فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب كتابة العلم

( بابُُ كِتَابَةِ العلْمِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان كِتَابَة الْعلم، وَهَذَا الْبابُُ فِيهِ اخْتِلَاف بَين السّلف فِي الْعَمَل وَالتّرْك مَعَ إِجْمَاعهم على الْجَوَاز، بل على اسْتِحْبابُُه، بل لَا يبعد وُجُوبه فِي هَذَا الزَّمَان لقلَّة اهتمام النَّاس بِالْحِفْظِ، وَلَو لم يكْتب يخَاف عَلَيْهِ من الضّيَاع والاندراس.

وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبابُُ السَّابِق حثا على الِاحْتِرَاز عَن الْكَذِب فِي النَّقْل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي هَذَا الْبابُُ أَيْضا حث على الِاحْتِرَاز.
عَن ضيَاع كَلَام الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا سِيمَا من أهل هَذَا الزَّمَان، لقُصُور هممهم فِي الضَّبْط وتقصيرهم فِي النَّقْل.



[ قــ :110 ... غــ :111 ]
- حدّثنا مُحَمَّدُ بنِ سَلاَمٍ قالَ: أخْبَرَنَا وَكِيعٌ عنْ سُفْيَانَ عنْ مطَرِّفٍ عَنِ الشَّعْبِي عنْ أبي جُحَيْفَةَ قالَ:.

قُلْتُ لِعَليٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لاَ! إلاَّ كِتابُ اللَّهِ، أوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلمٌ، أوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.
قالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قالَ: العَقْلُ، وَفَكاكُ الأسِير ولاَ يُقْتلُ مُسْلِمٌ بكافِرٍ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فِي هَذِه الصَّحِيفَة) ، لِأَن الصَّحِيفَة هِيَ الورقة الْمَكْتُوبَة، وَفِي ( الْعبابُ) : الصَّحِيفَة الْكتاب، وَالَّذِي يقْرَأ هُوَ الصَّحِيفَة.

بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة.
الأول: مُحَمَّد بن سَلام، أَبُو عبد الله البيكندي، وَفِي ( الْكَمَال) : بتَخْفِيف اللَّام، وَقد يشدده من لَا يعرف.
.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ بِالتَّشْدِيدِ لَا بِالتَّخْفِيفِ، وَقد تقدم.
الثَّانِي: وَكِيع بن الْجراح بن مليح بن عدي بن فرس بن حَمْحَمَة، وَقيل: غَيره، أَصله من قَرْيَة من قرى نيسابور، الرواسِي الْكُوفِي من قيس غيلَان، روى عَن الْأَعْمَش وَغَيره.
وَعَن أَحْمد.

     وَقَالَ : إِنَّه أحفظ من ابْن مهْدي.
.

     وَقَالَ  حَمَّاد بن زيد: لَو شِئْت قلت: إِنَّه أرجح من سُفْيَان، ولد سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة، وَمَات بفيد منصرفا من الْحَج يَوْم عَاشُورَاء سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة.
.

     وَقَالَ  ابْن معِين: مَا رَأَيْت أفضل من وَكِيع، وَكَانَ يُفْتِي بقول أبي حنيفَة، وَكَانَ قد سمع مِنْهُ شَيْئا كثيرا، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: سُفْيَان، قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الثَّوْريّ، وَأَن يُرَاد بِهِ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، لِأَن وكيعا يروي عَنْهُمَا وهما يرويان عَن مطرف، وَلَا قدح بِهَذَا الالتباس فِي الْإِسْنَاد، لِأَن أيا كَانَ مِنْهُمَا فَهُوَ: إِمَام حَافظ ضَابِط عدل مَشْهُور على شَرط البُخَارِيّ، وَلِهَذَا يروي لَهما فِي ( الْجَامِع) شَيْئا كثيرا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم عَن سُفْيَان: هُوَ الثَّوْريّ، لِأَن وكيعا مَشْهُور بالرواية عَنهُ، وَلَو كَانَ ابْن عُيَيْنَة لنسبه، لِأَن الْقَاعِدَة فِي كل من روى عَن مُتَّفق الِاسْم أَنه يحمل من أهمل نسبته على من يكون لَهُ بِهِ خُصُوصِيَّة من إكثار وَنَحْوه، ووكيع قَلِيل الرِّوَايَة عَن ابْن عُيَيْنَة بِخِلَاف الثَّوْريّ.
قلت: كل مَا ذكره لَيْسَ يصلح مرجحا أَن يكون سُفْيَان هَذَا هُوَ الثَّوْريّ، بعد أَن ثَبت رِوَايَة وَكِيع عَن سفيانين كليهمَا وروايتهما عَن مطرف، على أَن أَبَا مَسْعُود الدِّمَشْقِي قَالَ فِي ( الْأَطْرَاف) هَذَا هُوَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
.

     وَقَالَ  الغساني فِي كِتَابه ( تَقْيِيد المهمل) هَذَا الحَدِيث مَحْفُوظ عَن ابْن عُيَيْنَة.
الرَّابِع: مطرف، بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وبالفاء: ابْن طريف، بطاء مُهْملَة مَفْتُوحَة: أَبُو بكر، وَيُقَال: أَبُو عبد الرَّحْمَن، الْكُوفِي الْحَارِثِيّ نِسْبَة إِلَى بني الْحَارِث بن كَعْب بن عَمْرو، وَيُقَال: الخارفي، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وبالفاء، نِسْبَة إِلَى خارف بن عبد الله.
وَثَّقَهُ أَحْمد وَغَيره، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الْخَامِس: عَامر الشّعبِيّ، وَقد تقدم.
السَّادِس: أَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء، واسْمه وهب بن عبد الله السوَائِي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وبالمد، الْكُوفِي.
رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، اتفقَا على حديثين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين، وَمُسلم بِثَلَاثَة.
وَكَانَ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، يُكرمهُ وَيُحِبهُ ويثق بِهِ وَجعله على بَيت المَال بِالْكُوفَةِ، وَشهد مَعَه مشاهده كلهَا وَنزل الْكُوفَة، وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَكَانَ من صغَار الصَّحَابَة.
قيل: توفّي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يبلغ الْحلم، وَالله أعلم.
السَّابِع: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون إلاَّ شيخ البُخَارِيّ وَقد دخل فِيهَا.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ.

بَيَان اخْتِلَاف الرِّوَايَات: قَوْله: ( حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَآخَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا ابْن سَلام.
قَوْله: ( عَن الشّعبِيّ) وَفِي رِوَايَة المُصَنّف فِي الدِّيات: ( سَمِعت الشّعبِيّ) .
قَوْله: ( عَن أبي جُحَيْفَة) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الدِّيات: ( سَمِعت أَبَا جُحَيْفَة) .
وَقد صرح باسمه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر، وَفِي الدِّيات عَن صَدَقَة بن الْفضل عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة كِلَاهُمَا عَن مطرف بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدِّيات عَن أَحْمد بن منيع عَن هشيم عَن مطرف نَحوه،.

     وَقَالَ : حسن صَحِيح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقود عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة نَحوه.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن عَلْقَمَة بن عَمْرو الدَّارِيّ عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن مطرف نَحوه.

بَيَان اللُّغَات: قَوْله: ( كتاب) أَي: مَكْتُوب من عِنْد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَوْله: ( أَو فهم) وَهُوَ جودة الذِّهْن.
قَالَ الْجَوْهَرِي: فهمت الشَّيْء فهما وفهامية: عَلمته.
وَفُلَان فهيم، وَقد استفهمني الشَّيْء فأفهمته وفهمته تفهيما، وتفهم الْكَلَام إِذا فهمه شَيْئا بعد شَيْء.
قَوْله: ( الصَّحِيفَة) قد مر تَفْسِيرهَا.
قَوْله: ( الْعقل) أَي: الدِّيَة، وَإِنَّمَا سميت بِهِ لأَنهم كَانُوا يُعْطون فِيهَا الْإِبِل ويربطونها بِفنَاء دَار الْمَقْتُول بالعقال وَهُوَ: الْحَبل.
قَوْله: ( وفكاك الْأَسير) بِكَسْر الْفَاء، وَهُوَ مَا يفتك بِهِ.
وفكه وافتكه بِمَعْنى أَي: خلصه، وَيجوز فتح الْفَاء أَيْضا.
قَالَ الْقَزاز: الْفَتْح أفْصح.
وَفِي ( الْعبابُ) : فك يفك فكا وفكوكا، وَفك الرَّهْن إِذا خلصه، وفكاك الرَّهْن وفكاكه مَا يفتك بِهِ عَن الْكسَائي.
وَفك الرَّقَبَة أَي: أعْتقهَا، وفككت الشَّيْء أَي خلصته،، وكل مشتبكين فصلتهما فقد فككتهما.
قَوْله: ( الْأَسير) فعيل بِمَعْنى المأسور من أسره إِذا شده بالإسار، وَهُوَ الْقد، بِكَسْر الْقَاف وبالمهملة، لأَنهم كَانُوا يشدون الْأَسير بالقد، وَيُسمى كل أخيد أَسِيرًا وَإِن لم يشد بِهِ.

بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: ( هَل) للاستفهام و: ( كتاب) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره قَوْله: ( عنْدكُمْ) مقدما.
قَوْله: ( لَا) أَي: لَا كتاب عندنَا إِلَّا كتاب الله، بِالرَّفْع، وَهُوَ اسْتثِْنَاء مُتَّصِل لِأَن الْمَفْهُوم من الْكتاب كتاب أَيْضا، لِأَن المفاهيم تَوَابِع المناطيق.
قَوْله: ( أَو فهم) بِالرَّفْع عطف على: كتاب الله.
و: ( أعْطِيه) بِصِيغَة الْمَجْهُول وَفتح الْيَاء أسْند إِلَى قَوْله: ( رجل) .
وَلكنه هُوَ الْمَفْعُول الأول النَّائِب عَن الْفَاعِل، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي.
قَوْله: ( مُسلم) صفة لرجل.
قَوْله: ( أَو مَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة) عطف على قَوْله: ( كتاب الله) وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة مُبْتَدأ، وَقَوله: فِي هَذِه الصَّحِيفَة، خَبره.
قَوْله: ( قلت: وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة؟) أَي: أَي شَيْء فِي هَذِه الصَّحِيفَة؟ فكلمة: مَا، استفهامية مُبْتَدأ، و: فِي هَذِه الصَّحِيفَة، خَبره.
وَفِي بعض النّسخ: فَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة، بِالْفَاءِ، وَكِلَاهُمَا للْعَطْف.
قَوْله: ( الْعقل) مَرْفُوع لِأَنَّهُ مُبْتَدأ حذف خَبره أَي: فِيهَا الْعقل، والمضاف فِيهِ مَحْذُوف أَيْضا، أَي: حكم الْعقل أَي: الدِّيَة، كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: ( وفكاك الْأَسير) كَلَام إضافي عطف على الْعقل.
قَوْله: ( وَلَا يقتل) بِضَم اللَّام وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( وَأَن لَا يقتل) بِزِيَادَة: أَن، الناصبة.
وَأَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره: وفيهَا عدم قتل مُسلم بِكَافِر، يَعْنِي: حُرْمَة قصاص الْمُسلم بالكافر، وَأما على رِوَايَة من روى: وَلَا يقتل، بِدُونِ: أَن، فَإِنَّهُ جملَة فعلية معطوفة على جملَة إسمية، أَعنِي قَوْله: ( الْعقل) لِأَن تَقْدِيره: وفيهَا الْعقل، كَمَا ذكرنَا.
وَالتَّقْدِير: وفيهَا الْعقل وفيهَا حُرْمَة قصاص الْمُسلم بالكافر.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ عطف الْجُمْلَة على الْمُفْرد؟ قلت: هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: { فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام إِبْرَاهِيم وَمن دخله كَانَ آمنا} ( آل عمرَان: 97) انْتهى.
قلت: لَيْسَ هَهُنَا عطف الْجُمْلَة على الْمُفْرد وَإِنَّمَا هُوَ عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة، فَإِن أَرَادَ بقوله الْمُفْرد الْعقل فَهُوَ لَيْسَ بمفرد لِأَنَّهُ مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر، وَهُوَ جملَة، وَلَا هُوَ مثل لقَوْله تَعَالَى: { فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام إِبْرَاهِيم} ( آل عمرَان: 97) ، لِأَن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ الْجُمْلَة هَهُنَا مُفْرد، وَلِهَذَا قَالَ صَاحب ( الْكَشَّاف) : التَّقْدِير: مقَام إِبْرَاهِيم وَأمن من دخله، فَقدر الْجُمْلَة فِي حكم الْمُفْرد ليَكُون عطف مُفْرد على مُفْرد.
وَلم يقدر هَكَذَا، إلاَّ ليَصِح وُقُوع قَوْله { مقَام إِبْرَاهِيم} ( آل عمرَان: 97) عطف بَيَان لقَوْله: { آيَات بَيِّنَات} ( آل عمرَان: 97) ، لِأَن بَيَان الْجُمْلَة بِالْوَاحِدِ لَا يَصح.

