فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة

(بابٌُ اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)

أَي: هَذَا بابُُ تَرْجَمته: اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة، وَهَذَا لفظ الحَدِيث على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَجمع فِي هَذَا الْبابُُ بَين لفظ الْخَبَر وَالْآيَة لاشتمالها على الْحَث والتحريض على الصَّدَقَة، قَلِيلا كَانَت أَو كثيرا.

وَالْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ والقليل بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (بشق تَمْرَة) ، من عطف الْعَام على الْخَاص، وَالتَّقْدِير: اتَّقوا النَّار وَلَو بِالْقَلِيلِ من الصَّدَقَة والقليل يَشْمَل شقّ التمرة وَغَيره.

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله وتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} (الْبَقَرَة: 562) .
الْآيَة وَإلَى قَوْلِهِ { ومِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (الْبَقَرَة: 662) .

ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة لاشتمالها على قَلِيل النَّفَقَة وكثيرها.
لِأَن قَوْله: { أَمْوَالهم} (الْبَقَرَة: 562) .
يتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير، وفيهَا حث على الصَّدَقَة مُطلقًا، فَذكرهَا يُنَاسب التَّبْوِيب، وَهَذَا مثل للْمُؤْمِنين الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ابْتِغَاء مرضات الله عَنْهُم، والابتغاء: الطّلب.
قَوْله: { وتثبيتا} (الْبَقَرَة: 562) .
عطف على { ابْتِغَاء مرضات الله} (الْبَقَرَة: 562) .
وَالتَّقْدِير: مبتغين ومتثبتين من أنفسهم بالإخلاص، وَذَلِكَ ببذل المَال الَّذِي هُوَ شَقِيق الرّوح، وبذله أشق شَيْء على النَّفس على سَائِر الْعِبَادَات الشاقة، وَكَأن إِنْفَاق المَال تثبيتا لَهَا على الْإِيمَان وَالْيَقِين.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: وتثبيتا من أنفسهم عِنْد الْمُؤمنِينَ أَنَّهَا صَادِقَة الْإِيمَان مخلصة فِيهِ، وتعضده قِرَاءَة مُجَاهِد: وتثبتا من أنفسهم.
.

     وَقَالَ  الشّعبِيّ: تثبيتا من أنفسهم أَي: تَصْدِيقًا أَن الله سيجزيهم على ذَلِك أوفر الْجَزَاء، وَكَذَا قَالَه قَتَادَة وَأَبُو صَالح وَابْن زيد.
.

     وَقَالَ  مُجَاهِد وَالْحسن: أَي يثبتون أَيْن يضعون صَدَقَاتهمْ.
.

