فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب تأويل قول الله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء: 11]

( بابُُ تَأْوِيلِ قَوْلِ الله تَعَالَى: { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أوْ دَيْنٍ} ( النِّسَاء: 21) .
)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان تَأْوِيل قَول الله، عز وَجل، فِي أَنه قدم الْوَصِيَّة فِي الذّكر على الدّين، مَعَ أَن الدّين مقدم على الْوَصِيَّة وَغَيرهَا، هَكَذَا قَالُوا، حَتَّى قَالَ بَعضهم: وَبِهَذَا يظْهر السِّرّ فِي تكْرَار هَذِه التَّرْجَمَة.
قلت: قدم الله تَعَالَى الْوَصِيَّة على الدّين فِي قَوْله: { وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم} ( النِّسَاء: 21) .
الْآيَة فِي موضِعين، وقدمها أَيْضا فِي الْآيَة الَّتِي قبلهَا وَهُوَ قَوْله: { يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} ( النِّسَاء: 11) .
وَيَنْبَغِي أَن يسْأَل عَن وَجه تَقْدِيم الْوَصِيَّة على الدّين فِي هَذِه الْمَوَاضِع، وَلَا يتَّجه هَذَا إلاَّ بترجمة غير هَذَا، وَلَا وَجه لذكر التَّأْوِيل هُنَا، لِأَن حد التَّأْوِيل لَا يصدق عَلَيْهِ، لِأَن التَّأْوِيل مَا يسْتَخْرج بِحَسب الْقَوَاعِد الْعَرَبيَّة، وَبَعض الْآيَة الَّتِي هِيَ تَرْجَمَة مفسرة، وَهَذَا ظَاهر لَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل غَايَة مَا فِي الْبابُُ أَنه يسْأَل عَمَّا ذَكرْنَاهُ الْآن وَذكروا فِيهِ وُجُوهًا، فَقَالَ السُّهيْلي: قدمت الْوَصِيَّة على الدّين فِي الذّكر لِأَنَّهَا إِنَّمَا تقع على سَبِيل الْبر والصلة، بِخِلَاف الدّين، لِأَنَّهُ يَقع قهرا فَكَانَت الْوَصِيَّة أفضل، فاستحقت الْبِدَايَة.
وَقيل: الْوَصِيَّة تُؤْخَذ بِغَيْر عوض، بِخِلَاف الدّين فَكَانَت أشق على الْوَرَثَة من الدّين، وفيهَا مَظَنَّة التَّفْرِيط، فَكَانَت أهم فقدَّمت.
وَقيل: هِيَ إنْشَاء الْمُوصي من قبل نَفسه، فَقدمت تحريضاً على الْعَمَل بهَا.
وَقيل: هِيَ حَظّ فَقير ومسكين غَالِبا، وَالدّين حَظّ غَرِيم يَطْلُبهُ بِقُوَّة، وَله مقَال.

ويُذْكَرُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَضَى بالدَّيْنِ قَبْلَ الوَصِيَّةِ
هَذَا الَّذِي ذكره بِصِيغَة التمريض طرف من حَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا ابْن أبي عمر، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أبي إِسْحَاق الْهَمدَانِي عَن الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( قضى بِالدّينِ قبل الْوَصِيَّة وَأَنْتُم تقرأون الْوَصِيَّة قبل الدّين) ، وَأخرجه أَحْمد أَيْضا وَلَفظه: عَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: قضى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ( أَن الدّين قبل الْوَصِيَّة) الحَدِيث، وَهَذَا إِسْنَاده ضَعِيف لِأَن الْحَارِث هُوَ ابْن عبد الله الْأَعْوَر، قَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة: سَمِعت أبي يَقُول: الْحَارِث الْأَعْوَر كَذَّاب،.

     وَقَالَ  أَبُو زرْعَة: لَا يحْتَج بحَديثه،.

     وَقَالَ  ابْن الْمَدِينِيّ: الْحَارِث كَذَّاب.
فَإِن قلت: لَيست من عَادَة البُخَارِيّ أَن يُورد الضَّعِيف فِي مقَام الِاحْتِجَاج بِهِ.
قلت: بلَى، وَلَكِن لما رأى أَن الْعلمَاء عمِلُوا بِهِ، كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيّ عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور، وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أهل الْعلم، اعْتمد عَلَيْهِ لاعتضاده بالِاتِّفَاقِ على مُقْتَضَاهُ.