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: ( هَل عنْدكُمْ؟) الْخطاب لعليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَالْجمع للتعظيم، أَو لإرادته مَعَ سَائِر أهل الْبَيْت، أَو للالتفات من خطاب الْمُفْرد إِلَى خطاب الْجمع على مَذْهَب من قَالَ من عُلَمَاء الْبَيَان: يكون مثله التفاتا، وَذَلِكَ كَقَوْلِه تَعَالَى: { يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} ( الطَّلَاق: 1) إِذْ لَا فرق بَين أَن يكون الِانْتِقَال حَقِيقَة أَو تَقْديرا عِنْد الْجُمْهُور.
قَوْله: ( كتاب) أَي: مَكْتُوب أخذتموه عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِمَّا أُوحِي إِلَيْهِ.
وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد: ( هَل عنْدكُمْ شَيْء من الْوَحْي إلاَّ مَا فِي كتاب الله؟) .
وَفِي رِوَايَته الْأُخْرَى فِي الدِّيات: ( هَل عنْدكُمْ شَيْء مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآن؟) وَفِي مُسْند إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن جرير بن مطرف: ( هَل علمت شَيْئا من الْوَحْي؟) وَإِنَّمَا سَأَلَهُ أَبُو جُحَيْفَة عَن ذَلِك لِأَن الشِّيعَة كَانُوا يَزْعمُونَ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خص أهل بَيته، لَا سِيمَا عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بأسرار من علم الْوَحْي لم يذكرهَا لغيره، وَقد سَأَلَ عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن هَذِه الْمَسْأَلَة أَيْضا قيس بن عباد، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، وَالْأَشْتَر النَّخعِيّ، وحديثهما فِي ( سنَن النَّسَائِيّ) .
قَوْله: ( قَالَ: لَا) .
أَي: لَا كتاب، أَي: لَيْسَ عندنَا كتاب غير كتاب الله تَعَالَى.
وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد: ( لَا، وَالَّذِي فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة) .
قَوْله: ( إِلَّا كتاب الله) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ بدل من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَالِاسْتِثْنَاء مُتَّصِل كَمَا ذكرنَا لِأَنَّهُ من جنسه، إِذْ لَو كَانَ من غير جنسه لَكَانَ قَوْله: ( أَو فهم) مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ عطف على الْمُسْتَثْنى، والمستثنى إِذا كَانَ من غير جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ يكون مَنْصُوبًا، وَمَا عطف عَلَيْهِ كَذَلِك وَقَول بَعضهم: الظَّاهِر أَن الِاسْتِثْنَاء فِيهِ مُنْقَطع غير صَحِيح.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنِير: فِيهِ دَلِيل على أَنه كَانَ عِنْده أَشْيَاء مَكْتُوبَة من الْفِقْه المستنبط من كتاب الله، وَهُوَ المُرَاد من قَوْله: ( أَو فهم أعْطِيه رجل) .
قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، بل المُرَاد من الْفَهم مَا يفهمهُ الرجل من فحوى الْكَلَام وَيدْرك من بواطن الْمعَانِي الَّتِي هِيَ غير الظَّاهِر من نَصه: كوجوه الأقيسة والمفاهيم وَسَائِر الاستنباطات، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الدِّيات بِلَفْظ: ( مَا عندنَا إلاَّ مَا فِي الْقُرْآن إلاَّ فهما يعْطى رجل فِي الْكتاب) .
وَالْمعْنَى: إلاَّ مَا فِي الْقُرْآن من الْأَشْيَاء المنصوصة، لَكِن إِن أعْطى الله رجلا فهما فِي كِتَابه فَهُوَ يقدر على استنباط أَشْيَاء أُخْرَى خَارِجَة عَن ظَاهر النَّص، وَمن أبين الدَّلِيل على أَن المُرَاد من الْفَهم مَا ذكرنَا، وَأَنه غير شَيْء مَكْتُوب، مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد حسن من طَرِيق طَارق بن شهَاب، قَالَ: شهِدت عليا، رَضِي الله عَنهُ، على الْمِنْبَر وَهُوَ يَقُول: ( وَالله مَا عندنَا كتاب نقرؤه إلاّ كتاب الله وَهَذِه الصَّحِيفَة) ، وَقد علمت أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.
قَوْله: ( أَو مَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة) ، وَكَانَت هَذِه معلقَة بقبضة سَيْفه إِمَّا احْتِيَاطًا أَو استحضارا وَإِمَّا لكَونه مُنْفَردا بِسَمَاع ذَلِك.
وروى النَّسَائِيّ من طَرِيق الأشتر: فَأخْرج كتابا من قرَاب سَيْفه.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَن سَبَب اقتران الصَّحِيفَة بِالسَّيْفِ الْإِشْعَار بِأَن مصَالح الدّين لَيست بِالسَّيْفِ وَحده، بل بِالْقَتْلِ تَارَة، وبالدية تَارَة، وبالعفو أُخْرَى.
.

     وَقَالَ  الْبَيْضَاوِيّ: كَلَام عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه لَيْسَ عِنْده سوى الْقُرْآن، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يخص بالتبليغ والإرشاد قوما دون قوم، وَإِنَّمَا وَقع التَّفَاوُت من قبل الْفَهم واستعداد الاستنباط، وَاسْتثنى مَا فِي الصَّحِيفَة احْتِيَاطًا لاحْتِمَال أَن يكون مَا فِيهَا مَا لَا يكون عِنْد غَيره فَيكون مُنْفَردا بِالْعلمِ بِهِ.
قَالَ: وَقيل: كَانَ فِيهَا من الْأَحْكَام غير مَا ذكر هُنَا، وَلَعَلَّه لم يذكر جملَة مَا فِيهَا، إِذْ التَّفْصِيل لم يكن مَقْصُودا حِينَئِذٍ، أَو ذكره وَلم يحفظ الرَّاوِي.
قلت: وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ وَمُسلم، من طَرِيق يزِيد التَّيْمِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: ( مَا عندنَا شَيْء نقرؤه إلاَّ كتاب الله وَهَذِه الصَّحِيفَة، فَإِذا فِيهَا: الْمَدِينَة حرم) الحَدِيث.
وَلمُسلم عَن أبي الطُّفَيْل عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ: ( مَا خصنا رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، بِشَيْء لم يعم بِهِ النَّاس كَافَّة إلاَّ مَا فِي قرَاب سَيفي هَذَا، فَأخْرج صحيفَة مَكْتُوبَة فِيهَا: لعن الله من ذبح لغير الله) الحَدِيث.
وللنسائي من طَرِيق الأشتر وَغَيره عَن عَليّ: فَإِذا فِيهَا: ( الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ، يسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم) الحَدِيث.
وَلأَحْمَد من طَرِيق ابْن شهَاب: ( فِيهَا فَرَائض الصَّدَقَة) .
فَإِن قلت: كَيفَ الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث؟ قلت: الصَّحِيفَة كَانَت وَاحِدَة، وَكَانَ جَمِيع ذَلِك مَكْتُوبًا فِيهَا، وَنقل كل من الروَاة مَا حفظه.
قَوْله: ( الْعقل) أَي: الدِّيَة، وَالْمرَاد أَحْكَامهَا ومقاديرها وأصنافها وَأَسْنَانهَا، وَكَذَلِكَ المُرَاد من قَوْله: ( وفكاك الْأَسير) حكمه وَالتَّرْغِيب فِي تخليصه، وَأَنه نوع من أَنْوَاع الْبر الَّذِي يَنْبَغِي أَن يهتم بِهِ.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ مَا يقطع بِدعَة الشِّيعَة والمدعين على عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه الْوَصِيّ، وَأَنه الْمَخْصُوص بِعلم من عِنْد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يعرفهُ غَيره حَيْثُ قَالَ: مَا عِنْده إلاَّ مَا عِنْد النَّاس من كتاب الله، ثمَّ أحَال على الْفَهم الَّذِي النَّاس فِيهِ على درجاتهم، وَلم يخص نَفسه بِشَيْء غير مَا هُوَ مُمكن فِي غَيره.

الثَّانِي: فِيهِ إرشاد إِلَى أَن للْعَالم الْفَهم أَن يسْتَخْرج من الْقُرْآن بفهمه مَا لم يكن مَنْقُولًا عَن الْمُفَسّرين، لَكِن بِشَرْط مُوَافَقَته لِلْأُصُولِ الشَّرْعِيَّة.

الثَّالِث: فِيهِ إِبَاحَة كِتَابَة الْأَحْكَام وتقييدها.

الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز السُّؤَال عَن الإِمَام فِيمَا يتَعَلَّق بخاصته.

الْخَامِس: احْتج بِهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد على أَن الْمُسلم لَا يقتل بالكافر قصاصا، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن شبْرمَة.
وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَعُثْمَان وَعلي وَزيد بن ثَابت، وَبِه قَالَ جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم عمر بن عبد الْعَزِيز، وَإِلَيْهِ ذهب أهل الظَّاهِر.
.

     وَقَالَ  أَبُو بكر الرَّازِيّ قَالَ مَالك وَاللَّيْث بن سعد: إِن قَتله غيلَة قتل بِهِ وإلاَّ لم يقتل.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة وَمُحَمّد وَزفر: يقتل الْمُسلم بالكافر، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَمُحَمّد بن أبي ليلى وَعُثْمَان البتي، وَهُوَ رِوَايَة عَن عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن مَسْعُود وَعمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنْهُم.
وَقَالُوا: وَلَا يقتل بالمستأمن والمعاهد.
.

     وَقَالَ ت الشَّافِعِيَّة: احتجت الْحَنَفِيَّة بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْحسن بن أَحْمد عَن سعيد بن مُحَمَّد الرهاوي عَن عمار بن مطر عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن ابْن الْبَيْلَمَانِي عَن ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( قتل مُسلما بمعاهد، ثمَّ قَالَ: أَنا أكْرم من وَفِي بِذِمَّتِهِ) .
ثمَّ قَالَت الشَّافِعِيَّة: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يسْندهُ غير إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى وَهُوَ مَتْرُوك، وَالصَّوَاب إرْسَاله، وَابْن الْبَيْلَمَانِي ضَعِيف لَا تقوم بِهِ حجَّة إِذا وصل الحَدِيث فَكيف إِذا أرْسلهُ؟.

     وَقَالَ  مَالك وَيحيى بن سعيد وَابْن معِين: هُوَ كَذَّاب، يَعْنِي إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى.
.

     وَقَالَ  أَحْمد وَالْبُخَارِيّ: ترك النَّاس حَدِيثه.
وَابْن الْبَيْلَمَانِي اسْمه: عبد الرَّحْمَن، وَقد ضَعَّفُوهُ.
.

     وَقَالَ  أَحْمد: من حكم بحَديثه فَهُوَ عِنْدِي مخطىء، وَإِن حكم بِهِ حَاكم نقض.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: أجمع أهل الحَدِيث على ترك الْمُتَّصِل من حَدِيثه، فَكيف بالمنقطع؟.

     وَقَالَ  الْبَيْضَاوِيّ: إِنَّه مُنْقَطع لَا احتجاج بِهِ، ثمَّ إِنَّه خطأ إِذْ قيل: إِن الْقَاتِل كَانَ عَمْرو بن أُميَّة وَقد عَاشَ بعد الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سِنِين؛ ومتروك بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ روى أَن الْكَافِر كَانَ رَسُولا فَيكون مستأمنا لَا ذِمِّيا، وَأَن الْمُسْتَأْمن لَا يقتل بِهِ الْمُسلم وفَاقا، ثمَّ إِن صَحَّ فَهُوَ مَنْسُوخ لِأَنَّهُ روى أَنه كَانَ قبل الْفَتْح.
وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم الْفَتْح فِي خطْبَة خطبهَا على درج الْبَيْت الشريف: ( وَلَا يقتل مُسلم بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) .
.

     وَقَالَ ت الْحَنَفِيَّة: لَا يتَعَيَّن علينا الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ، وَإِنَّمَا نَحن نستدل بالنصوص الْمُطلقَة فِي اسْتِيفَاء الْقصاص من غير فصل.
وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، فَلم يكن مُفردا، وَلَو كَانَ مُفردا لاحتمل مَا قُلْتُمْ، وَلكنه كَانَ مَوْصُولا بِغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ قيس بن عباد وَالْأَشْتَر، فَإِن فِي روايتهما: لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده، فَهَذَا هُوَ أصل الحَدِيث وَتَمَامه، وَهَذَا لَا يدل على مَا ذهبتم إِلَيْهِ، لِأَن الْمَعْنى على أصل الحَدِيث: لَا يقتل مُؤمن بِسَبَب قتل كَافِر، وَلَا يقتل ذُو عهد فِي عَهده بِسَبَب قتل كَافِر.
وَمن الْمَعْلُوم أَن ذَا الْعَهْد كَافِر، فَدلَّ هَذَا أَن الْكَافِر الَّذِي منع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقتل بِهِ مُؤمن فِي الحَدِيث الْمَذْكُور هُوَ الْكَافِر الَّذِي لَا عهد لَهُ، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ لأحد: أَن الْمُؤمن لَا يقتل بالكافر الْحَرْبِيّ، وَلَا الْكَافِر الَّذِي لَهُ عهد يقتل بِهِ أَيْضا، فحاصل معنى حَدِيث أبي جُحَيْفَة: لَا يقتل مُسلم وَلَا ذُو عهد فِي عَهده بِكَافِر.

