فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب كسب البغي والإماء

( بابُُ كَسْبِ الْبَغِيِّ والإماءِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم كسب الْبَغي وَالْإِمَاء الْبَغي الْفَاجِرَة، يُقَال: بَغت الْمَرْأَة تبغي، بِالْكَسْرِ: بغيا إِذا زنت، فَهِيَ بغي، وَيجمع على: بَغَايَا.
وَالْإِمَاء جمع: أمة.
وَالْبَغي أَعم من أَن تكون أمة أَو حرَّة، وَالْأمة أَعم من أَن تكون بغية أَو عفيفة، وَلم يُصَرح بالحكم تَنْبِيها على أَن الْمَمْنُوع من كسب الْبَغي مُطلق، والممنوع من كسب الْأمة مُقَيّد بِالْفُجُورِ، لِأَن كسبها بالصنائع الْجَائِزَة غير مَمْنُوع.

وكَرِهَ إبْرَاهِيمُ أجْرَ النَّائِحَةِ والمُغَنِّيَةِ
إِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي هَاشم عَنهُ: أَنه كره أجر النائحة والمغنية والكاهن، وَكَرِهَهُ أَيْضا الشّعبِيّ وَالْحسن،.

     وَقَالَ  عبد الله بن هُبَيْرَة: وأكلهم السُّحت، قَالَ: مهر الْبَغي، فَإِن قلت: مَا الْمُنَاسبَة فِي ذكر أثر إِبْرَاهِيم هَذَا فِي هَذَا الْبابُُ؟ قلت: قَالَ بَعضهم: كَانَ البُخَارِيّ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن النَّهْي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَحْمُول على مَا كَانَت الحرفة فِيهِ مَمْنُوعَة، أَو تجر إِلَى أَمر مَمْنُوع.
انْتهى.
قلت: هَذَا لَا يصلح أَن يكون جَوَابا عَن السُّؤَال عَن الْمُنَاسبَة فِي ذكر الْأَثر الْمَذْكُور، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: إِن بَين كسب الْبَغي وَأجر النائحة والمغنية مُنَاسبَة من حَيْثُ إِن كلاَّ مِنْهُمَا مَعْصِيّة كَبِيرَة.
وَأَن إِجَارَة كل مِنْهُمَا بَاطِلَة، وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ.

وقَوْلُ الله تعالَى: { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلى البِغَاءِ إِن يُرِدْنَ تحَصُّنا لِتَبْتَغُوا عَرَض الحَياةِ الدُّنْيَا ومَنْ يُكْرِهْهُنَّ فإنَّ الله منْ بَعْدِ إكْرَاهِهنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ( النُّور: 33) .

وَقَول الله، بِالْجَرِّ تَقْدِيره: وَبابُُ فِي ذكر قَول الله تَعَالَى: { وَلَا تكْرهُوا} الْآيَة، ذكر هَذِه الْآيَة فِي معرض الدَّلِيل لحُرْمَة كسب الْبَغي لِأَنَّهُ نهي عَن إِكْرَاه الفتيات أَي: الْإِمَاء على الْبغاء، أَي: الزِّنَا، وَالنَّهْي يَقْتَضِي تَحْرِيم ذَلِك، وَتَحْرِيم هَذَا يَسْتَدْعِي حُرْمَة زناهن وَحُرْمَة زناهن تَسْتَلْزِم حُرْمَة وضع الضرائب عَلَيْهِنَّ، وَهِي تَقْتَضِي حُرْمَة الْأجر الْحَاصِل من ذَلِك.

