فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إغلاق البيت، ويصلي في أي نواحي البيت شاء

( بابُُ إغلاقِ البَيْتِ ويُصَلِّي فِي أيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شاءَ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ إغلاق بابُُ الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام، يُقَال: أغلقت الْبابُُ فَهُوَ مغلق، والأسم الغلق، وغلقت الْبابُُ غلقا لُغَة رَدِيئَة، قَالَه الْجَوْهَرِي، وغلَّقت الْأَبْوَاب شدد للكثرة.
قَوْله: ( وَيُصلي) أَي: الدَّاخِل فِي الْبَيْت يُصَلِّي فِي أَي نَاحيَة شَاءَ من نواحي الْبَيْت، وكل نَاحيَة من نواحي الْبَيْت من دَاخله سَوَاء، كَمَا أَن كل نواحيه من خَارجه فِي الصَّلَاة إِلَيْهِ سَوَاء.
وَفِي ( التَّوْضِيح) : قَالَ الشَّافِعِي: من صلى فِي جَوف الْبَيْت مُسْتَقْبلا حَائِطا من حيطانها فَصلَاته جَائِزَة، وَإِن صلى نَحْو بابُُ الْبَيْت وَكَانَ مغلقا، فَكَذَلِك وَإِن كَانَ مَفْتُوحًا فباطلة، لِأَنَّهُ لم يسْتَقْبل شَيْئا مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ اسْتدلَّ على ذَلِك بغلق بابُُ الْكَعْبَة حِين صلوا.
وَقد يُقَال: إِنَّمَا أغلقه لِكَثْرَة النَّاس عَلَيْهِ فصلوا بِصَلَاتِهِ، وَيكون ذَلِك عِنْدهم من مَنَاسِك الْحَج، كَمَا فعل فِي صَلَاة اللَّيْل حِين لم يخرج إِلَيْهِم خشيَة أَن يكْتب عَلَيْهِم، وَمَتى فتح، وَكَانَت العتبة قدر ثُلثي ذِرَاع صحت أَيْضا، وَلَا يرد عَلَيْهِ مَا إِذا انْهَدَمت وَصلى كَمَا ألزمنا ابْن الْقصار بِهِ، لِأَنَّهُ صلى إِلَى الْجِهَة.
انْتهى.
قَالَ النَّوَوِيّ: إِذا كَانَ الْبابُُ مسدودا أَو لَهُ عتبَة قدر ثُلثي ذِرَاع يجوز، هَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَفِي وَجه: يقدر بِذِرَاع، وَقيل: يَكْفِي شخوصها، وَقيل: يشْتَرط قدر قامة طولا وعرضا، وَلَو وضع بَين يَدَيْهِ مَتَاعا واستقبله لم يجزه.
قلت: الصَّلَاة فِي الْكَعْبَة جَائِزَة فَرضهَا ونفلها، وَهُوَ قَول عَامَّة أهل الْعلم، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي.
.

     وَقَالَ  مَالك: لَا يصلى فِي الْبَيْت وَالْحجر فَرِيضَة وَلَا رَكعَتَا الطّواف الواجبتان وَلَا الْوتر وَلَا رَكعَتَا الْفجْر، وَغير ذَلِك، لَا بَأْس بِهِ، ذكره فِي ذخيرتهم.
وَذكر الْقُرْطُبِيّ فِي ( تَفْسِيره) : عَن مَالك أَنه: لَا يُصَلِّي الْفَرْض وَلَا السّنَن، وَيُصلي التَّطَوُّع، فَإِن صلى فِيهِ مَكْتُوبَة أعَاد فِي الْوَقْت كمن صلى إِلَى غير الْقبْلَة بالإجتهاد.
وَعند ابْن حبيب وَأصبغ: يُعِيد أبدا، وَبقول مَالك قَالَ أَحْمد،.

     وَقَالَ  ابْن عبد الحكم: لَا يُعِيد مُطلقًا، وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ منع الْجَمِيع فِيهَا.