فَإِن قَالُوا: كل وَاحِد من الْحَدِيثين كَلَام مُسْتَقل مُفِيد فَيعْمل بِهِ، فَمَا الْحَاجة إِلَى جَعلهمَا وَاحِدًا حَتَّى يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّأْوِيل؟ قُلْنَا: قد ذكر أَن أصل الحَدِيث وَاحِد فتقطيعه لَا يزِيل الْمَعْنى الْأَصْلِيّ، وَلَئِن سلمنَا أَن أَصله لَيْسَ بِوَاحِد، وَأَن كل وَاحِد حَدِيث بِرَأْسِهِ وَلَكِن الْوَاجِب حملهما على أَنَّهُمَا وردا مَعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يثبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك فِي وَقْتَيْنِ، مرّة من غير ذكر ذِي الْعَهْد، وَمرَّة مَعَ ذكر ذِي الْعَهْد، وَأَيْضًا إِن أصل هَذَا كَانَ فِي خطبَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة، وَقد كَانَ رجل من خُزَاعَة قتل رجلا من هُذَيْل فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أَلا إِن كل دم كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ مَوْضُوع تَحت قدمي هَاتين، لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) يَعْنِي، وَالله أعلم: الْكَافِر الَّذِي قَتله فِي الْجَاهِلِيَّة.
وَكَانَ ذَلِك تَفْسِير لقَوْله: ( كل دم كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ مَوْضُوع تَحت قدمي) .
لِأَنَّهُ مَذْكُور فِي خطاب وَاحِد فِي حَدِيث وَاحِد، وَقد ذكر أهل الْمَغَازِي أَن عهد الذِّمَّة كَانَ بعد فتح مَكَّة، وَأَنه إِنَّمَا كَانَ قبل، بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين الْمُشْركين، عهود إِلَى مدد لَا على أَنهم داخلون فِي ذمَّة الْإِسْلَام وَحكمه، وَكَانَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة: ( لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر) منصرفا إِلَى الْكفَّار المعاهدين، إِذْ لم يكن هُنَاكَ ذمِّي ينْصَرف الْكَلَام إِلَيْهِ، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: ( وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) ، وَهَذَا يدل على أَن عهودهم كَانَت إِلَى مدد، وَلذَلِك قَالَ: ( وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { فَأتمُّوا إِلَيْهِم عَهدهم إِلَى مدتهم} ( التَّوْبَة: 4) .

     وَقَالَ : { فسيحوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر} ( التَّوْبَة: 2) وَكَانَ الْمُشْركُونَ حِينَئِذٍ على ضَرْبَيْنِ.
أَحدهمَا: أهل الْحَرْب وَمن لَا عهد بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالْآخر: أهل الْمدَّة.
وَلم يكن هُنَاكَ أهل ذمَّة، فَانْصَرف الْكَلَام إِلَى الضربين من الْمُشْركين، وَلم يدْخل فِيهِ من لم يكن على أحد هذَيْن الوصفين، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام.

وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة: وَقع الْإِجْمَاع على أَن الْمُسلم تقطع يَده إِذا سرق من مَال الذِّمِّيّ، فَكَذَا يقتل إِذا قَتله، وَإِن قَوْله: ( وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) من بابُُ عطف الْخَاص على الْعَام، وَأَنه يَقْتَضِي تَخْصِيص الْعَام لِأَن الْكَافِر الَّذِي لَا يقتل بِهِ ذُو الْعَهْد هُوَ الْحَرْبِيّ دون الْمسَاوِي لَهُ والأعلى وَهُوَ الذِّمِّيّ، فَلَا يبْقى أحد يقتل بِهِ الْمعَاهد إلاَّ الْحَرْبِيّ، فَيجب أَن يكون الْكَافِر الَّذِي لَا يقتل بِهِ الْمُسلم هُوَ الْحَرْبِيّ، تَسْوِيَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ.

واعترضوا بِوُجُوه.
الأول: أَن الْوَاو لَيست للْعَطْف بل للاستئناف، وَمَا بعد ذَلِك جملَة مستأنفة فَلَا حَاجَة إِلَى الْإِضْمَار فَإِنَّهُ خلاف الأَصْل، فَلَا يقدر فِيهِ: بِكَافِر.
الثَّانِي: سلمنَا أَنه من بابُُ عطف الْمُفْرد، وَالتَّقْدِير: بِكَافِر، لَكِن الْمُشَاركَة بواو الْعَطف وَقعت فِي أصل النَّفْي لَا فِي جَمِيع الْوُجُوه، كَمَا إِذا قَالَ الْقَائِل: مَرَرْت بزيد مُنْطَلقًا وَعَمْرو.
قَالَ الشهَاب الْقَرَافِيّ: الْمَنْقُول عَن أهل اللُّغَة والنحو أَن ذَلِك لَا يَقْتَضِي أَنه مر بالمعطوف مُنْطَلقًا، بل الِاشْتِرَاك فِي مُطلق الْمُرُور.
الثَّالِث: أَن الْمَعْنى لَا يقتل ذُو عهد فِي عَهده خَاصَّة إِزَالَة لتوهم مشابهة الذِّمِّيّ، فَإِنَّهُ لَا يقتل وَلَا وَلَده الَّذِي لم يعاهد، لِأَن الذِّمَّة تَنْعَقِد لَهُ ولأولاده وهلم جرا، وَأما الْجَواب عَن الْقيَاس الْمَذْكُور: فَإِنَّهُ قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص، وَهُوَ قَوْله: ( وَلَا يقتل مُسلم بِكَافِر) فَلَا أثر لَهُ.

وَأجِيب عَن الأول: بِأَن الأَصْل فِي الْوَاو الْعَطف، وَدَعوى الِاسْتِئْنَاف يحْتَاج إِلَى بَيَان.
وَعَن الثَّانِي: بِأَن مَا ذكرْتُمْ فِي عطف الْمُفْرد، وَهَذَا عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة، وَكَذَلِكَ الْمَعْطُوف فِي الْمِثَال الَّذِي ذكره الْقَرَافِيّ مُفْرد.
وَعَن الثَّالِث: بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَت الْوَاو للاستئناف، وَقد قُلْنَا: إِنَّه يحْتَاج إِلَى الْبَيَان، وَأَيْضًا فمعلوم أَن ذَا الْعَهْد يحظر قَتله مَا دَامَ فِي عَهده، فَلَو حملنَا قَوْله: ( وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) ، على أَن لَا يقتل ذُو عهد فِي عَهده لأخلينا اللَّفْظ عَن الْفَائِدَة، وَحكم كَلَام النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حمله على مُقْتَضَاهُ فِي الْفَائِدَة، وَلَا يجوز إلغاؤه وَلَا إِسْقَاط حكمه، وَالْقِيَاس إِنَّمَا يكون فِي مُقَابلَة النَّص إِذا كَانَ الْمَعْنى على مَا ذكرْتُمْ، وَهُوَ غير صَحِيح، وعَلى مَا ذكرنَا يكون الْقيَاس فِي مُوَافقَة النَّص فَافْهَم.
وَأما قَول الْبَيْضَاوِيّ: إِنَّه مُنْقَطع، فَإِنَّهُ لَا يضر عندنَا، لِأَن الْمُرْسل حجَّة عندنَا.
وجزمه بِأَنَّهُ خطأ غير صَحِيح لِأَن الْقَاتِل يحْتَمل أَن يكون اثْنَيْنِ قتل أَحدهمَا وعاش الآخر بعد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَقَوله: إِنَّه مَنْسُوخ وَقد كَانَ قبل الْفَتْح، غير صَحِيح، لما ذكرنَا أَن أصل الحَدِيث كَانَ فِي خطبَته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من فتح مَكَّة.
فَافْهَم.



[ قــ :111 ... غــ :11 ]
- حدّثنا أَبُو نُعَيْمٍ الفضْلُ بنُ دُكَيْنٍ قَالَ: حَدثنَا شَيْبَانُ عنْ يَحيَى عنْ أبي سَلَمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِي ليْثٍ عامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فأُخْبِر بِذَلِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ فقالَ: (إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عنْ مكَّةَ القَتلَ) أَو الفِيلَ شَكَّ أبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمُؤْمِنِينَ، ألاَ وَإنها لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي ولَمْ تَحِلَّ لأَحدٍ بَعْدِي ألاَ وإنَّها حَلَّتْ لِي ساعَةً مِنْ نَهَارٍ، ألاَ وإنَّهَا ساعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ لَا يُخْتَلَى شَوْكُها وَلَا يُعُضَدُ شَجَرُهَا وَلَا تُلْتَقطُ ساقِطَتُها إلاَّ لِمُنْشدٍ، فَمَنْ قُتِلَ لهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخيْرِ النَّظَرَيْنِ: إمّا أَن يُعْقَلَ، وإمّا أَن يُقادَ أهْلُ القَتِيل) فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أهْل اليَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لي يَا رسولَ اللَّهِ.
فقالَ: (اكْتُبُوا لأبي فُلاَنٍ) فقالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: إلاَّ الإذْخِرَ يَا رسولَ الله فَإنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنا فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ الإذْخرِ (إلاَّ الإذْخِرَ) .

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اكتبوا لأبي فلَان) ، وكل مَا يكْتب من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَهُوَ علم.

بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة.
الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة، وَقد مر.
الثَّانِي: شَيبَان، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالباء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو مُعَاوِيَة النَّحْوِيّ الْمُؤَدب الْبَصْرِيّ الثِّقَة، مولى بني تَمِيم، سمع الْحسن وَغَيره، وَعنهُ ابْن مهْدي وَغَيره.
وَكَانَ صَاحب حُرُوف وقراآت.
قَالَ أَحْمد: هُوَ ثَبت فِي كل الْمَشَايِخ، وشيبان أثبت فِي يحيى بن أبي كثير من الْأَوْزَاعِيّ.
قلت: حدث عَنهُ الإِمَام أَبُو حنيفَة، وَعلي بن الْجَعْد، وَبَين وفاتيهما تسع وَسَبْعُونَ سنة، مَاتَ بِبَغْدَاد وَدفن بمقبره الخيزران، أَو فِي بابُُ التِّين سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة، فِي خلَافَة الْمهْدي روى لَهُ الْجَمَاعَة.
النَّحْوِيّ: نِسْبَة إِلَى قَبيلَة، وهم ولد النَّحْو ابْن شمس بن عَمْرو بن غنم بن غَالب بن عُثْمَان بن نصر بن زهران، وَلَيْسَ فِي هَذِه الْقَبِيلَة من يروي الحَدِيث سواهُ وَيزِيد بن أبي سعيد، وَأما مَا عداهما فنسبة إِلَى النَّحْو، علم الْعَرَبيَّة، كَأبي عَمْرو بن الْعَلَاء النَّحْوِيّ وَغَيره، وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ من اسْمه شَيبَان غَيره، وَفِي مُسلم هُوَ وشيبان بن فروخ، وَفِي أبي دَاوُد شَيبَان أَبُو حُذَيْفَة النَّسَائِيّ.
وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة غير ذَلِك.
الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير صَالح بن المتَوَكل، وَيُقَال: اسْم أبي كثير: نشيط، وَيُقَال: دِينَار؛ ودينار مولى عَليّ اليمامي الطَّائِي مَوْلَاهُم الْعَطَّار أحد الْأَعْلَام الثِّقَات الْعباد، روى عَن أنس وَجَابِر مُرْسلا، وَعَن ابْن أبي سَلمَة، وَعنهُ هِشَام الدستوَائي وَغَيره.
قَالَ أَيُّوب: مَا بَقِي على وَجه الأَرْض مثله.
مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة.
وَقيل: سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ بعد أَيُّوب بِسنة، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة: يحيى بن أبي كثير، غَيره.
نعم، فِيهَا يحيى بن كثير الْعَنْبَري، وَفِي أبي دَاوُد: يحيى بن كثير الْبَاهِلِيّ، وَفِي ابْن مَاجَه: يحيى بن كثير صَاحب الْبَصْرِيّ وهما ضعيفان.
الرَّابِع: أَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقد مر.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن بن صَخْر.

بَيَان لطائف إِسْنَاده.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء.
وَمِنْهَا: أَنهم مَا بَين كُوفِي وبصري ويمامي ومدني.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ من رأى الصَّحَابِيّ عَن التَّابِعِيّ.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره.
أخرجه البُخَارِيّ هُنَا.
وَفِي الدِّيات عَن أبي نعيم عَن شَيبَان.
وَفِي اللّقطَة عَن يحيى بن مُوسَى عَن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن زُهَيْر وَعبد الله بن سعيد عَن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن عبد الله بن مُوسَى عَن شَيبَان ثَلَاثَتهمْ عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة بِهِ.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مَحْمُود بن غيلَان وَيحيى بن مُوسَى عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ مُنْقَطِعًا،.

     وَقَالَ : حسن صَحِيح.
وَأخرج النَّسَائِيّ عَن عَبَّاس بن الْوَلِيد عَن أَبِيه عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن دُحَيْم عَن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بِهِ.

بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (خُزَاعَة) ، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالزاي: حَيّ من الأزد سموا بذلك لِأَن الأزد لما خَرجُوا من مَكَّة وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد تخلفت عَنْهُم خُزَاعَة وأقامت بهَا، وَمعنى خزع فلَان عَن أَصْحَابه تخلف عَنْهُم، وَبَنُو لَيْث أَيْضا قَبيلَة.
.

     وَقَالَ  الرشاطي: لَيْث فِي كنَانَة: لَيْث بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة، وَفِي عبد الْقَيْس: لَيْث بن بكر بن حداءة بن ظَالِم بن ذهل بن عجل بن عَمْرو بن وَدِيعَة بن لكيز بن أفصى بن عبد الْقَيْس.
قَوْله: (فَركب رَاحِلَته) ، الرَّاحِلَة: النَّاقة الَّتِي تصلح لِأَن ترحل.
وَيُقَال: الرَّاحِلَة الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى.
وَفِي (الْعبابُ) : الرَّاحِلَة النَّاقة الَّتِي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وَتَمام الْخلق وَحسن المنظر، فَإِذا كَانَت فِي جمَاعَة الْإِبِل عرفت، قَالَه القتيبي.
.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: الرَّاحِلَة عِنْد الْعَرَب تكون الْجمل النجيب والناقة النجيبة، وَلَيْسَت النَّاقة أولى بِهَذَا الِاسْم من الْجمل، وَالْهَاء فِيهِ للْمُبَالَغَة، كَمَا يُقَال: رجل داهية وراوية.
وَقيل: سميت رَاحِلَة لِأَنَّهَا ترحل، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: { فِي عيشة راضية} (الحاقة: 1) أَي مرضية.
قَوْله: (لَا يخْتَلى) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَي: لَا يجز وَلَا يقطع.
قَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول: خليت الخلا واختليته أَي: جززته وقطعته فاختلى، والمخلى مَا يجتز بِهِ الخلا، والمخلاة مَا يَجْعَل فِيهِ الْخَلَاء.
.

     وَقَالَ  ابْن السّكيت: خليت دَابَّتي أخليها إِذا جززت لَهَا الخلا، وَالسيف يخْتَلى أَي: يقطع، والمختلون والخالون الَّذين يختلون الْخَلَاء ويقطعونه، واختلت الأَرْض أَي: كثر خَلاهَا، والخلا مَقْصُورا: الرطب من الْحَشِيش، الْوَاحِدَة خلاة، وَفِي بعض الطّرق وَلَا يعضد شَوْكهَا وَلَا يخبط شَوْكهَا وَمعنى الْجَمِيع مُتَقَارب، والشوك جمع الشَّوْكَة، وَشَجر شائك وَشَوْك وشاك.
.

     وَقَالَ  ابْن السّكيت: يُقَال: هَذِه شَجَرَة شاكة، أَي: كَثِيرَة الشوك.
قَوْله: (وَلَا يعضد) أَي: وَلَا يقطع، وَقد اسْتَوْفَيْنَا مَعْنَاهُ فِي بابُُ: ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب.
قَوْله: (وَلَا تلْتَقط ساقطتها) أَي: مَا سقط فِيهَا بغفلة الْمَالِك، وَأَرَادَ بهَا اللّقطَة، وَجَاء: وَلَا يحل لقطتهَا إِلَّا لِمُنْشِد، وَجَاء: لَا يلتقط لقطتهَا إِلَّا من عرفهَا.
والالتقاط من: لقط الشَّيْء يلقطه لقطا أَخذه من الأَرْض.
قَوْله: (إلاَّ لِمُنْشِد) أَي: لمعرف.
قَالَ أَبُو عبيد: المنشد الْمُعَرّف.
وَأما الطَّالِب فَيُقَال لَهُ: نَاشد.
يُقَال: نشدت الضَّالة إِذا طلبتها، وأنشدتها إِذا عرفتها، وأصل الإنشاد رفع الصَّوْت، وَمِنْه إنشاد الشّعْر.
قَوْله: (إِمَّا أَن يعقل) من الْعقل وَهُوَ: الدِّيَة.
قَوْله: (وَإِمَّا أَن يُقَاد) بِالْقَافِ من الْقود وَهُوَ: الْقصاص، وَيَأْتِي مزِيد الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
قَوْله: (إلاَّ الْإِذْخر) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة: هُوَ نبت مَعْرُوف طيبَة الرّيح، واحده إذخرة.

بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (خُزَاعَة) لَا تَنْصَرِف للعلمية والتأنيث، مَنْصُوب لِأَنَّهُ اسْم: إِن.
و (قتلوا رجلا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَهُوَ: (رجلا) ، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن.
قَوْله: (من بني لَيْث) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة: (رجلا) .
قَوْله: (عَام فتح مَكَّة) نصب على الظّرْف، وَمَكَّة، لَا تَنْصَرِف للعلمية والتأنيث.
قَوْله: (بقتيل) أَي: بِسَبَب قَتِيل من خُزَاعَة.
قَوْله: (قَتَلُوهُ) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (بقتيل) ، أَي قتل بَنو اللَّيْث ذَلِك الْخُزَاعِيّ.
قَوْله: (فاخبر) على صِيغَة الْمَجْهُول، و (النَّبِي) مفعول نَاب عَن الْفَاعِل.
قَوْله: (فَركب) عطف على: فَأخْبر.
وَقَوله: (فَخَطب) ، عطف على: ركب، وَالْفَاء فِي: فَقَالَ، تصلح للتفسير.
قَوْله: (الْقَتْل) مَنْصُوب مفعول: حبس.
قَوْله: (وسلط) ، يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ: أَحدهمَا: صِيغَة الْمَجْهُول فَيكون مُسْندًا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أَنه نَاب عَن الْفَاعِل، فعلى هَذَا يكون: والمؤمنون، بِالْوَاو لِأَنَّهُ عطف عَلَيْهِ.
وَالْآخر: صِيغَة الْمَعْلُوم، وَفِيه ضمير يرجع إِلَى الله وَهُوَ فَاعله وَرَسُول الله مَفْعُوله، فعلى هَذَا يكون و: الْمُؤمنِينَ، بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ عطف عَلَيْهِ.
قَوْله: (أَلا) ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام، للتّنْبِيه فتدل على تحقق مَا بعْدهَا.
قَوْله: (وَإِنَّهَا) عطف على مُقَدّر لِأَن: أَلاَ، لَهَا صدر الْكَلَام، والمقتضى أَن يُقَال: أَلا إِنَّهَا، بِدُونِ الْوَاو، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { أَلا إِنَّهُم هم المفسدون} (الْبَقَرَة: 1) وَالتَّقْدِير: أَلا إِن الله حبس عَنْهَا الْفِيل وَإِنَّهَا لم تحل لأحد.
قَوْله: (وَلَا تحل) عطف على قَوْله: (لم تحل) وَفِي الْكشميهني: (وَلم تحل) .
وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي اللّقطَة من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى: (وَلنْ تحل) .
وَهِي أليق بالمستقبل.
قَوْله: (أَلا وَإِنَّهَا) الْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي: (أَلا وَإِنَّهَا لم تحل) ، وَكَذَا قَوْله: (أَلا وَإِنَّهَا سَاعَتِي) .
قَوْله: (حرَام) مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر لقَوْل: إِنَّهَا.
لَا يُقَال إِنَّه لَيْسَ بمطابق للمبتدأ، والمطابقة شَرط، لأَنا نقُول إِنَّه مصدر فِي الأَصْل فيستوي فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث والإفراد وَالْجمع، أَو هُوَ صفة مشبهة وَلَكِن وصفيته زَالَت لغَلَبَة الإسمية عَلَيْهِ فتساوى فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث.
قَوْله: (لَا يخْتَلى) مَجْهُول، وَكَذَا: (لَا يعضد) و: (لَا يلتقط) .
قَوْله: (فَمن قتل) على صِيغَة الْمَجْهُول.
وَكلمَة: من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط وَلِهَذَا دخلت فِي خَبَرهَا الْفَاء، وَهُوَ قَوْله: (فَهُوَ بِخَير النظرين).

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْمَقْتُول كَيفَ يكون بِخَير النظرين؟ قلت: المُرَاد أَهله، وَأطلق عَلَيْهِ ذَلِك لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَب.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: فِيهِ حذف تَقْدِيره: من قتل لَهُ قَتِيل، وَسَائِر الرِّوَايَات تدل عَلَيْهِ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: فِيهِ حذف وَقع بَيَانه فِي رِوَايَة المُصَنّف فِي الدِّيات عَن أبي نعيم بِهَذَا الْإِسْنَاد: فَمن قتل لَهُ قَتِيل.
قلت: كل ذَلِك فِيهِ نظر، أما كَلَام الْكرْمَانِي فَيلْزم مِنْهُ الْإِضْمَار قبل الذّكر، وَأما كَلَام الْخطابِيّ فَيلْزم فِيهِ حذف الْفَاعِل، وَأما كَلَام بَعضهم فَهُوَ من كَلَام الْخطابِيّ وَلَيْسَ من عِنْده شَيْء، وَالتَّحْقِيق هُنَا أَن يقدر فِيهِ مُبْتَدأ مَحْذُوف وحذفه سَائِغ شَائِع وَالتَّقْدِير: فَمن أَهله قتل فَهُوَ بِخَير النظرين: فَمن، مُبْتَدأ و: أَهله قتل جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَقعت صلَة للموصول.
وَقَوله: (فَهُوَ) مُبْتَدأ، وَقَوله (بِخَير النظرين) خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول، وَالضَّمِير فِي: قتل، يرجع إِلَى الْأَهْل الْمُقدر، وَقَوله: فَهُوَ، يرجع إِلَى من.
وَالْبَاء فِي قَوْله: بِخَير النظرين، يتَعَلَّق بِمَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ مرضِي بِخَير النظرين، أَو عَامل، أَو مَأْمُور وَنَحْو ذَلِك.
وَتَقْدِير: مُخَيّر، لَيْسَ بمناسب، وَمعنى خير النظرين: أفضلهما.
قَوْله: (إِمَّا) بِكَسْر الْهمزَة للتفصيل، و: أَن، بِفَتْح الْهمزَة مَصْدَرِيَّة، وَكَذَا قَوْله، وَإِمَّا أَن، وَالتَّقْدِير: إِمَّا الْعقل وَإِمَّا الْقود.
قَوْله: (من أهل الْيمن) فِي مَحل الرّفْع على أَنه صفة لرجل، وَكَذَا قَوْله من قُرَيْش.
قَوْله: (إِلَّا الْإِذْخر يَا رَسُول الله) .
قَالَ الْكرْمَانِي: مثله لَيْسَ مُسْتَثْنى بل هُوَ تلقين بِالِاسْتِثْنَاءِ.
فَكَأَنَّهُ قَالَ: قل يَا رَسُول الله: لَا يخْتَلى شَوْكهَا وَلَا يعضد شَجَرهَا إلاَّ الْإِذْخر.
.
وَأما الْوَاقِع فِي لَفظه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَهُوَ ظَاهر أَنه اسْتثِْنَاء من كَلَامه السَّابِق.
قلت: كل مِنْهُمَا اسْتثِْنَاء، وَالتَّقْدِير الَّذِي قدره يدل على ذَلِك وَهُوَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ كَمَا فِي الْوَاقِع فِي لفظ الرَّسُول، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على الْبَدَل مِمَّا قبله، وَالنّصب على الِاسْتِثْنَاء لكَونه وَاقعا بعد النَّفْي.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ قطب الدّين: إِلَّا الْإِذْخر، اسْتثِْنَاء من: (لَا يخْتَلى خَلاهَا) ، وَهُوَ بعض من كل.
فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ هَذَا الِاسْتِثْنَاء وَشَرطه الِاتِّصَال بالمستثنى مِنْهُ وَهَهُنَا قد وَقع الفاصلة؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: جَازَ الْفَصْل عِنْد ابْن عَبَّاس، فَلَعَلَّ أَبَاهُ أَيْضا جوز ذَلِك، أَو الْفَصْل كَانَ يَسِيرا وَهُوَ جَائِز اتِّفَاقًا، وَفِيه نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه قَالَ أَولا مثله لَيْسَ مُسْتَثْنى بل هُوَ تلقين بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذا لم يكن مُسْتَثْنى لَا يرد سُؤَاله.
وَالْآخر: قَوْله أَو الْفَصْل كَانَ يَسِيرا، وَلَيْسَ كَذَلِك بل الْفَصْل كثير، وَالصَّوَاب مَا ذكرنَا أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ مَحْذُوف وَالِاسْتِثْنَاء مِنْهُ من غير فصل.