     وَقَالَ  الْحسن: كَانَ الرجل إِذا هم بِصَدقَة تثبت، فَإِن كَانَ لله أمضى وإلاَّ ترك.
قَوْله: (الْآيَة) أَي إِلَى آخر الْآيَة.
وَهُوَ قَوْله: { كَمثل حَبَّة بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وابل فآتت أكلهَا ضعفين فَإِن لم يصبهَا وابل فطل وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (الْبَقر: 562) .
قَوْله: { كَمثل حَبَّة} (الْبَقَرَة: 562) .
خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي قَوْله: { مثل الَّذين يُنْفقُونَ} (الْبَقَرَة: 562) .
أَي: كَمثل بُسْتَان كَائِن بِرَبْوَةٍ، وَهِي عِنْد الْجُمْهُور: الْمَكَان الْمُرْتَفع المستوي من الأَرْض، وَزَاد ابْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك: وتجري فِيهِ الْأَنْهَار.
قَالَ ابْن جرير: وَفِي الربوة ثَلَاث لُغَات من ثَلَاث قراآت، بِضَم الرَّاء وَبهَا قَرَأَ عَامَّة أهل الْمَدِينَة والحجاز وَالْعراق، وَفتحهَا، وَهِي قِرَاءَة بعض أهل الشَّام والكوفة، وَيُقَال إِنَّهَا لُغَة بني تَمِيم، وَكسر الرَّاء وَيذكر أَنَّهَا قِرَاءَة ابْن عَبَّاس.
وَإِنَّمَا سميت بذلك لِأَنَّهَا ربت وغلظت من قَوْلهم: رَبًّا الشَّيْء يَرْبُو إِذا زَاد وانتفخ.
وَإِنَّمَا خص الربوة لِأَن شَجَرهَا أزكى وَأحسن ثمرا.
قَوْله: { أَصَابَهَا وابل} (الْبَقَرَة: 562) .
أَي: مطر عَظِيم الْقطر شَدِيد، وَهِي فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة ربوة.
قَوْله: { فآتت أكلهَا} (الْبَقَرَة: 562) .
أَي: ثَمَرهَا: { ضعفين} (الْبَقَرَة: 562) .
أَي: مثلي مَا كَانَت تثمر بِسَبَب الوابل، وَيُقَال: أَي مضاعفا تحمل من السّنة مَا يحمل غَيرهَا من السنتين.
قَوْله: { فَإِن لم يصبهَا} (الْبَقَرَة: 562) .
أَي: تِلْكَ الْجنَّة الَّتِي بالربوة { وابلٌ فطلٌّ} (الْبَقَرَة: 562) .
أَي: فَالَّذِي يُصِيبهَا طلُّ وَهُوَ أَضْعَف الْمَطَر.
.

     وَقَالَ  الزّجاج: هُوَ الْمَطَر الدَّائِم الصغار الْقطر الَّذِي لَا يكَاد يسيل مِنْهُ المثاعب، وَقيل: الطل هُوَ الندى:.

     وَقَالَ  زيد بن أسلم: هِيَ أَرض مصر، فَإِن لم يصبهَا وابل زكتْ وَإِن أَصَابَهَا أضعفت، أَي: هَذِه الْجنَّة بِهَذِهِ الربوة لَا تمحل أبدا لِأَنَّهَا إِن لم يصبهَا وابل فطلٌّ أيا مَا كَانَ، فَهُوَ كفايتها، وَكَذَلِكَ عمل الْمُؤمنِينَ لَا يبور أبدا بل يتقبله الله مِنْهُ ويكثره وينميه لكل عَامل بِحَسبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: { وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (الْبَقَرَة: 562) .
أَي: لَا يخفى عَلَيْهِ من أَعمال عباده شَيْء.
قَوْله: (وَإِلَى قَوْله: { من كل الثمرات} (الْبَقَرَة: 662) .
إِلَى آخِره، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: { أيود أحدكُم أَن تكون لَهُ جنَّة من نخيل وأعناب تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُ فِيهَا من كل الثمرات} (الْبَقَرَة: 662) .
روى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: ضرب الله مثلا حسنا، وكل أَمْثَاله حسن، قَالَ: { أيود أحدكُم.
.
}
(الْبَقَرَة: 662) .
إِلَى آخِره،.