ثمَّ سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة، فِيمَا ذكره مقَاتل بن سُلَيْمَان فِي تَفْسِيره نزلت هَذِه الْآيَة فِي سِتّ جوَار لعبد الله بن أبي بن سلول كَانَ يكرههن على الزِّنَا، وَيَأْخُذ أُجُورهنَّ، وَهِي: معَاذَة ومسيكة وَأُمَيْمَة وَعمرَة وأروى وَقتيلَة، فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُنَّ يَوْمًا بِدِينَار، وَجَاءَت أُخْرَى بِبرد، فَقَالَ لَهما: إرجعا فازنيا، فَقَالَتَا: وَالله لَا نَفْعل، قد جَاءَ الله تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَحرم الزِّنَا، فَأَتَتَا الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشكتا إِلَيْهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، ذكره الواحدي فِي ( أَسبابُُ النُّزُول) وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن نجيح عَن مُجَاهِد قَالَ: فِي قَوْله: { وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء} ( النُّور: 33) .
قَالَ: إماءكم على الزِّنَا، وَأَن عبد الله بن أبي أَمر أمة لَهُ بِالزِّنَا فزنت فَجَاءَت بِبرد، فَقَالَ: إرجعي فازني على آخر.
قَالَت: وَالله مَا أَنا براجعة، فَنزلت.
وَهَذَا أخرجه مُسلم من طَرِيق أبي سُفْيَان عَن جَابر مَرْفُوعا، وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق أبي الزبير: سمع جَابِرا قَالَ: جَاءَت مُسَيْكَة أمة لبَعض الْأَنْصَار فَقَالَت: إِن سَيِّدي يكرهني على الْبغاء.
.
فَنزلت.
قَوْله: ( فَتَيَاتكُم) ، جمع: فتاة، وَهِي الشَّابَّة، والفتى الشَّاب، وَقد فتي، بِالْكَسْرِ، يُفْتِي فَهُوَ فتي السن بَين الفتا والفتي السخي الْكَرِيم، وَقد تفتَّى وتفاتى، وَالْجمع: فتيَان وفتية، وفتو، على فعول، وفتي مثل عَصا، والفتيان: اللَّيْل وَالنَّهَار، واستفتيت الْفَقِيه فِي مَسْأَلَة فأفتاني، وَالِاسْم الْفتيا وَالْفَتْوَى.
قَوْله: { إِن أردن تَحَصُّنًا} ( النُّور: 33) .
أَي: تعففا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم، قَوْله: { إِن أردن تَحَصُّنًا} ( النُّور: 33) .
لَا مَفْهُوم لَهُ، بل خرج مخرج الْغَالِب.
قلت: الْمَفْهُوم لَا يَصح نَفْيه لِأَن كلمة: إِن، تَقْتَضِي ذَلِك، وَلَكِن الَّذِي يُقَال هُنَا: أَن: إِن، لَيست للشّرط، بل بِمَعْنى: إِذْ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين} ( الْبَقَرَة: 872) .
وَقَوله تَعَالَى: { وَأَنْتُم الأعلون إِن كُنْتُم مُؤمنين} ( آل عمرَان: 931) .
وَقَوله تَعَالَى: { لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله} ( الْفَتْح: 72) .
وَمعنى: إِن، فِي هَذِه كلهَا بِمَعْنى: إِذْ،.

     وَقَالَ  النَّسَفِيّ فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة: وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّرْط لِأَنَّهُ لَا يجوز إكراههن على الزِّنَا إِن لم يردن تَحَصُّنًا، ثمَّ قَالَ: وَكلمَة: إِن، وإيثارها على: إِذا، إيذان بِأَن الباغيات كن يفعلن ذَلِك برغبة وطواعية، وَقيل: إِن أردن تَحَصُّنًا.
مُتَّصِل بقوله: { وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم} ( النُّور: 23) .
أَي: من أَرَادَ أَن يلْزم الحصانة فليتزوج.
وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْمعْنَى: { فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم} ( النُّور: 33) .
لمن أَرَادَ تَحَصُّنًا.
قَوْله: ( لتبتغوا) أَي: لتطلبوا بإكراههن على الزِّنَا أُجُورهنَّ على الزِّنَا.
قَوْله: ( غَفُور رَحِيم) أَي: لَهُنَّ، وَقيل: لَهُم، لمن تَابَ عَن ذَلِك بعد نزُول الْآيَة، وَقيل: لَهُنَّ وَلَهُم إِن تَابُوا وَأَصْلحُوا.



[ قــ :2189 ... غــ :2282 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ عنْ مالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ عنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ ثَمَنِ الكَلْبِ ومَهْرِ البَغِيِّ وحُلْوانِ الْكَاهِنِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَمهر الْبَغي) .
والْحَدِيث قد مضى فِي أَوَاخِر الْبيُوع فِي: بابُُ ثمن الْكَلْب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.





[ قــ :190 ... غــ :83 ]
- حدَّثنا مُسْلِمُ بن إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ جُحَادَةَ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ نَهى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن كَسْبِ الإماءِ.
( الحَدِيث 38 طرفه فِي: 8435) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن جحادة، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة: الْأَيَامَى، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: الْكُوفِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَة، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمُعْجَمَة: واسْمه سلمَان الْأَشْجَعِيّ.
والْحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن مُحَمَّد بن الْجَعْد.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن عبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه، وَقد ذكرنَا أَن المُرَاد من كسب الْإِمَاء الْمنْهِي: هُوَ الْكسْب الَّذِي تحصله الْأمة بِالْفُجُورِ، وَأما الَّذِي تحصله بالصناعة الْمُبَاحَة فَغير مَنْهِيّ عَنهُ.