[ قــ :1533 ... غــ :1598 ]
- حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أبِيهِ أنَّهُ قالَ دَخَلَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيْتَ هُوَ وأسَامةُ بنُ زَيْدٍ وبِلالٌ وَعُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ فأغْلَقُوا عليْهِمْ فلَمَّا فتَحُوا كُنْتُ أوَّلَ منْ ولَجَ فلَقِيتُ بِلالاً فسَألْتُهُ هَلْ صَلَّى فِيهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نَعَمْ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِييْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( أغلقوا عَلَيْهِم) فَإِن قلت: من جملَة التَّرْجَمَة قَوْله: ( وَيُصلي فِي أَي نواحي الْبَيْت شَاءَ) ، وَهَذَا يدل على التَّخْيِير، وَفِي الحَدِيث بَين اليمانيين، وَهُوَ يدل على التَّعْيِين فَلَا يُطَابق التَّرْجَمَة.
قلت: لم تكن صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْموضع قصدا، وَإِنَّمَا وَقع اتِّفَاقًا، وَهَذَا لَا يُنَافِي التَّخْيِير، وَلَئِن سلمنَا أَنه كَانَ قصدا، وَلَكِن لم يكن قَصده تحتما وَإِنَّمَا كَانَ اخْتِيَارا لذَلِك الْموضع لمزية فضلَة على غَيره، فَلَا يدل على التَّعْيِين.

وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة، وَمُحَمّد بن رمح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيْت) أَي: الْكَعْبَة، وَكَانَ ذَلِك فِي عَام الْفَتْح، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة يُونُس بن يزِيد عَن نَافِع عِنْد البُخَارِيّ، كَمَا فِي كتاب الْجِهَاد.
وَلَفظه: ( أقبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْفَتْح من أَعلَى مَكَّة على رَاحِلَته) ، وَفِي رِوَايَة فليح عَن نَافِع فِي الْمَغَازِي: وَهُوَ مردف أُسَامَة يَعْنِي ابْن زيد على الْقَصْوَاء، ثمَّ اتفقَا، وَمَعَهُ بِلَال وَعُثْمَان بن طَلْحَة حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِد، وَفِي رِوَايَة فليح: عِنْد الْبَيْت،.