     وَقَالَ  بعض الْمُفَسّرين.
قَوْله: { أيود أحدكُم} (الْبَقَرَة: 662) .
مُتَّصِل بقوله: { لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى} (الْبَقَرَة: 462) .
وَإِنَّمَا قَالَ: { جنَّة من نخيل وأعناب} (الْبَقَرَة: 662) .
لِأَن النخيل وَالْأَعْنَاب لما كَانَت من أكْرم الشّجر وأكثرها مَنَافِع خصهما بِالذكر، وَلَفظ: نخيل: جمع نَادِر، وَقيل: هُوَ جنس، وَتَمام الْآيَة: { وأصابه الْكبر وَله ذُرِّيَّة ضعفاء فأصابها إعصار فِيهِ نَار فاحترقت، كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون} (الْبَقَرَة: 662) .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الهزة فِي: أيود، للإنكار.
قَوْله: { وأصابه الْكبر} (الْبَقَرَة: 662) .
الوا فِيهِ للْحَال: { وَله ذُرِّيَّة ضعفاء} (الْبَقَرَة: 662) .
وقرىء: ضِعَاف.
قَوْله: { إعصارا} (الْبَقَرَة: 662) .
هُوَ الرّيح الَّتِي تستدير فِي الأَرْض ثمَّ تسطع نَحْو السَّمَاء كالعمود، وَهَذَا مثل لمن يعْمل الْأَعْمَال الْحَسَنَة لَا يَبْتَغِي بهَا وَجه الله، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة وجدهَا محبطة فيتحسر عِنْد ذَلِك حسرة من كَانَت لَهُ جنَّة من أبهى الْجنان وأجمعها للثمار، فَبلغ الْكبر وَله أَوْلَاد ضِعَاف وَالْجنَّة معاشهم ومنتعشهم، فَهَلَكت بالصاعقة.
قَوْله: { كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات} (الْبَقَرَة: 662) .
يَعْنِي: كَمَا بَين هَذِه الْأَمْثَال: { لَعَلَّكُمْ تتفكرون} (الْبَقَرَة: 662) .
بِهَذِهِ الْأَمْثَال وتعتبرون بهَا وتنزلونها على المُرَاد مِنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إلاَّ الْعَالمُونَ} (العنكبوت: 34) .

[ قــ :1360 ... غــ :1415 ]
- (حَدثنَا عبيد الله بن سعيد قَالَ حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان الحكم هُوَ ابْن عبد الله الْبَصْرِيّ قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن سُلَيْمَان عَن أبي وَائِل عَن أبي مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ.
قَالَ لما نزلت آيَة الصَّدَقَة كُنَّا نحامل فجَاء رجل فَتصدق بِشَيْء كثير فَقَالُوا مرائي وَجَاء رجل فَتصدق بِصَاع فَقَالُوا إِن الله لَغَنِيّ عَن صَاع هَذَا فَنزلت { الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين من الْمُؤمنِينَ فِي الصَّدقَات وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ} الْآيَة) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الله لما أنزل آيَة الصَّدَقَة حث النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَصْحَابه عَلَيْهَا فَمنهمْ من تصدق بِكَثِير وَمِنْهُم من تصدق بِقَلِيل حَتَّى أَن مِنْهُم من يعْمل بِالْأُجْرَةِ فَيتَصَدَّق مِنْهُ كَمَا فهم ذَلِك من الحَدِيث والترجمة أَيْضا تدل على الْحَث على الصَّدَقَة وَإِن كَانَت شقّ تَمْرَة.
(ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة.
الأول عبيد الله بن سعيد بن يحيى بن برد بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة أَبُو قدامَة بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الدَّال الْيَشْكُرِي مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي أَبُو النُّعْمَان الحكم بِالْحَاء وَالْكَاف المفتوحتين ابْن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
الثَّالِث شُعْبَة بن الْحجَّاج.
الرَّابِع سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَعْمَش.
الْخَامِس أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة.
السَّادِس أَو مَسْعُود واسْمه عقبَة الْأنْصَارِيّ البدري وَقد مر (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه ثَلَاثَة مذكورون بالكنى وَفِيه اثْنَان مجردان عَن النِّسْبَة وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن بشر بن خَالِد عَن غنْدر وَفِي الزَّكَاة أَيْضا عَن سعيد بن يحيى بن سعيد وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن يحيى بن معِين وَبشر بن خَالِد وَعَن بنْدَار وَعَن إِسْحَق بن مَنْصُور وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن بشر بن خَالِد وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَنهُ وَفِي الزَّكَاة أَيْضا عَن الْحُسَيْن بن حُرَيْث وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن أبي أُسَامَة فِي مَعْنَاهُ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " لما نزلت آيَة الصَّدَقَة " وَهِي قَوْله تَعَالَى { خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} الْآيَة قَوْله " كُنَّا نحامل " جَوَاب لما مَعْنَاهُ كُنَّا نتكلف الْحمل بِالْأُجْرَةِ لنكتسب مَا نتصدق بِهِ وَفِي رِوَايَة لمُسلم " كُنَّا نحامل على ظُهُورنَا " مَعْنَاهُ نحمل على ظُهُورنَا بِالْأُجْرَةِ ونتصدق من تِلْكَ الْأُجْرَة أَو نتصدق بهَا كلهَا (فَإِن قلت) نحامل من بابُُ المفاعلة وَهِي لَا تكون إِلَّا بَين اثْنَيْنِ (قلت) قد يَجِيء هَذَا الْبابُُ بِمَعْنى فعل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وسارعوا إِلَى مغْفرَة} أَي أَسْرعُوا ونحامل كَذَلِك بِمَعْنى نحمل.