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (قتلوا رجلا) لم يسم اسْمه، وَأما الْمَقْتُول الَّذِي قتل فِي الْجَاهِلِيَّة فاسمه أَحْمَر، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: لما كَانَ الْغَد من يَوْم الْفَتْح ... فَذكر إِلَى أَن قَالَ: بقتيل مِنْهُم قَتَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَعند ابْن إِسْحَاق: بقتيل مِنْهُم قَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرك، وَذكر الْقِصَّة وَهُوَ أَن خرَاش بن أُميَّة من خُزَاعَة قتل ابْن الأثرع الْهُذلِيّ وَهُوَ مُشْرك بقتيل قتل فِي الْجَاهِلِيَّة يُقَال لَهُ أَحْمَر، فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (يَا معشر خُزَاعَة إرفعوا أَيْدِيكُم عَن الْقَتْل، فَمن قتل بعد مقَامي هَذَا فأهله بِخَير النظرين) وَذكر الحَدِيث.
قَوْله: (إِن الله حبس) أَي: منع عَن مَكَّة الْقَتْل، بِالْقَافِ وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: مَا يدل عَلَيْهِ أَنه روى: والفتك أَيْضا بِالْفَاءِ وَالْكَاف، وَفَسرهُ بسفك الدَّم، وَله وَجه إِن ساعدته الرِّوَايَة.
قَوْله: (أَو الْفِيل) بِالْفَاءِ الْمَكْسُورَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ الْحَيَوَان الْمَشْهُور الَّذِي ذكره الله تَعَالَى فِي قَوْله: { ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل} (الْفِيل: 1) السُّورَة، فَأرْسل الله تَعَالَى على أَصْحَابه طيرا أبابُيل ترميهم بحجارة من سجيل حِين وصلوا إِلَى بطن الْوَادي بِالْقربِ من مَكَّة.
قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد) ، وجعلوه على الشَّك، كَذَا قَالَ أَبُو نعيم: الْفِيل أَو الْقَتْل، وَفِي بعض النّسخ: (إِن الله حبس عَن مَكَّة الْقَتْل أَو الْفِيل) ، كَذَا قَالَ أَبُو نعيم، وَاجْعَلُوا على الشَّك الْفِيل أَو الْقَتْل.
وَفِي بَعْضهَا: قَالَ أَبُو عبد الله: كَذَا قَالَ أَبُو نعيم، اجعلوه على الشَّك، وَالْمرَاد من قَوْله: قَالَ مُحَمَّد هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَكَذَا من قَوْله: قَالَ أَبُو عبد الله، وَالْمعْنَى على النُّسْخَة الأولى، وَجعله الروَاة على الشَّك.
كَذَا قَالَ أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن شَيْخه، وعَلى النُّسْخَة الثَّانِيَة يكون: وَاجْعَلُوا من مقول أبي نعيم، وَهِي صِيغَة أَمر للحاضرين.
أَي: اجعلوا هَذَا اللَّفْظ على الشَّك.
وعَلى النُّسْخَة الثَّالِثَة يكون: إجعلوا، من مقول البُخَارِيّ نَفسه.
فَافْهَم.
قَوْله: (وَغَيره يَقُول الْفِيل) ، أَي غير أبي نعيم يَقُول الْفِيل، بِالْفَاءِ من غير شكّ، وَالْمرَاد بِالْغَيْر: من رَوَاهُ عَن شَيبَان رَفِيقًا لأبي نعيم، وَهُوَ عبد الله بن مُوسَى، وَمن رَوَاهُ عَن يحيى رَفِيقًا لشيبان هُوَ حَرْب بن شَدَّاد، لما سَيَأْتِي بَيَانه فِي الدِّيات إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَالْمرَاد بِحَبْس الْفِيل حبس أهل الْفِيل، وَأَشَارَ بذلك إِلَى الْقِصَّة الْمَشْهُورَة للحبشة فِي غزوهم مَكَّة وَمَعَهُمْ الْفِيل، فَمنعهَا الله مِنْهُم وسلط عَلَيْهِم الطير الأبابُيل، مَعَ كَون أهل مَكَّة إِذْ ذَاك كَانُوا كفَّارًا، فحرمة أَهلهَا بعد الْإِسْلَام آكِد، لَكِن غَزْو النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِيَّاهَا مَخْصُوص بِهِ على ظَاهر هَذَا الحَدِيث وَغَيره.
قَوْله: (وَلَا تحل لأحد بعدِي) معنى حَلَال مَكَّة حَلَال الْقِتَال فِيهَا، وَقد مر أَن فِي رِوَايَة الْكشميهني (وَلم تحل) ، فَإِن قلت: لم تقلب الْمُضَارع مَاضِيا وَلَفظ بعدِي للاستقبال، فَكيف يَجْتَمِعَانِ؟ قلت: مَعْنَاهُ لم يحكم الله فِي الْمَاضِي بِالْحلِّ فِي الْمُسْتَقْبل.
قَوْله: (سَاعَتِي هَذِه) أَي: فِي سَاعَتِي الَّتِي أَتكَلّم فِيهَا، وَهِي بعد الْفَتْح.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: الَّذِي أحل لَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَخص بِهِ دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام وَلَا يجوز لأحد أَن يدْخلهُ بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغَيْر إِحْرَام، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَالقَاسِم وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وصاحبيه، ولمالك وَالشَّافِعِيّ قَولَانِ فِيمَن لم يرد الْحَج أَو الْعمرَة.
فَفِي قَول: يجوز، وَفِي قَول: لَا يجوز إلاَّ للحطابين وشبههم.
.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: الَّذِي أحل للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قتال أَهلهَا ومحاربتهم، وَلَا يحل لأحد بعده.
قَوْله: (شَوْكهَا) دَال على منع قطع سَائِر الْأَشْجَار بِالطَّرِيقِ الأولى،.

     وَقَالَ  فِي (شرح السّنة) : المؤذي من الشوك كالعوسج لَا بَأْس بِقطعِهِ كالحيوان المؤذي، فَيكون من بابُُ تَخْصِيص الحَدِيث بِالْقِيَاسِ.
وَكَذَا لَا بَأْس بِقطع الْيَابِس كَمَا فِي الصَّيْد الْمَيِّت، وَأما لقطتهَا فَقيل: لَيْسَ لواجدها غير التَّعْرِيف أبدا، وَلَا يملكهَا بِحَال، وَلَا يتَصَدَّق بهَا إِلَى أَن يظفر بصاحبها، بِخِلَاف لقطَة سَائِر الْبِقَاع، وَهُوَ أظهر قولي الشَّافِعِي.
وَمذهب مَالك والأكثرين إِلَى أَنه: لَا فرق بَين لقطَة الْحل وَالْحرم.
وَقَالُوا: معنى إلاَّ لِمُنْشِد: أَنه يعرفهَا كَمَا يعرفهَا فِي سَائِر الْبِقَاع حولا كَامِلا حَتَّى لَا يتَوَهَّم أَنه إِذا نَادَى عَلَيْهَا وَقت الْمَوْسِم فَلم يظْهر مَالِكهَا جَازَ تَملكهَا.
.

     وَقَالَ  عبد الرحن بن مهْدي: قَوْله: (إلاَّ لِمُنْشِد) يُرِيد: لَا تحل أَلْبَتَّة، فَكَأَنَّهُ قيل: إلاَّ لِمُنْشِد، أَي: لَا يحل لَهُ مِنْهَا إلاَّ إنشادها، فَيكون ذَلِك مِمَّا اخْتصّت بِهِ مَكَّة كَمَا اخْتصّت بِأَنَّهَا حرَام، وَأَنه لَا ينفر صيدها وَغَيرهمَا من الْأَحْكَام.
.

     وَقَالَ  الْمَازرِيّ: مَعْنَاهُ الْمُبَالغَة فِي التَّعْرِيف، لِأَن الْحَاج قد لَا يعود إلاَّ بعد أَعْوَام فتدعو الضَّرُورَة لإطالة التَّعْرِيف بِخِلَاف غَيرهَا من الْبِلَاد، وَلِأَن النَّاس ينتابون إِلَى مَكَّة.
وَيُقَال: جَاءَ الحَدِيث ليقطع وهم من يظنّ أَنه يسْتَغْنى عَن التَّعْرِيف هُنَا إِذْ الْغَالِب أَن الحجيج إِذا تفَرقُوا مشرقين ومغربين ومدت المطايا أعناقها، يَقُول الْقَائِل: لَا حَاجَة إِلَى التَّعْرِيف، فَذكر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن التَّعْرِيف فِيهَا ثَابت كَغَيْرِهَا من الْبِلَاد، وَمِنْهُم من قَالَ: التَّقْدِير إلاَّ من سمع نَاشِدًا يَقُول: من أضلّ كَذَا، فَحِينَئِذٍ يجوز للملتقط أَن يرفعها إِذا رَآهَا ليردها على صَاحبهَا، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَالنضْر بن شُمَيْل.
وَقيل: لَا تحل إلاَّ لِرَبِّهَا الَّذِي يطْلبهَا.
قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ جيد فِي الْمَعْنى، لَكِن لَا يجوز فِي الْعَرَبيَّة أَن يُقَال للطَّالِب منشد.
قلت: قَالَ بَعضهم: الناشد الْمُعَرّف، والمنشد الطَّالِب فَيصح هَذَا التَّأْوِيل على هَذَا التَّقْرِير.
قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي (الْمَشَارِق) : ذكر الحريري اخْتِلَاف أهل اللُّغَة فِي الناشد والمنشد، وَأَن بَعضهم عكس فَقَالَ: الناشد الْمُعَرّف والمنشد الطَّالِب، وَاخْتِلَافهمْ فِي تَفْسِير الحَدِيث بِالْوَجْهَيْنِ.
قَوْله: (فَهُوَ بِخَير النظرين) لَفْظَة خير، هَهُنَا بِمَعْنى أفعل التَّفْضِيل، وَالْمعْنَى: أفضل النظرين، وَتَفْسِير: النظرين، بقوله: إِمَّا أَن يعقل من الْعقل وَهُوَ الدِّيَة.
وَإِمَّا أَن يُقَاد أهل الْقَتِيل، بِالْقَافِ أَي: يقْتَصّ.
وَوَقع فِي رِوَايَة لمُسلم: (إِمَّا أَن يفادى) بِالْفَاءِ من المفاداة.
وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : (إِمَّا أَن يَأْخُذُوا الْعقل أَو يقتلُوا) ، وَهُوَ أبين الرِّوَايَات، وَهِي تفسر بَعْضهَا بَعْضًا.
وَقَوله فِي مُسلم: (وَإِمَّا أَن يقتل) .
وَقَول أبي دَاوُد: (أَو يقتلُوا) مفسران لسَائِر الرِّوَايَات.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: وَقع هُنَا فِي الْعلم فِي جَمِيع النّسخ، وَإِمَّا أَن يُقَاد بِالْقَافِ، وَيُوَافِقهُ مَا جَاءَ فِي كتاب الدِّيات إِمَّا أَن يُؤدى وَإِمَّا أَن يُقَاد، وَكَذَلِكَ فِي مُسلم.
وَحكى بَعضهم: يَعْنِي فِي مُسلم يفادى بِالْفَاءِ مَوضِع، يُقَاد قَالَ: وَالصَّوَاب الأول وَهُوَ الْقَاف لِأَن على الْفَاء يخْتل اللَّفْظ، لِأَن الْعقل هُوَ الْفِدَاء فيتحصل التّكْرَار.
قَالَ: وَالصَّوَاب أَن الْقَاف مَعَ قَوْله: الْعقل، وَالْفَاء مَعَ قَوْله: يقتل، لِأَن الْعقل هُوَ الْفِدَاء.
وَأما يعقل مَعَ يفدى أَو يفادى فَلَا وَجه لَهُ.
قلت: حَاصِل الْكَلَام أَن الرِّوَايَة على وَجْهَيْن.
من قَالَ: وَإِمَّا أَن يُقَاد بِالْقَافِ من الْقود وَهُوَ الْقصاص.
قَالَ فِيمَا قبله: إِمَّا أَن يعقل، بِالْعينِ وَالْقَاف: من الْعقل وَهُوَ الدِّيَة، وَمن قَالَ: وَإِمَّا أَن يفادى.
بِالْفَاءِ من: المفاداة.
قَالَ فِيمَا قبله: إِمَّا أَن يقتل، بِالْقَافِ وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ الْقَتْل الَّذِي هُوَ الْقود.
قَوْله: (فجَاء رجل من أهل الْيمن) وَهُوَ أَبُو شاه، وَجَاء بِهِ مُبينًا فِي اللّقطَة، وَهُوَ بشين مُعْجمَة وهاء بعد الْألف فِي الْوَقْف والدرج، وَلَا يُقَال بِالتَّاءِ.
قَالُوا: وَلَا يعرف اسْم أبي شاه هَذَا، وَإِنَّمَا يعرف بكنيته وَهُوَ كَلْبِي يمني.
وَفِي (الْمطَالع) وَأَبُو شاه مصروفا ضبطته وقرأته أَنا معرفَة ونكرة، وَعَن ابْن دحْيَة أَنه بِالتَّاءِ مَنْصُوبًا.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: هُوَ بهاء فِي آخِره درجا ووقفا.
قَالَ: وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ، وَلَا يغتر بِكَثْرَة من يصحفه مِمَّن لَا يَأْخُذ الْعلم على وَجهه وَمن مظانه.
قَوْله: (فَقَالَ: أكتبوا لأبي فلَان) أَرَادَ بِهِ لأبي شاه.
وَفِي مُسلم: فَقَالَ الْوَلِيد يَعْنِي: ابْن مُسلم رَاوِي الحَدِيث قلت للأوزاعي مَا قَوْله: اكتبوا لي يَا رَسُول الله؟ قَالَ: هَذِه الْخطْبَة الَّتِي سَمعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (فَقَالَ رجل من قُرَيْش) ، وَهُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب عَم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا يَأْتِي فِي اللّقطَة، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَوَقع فِي رِوَايَة لِابْنِ أبي شيبَة: فَقَالَ رجل من قُرَيْش يُقَال لَهُ شاه، وَهُوَ غلط.
قَوْله: (فَإنَّا نجعله فِي بُيُوتنَا) لِأَنَّهُ يسقف بِهِ الْبَيْت فَوق الْخشب.
وَقيل: كَانُوا يخلطونه بالطين لِئَلَّا يتشقق إِذا بني بِهِ كَمَا يفعل بالتبن.
.
قَوْله: (وَقُبُورنَا) لِأَنَّهُ يسد بِهِ فرج اللَّحْد المتخللة بَين اللبنات.
قَوْله: (إلاَّ الْإِذْخر) وَقع فِي بعض الرِّوَايَات مكررا مرَّتَيْنِ، فَتكون الثَّانِيَة للتَّأْكِيد.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه.
الأول: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ إِبَاحَة كِتَابَة الْعلم، وَكره قوم كِتَابَة الْعلم لِأَنَّهَا سَبَب لضياع الْحِفْظ، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم.
وَمن الْحجَّة أَيْضا مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ من كِتَابَة الْمُصحف الَّذِي هُوَ أصل الْعلم، وَكَانَ للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتَّاب يَكْتُبُونَ الْوَحْي.
.