     وَقَالَ  لعُثْمَان: ائتنا بالمفتاح، فَجَاءَهُ بالمفتاح فَفتح لَهُ الْبابُُ فَدخل، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَعبد الرَّزَّاق من رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع: ثمَّ دعى عُثْمَان بن طَلْحَة بالمفتاح فَذهب إِلَى أمه فَأَبت أَن تعطيه، فَقَالَ: وَالله لتعطينه أَو لأخْرجَن هَذَا السَّيْف من صلبي، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِك أَعطَتْهُ، فجَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفتح الْبابُُ.
وَظهر من رِوَايَة فليح أَن فَاعل: فتح، هُوَ عُثْمَان الْمَذْكُور، وَلَكِن روى الفاكهي من طَرِيق ضَعِيف عَن ابْن عمر قَالَ: كَانَ بَنو أبي طَلْحَة يَزْعمُونَ أَنه لَا يَسْتَطِيع أحد فتح الْكَعْبَة غَيرهم، فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمِفْتَاح فَفَتحهَا بِيَدِهِ، وَعُثْمَان الْمَذْكُور هُوَ عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة بن عبد الْعُزَّى بن عبد الدَّار بن قصي بن كلاب، وَيُقَال لَهُ: الحَجبي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْجِيم، ولآل بَيته الحجبة لحجبهم الْكَعْبَة، ويعرفون الْآن بالشيبين نِسْبَة إِلَى شيبَة بن عُثْمَان بن أبي طَلْحَة، وَهُوَ ابْن عَم عُثْمَان هَذَا لَا وَلَده، وَله أَيْضا صُحْبَة وَرِوَايَة، وَاسم أم عُثْمَان الْمَذْكُور: سلافة، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام وَفتح الْفَاء.
قَوْله: ( هُوَ وَأُسَامَة) ، هُوَ: ضمير الْفَصْل يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة أَنهم دخلُوا الْبَيْت مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق آخر: وَلم يدخلهَا مَعَهم أحد، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن عدي عَن نَافِع: وَمَعَهُ الْفضل بن عَبَّاس فيكونون أَرْبَعَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: حَدثنِي أخي الْفضل، وَكَانَ مَعَه حِين دَخلهَا، أَنه لم يصلِّ فِي الْكَعْبَة.
قَوْله: ( فأغلقوا عَلَيْهِم) ، أَي: الْبابُُ، وَفِي رِوَايَة حسان بن عَطِيَّة عَن نَافِع عِنْد أبي عوَانَة: من دَاخل، وَزَاد يُونُس: فَمَكثَ نَهَارا طَويلا، وَفِي رِوَايَة فليح: زَمَانا، بدل: نَهَارا.
وَفِي رِوَايَة جوَيْرِية عَن نَافِع الَّتِي مَضَت فِي أَوَائِل الصَّلَاة فِي: بابُُ الصَّلَاة بَين السَّوَارِي: فَأطَال، وَفِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة ابْن عون عَن نَافِع: فَمَكثَ فِيهَا مَلِيًّا وَله من عبيد الله عَن نَافِع، فأجافوا عَلَيْهِم الْبابُُ طَويلا، وَمن رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع، ( فَمَكثَ فِيهَا سَاعَة) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن أبي مليكَة: ( فَوجدت شَيْئا فَذَهَبت، ثمَّ جِئْت سَرِيعا فَوجدت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَارِجا مِنْهَا) .
فَإِن قلت: وَقع فِي ( الْمُوَطَّأ) فأغلقاها عَلَيْهِ، وَالضَّمِير لعُثْمَان وبلال، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن عون عَن نَافِع: ( فأجاف عَلَيْهِم عُثْمَان الْبابُُ.
قلت: كَانَ عُثْمَان هُوَ الْمُبَاشر لذَلِك لِأَنَّهُ من وظيفته، وَالظَّاهِر أَن بِلَالًا كَانَ ساعده فِي ذَلِك، فأضيف إِلَيْهِ لكَونه مساعدا.
قَوْله: ( فَلَمَّا فتحُوا كنت أول من ولج) ، أَي: دخل، من الولوج، وَهُوَ الدُّخُول، وَفِي رِوَايَة فليح: ( ثمَّ خرج فابتدر النَّاس: الدُّخُول، فسبقتهم) .
وَفِي رِوَايَة أَيُّوب: ( وَكنت رجلا شَابًّا قَوِيا فبادرت النَّاس فبدرتهم) .
وَفِي رِوَايَة جوَيْرِية: ( كنت أول النَّاس ولج على إثره) .
وَفِي رِوَايَة ابْن عون: ( فرقيت الدرجَة فَدخلت الْبَيْت) ، وَفِي رِوَايَة مُجَاهِد الَّتِي مَضَت فِي: بابُُ قَول الله تَعَالَى: { وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} ( الْبَقَرَة: 521) .
فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة عَن ابْن عمر وَأَجد بِلَالًا قَائِما بَين النَّاس، وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي كتاب مَكَّة أَن خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ على الْبابُُ يذب عَنهُ النَّاس، وَكَأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَمَا دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأغلق.
قَوْله: ( فَلَقِيت بِلَالًا فَسَأَلته) .
وَفِي رِوَايَة مَالك عَن نَافِع الَّتِي مَضَت فِي: بابُُ الصَّلَاة بَين السَّوَارِي، فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة، فَسَأَلت بِلَالًا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين خرج مَا صنع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الحَدِيث.
وَفِي رِوَايَة جوَيْرِية وَيُونُس وَجُمْهُور أَصْحَاب نَافِع فَسَأَلت بِلَالًا أَيْن صلى؟ اختصروا أول السُّؤَال، وَثَبت فِي رِوَايَة سَالم الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبابُُ حَيْثُ قَالَ: هَل صلى فِيهِ؟ قَالَ: نعم.
وَكَذَا فِي رِوَايَة مُجَاهِد وَابْن أبي مليكَة عَن ابْن عمر، فَقلت: أصلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْكَعْبَة؟ قَالَ: نعم، فَظهر أَنه استثبت أَولا: هَل صلى أم لَا؟ ثمَّ سَأَلَ عَن مَوضِع صلَاته من الْبَيْت، وَوَقع فِي رِوَايَة يُونُس عَن ابْن شهَاب عِنْد مُسلم: فَأَخْبرنِي بِلَال أَو عُثْمَان بن طَلْحَة، على الشَّك، وَالْمَحْفُوظ أَنه سَأَلَ بِلَالًا، كَمَا فِي رِوَايَة الْجُمْهُور، وَوَقع عِنْد أبي عوَانَة من طَرِيق الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن ابْن عمر: أَنه سَأَلَ بِلَالًا وَأُسَامَة بن زيد حِين خرجا: أَيْن صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ؟ فَقَالَا: على جِهَته، وَكَذَا أخرجه الْبَزَّار نَحوه، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي الشعْثَاء عَن ابْن عمر، فَقَالَ: أَخْبرنِي أُسَامَة أَنه صلى فِيهِ هَهُنَا.
وَفِي رِوَايَة مُسلم وَالطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر ( فَقلت: أَيْن صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟) فَقَالَ: فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا حمل على أَنه ابْتَدَأَ بِلَالًا بالسؤال، كَمَا تقدم تَفْصِيله، ثمَّ أَرَادَ زِيَادَة الاستثبابُ فِي مَكَان الصَّلَاة، فَسَأَلَ عُثْمَان أَيْضا وَأُسَامَة.
فَإِن قلت: كَيفَ هَذَا وَقد أخرج مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن أُسَامَة بن زيد أخبرهُ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يصل فِيهِ، وَلكنه كبَّر فِي نواحيه؟ قلت: وَجه الْجمع بَينهمَا أَن أُسَامَة حَيْثُ أثبتها اعْتمد فِي ذَلِك على غَيره، وَحَيْثُ نفاها أَرَادَ مَا فِي علمه لكَونه لم يرَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين صلى، وَجَوَاب آخر أَنه يحْتَمل أَن يكون أُسَامَة غَابَ عَنهُ بعد دُخُوله لحَاجَة، فَلم يشْهد صلَاته، وَبِه أجَاب الْمُحب الطَّبَرِيّ، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من حَدِيث أُسَامَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأى صورا فِي الْكَعْبَة، فَكنت آتيه بِمَاء فِي الدَّلْو يضْرب بِهِ الصُّور، فقد أخبر أُسَامَة أَنه كَانَ يخرج لنقل المَاء، وَكَانَ ذَلِك كُله يَوْم الْفَتْح،.