     وَقَالَ  صَاحب التَّلْوِيح قَوْله " نحامل " كَانَ ابْن سَيّده تحامل فِي الْأَمر تكلفه على مشقة وإعياء وتحامل عَلَيْهِ كلفه مَا لَا يُطيق وَفِيه نظر لِأَن هَذَا الْمَعْنى لَا يُنَاسب هَهُنَا وَفِيه التحريض على الاعتناء بِالصَّدَقَةِ وَأَنه إِذا لم يكن لَهُ مَال يتَوَصَّل إِلَى تَحْصِيل مَا يتَصَدَّق بِهِ من حمل بِالْأُجْرَةِ أَو غَيره من الْأَسْبابُُ الْمُبَاحَة قَوْله " فجَاء رجل فَتصدق بِشَيْء كثير " هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَالشَّيْء الْكثير كَانَ ثَمَانِيَة آلَاف أَو أَرْبَعَة آلَاف وَفِي أَسبابُُ النُّزُول لِلْوَاحِدِيِّ حث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على الصَّدَقَة فجَاء عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم شطر مَاله يَوْمئِذٍ وَتصدق يَوْمئِذٍ عَاصِم بن عدي بن عجلَان بِمِائَة وسق من تمر وَجَاء أَبُو عقيل بِصَاع من تمر فَلَمَزَهُمْ المُنَافِقُونَ فَنزلت هَذِه الْآيَة { الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين} .

     وَقَالَ  السُّهيْلي فِي كِتَابه التَّعْرِيف والإعلام أَبُو عقيل اسْمه حبحاب أحد بني أنيف وَقيل الملموز رِفَاعَة بن سُهَيْل.

     وَقَالَ  الإِمَام أَحْمد حَدثنَا يزِيد حَدثنَا الْجريرِي عَن أبي السَّلِيل قَالَ وقف علينا رجل فِي مَجْلِسنَا بِالبَقِيعِ فَقَالَ حَدثنِي أبي أَو عمي أَنه رأى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالبَقِيعِ وَهُوَ يَقُول من تصدق بِصَدقَة أشهد لَهُ بهَا يَوْم الْقِيَامَة قَالَ فحللت من عمامتي لوثا أَو لوثين وَأَنا أُرِيد أَن أَتصدق بهما فأدركني مَا يدْرك ابْن آدم فعقدت على عمامتي فجَاء رجل لم أر بِالبَقِيعِ رجلا أَشد سوادا مِنْهُ بِبَعِير سَاقه لم أر بِالبَقِيعِ نَاقَة أحسن مِنْهَا فَقَالَ يَا رَسُول الله أصدقة قَالَ نعم قَالَ دُونك هَذِه النَّاقة قَالَ فَلَمَزَهُ رجل فَقَالَ هَذَا يتَصَدَّق بِهَذِهِ فوَاللَّه لهي خير مِنْهُ قَالَ فَسَمعَهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ كذبت بل هُوَ خير مِنْك وَمِنْهَا ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قَالَ ويل لأَصْحَاب المئين من الْإِبِل ثَلَاثًا قَالُوا أَلا من يَا رَسُول الله قَالَ أَلا من قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَجمع بَين كفيه عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله ثمَّ قَالَ قد أَفْلح المزهد المجهد ثلاثاء المزهد فِي الْعَيْش والمجهد فِي الْعِبَادَة.