     وَقَالَ  الشّعبِيّ: إِذا سَمِعت شَيْئا فاكتبه وَلَو فِي الْحَائِط.
قلت: مَحل الْخلاف كِتَابَة غير الْمُصحف، فَمَا اتَّفقُوا لَا يكون من الْحجَّة عَلَيْهِم.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: إِنَّمَا كره من كره من السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كِتَابَة الْعلم فِي الْمُصحف وَتَدْوِين السّنَن لأحاديث رويت فِيهَا.
مِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد: (استأذنا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْكِتَابَة فَلم يَأْذَن لنا) .
وَعَن زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أمرنَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن لَا نكتب شَيْئا) .
وَلِئَلَّا يكْتب مَعَ الْقُرْآن شَيْء وَخَوف الاتكال على الْكِتَابَة.
ثمَّ جَاءَت أَحَادِيث بِالْإِذْنِ فِي ذَلِك فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ.
قلت: يُرِيد قَول عبد الله: (استأذنا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي كِتَابَة مَا سَمِعت مِنْهُ، قَالَ: فَأذن لي، فكتبته) فَكَانَ عبد الله يُسَمِّي صَحِيفَته الصادقة.
قَالَ: وَأَجَازَهُ مُعظم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَوَقع عَلَيْهِ بعد الِاتِّفَاق ودعت إِلَيْهِ الضَّرُورَة لانتشار الطّرق وَطول الْأَسَانِيد واشتباه المقالات مَعَ قلَّة الْحِفْظ وكلال الْفَهم.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: أجابوا عَن أَحَادِيث النَّهْي إِمَّا بالنسخ، فَإِن النَّهْي كَانَ خوفًا من الِاخْتِلَاط بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا اشْتهر أمنت الْمفْسدَة، أَو إِن النَّهْي كَانَ على التَّنْزِيه لمن وثق بحفظه، وَالْإِذْن لمن لم يَثِق بحفظه.

الثَّانِي: فِيهِ دَلِيل على أَن الْخطْبَة يسْتَحبّ أَن تكون على مَوضِع عَال منبرٍ أَو غَيره فِي جُمُعَة أَو غَيرهَا.

الثَّالِث: اسْتدلَّ بقوله: (وسلط عَلَيْهِم رَسُول الله) من يرى أَن مَكَّة فتحت عنْوَة، وَأَن التسليط الَّذِي وَقع للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مُقَابل بِالْحَبْسِ الَّذِي وَقع لأَصْحَاب الْفِيل وَهُوَ الْحَبْس عَن الْقِتَال، هَذَا قَول الْجُمْهُور.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: فتحت صلحا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي حَدِيث أبي شُرَيْح.

الرَّابِع: فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم قطع الشّجر فِي الْحرم مِمَّا لَا ينبته الآدميون فِي الْعَادة، وعَلى تَحْرِيم خلاه، وَهَذَا بالِاتِّفَاقِ.
وَاخْتلفُوا مِمَّا ينبته الآدميون، قَالَه النَّوَوِيّ.

الْخَامِس: اسْتدلَّ أهل الْأُصُول بِهَذَا الحَدِيث وَشبهه على أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ متعبدا بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَهُوَ الْأَصَح عِنْدهم، وَمنعه بَعضهم.
وَمِمَّنْ قَالَ بِالْأولِ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو يُوسُف، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَصحح الْغَزالِيّ الْجَوَاز، وَتوقف فِي الْوُقُوع.
.

     وَقَالَ  ابْن الْخَطِيب الرَّازِيّ: توقف أَكثر الْمُحَقِّقين فى الْكل، وَجوزهُ بَعضهم فِي أَمر الْحَرْب دون غَيره، وَاسْتدلَّ من قَالَ بِوُقُوعِهِ بِمَا جَاءَ فِي هَذَا، وَفِي قَوْله لما سُئِلَ: (أحجنا هَذَا لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد؟ وَلَو قلت: نعم، لوَجَبَ) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وشاورهم فِي الْأَمر} (آل عمرَان: 159) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أُسَارَى بدر: { مَا كَانَ لنَبِيّ} الْآيَة، (آل عمرَان: 161، الْأَنْفَال: 67) وَلَو كَانَ حكم بِالنَّصِّ لما عوتب.
وَأجَاب المانعون عَن الْكل بِأَنَّهُ يجوز أَن يقارنها نُصُوص أَو تقدم عَلَيْهَا بِأَن يُوحى إِلَيْهِ أَنه إِذا كَانَ كَذَا فَاضل فافعل كَذَا، مثل أَن لَا يَسْتَثْنِي إلاَّ الْإِذْخر حِين سَأَلَ الْعَبَّاس، أَو كَانَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَاضرا فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يكون بِالْوَحْي لَا بِالِاجْتِهَادِ.
قَالَ الْمُهلب: يجوز أَن الله تَعَالَى أعلم رَسُوله بتحليل الْمُحرمَات عِنْد الِاضْطِرَار، فَكَانَ هَذَا من ذَلِك الأَصْل، فَلَمَّا سَأَلَ الْعَبَّاس حكم فِيهِ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم فِي قَوْله تَعَالَى: { وشاورهم فِي الْأَمر} (آل عمرَان: 159) إِنَّه مَخْصُوص بِالْحَرْبِ.

السَّادِس: فِيهِ أَن ولي الْقَتِيل بِالْخِيَارِ بَين أَخذ الدِّيَة وَبَين الْقَتْل، وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَار الْجَانِي على أَي الْأَمريْنِ شَاءَ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد،.

     وَقَالَ  مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ: لَيْسَ إلاَّ الْقَتْل أَو الْعَفو، وَلَيْسَ لَهُ الدِّيَة إلاَّ برضى الْجَانِي، وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ.
قلت: هُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَعبد الله بن ذكْوَان وَعبد الله بن شبْرمَة وَالْحسن بن حَيّ.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَكَانَ من الْحجَّة لَهُم أَن قَوْله: أَخذ الدِّيَة، قد يجوز أَن يكون على مَا قَالَ أهل الْمقَالة الأولى: وَيجوز أَن يَأْخُذ الدِّيَة إِن أعطيها، كَمَا يُقَال للرجل: خُذ بِدينِك إِن شِئْت دَرَاهِم، وَإِن شِئْت دَنَانِير، وَإِن شِئْت عرضا، وَلَيْسَ المُرَاد بذلك أَن يَأْخُذ ذَلِك، رَضِي الَّذِي عَلَيْهِ الدّين أَو كره، وَلَكِن يُرَاد إِبَاحَة ذَلِك لَهُ إِن أعْطِيه.
قلت: التَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَن قَوْله: (بِخَير النظرين) جَار ومجرور، وَلَا بُد لَهُ من مُتَعَلق مُنَاسِب يتَعَدَّى بِالْبَاء، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن تَقْدِير: مُخَيّر، لَيْسَ بمناسب، فَيقدر: إِمَّا عَامل بِخَير النظرين، أَو مرضِي، أَو مَأْمُور بِخَير النظرين للْقَاتِل، إِشَارَة إِلَى أَن الرِّفْق لَهُ مَطْلُوب حَتَّى كَانَ الْعَفو مَنْدُوب إِلَيْهِ.
وَيجوز أَن يكون تَأْوِيله: فَهُوَ بِخَير النظرين من رضى الْقَاتِل ورضى نَفسه فَإِن كَانَ رضى الْقَاتِل خيرا لَهُ، وَقد اخْتَار الْفِدَاء، فَلهُ قبُول ذَلِك.
وَإِن كَانَ رضى نَفسه بالاقتصاص خيرا، فَلهُ فعل ذَلِك وَيَنْبَغِي أَن لَا يقف عِنْد رضى نَفسه أَلْبَتَّة، لِأَن الْقَاتِل بِاخْتِيَار الدِّيَة قد يكون خيرا لَهُ، فيؤول وجوب الدِّيَة إِلَى رضى الْقَاتِل.

السَّابِع: فِيهِ أَن الْقَاتِل عمدا يجب عَلَيْهِ أحد الْأَمريْنِ: الْقصاص أَو الدِّيَة، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، وأصحهما عِنْده أَن الْوَاجِب الْقصاص، وَالدية بدل عِنْد سُقُوطه، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، وعَلى الْقَوْلَيْنِ: للْوَلِيّ الْعَفو عَن الدِّيَة، وَلَا يحْتَاج إِلَى رضى الْجَانِي وَلَو مَاتَ أَو سقط الطّرف الْمُسْتَحق وَجَبت الدِّيَة، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَعَن أبي حنيفَة وَمَالك: إِنَّه لَا يعدل إِلَّا المَال إِلَّا برضى الْجَانِي، وَإنَّهُ لَو مَاتَ الْجَانِي سَقَطت الدِّيَة، وَهُوَ قَول قديم للشَّافِعِيّ، وَرجحه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي (شَرحه) .




[ قــ :11 ... غــ :113 ]
- (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله قَالَ حَدثنَا سُفْيَان قَالَ حَدثنَا عَمْرو قَالَ أَخْبرنِي وهب بن مُنَبّه عَن أَخِيه قَالَ سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول مَا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد أَكثر حَدِيثا عَنهُ منى إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ كتب وَلَا أكتب) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهُوَ أَن عبد الله بن عَمْرو من أفاضل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانَ يكْتب مَا يسمعهُ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَلَو لم تكن الْكِتَابَة جَائِزَة لما كَانَ يفعل ذَلِك فَإِذا قُلْنَا فعل الصَّحَابِيّ حجَّة فَلَا نزاع فِيهِ وَإِلَّا فلاستدلال على جَوَاز الْكِتَابَة يكون بقرير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كِتَابَته (بَيَان رِجَاله) وهم سِتَّة الأول عَليّ بن عبد الله الْمدنِي الإِمَام وَقد تقدم الثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة الثَّالِث عَمْرو بن دِينَار أَبُو مُحَمَّد الْمَكِّيّ الجُمَحِي أحد الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة الرَّابِع وهب بن مُنَبّه بِضَم الْمِيم وَفتح النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة بن كَامِل بن سبج بِفَتْح السِّين وَقيل بِكَسْرِهَا وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره جِيم وَقيل الشين مُعْجمَة ابْن ذِي كنار وَهُوَ الاسوار الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ الابناوي الذمارِي سمع هُنَا عَن أَخِيه قَالَ الْبَاجِيّ لم أر لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الْموضع وَسمع فِي غير البُخَارِيّ جَابِرا وَعبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن عمر وَأَبا هُرَيْرَة وَغَيرهم قَالَ أَبُو زرْعَة ياني ثِقَة وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيّ.

