض وَالنَّفْل، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه إلاَّ أَن مَالِكًا أجازها على الْأَذَان، وَأَجَازَ الْإِجَازَة على جَمِيع ذَلِك ابْن عبد الحكم.
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَمنع ذَلِك ابْن حبيب فِي كل شَيْء، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ،.

     وَقَالَ : لَا صَلَاة لَهُ، وَرُوِيَ عَن مَالك إِجَازَته فِي النَّافِلَة، وَرُوِيَ عَنهُ إِجَازَته فِي الْفَرِيضَة دون النَّافِلَة.

الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: قَالَ الإِمَام: قَالَ بعض الْأَئِمَّة، فِيهِ: دَلِيل على أَن الْهِبَة لَا تدخل فِي ملك الْمَوْهُوب لَهُ إلاَّ بِالْقبُولِ، لِأَن الْمَوْهُوبَة كَانَت جَائِزَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد وهبت هَذِه لَهُ نَفسهَا فَلم تصر زَوجته بذلك، قَالَه الشَّافِعِي.

الرَّابِع وَالْعشْرُونَ: قَالَ ابْن عبد الْبر.
فِيهِ: دَلِيل على أَن الصَدَاق إِذا كَانَ جَارِيَة وَوَطئهَا الزَّوْج حد لِأَنَّهُ وطىء ملك غَيره.
قلت: هُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَعند أَصْحَابنَا: إِذا أقرّ أَنه زنى بِجَارِيَة امْرَأَته حد، وَإِن قَالَ: ظَنَنْت أَنَّهَا تحل لي لَا يحد.