وقَوْلِهِ { إنَّ الله يأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إِلَى أهْلِهَا} ( النِّسَاء: 85) .
فأدَاءُ الأمانَةِ أحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الوَصِيَّةِ

وَقَوله، بِالْجَرِّ عطفا على: قَول الله تَعَالَى، الْمَجْرُور بِإِضَافَة التَّأْوِيل إِلَيْهِ، وَذكر هَذِه الْآيَة فِي معرض الِاحْتِجَاج فِي جَوَاز إِقْرَار الْمَرِيض للْوَارِث، وَهَذَا بمعزل عَن ذَلِك على مَا لَا يخفى على أحد، وَالْآيَة نزلت فِي عُثْمَان بن طَلْحَة، قبض النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِفْتَاح الْكَعْبَة فَدخل الْكَعْبَة يَوْم الْفَتْح، فَخرج وَهُوَ يَتْلُو هَذِه الْآيَة، فَدفع إِلَيْهِ الْمِفْتَاح.
ذكره الواحدي فِي ( أَسبابُُ النُّزُول) عَن مُجَاهِد.

وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ صَدَقَةَ إلاَّ عنْ ظَهْرِ غِنًى

أورد هَذَا أَيْضا فِي معرض الِاحْتِجَاج فِي جَوَاز الْإِقْرَار للْوَارِث.
قَالَ الْكرْمَانِي: والمديون لَيْسَ بغني فَالْوَصِيَّة الَّتِي لَهَا حكم الصَّدَقَة تعْتَبر بعد الدّين، وَأَرَادَ بِتَأْوِيل الْآيَة مثله.
انْتهى.
قلت: قَوْله: الْمَدْيُون لَيْسَ بغني، على إِطْلَاقه لَا يَصح، والمديون الَّذِي لَيْسَ بغني هُوَ الْمَدْيُون الْمُسْتَغْرق، وَجعل مُطلق الْمَدْيُون أصلا، ثمَّ بِنَاء الحكم عَلَيْهِ فِيمَا ذهب إِلَيْهِ غير صَحِيح، وَهَذَا التَّعْلِيق مضى مُسْندًا فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بابُُ لَا صَدَقَة إلاَّ عَن ظهر غنى، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَا يُوصِي العَبْدُ إلأ بإذْنِ أهْلِهِ

ذكر هَذَا أَيْضا فِي معرض الِاحْتِجَاج، وَفِيه نظر.
قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: ( بِإِذن أَهله وَأَدَاء الدّين الْوَاجِب عَلَيْهِ) ، قلت: يَنْبَغِي أَن تكون هَذِه الْمَسْأَلَة على التَّفْصِيل، وَهُوَ أَن العَبْد لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مَأْذُونا لَهُ فِي التَّصَرُّفَات أَو لَا، فَإِن لم يكن فَلَا تصح وَصيته بِلَا خلاف، لِأَنَّهُ لَا يملك شَيْئا، فبماذا يُوصي؟ وَإِن كَانَ مَأْذُونا لَهُ تصح وَصيته بِإِذن الْوَلِيّ إِذا لم يكن مُسْتَغْرقا بِالدّينِ وعَلى كل حَال الِاسْتِدْلَال بأثر ابْن عَبَّاس فِيمَا ذهب إِلَيْهِ لَا يتم، وَفِيه نظر لَا يخفى، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن أبي الْأَحْوَص عَن شبيب بن فرقد عَن جُنْدُب، قَالَ: سَأَلَ طهْمَان ابْن عَبَّاس: أيوصي العَبْد؟ قَالَ: لَا، إلاَّ بِإِذن أَهله.

وَقَالَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العَبْدُ رَاعٍ فِي مالِ سَيِّدِهِ

قيل: لما تعَارض فِي مَال العَبْد حَقه وَحقّ سَيّده قدم الْأَقْوَى، وَهُوَ حق السَّيِّد، وَجعل العَبْد مولى عَنهُ، وَهُوَ أحد الْحفظَة فِيهِ، فَكَذَلِك حق الدّين لما عَارضه حق الْوَصِيَّة وَالدّين وَاجِب وَالْوَصِيَّة تطوع وَجب تَقْدِيم الدّين فَهَذَا وَجه مُنَاسبَة هَذَا الْأَثر، والْحَدِيث للتَّرْجَمَة.
انْتهى.
قلت: العَبْد لَا يملك شَيْئا أصلا فَكيف يثبت لَهُ المَال؟ ثمَّ كَيفَ تثبت الْمُعَارضَة بَين حَقه وَحقّ سَيّده وَلَا ثمَّة حق للْعَبد؟ وَقَوله: فَكَذَلِك حق الدّين لما عَارضه حق الْوَصِيَّة ... إِلَى آخِره، مَمْنُوع لِأَنَّهُ هُوَ يمْنَع كَلَامه بقوله: وَالدّين وَاجِب وَالْوَصِيَّة تطوع فَكيف تتَوَجَّه الْمُعَارضَة بَين الْوَاجِب والتطوع؟ وَمَعَ هَذَا فَإِن كَانَ مُرَاد البُخَارِيّ بِهَذَا وجوب تَقْدِيم الدّين على الْوَصِيَّة فَهَذَا لَا نزاع فِيهِ، وَإِن كَانَ مُرَاده جَوَاز إِقْرَار الْمَرِيض للْوَارِث فَلَا يساعده شَيْء مِمَّا ذكره فِي هَذَا الْبابُُ، والْحَدِيث الَّذِي علقه ذكره مُسْندًا فِي كتاب الْعتْق فِي: بابُُ كَرَاهِيَة التطاول على الرَّقِيق.