     وَقَالَ  ابْن حبَان الْأَشْبَه عِنْدِي أَن يحمل الخبران على دخولين متغايرين: أَحدهمَا يَوْم الْفَتْح وَصلى فِيهِ، وَالْآخر: فِي حجَّة الْوَدَاع وَلم يصلِّ فِيهِ)
من غير أَن يكون بَينهمَا تضَاد، وَمِمَّا يرجح بِهِ إِثْبَات صلَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْبَيْت على من نفاها كَثْرَة الروَاة لَهَا، فَالَّذِينَ أثبتوها بِلَال وَعمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن طَلْحَة وَشَيْبَة بن عُثْمَان، وَالَّذين نفوها أُسَامَة وَالْفضل بن عَبَّاس وَعبد الله بن الْعَبَّاس، وَأما الْفضل فَلَيْسَ فِي الصَّحِيح أَنه دخل مَعَهم، وَأما ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ أخبر عَن أَخِيه الْفضل وَلم يدْخل مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْبَيْت.
وَمن الْأَجْوِبَة أَن الْقَاعِدَة تَقْدِيم الْمُثبت على النَّافِي.
قَوْله: ( بَين العمودين اليمانيين) ، وَفِي رِوَايَة جوَيْرِية: ( بَين العمودين المقدمين) ، وَفِي رِوَايَة مَالك عَن نَافِع: ( جعل عمودا عَن يَمِينه وعمودا عَن يسَاره) .
وَوَقع فِي رِوَايَة فليح الْآتِيَة فِي الْمَغَازِي: ( بَين ذَيْنك العمودين المقدمين) ، وَكَانَ الْبَيْت على سِتَّة أعمدة، شطرين صلى بَين العمودين من الشّطْر الْمُقدم وَجعل بابُُ الْبَيْت خلف ظَهره،.