     وَقَالَ  عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة قَالَ جَاءَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّة من ذهب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَاء رجل من الْأَنْصَار بِصَاع من طَعَام فَقَالَ بعض الْمُنَافِقين وَالله مَا جَاءَ عبد الرَّحْمَن بِمَا جَاءَ بِهِ إِلَّا رِيَاء.

     وَقَالَ  إِن الله وَرَسُوله لَغَنِيَّانِ عَن هَذَا الصَّاع.

     وَقَالَ  ابْن جرير حَدثنَا ابْن وَكِيع حَدثنَا زيد بن الْحبابُ عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة حَدثنِي خَالِد بن يسَار عَن ابْن أبي عقيل عَن أَبِيه قَالَ بت أجر الجريد على ظَهْري على صَاعَيْنِ من تمر فَانْقَلَبت بِإِحْدَاهُمَا إِلَى أَهلِي يبلغون بِهِ وَجئْت بِالْآخرِ أَتَقَرَّب إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأتيت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرته فَقَالَ اُنْثُرْهُ فِي الصَّدَقَة قَالَ فَسخرَ الْقَوْم.

     وَقَالَ  لقد كَانَ الله غَنِيا عَن صَدَقَة هَذَا الْمِسْكِين فَأنْزل الله { الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين} الْآيَة قَوْله " وَجَاء رجل " هُوَ أَبُو عقيل بِفَتْح الْعين وَقد ذكرنَا اسْمه آنِفا قَوْله فَنزلت { الَّذين يَلْمِزُونَ} من اللمز يُقَال لمزه يلمزه ويلمزه إِذا عابه وَكَذَلِكَ همزه يهمزه وَمحل { الَّذين يَلْمِزُونَ} نصب بالذم أَو رفع على الذَّم أَو جر بَدَلا من الضَّمِير فِي (سرهم ونجواهم) قَوْله { الْمُطوِّعين} أَصله المتطوعين فأبدلت التَّاء طاء وأدغمت الطَّاء فِي الطَّاء أَي المتبرعين وَزعم أَبُو إِسْحَق أَن الرِّوَايَة عَن ثَعْلَب بتَخْفِيف الطَّاء وَتَشْديد الْوَاو.

     وَقَالَ  هَذَا غير جيد وَالصَّحِيح تشديدها وَأنكر ذَلِك ثَعْلَب عَلَيْهِ.

     وَقَالَ  إِنَّمَا هُوَ بِالتَّشْدِيدِ قَوْله { وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ} قَالَ أهل اللُّغَة الْجهد بِالضَّمِّ الطَّاقَة والجهد بِالنّصب الْمَشَقَّة.

     وَقَالَ  الشّعبِيّ الْجهد هُوَ الْقُدْرَة والجهد فِي الْعَمَل وَتَمام الْآيَة قَوْله { فيسخرون مِنْهُم سخر الله مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي يستهزؤن بهم { سخر الله مِنْهُم} يَعْنِي يجازيهم جَزَاء سخريتهم وَهَذَا من بابُُ الْمُقَابلَة على سوء صنيعهم واستهزائهم بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَن الْجَزَاء من جنس الْعَمَل { وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} يَعْنِي وجيع دَائِم



[ قــ :1361 ... غــ :1416 ]
- حدَّثنا سَعِيدُ بنُ يَحْيَى قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ شقِيقٍ عنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِي رَضِي الله تَعَالَى عنهُ.
قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أحَدُنَا إلَى السُّوقِ فَتَحَامَلَ فَيُصِيبُ المُدَّ وَإنَّ لِبَعْضِهِمْ اليَوْمَ لِمَائَةَ ألْفٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( إِذا أمرنَا بِالصَّدَقَةِ) ، والترجمة فِيهَا الْأَمر بِالصَّدَقَةِ.