     وَقَالَ  الفلاس ضَعِيف وَهُوَ مَشْهُور بِمَعْرِِفَة الْكتب الْمَاضِيَة قَالَ قَرَأت من كتب الله تَعَالَى اثْنَيْنِ وَتِسْعين كتابا وَهُوَ من الْأَبْنَاء الَّذين بَعثهمْ كسْرَى إِلَى الْيمن وَقيل أَصله من هراة مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة إِلَّا ابْن مَاجَه واخرج لَهُ مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أَخِيه همام روى عَنهُ عَمْرو ابْن دِينَار وَاتفقَ لبخاري مُسلم فِي الاخراج عَنهُ وَعَن أَخِيه همام لَا غير الْخَامِس أَخُو وهب همام بن مُنَبّه أَبُو عقبَة وَكَانَ أكبر من وهب وَكَانُوا أَرْبَعَة أَخُو وهب وَمَعْقِل أَبُو عقيل وَهَمَّام وغيلان وَكَانَ أَصْغَرهم وَكَانَ آخِرهم موتا همام وَمَات وهب ثمَّ معقل ثمَّ غيلَان ثمَّ همام توفّي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة السَّادِس أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ (بَيَان الْأَنْسَاب) الجمحى بِضَم الْجِيم وَفتح الْمِيم بِالْحَاء الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى جمح ابْن عَمْرو بن هصيص بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر الصَّنْعَانِيّ نِسْبَة إِلَى صنعاء مَدِينَة بِالْيمن وصنعا أَيْضا قَرْيَة بِدِمَشْق وهب ينْسب إِلَى صنعاء الْيمن وزيدت فِيهَا النُّون فِي النِّسْبَة على خلاف الْقيَاس الْيَمَانِيّ نِسْبَة إِلَى يمَان وَيُقَال يمنى أَيْضا قَالَ الْجَوْهَرِي الْيمن بِلَاد الْعَرَب وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا يمنى ويمان مُخَفّفَة وَالْألف عوض عَن يَاء النِّسْبَة فَلَا يَجْتَمِعَانِ قَالَ سِيبَوَيْهٍ وَبَعْضهمْ يَقُول يماني بِالتَّشْدِيدِ الابناوى بِفَتْح الْهمزَة مَنْسُوب إِلَى الْأَبْنَاء بباء مُوَحدَة ثمَّ نون وهم كل من أَبنَاء الْفرس الَّذين وجههم كسْرَى مَعَ سيف ذِي يزن الذمارِي بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَقيل بِفَتْحِهَا نِسْبَة إِلَى ذمار على مرحلَتَيْنِ من صنعاء (بَيَان لطائف اسناده) .
مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث وَالْأَخْبَار بِصِيغَة الْأَفْرَاد والعنعنة وَالسَّمَاع.
وَمِنْهَا أَن وهباً لم يرو لَهُ البُخَارِيّ فِي غير هَذَا الْموضع.
مِنْهَا أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي طبقَة مُتَقَارِبَة أَوَّلهمْ عَمْرو (بَيَان من أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هُنَا لَيْسَ إِلَّا هُوَ من أَفْرَاده عَن مُسلم وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعلم وَفِي المناقب عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ.

     وَقَالَ  حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم وَفِي المناقب عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ.

     وَقَالَ  حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن اسحق بن إِبْرَاهِيم عَن سُفْيَان بِهِ (بَيَان الاعراب وَالْمعْنَى) قَوْله " مَا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كلمة مَا للنَّفْي وَقَوله " أحد " بِالرَّفْع اسْم مَا وَكلمَة من ابتدائية تتَعَلَّق بِمَحْذُوف وَالتَّقْدِير مَا أحد مُبْتَدأ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله أَكثر بِالرَّفْع صفة أحد ويروي بِالنّصب أَيْضا وَهُوَ إِلَّا وَجه لِأَنَّهُ خبر مَا وَقَوله " حَدِيثا " نصب على التَّمْيِيز وَلَفْظَة أَكثر افْعَل التَّفْضِيل وَلَا تسْتَعْمل إِلَّا بِأحد الْأُمُور الثَّلَاثَة كَمَا عرف فِي مَوْضِعه وَهَهُنَا اسْتعْمل بِمن وَهُوَ قَوْله منى وَلَكِن فصل بَينه وَبَينه بقوله حَدِيثا عَنهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ باجنبي وَالضَّمِير فِي عَنهُ يرجع إِلَى أحد قَوْله " إِلَّا مَا كَانَ " يجوز أَن يكون اسْتثِْنَاء مُنْقَطِعًا على تَقْدِير لَكِن الَّذِي كَانَ من عبد الله بن عَمْرو أَي الْكِتَابَة لم تكن منى وَالْخَبَر مَحْذُوف بقرينه بَاقِي الْكَلَام سَوَاء لزم مِنْهُ كَونه أَكثر حَدِيثا إِذا الْعَادة جَارِيَة على أَن شَخْصَيْنِ إِذا لَازِما شَيخا مثلا وَسَمعنَا مِنْهُ الْأَحَادِيث يكون الْكَاتِب أَكثر حَدِيثا من غَيره أم لَا يجوز أَن يكون مُتَّصِلا نظرا إِلَى الْمَعْنى إِذْ حَدِيثا إِذْ وَقع تمييزاً والتمييز كالمحكوم عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَا أحد حَدِيثه أَكثر من حَدِيثي إِلَّا أَحَادِيث حصلت من عبد الله بن عَمْرو قَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض الرِّوَايَات مَا كَانَ أحد أَكثر حَدِيثا عَنهُ منى إِلَّا عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا أكتب قَوْله " فَإِنَّهُ " الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو قَوْله " كَانَ يكْتب " جملَة وَقعت خَبرا لَان قَوْله " وَلَا أكتب " عطف على قَوْله فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب تَقْدِيره وَأَنا لَا أكتب وَقد روى عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ اسْتَأْذَنت النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي كِتَابَة مَا سَمِعت مِنْهُ فَأذن لي وَعنهُ قَالَ حفظت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف مثل وَإِنَّمَا قلت الرِّوَايَة عَنهُ مَعَ كَثْرَة مَا حمل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ سكن مصر وَكَانَ الواردون إِلَيْهَا قَلِيلا بِخِلَاف أبي هُرَيْرَة فَإِنَّهُ استوطن الْمَدِينَة وَهِي مقصد الْمُسلمين من كل جِهَة وَقيل كَانَ السَّبَب فِي كَثْرَة حَدِيث أبي هُرَيْرَة دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بِعَدَمِ النسْيَان وَالسَّبَب فِي قلَّة حَدِيث عبد الله بن عَمْرو هُوَ أَنه كَانَ قد ظفر بجمل من كتب أهل الْكتاب وَكَانَ ينظر فِيهَا وَيحدث مِنْهَا فتجنب الْأَخْذ عَنهُ كثير من التَّابِعين وَالله أعلم.
قَالَ البُخَارِيّ روى عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو من ثَمَانمِائَة رجل وَكَانَ أَكثر الصَّحَابَة حَدِيثا روى لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة آلَاف وَثَلَاث مائَة حَدِيث وَوجد لعبد الله بن عَمْرو سَبْعمِائة حَدِيث اتفقَا على سَبْعَة عشر وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِمِائَة وَمُسلم بِعشْرين

(تَابعه معمر عَن همام عَن أبي هُرَيْرَة)
أَي تَابع وهب بن مُنَبّه فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث عَن همام معمر بن رَاشد وَأخرج هَذِه الْمُتَابَعَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام عَن أبي هُرَيْرَة وأخرجها أَيْضا أَبُو بكر على المرزوي فِي كتاب الْعلم لَهُ عَن الْحجَّاج بن الشَّاعِر عَنهُ عَن معمر عَنهُ وروى أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب عَن مجاهدة والمغيرة بن حَكِيم قَالَا سمعنَا أَبَا هُرَيْرَة يَقُول مَا كَانَ أحد أعلم بِحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منى إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب بِيَدِهِ ويعي بِقَلْبِه وَكنت أعي وَلَا أكتب وَاسْتَأْذَنَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْكِتَابَة عَنهُ فاذن لَهُ اسناد حسن.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي هَذِه مُتَابعَة نَاقِصَة سهلة المأخذ حَيْثُ ذكر المتابع عَلَيْهِ يَعْنِي هماماً ثمَّ أَنه يحْتَمل أَن يكون بَين البُخَارِيّ وَبَين معمر الرِّجَال الْمَذْكُورين بعينهم وَيحْتَمل أَن يكون غَيرهم كَمَا يحْتَمل أَن يكون من بابُُ التَّعْلِيق عَن معمر قلت هَذِه احتمالات وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ طَريقَة أهل هَذَا الشَّأْن



[ قــ :113 ... غــ :114 ]
- حدّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمانَ قَالَ: حدّثني ابنُ وَهْبٍ أخْبرني يُونُسُ عنِ ابنِ شهَابٍ عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بن عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: لَمَّا اشْتدّ بالنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَعُهُ قَالَ: ( ائْتُونِي بِكِتَابٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتابا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ) قالَ عُمَرُ: إِن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَلَبَهُ الوجَعُ، وعنْدَنَا كِتابُ اللَّهِ حَسْبُنَا، فاخْتَلفوا وكَثُرَ اللَّغَطُ، قالَ: ( عَنِّي ولاَ يَنْبَغِي عِنْدِي التنَازُعُ) .
فَخَرَج ابنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزيَّةِ مَا حالَ بَيْنَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَيْنَ كِتابِهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن سُلَيْمَان بن يحيى بن سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي أَبُو سعيد، سكن مصر وَمَات بهَا سنة سبع أَو ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: عبد الله بن وهب بن مُسلم الْمصْرِيّ.
الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: عبيد الله بن عبد الله، بتصغير الابْن وتكبير الْأَب ابْن عتبَة بن مَسْعُود أَبُو عبد الله الْفَقِيه الْأَعْمَى، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة.
السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومصري ومدني.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الطِّبّ عَن عبيد الله بن مُحَمَّد كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق وَفِيه وَفِي الِاعْتِصَام عَن ابْن إِبْرَاهِيم ابْن مُوسَى عَن هِشَام بن يُوسُف كِلَاهُمَا عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ.
وَأخرجه مُسلم فِي الْوَصَايَا عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَنهُ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن رَاهَوَيْه، وَفِي الطِّبّ عَن زَكَرِيَّا بن يحيى عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَنهُ.

بَيَان اللُّغَات: قَوْله: ( لما اشْتَدَّ) أَي: لما قوي.
قَوْله: ( اللَّغط) ، بِالتَّحْرِيكِ: الصَّوْت والجلبة.
.

     وَقَالَ  الْكسَائي: اللَّغط، بِسُكُون الْغَيْن، لُغَة فِيهِ، وَالْجمع ألغاط.
.

     وَقَالَ  اللَّيْث: اللَّغط أصوات مُبْهمَة لَا تفهم.
تَقول: لغط الْقَوْم وألغط الْقَوْم مثل: لغطوا.
قَوْله: ( الرزيئة) ، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الزَّاي بعْدهَا يَاء ثمَّ همزَة، وَقد تسهل الْهمزَة وتشدد الْيَاء، وَمَعْنَاهَا: الْمُصِيبَة.
.
وَفِي ( الْعبابُ) الرزء الْمُصِيبَة وَالْجمع الارزاء وَكَذَلِكَ المرزية والرزيئة وَجمع الرزيئة الرزايا وَقد رزأته رزيئة أَي أَصَابَته مُصِيبَة ورزأته رزأ بِالضَّمِّ ومرزئة إِذا أصبت مِنْهُ خيرا مَا كَانَ، وَيَقُول: مَا رزأت مَاله، وَمَا رزئته بِالْكَسْرِ أَي: مَا نقصته.

بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: ( لما) ظرف بِمَعْنى: حِين.
قَوْله: ( وَجَعه) بِالرَّفْع فَاعل: ( اشْتَدَّ) .
قَوْله: ( قَالَ) جَوَاب ( لما) وَقَوله: ( ائْتُونِي) مقول القَوْل.
قَوْله: ( اكْتُبْ) مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، وَيجوز الرّفْع للاستئناف.
قَوْله: ( كتابا) مفعول: ( اكْتُبْ) .
قَوْله: ( لَا تضلوا) نفي، وَلَيْسَ بنهي، وَقد حذفت مِنْهُ النُّون لِأَنَّهُ بدل من جَوَاب الْأَمر، وَقد جوز بعض النُّحَاة تعدد جَوَاب الْأَمر من غير حرف الْعَطف، و: ( بعده) نصب على الظّرْف.
قَوْله: ( إِن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غَلبه الوجع) مقول قَول عمر، رَضِي الله عَنهُ، وغلبه الوجع، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول، وَالْفَاعِل وَهُوَ: الوجع، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن.
قَوْله: ( كتاب الله) .
كَلَام إضافي مُبْتَدأ، و ( عندنَا) مقدما خَبره، و: ( الْوَاو) ، للْحَال.
قَوْله: ( حَسبنَا) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ حَسبنَا.
أَي: كافينا.
قَوْله: ( فَاخْتَلَفُوا) تَقْدِيره: فَعِنْدَ ذَلِك اخْتلفُوا.
قَوْله: ( وَكثر اللَّغط) بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة جملَة معطوفة على الْجُمْلَة الأولى، وَيجوز أَن تكون الْوَاو للْحَال، وَالْألف وَاللَّام فِي: اللَّغط، عوضا عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِير: فَاخْتَلَفُوا وَالْحَال أَنهم قد كثر لغطهم.
قَوْله: ( قومُوا عني) أَي: قومُوا مبعدين عني، فَهَذَا الْفِعْل يسْتَعْمل بِاللَّامِ نَحْو: { قومُوا لله} ( الْبَقَرَة: 38) وبإلى نَحْو: { إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} ( الْمَائِدَة: 6) وبالباء نَحْو: قَامَ بِأَمْر كَذَا، وَبِغير صلَة نَحْو: قَامَ زيد.
وتختلف الْمعَانِي باخْتلَاف الصلات لتضمن كُله صلَة معنى يُنَاسِبهَا.
قَوْله: ( وَلَا يَنْبَغِي) من أَفعَال المطاوعة، تَقول: بغيته فانبغى، كَمَا تَقول: كَسرته فانكسر.
وَقَوله: ( التَّنَازُع) فَاعله.
قَوْله: ( يَقُول) حَال من ابْن عَبَّاس.
قَوْله: ( كل الرزيئة) مَنْصُوب على النِّيَابَة عَن الْمصدر، وَمثل هَذَا يعد من المفاعيل الْمُطلقَة.
قَوْله: ( مَا حَال) فِي مَحل الرّفْع، لِأَنَّهُ خبر: إِن.
و: مَا، مَوْصُولَة، و: حَال، صلتها أَي: حجز أَي: صَار حاجزا.