     وَقَالَ  فِي آخر رِوَايَته: ( وَعند الْمَكَان الَّذِي صلى فِيهِ مرمرة حَمْرَاء) ، وكل هَذَا إِخْبَار عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْبَيْت قبل أَن يهدم، ويبنى فِي زمن ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَوْله: ( اليمانيين) ، بتَخْفِيف الْيَاء لأَنهم جعلُوا الْألف بدل إِحْدَى ياءي النِّسْبَة، وَجوز سِيبَوَيْهٍ التَّشْدِيد.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مَشْرُوعِيَّة الدُّخُول الْبَيْت بِدَلِيل دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن مَعَه، ومشروعية الصَّلَاة فِيهِ، وَفِي ( شرح الْمُهَذّب) : يسْتَحبّ دُخُول الْكَعْبَة وَالصَّلَاة فِيهَا، وَأَقل مَا يصلى رَكْعَتَيْنِ، زَاد فِي الْمَنَاسِك: جَافيا، وروى الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من دخل الْبَيْت دخل فِي حَسَنَة وَخرج من سَيِّئَة مغفورا لَهُ) .
وَفِي سَنَده عبد الله بن المؤمل وَفِيه مقَال، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) وَجعله من قَول مُجَاهِد، وَحكى الْقُرْطُبِيّ عَن بعض الْعلمَاء أَن دُخُول الْبَيْت من مَنَاسِك الْحَج، ورده بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا دخله عَام الْفَتْح وَلم يكن حِينَئِذٍ محرما، يسْتَحبّ للداخل أَن لَا يرفع بَصَره إِلَى السّقف قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: عجبا للمرء إِذا دخل الْكَعْبَة كَيفَ يرفع بَصَره قبل السّقف، يدع ذَلِك إجلالاً لله تَعَالَى، وإعظاما لما دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَعْبَة خلف بَصَره مَوضِع سُجُوده، حَتَّى خرج مِنْهَا.
قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرطهمَا.
.

     وَقَالَ  ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: هَذَا حَدِيث مُنكر.
وَفِي ( التلويج) وَقد أَسف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على دُخُولهَا.
قَالَت عَائِشَة: ( دخل عَليّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ حَزِين، فَقلت: يَا رَسُول الله! خرجت من عِنْدِي وَأَنت قرير الْعين طيب النَّفس، فَمَا بالك؟ فَقَالَ: إِنِّي دخلت الْكَعْبَة، وودت أَنِّي لم أكن فعلته إِنِّي أَخَاف أَن أكون قد أَتعبت أمتِي من بعدِي) قلت: الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ، وَالْحَاكِم وَصَححهُ، وَابْن خُزَيْمَة فِي ( صَحِيحه) .

     وَقَالَ  الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الدُّخُول فِي حجَّته، وَلَا يُخَالف حَدِيث ابْن أبي أوفى أَنه لم يدْخل، لِأَن حَدِيثه فِي الْعمرَة على مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيثه أَنه سُئِلَ: أَدخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عمرته الْبَيْت؟ فَقَالَ: لَا، وَإِنَّمَا لم يدْخل فِي عمرته لما كَانَ فِي الْبَيْت من الْأَصْنَام والصور، وَكَانَ إِذْ ذَاك لَا يتَمَكَّن من إِزَالَتهَا بِخِلَاف عَام الْفَتْح، وَالله أعلم.