وَرِجَاله: سعيد بن يحيى بن سعيد أَبُو عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ، وَأَبوهُ يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن الْعَاصِ، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وشقيق أَبُو وَائِل، وَقد تقدم عَن قريب، وَقد ذكرنَا عِنْد الحَدِيث السَّابِق أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي مَوَاضِع.

قَوْله: ( فتحامل) ، على وزن: تفَاعل، صِيغَة مَاض، وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُ عَن قريب، ويروى: ( يحامل) ، على لفظ الْمُضَارع من المفاعلة، وَالْأول من التفاعل.
فَافْهَم.
قَوْله: ( الْمَدّ) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الدَّال، وَهُوَ رَطْل وَثلث، سمي بِهِ لِأَنَّهُ ملىء كفي الْإِنْسَان إِذا مدهما.
قَوْله: ( وَإِن لبَعْضهِم الْيَوْم لمِائَة ألف) ، لفظ: مائَة، اسْم إِن وَخَبره قَوْله: ( لبَعْضهِم) ، وَالْيَوْم: ظرف، ومميز الْألف: الدِّرْهَم أَو الدِّينَار، أَو الْمَدّ.
قَالَ التَّيْمِيّ: وَالْمَقْصُود وصف شدَّة الزَّمَان فِي أَيَّام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَثْرَة الْفتُوح وَالْأَمْوَال فِي أَيَّام الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.





[ قــ :136 ... غــ :1417 ]
- حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ مَعْقِلٍ، قَالَ سَمِعْتْ عَدِيَّ بنَ حاتِمٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ..
التَّرْجَمَة هِيَ عين الحَدِيث، وَلَا مُطَابقَة أَكثر من هَذَا.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سُلَيْمَان بن حَرْب أَبُو أَيُّوب الواشجي، وواشج حَيّ من الإزد.
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج.
الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي.
الرَّابِع: عبد الله بن مُغفل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف وباللام: أَبُو الْوَلِيد الْمُزنِيّ.
الْخَامِس: عدي بن حَاتِم الطَّائِي.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي قَاضِي مَكَّة وَشعْبَة واسطي وَأَبُو إِسْحَاق وَعبد الله كوفيان.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن عَوْف بن سَلام الْكُوفِي عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق، وَفِي الْبابُُ عَن فضَالة عَن عبيد مَرْفُوعا: ( اجعلوا بَيْنكُم وَبَين النَّار حِجَابا وَلَو بشق تَمْرَة) ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَعَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا بِإِسْنَاد صَحِيح: ( ليتق أحدكُم وَجهه النَّار وَلَو بشق تَمْرَة) .
رَوَاهُ أَحْمد: وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بِإِسْنَاد حسن: ( يَا عَائِشَة استتري من النَّار وَلَو بشق تَمْرَة فَإِنَّهَا تسد من الجائع مسدها من الشبعان) .
رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا، وَعَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نَحوه، وَأتم مِنْهُ بِلَفْظ: ( تقع من الجائع موقعها من الشبعان) ، رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي، وَعَن أنس يرفعهُ: ( افْتَدَوْا من النَّار وَلَو بشق تَمْرَة) ، رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة، وَعَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: ( اتَّقوا النَّار وَلَو بشق تَمْرَة) ، رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة أَيْضا، وَعَن أبي هُرَيْرَة مثله بِإِسْنَاد جيد، رَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا فِي ( فضل الصَّدَقَة) .





[ قــ :1363 ... غــ :1418 ]
- حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنُ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله بنُ أبِي بَكْرِ بنِ حَزْمٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ دَخَلَتْ امْرَأةٌ مَعَها ابْنَتَانِ لَهَا تَسْألُ فَلَمْ تَجِدُ عِنْدِي شَيْئا غَيْرَ تَمْرَةٍ فأعْطَيْتُهَا إيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ولَمْ تأكُلْ مِنْهَا ثُمَّ قامَتْ فَخَرَجَتْ فَدَخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْنَا فأخْبَرْتُهُ فقالَ مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هاذِهِ البَنَاتِ بِشيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرا مِنَ النَّارِ.