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: ( وَجَعه) أَي: فِي مرض مَوته، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي: ( لما حضر) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: ( لما حضرت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْوَفَاة) .
وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ من رِوَايَة سعيد بن جُبَير: إِن ذَلِك كَانَ يَوْم الْخَمِيس وَهُوَ قبل مَوته بأَرْبعَة أَيَّام.
قَوْله: ( ائْتُونِي بِكِتَاب) فِيهِ حذف لِأَن حق الظَّاهِر أَن يُقَال: ائْتُونِي بِمَا يكْتب بِهِ الشَّيْء: كالدواة والقلم.
وَالْكتاب بِمَعْنى: الْكِتَابَة، وَالتَّقْدِير: ائْتُونِي بأدوات الْكِتَابَة، أَو يكون أَرَادَ بِالْكتاب مَا من شَأْنه أَن يكْتب فِيهِ نَحْو الكاغد والكتف.
وَقد صرح فِي ( صَحِيح) مُسلم بالتقدير الْمَذْكُور حَيْثُ قَالَ: ( ائْتُونِي بالكتف والدواة) ، وَالْمرَاد بالكتف عظم الْكَتف، لأَنهم كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهِ.
قَوْله: ( اكْتُبْ لكم كتابا) أَي: آمُر بِالْكِتَابَةِ.
نَحْو: كسى الْخَلِيفَة الْكَعْبَة، أَي: أَمر بالكسوة، وَيحْتَمل أَن يكون على حَقِيقَته، وَقد ثَبت أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب بِيَدِهِ.
وَلَكِن ورد فِي ( مُسْند أَحْمد) من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه الْمَأْمُور بذلك، وَلَفظه: أَمرنِي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن آتيه بطبق أَي: كتف، يكْتب مَا لَا تضل أمته من بعده.
وَاعْلَم أَن بَين الْكِتَابَيْنِ جناس تَامّ، وَلَكِن أَحدهمَا بِالْحَقِيقَةِ، وَالْآخر بالمجاز.
قَوْله: ( لَا تضلوا) ويروى: ( لن تضلوا) ، بِفَتْح التَّاء وَكسر الضَّاد من الضَّلَالَة ضد الرشاد، يُقَال: ضللت، بِكَسْر اللَّام: أضلّ، بِكَسْر الضَّاد وَهِي الفصيحة، وَأهل الْعَالِيَة يَقُول ضللت بِالْكَسْرِ أضلّ بِالْفَتْح.
وَجَاء: يضل بِالْكَسْرِ بِمَعْنى ضَاعَ وَهلك.

وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْكتاب الَّذِي همَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكتابته، قَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل وَجْهَيْن.
أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ أَن ينص على الْإِمَامَة بعده فترتفع تِلْكَ الْفِتَن الْعَظِيمَة كحرب الْجمل وصفين.
وَقيل: أَرَادَ أَن يبين كتابا فِيهِ مهمات الْأَحْكَام ليحصل الِاتِّفَاق على الْمَنْصُوص عَلَيْهِ، ثمَّ ظهر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْمصلحَة تَركه، أَو أُوحِي إِلَيْهِ بِهِ.
.

     وَقَالَ  سُفْيَان بن عُيَيْنَة: أَرَادَ أَن ينص على أسامي الْخُلَفَاء بعده حَتَّى لَا يَقع مِنْهُم الِاخْتِلَاف، وَيُؤَيِّدهُ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ فِي أَوَائِل مَرضه، وَهُوَ عِنْد عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: ( ادعِي لي أَبَاك وأخاك حَتَّى أكتب كتابا، فَإِنِّي أَخَاف أَن يتَمَنَّى متمني، وَيَقُول قَائِل، ويأبى الله والمؤمنون إلاَّ أَبَا بكر) .
أخرجه مُسلم.
وللبخاري مَعْنَاهُ، وَمَعَ ذَلِك فَلم يكْتب.
قَوْله: ( قَالَ عمر، رَضِي الله عَنهُ: إِن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غَلبه الوجع وَعِنْدنَا كتاب الله حَسبنَا) .
قَالَ النَّوَوِيّ: كَلَام عمر، رَضِي الله عَنهُ، هَذَا مَعَ علمه وفضله لِأَنَّهُ خشِي أَن يكْتب أمورا فيعجزوا عَنْهَا، فيستحقوا الْعقُوبَة عَلَيْهَا لِأَنَّهَا منصوصة لَا مجَال للِاجْتِهَاد فِيهَا.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: قصد عمر، رَضِي الله عَنهُ، التَّخْفِيف على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين غَلبه الوجع.
وَلَو كَانَ مُرَاده، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يكْتب مَا لَا يستغنون عَنهُ لم يتركهم لاختلافهم.
.

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: وَقد حكى سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أهل الْعلم، قيل: إِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَرَادَ أَن يكْتب اسْتِخْلَاف أبي بكر، رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ ترك ذَلِك اعْتِمَادًا على مَا علمه من تَقْدِير الله تَعَالَى.
وَذَلِكَ كَمَا همَّ فِي أول مَرضه حِين قَالَ: وارأساه، ثمَّ ترك الْكتاب،.

     وَقَالَ : يأبي الله والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر، ثمَّ قدمه فِي الصَّلَاة.
وَقد كَانَ سبق مِنْهُ قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام: ( إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا اجْتهد وَأَخْطَأ فَلهُ أجر) .
وَفِي تَركه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِنْكَار على عمر، رَضِي الله عَنهُ، دَلِيل على استصوابه.
فَإِن قيل: كَيفَ جَازَ لعمر، رَضِي الله عَنهُ، أَن يعْتَرض على مَا أَمر بِهِ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قيل لَهُ: قَالَ الْخطابِيّ: لَا يجوز أَن يحمل قَوْله أَنه توهم الْغَلَط عَلَيْهِ أَو ظن بِهِ غير ذَلِك مِمَّا لَا يَلِيق بِهِ بِحَالهِ، لكنه لما رأى مَا غلب عَلَيْهِ من الوجع وَقرب الْوَفَاة خَافَ أَن يكون ذَلِك القَوْل مِمَّا يَقُوله الْمَرِيض مِمَّا لَا عَزِيمَة لَهُ فِيهِ، فيجد المُنَافِقُونَ بذلك سَبِيلا إِلَى الْكَلَام فِي الدّين.
وَقد كَانَت الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، يراجعون النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي بعض الْأُمُور قبل أَن يجْزم فِيهَا، كَمَا راجعوه يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَفِي الْخلاف وَفِي الصُّلْح بَينه وَبَين قُرَيْش، فَإِذا أَمر بالشَّيْء أَمر عَزِيمَة فَلَا يُرَاجِعهُ أحد.
قَالَ: وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ فِيمَا لم ينزل عَلَيْهِ فِيهِ الْوَحْي، وَأَجْمعُوا كلهم على أَنه لَا يقر عَلَيْهِ.
قَالَ: وَمَعْلُوم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ قد رفع دَرَجَته فَوق الْخلق كلهم، فَلم يتنزه من الْعَوَارِض البشرية، فقد سَهَا فِي الصَّلَاة، فَلَا يُنكر أَن يظنّ بِهِ حُدُوث بعض هَذِه الْأُمُور فِي مَرضه، فَيتَوَقَّف فِي مثل هَذِه الْحَال حَتَّى يتَبَيَّن حَقِيقَته، فلهذه الْمعَانِي وَشبههَا توقف عمر، رَضِي الله عَنهُ.
وَأجَاب الْمَازرِيّ عَن السُّؤَال بِأَنَّهُ: لَا خلاف أَن الْأَوَامِر قد تقترن بهَا قَرَائِن تصرفها من النّدب إِلَى الْوُجُوب، وَعَكسه عِنْد من قَالَ: إِنَّهَا للْوُجُوب وَإِلَى الْإِبَاحَة، وَغَيرهَا من الْمعَانِي، فَلَعَلَّهُ ظهر من الْقَرَائِن مَا دلّ على أَنه لم يُوجب ذَلِك عَلَيْهِم، بل جعله إِلَى اختيارهم، وَلَعَلَّه اعْتقد أَنه صدر ذَلِك مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من غير قصد جازم، فَظهر ذَلِك لعمر، رَضِي الله عَنهُ، دون غَيره.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: ( ائْتُونِي) أَمر، وَكَانَ حق الْمَأْمُور أَن يُبَادر للامتثال، لَكِن ظهر لعمر، رَضِي الله عَنهُ، وَطَائِفَة أَنه لَيْسَ على الْوُجُوب، وَأَنه من بابُُ الْإِرْشَاد إِلَى الْأَصْلَح، فكرهوا أَن يكلفوه من ذَلِك مَا يشق عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالة مَعَ استحضارهم قَوْله تَعَالَى: { مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} ( الْأَنْعَام: 38) وَقَوله تَعَالَى: { تبيانا لكل شَيْء} ( النَّحْل: 89) وَلِهَذَا قَالَ عمر: رَضِي الله عَنهُ: حَسبنَا كتاب الله.
وَظهر لطائفة أُخْرَى أَن الأولى أَن يكْتب، لما فِيهِ من امْتِثَال أمره وَمَا يتضمنه من زِيَادَة الْإِيضَاح، وَدلّ أمره لَهُم بِالْقيامِ على أَن أمره الأول كَانَ على الِاخْتِيَار، وَلِهَذَا عَاشَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة والسلامغ، بعد ذَلِك أَيَّامًا وَلم يعاود أَمرهم بذلك.
وَلَو كَانَ وَاجِبا لم يتْركهُ لاختلافهم، لِأَنَّهُ لم يتْرك التَّكْلِيف لمُخَالفَة من خَالف.
وَالله أعلم.

قَوْله: ( عِنْدِي) .
وَفِي بعض النّسخ: ( عني) أَي: عَن جهتي.
قَوْله: ( وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُع) فِيهِ إِشْعَار بِأَن الأولى كَانَ الْمُبَادرَة إِلَى امْتِثَال الْأَمر، وَإِن كَانَ مَا اخْتَارَهُ عمر، رَضِي الله عَنهُ، صَوَابا.
قَوْله: ( فَخرج ابْن عَبَّاس يَقُول) ظَاهره أَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ مَعَهم، وَأَنه فِي تِلْكَ الْحَالة خرج قَائِلا هَذِه الْمقَالة، وَلَيْسَ الْأَمر فِي الْوَاقِع على مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الظَّاهِر، بل قَول ابْن عَبَّاس إِنَّمَا كَانَ يَقُول عِنْد مَا يتحدث بِهَذَا الحَدِيث، فَفِي رِوَايَة معمر فِي البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام وَغَيره، قَالَ عبيد الله: فَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول، وَكَذَا لِأَحْمَد من طَرِيق جرير بن حَازِم عَن يُونُس بن يزِيد، وَوجه رِوَايَة حَدِيث الْبابُُ أَن ابْن عَبَّاس لما حدث عبيد الله بِهَذَا الحَدِيث، خرج من الْمَكَان الَّذِي كَانَ بِهِ، وَهُوَ يَقُول ذَلِك، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي ( الْمُسْتَخْرج) ، قَالَ عبيد الله: فَسمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول ... الخ، وَإِنَّمَا تعين حمله على غير ظَاهره لِأَنَّهُ عبيد الله تَابِعِيّ من الطَّبَقَة الثَّانِيَة لم يدْرك الْقِصَّة فِي وَقتهَا، لِأَنَّهُ ولد بعد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِمدَّة طَوِيلَة، ثمَّ سَمعهَا من ابْن عَبَّاس بعد ذَلِك بِمدَّة أُخْرَى.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بطلَان مَا يَدعِيهِ الشِّيعَة من وصاية رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ عِنْد عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، عهد من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لأحال عَلَيْهَا.
الثَّانِي: فِيهِ مَا يدل على فَضِيلَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، وفقهه.
الثَّالِث: فِي قَوْله: ( ائْتُونِي بِكِتَاب أكتب لكم) دلَالَة على أَن للْإِمَام أَن يُوصي عِنْد مَوته بِمَا يرَاهُ نظرا للْأمة.
الرَّابِع: فِي ترك الْكتاب إِبَاحَة الِاجْتِهَاد، لِأَنَّهُ وَكلهمْ إِلَى أنفسهم واجتهادهم.
الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز الْكِتَابَة، وَالْبابُُ مَعْقُود عَلَيْهِ.