[ قــ :2625 ... غــ :2750 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا الأوزَاعِيُّ عنِ الزُّهْرِيَّ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ وعُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ أنَّ حَكِيمَ بنَ حِزَامٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سألْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأعْطَانِي ثُمَّ سألْتُهُ فَأعْطَانِي ثُمَّ قَالَ لي يَا حَكِيمُ إنَّ هذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ فَمَنْ أخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفِسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ومَنْ أخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبارَكْ لَهُ فِيهِ وكانَ كالَّذِي يأكُلُ ولاَ يَشْبَعُ والْيدُ العُلْيَا خيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى قَالَ حَكيمً فَقُلْتُ يَا رسولَ الله والَّذِي بعَثَكَ بالحَقِّ لَا أرْزَأُ أحَدَاً بَعْدَكَ شَيْئاً حَتَّى أُفَارِقُ الدُّنْيَا فَكانَ أبُو بَكْرٍ يَدْعُو حَكيماً لِيُعْطِيَهُ العَطاءَ فيَأْبَى أنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئاً ثُمَّ إنَّ عُمَرَ دَعاهُ لِيُعْطِيَهُ فيَأبَى أنْ يَقْبَلَهُ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ المُسْلِمينَ إنِّي أعْرِضُ علَيْهِ حَقَّهُ الَّذي قَسَمَ الله لَهُ مِنْ هَذَا الفَيْءِ فَيأبَى أنْ يأخُذَهُ فلَمْ يَرْزَأ حَكِيمٌ أحَداً مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ الله.

قيل: وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبابُُ من جِهَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زهَّده فِي قبُول الْعَطِيَّة وَجعل يَد الْآخِذ سفلى تنفيراً عَن قبُولهَا، وَلم يَقع مثل ذَلِك فِي تقاضي الدّين، لِأَن يَد آخذ الدّين لَيست سفلى، لاسْتِحْقَاق أَخذه جبرا، فالدين أقوى، فَيجب تَقْدِيمه.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَوجه آخر، وَهُوَ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَلا تهد فِي توفيته حَقه من بَيت المَال وخلاصه مِنْهُ، وَشبهه بِالدّينِ لكَونه حَقًا بِالْجُمْلَةِ، فَكيف إِذا كَانَ دينا مُتَعَيّنا؟ فَإِنَّهُ يجب تَقْدِيمه على التَّبَرُّعَات قلت وَلَو تكلفوا غَايَة مَا يكون بإن يذكرُوا وَجه الْمُطَابقَة بَين أَحَادِيث هَذَا الْبابُُ وَبَين التَّرْجَمَة فَإِن فِيهِ تعسفاً شَدِيدا يظْهر ذَلِك لمن يتأمله كَمَا يَنْبَغِي.
والْحَدِيث تقدم فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بابُُ الاستعفاف فِي الْمَسْأَلَة.

قَوْله: ( لَا أرزأ) بِتَقْدِيم الرَّاء على الزَّاي، أَي: لَا أَخذ من أحد شَيْئا بعْدك.





[ قــ :66 ... غــ :751 ]
- حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ السَّخْتِيَانِيُّ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سالِمٌ عنِ ابنِ عُمَرَ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ كُلُّكُمْ راعٍ ومَسْئولٌ عنْ رعِيَّتهِ والإمامُ راعٍ ومَسْئُولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ والرَّجُلُ راعٍ فِي أهْلِهِ ومَسْئولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ والمَرْأةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا راعِيَةٌ ومَسئُولَةٌ عنْ رَعِيَّتِها والخادِمُ فِي مالِ سَيِّدِهِ راعٍ ومسْئُولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وحَسِبْتُ أنْ قَدْ قالَ والرَّجُلُ راعٍ فِي مَال أبِيهِ..
لم يذكر أحد من الشُّرَّاح وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبابُُ، وَيُمكن أَن يكون الْوَجْه فِي ذَلِك مثل الَّذِي ذكر فِي قَوْله:.

     وَقَالَ ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( العَبْد رَاع فِي مَال سَيّده) يتناولا العَبْد.
وَبشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد السّخْتِيَانِيّ الْمروزِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بابُُ الْجُمُعَة فِي الْقرى، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد وَمضى الْكَلَام فِيهِ.