( الحَدِيث 8141 طرفه فِي 5995) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فقسمتها بَين ابنتيها) أَي: لما قسمت التمرة بَينهمَا صَار لكل وَاحِدَة مِنْهُمَا شقّ تَمْرَة، فَدخلت الْأُم فِي عُمُوم قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( من ابْتُلِيَ) إِلَى آخِره، لِأَنَّهَا مِمَّن ابْتُلِيَ بِشَيْء من الْبَنَات.
وَأما مُنَاسبَة فعل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، للتَّرْجَمَة فَفِي قَوْله: ( والقليل من الصَّدَقَة) .
فَإِنَّهُ من التَّرْجَمَة أَيْضا.

ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة ذكرُوا كلهم، وَبشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة تقدم فِي كتاب الْوَحْي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَمعمر، بِفَتْح الميمين: هُوَ ابْن رَاشد، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَعبد الله بن أبي بكر بن حزم مر فِي: بابُُ الْوضُوء مرَّتَيْنِ، وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير.
وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.

( ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن عبد الله بن عبد الرحمان الدَّارمِيّ وَأبي بكر بن إِسْحَاق الصغاني وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن فهزاد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله عَن ابْن الْمُبَارك.

     وَقَالَ  حسن صَحِيح.

( ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله: ( لَهَا) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لقَوْله ( ابنتان) أَي ابنتان كائنتان لَهَا قَوْله ( تسْأَل) جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال من الْأَحْوَال الْمقدرَة قَوْله ( من هَذِه الْبَنَات) الظَّاهِر أَنَّهَا إِشَارَة إِلَى أَمْثَال الْمَذْكُورَات من أَصْحَاب الْفقر والفاقة وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الأشارة إِلَى جنس الْبَنَات مُطلقًا وَإِنَّمَا قَالَ سترا وَلم أستاراً وَلم يقل أستاراً لِأَن المُرَاد الْجِنْس فَيتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير وَقَوله ( بِشَيْء) أَي أَحْوَال الْبَنَات أَو من نفس الْبَنَات أَي من ابتلى مِنْهُنَّ بِأَمْر من أمورهن أَو من ابتلى ببنت مِنْهُنَّ سَمَّاهُ ابتلاء لموْضِع الْكَرَاهَة لَهُنَّ كَمَا أخبر الله تَعَالَى.
وَفِيه حض على الصَّدَقَة بِالْقَلِيلِ وَإِعْطَاء عَائِشَة التمرة لِئَلَّا ترد السَّائِل خائباً وَهِي تَجِد شَيْئا وروى أَنَّهَا أَعْطَتْ سَائِلًا جُبَّة عِنَب فَجعل يتعجب فَقَالَت كَمَا ترى فِيهَا مِثْقَال ذرة وَمثله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي تَمِيمَة الهُجَيْمِي ( لَا تحقرن شَيْئا من الْمَعْرُوف وَلَو أَن تضع فِي دلوك فِي إِنَاء المستسقى) وَفِيه قسْمَة الْمَرْأَة التمرة بَين ابنتيها لما جعل الله فِي قُلُوب الإمهات من الرَّحْمَة.
وَفِيه أَن النَّفَقَة على الْبَنَات وَالسَّعْي عَلَيْهِنَّ من أفضل أَعمال الْبر المنجية من النَّار وَكَانَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا من أَجود النَّاس أَعْطَتْ فِي كَفَّارَة يَمِين أَرْبَعِينَ رَقَبَة وَقيل فعلت ذَلِك فِي نذر مُبْهَم وَكَانَت ترى أَنَّهَا لم توف مِمَّا يلْزمهَا فِيهِ وأعانت الْمُنْكَدر فِي كِتَابَته بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم.
<