فهرس الكتاب

عمدة القاري - بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}

( كتابُ اللِّباسِ)
أَي: هَذَا فِي كتاب بَيَان أَنْوَاع اللبَاس وأحكامها، واللباس مَا يلبس وَكَذَلِكَ الملبس واللبس بِالْكَسْرِ واللبوس أَيْضا مَا يلبس، وَأورد ابْن بطال هَذَا الْكتاب بعد الاسْتِئْذَان، وَلَا وَجه لَهُ.
وقَوْلِ الله تَعَالَى: { قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ} ( الْأَعْرَاف: 23) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على اللبَاس، وَهَذَا الْمِقْدَار من الْآيَة الْمَذْكُورَة قد ذكر فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَزَاد أَبُو نعيم: { والطيبات من الرزق} وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ قَالَ الله تَعَالَى: { قل من حرم زِينَة الله} الْآيَة، وَهَذِه الْآيَة عَامَّة فِي كل مُبَاح، وَقيل: أَي من حرم لبس الثِّيَاب فِي الطّواف، وَمن حرم مَا حرمُوا من الْبحيرَة وَغَيرهَا.
.

     وَقَالَ  الْفراء: كَانَت قبائل الْعَرَب لَا يَأْكُلُون اللَّحْم أَيَّام حجهم ويطوفون عُرَاة، فَأنْزل الله الْآيَة، وَكَذَا رُوِيَ عَن ابراهيم النَّخعِيّ وَالسُّديّ وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَآخَرين: أَنَّهَا نزلت فِي طواف الْمُشْركين بِالْبَيْتِ وهم عُرَاة.
قَوْله: ( والطيبات) أَي: المستلذات من الطَّعَام، وَقيل: الْحَلَال من الرزق.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كُلُوا واشْرَبُوا والْبَسُوا وتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إسْرَاف وَلَا مَخِيلَةٍ.
هَذَا التَّعْلِيق فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي فَقَط، وَلم يذكر فِي رِوَايَة البَاقِينَ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة عَن يزِيد بن هَارُون: أَنا همام عَن قَتَادَة عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكره.
قَوْله: ( من غير إِسْرَاف) يتَعَلَّق بالمجموع، والإسراف صرف الشَّيْء زَائِدا على مَا يَنْبَغِي.
قَوْله: ( وَلَا مخيلة) بِفَتْح الْمِيم الْكبر من الْخُيَلَاء التكبر،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: المخيلة على وزن مفعلة من اختال إِذا تكبر،.

     وَقَالَ  الْمُوفق عبد اللَّطِيف الْبَغْدَادِيّ: هَذَا الحَدِيث جَامع لفضائل تَدْبِير الْإِنْسَان نَفسه، وَفِيه تَدْبِير مصَالح النَّفس والجسد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَإِن السَّرف فِي كل شَيْء يضر بالمعيشة فَيُؤَدِّي إِلَى الْإِتْلَاف ويضر بِالنَّفسِ إِذا كَانَت تَابِعَة للجسد فِي أَكثر الْأَحْوَال، والمخيلة تضر بِالنَّفسِ حَيْثُ يكسبها الْعجب، ويضر بِالآخِرَة حَيْثُ تكسب الْإِثْم، وبالدنيا حَيْثُ تكسب المقت من النَّاس.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ والْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أخْطأتْكَ اثْنتانِ: سَرَفٌ أوْ مَخيلَةٌ.
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) عَن ابْن عُيَيْنَة عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس.
قَوْله: ( مَا خطئتك) كَذَا وَقع لجَمِيع الروَاة بِإِثْبَات الْهمزَة بعد الطَّاء، وَأوردهُ ابْن التِّين بحذفها، ثمَّ قَالَ: وَالصَّوَاب إِثْبَاتهَا.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: يُقَال: خطئت، وَلَا يُقَال: خطيت، وَمَعْنَاهُ.
كل مَا شِئْت من الْحَلَال وألبس مَا شِئْت من الْحَلَال مَا دَامَت أَخْطَأتك، أَي: تجاوزتك اثْنَتَانِ: أَي خصلتان.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: مَا أَخْطَأتك أَي: مَا دَامَ تجَاوز عَنْك خصلتان، والإخطاء التجاوز من الصَّوَاب أَو مَا نَافِيَة أَي: لم يوقعك فِي الْخَطَأ اثْنَتَانِ، والخِطء الْإِثْم.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَفِيه بعد، وَرِوَايَة معمر ترده حَيْثُ قَالَ: مَا لم يكن سرف أَو مخيلة.
قلت: لَا بعد فِيهِ لِأَن مَعْنَاهُ صَحِيح لَا يخفى ذَلِك على من يتأمله، قَوْله: ( سرف أَو مخيلة) بَيَان لقَوْله: اثْنَتَانِ، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: سرف ومخيلة، بِالْوَاو وَلَكِن: أَو تَجِيء بِمَعْنى الْوَاو كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفوراً} ( الْإِنْسَان: 24) .
على تَقْدِير النَّفْي إِذْ انْتِفَاء الْأَمريْنِ لَازم فِيهِ.

[ قــ :5470 ... غــ :5783]
حدّثنا إسْماعيلُ قَالَ: حدّثني مالِك عنْ نافِعٍ وعبْدِ الله بنِ دِينار وزَيْدِ بنِ أسْلمَ يُخْبِرُونَهُ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا يَنْظُرُ الله إِلَى منْ جرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي قبله ظَاهِرَة لِأَن فِي ذَاك ذمّ المخيلة، وَفِي هَذَا جر الثَّوْب خُيَلَاء، وَهُوَ أَيْضا من المخيلة.
وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا مُطَابق للْحَدِيث الَّذِي قبله من هَذِه الْحَيْثِيَّة، وَهُوَ أَيْضا مُطَابق لِلْآيَةِ الْمَذْكُورَة على مَا لَا يخفى.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي اللبَاس أَيْضا عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بن سعيد وَغَيره.
قَوْله: ( يخبرونه) أَي: هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة: نَافِع وَعبد الله بن دِينَار وَزيد بن أسلم، يخبرون مَالِكًا عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَوْله: ( مَن جر ثَوْبه) يدْخل فِيهِ الْإِزَار والرداء والقميص والسراويل والجبة والقباء وَغير ذَلِك مِمَّا يُسمى ثوبا، بل ورد فِي الحَدِيث دُخُول الْعِمَامَة فِي ذَلِك كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة من رِوَايَة سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الإسبال فِي الْإِزَار والقميص والعمامة من جر مِنْهَا شَيْئا خُيَلَاء لم ينظر الله إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله: ( لَا ينظر الله) نفي نظر الله تَعَالَى هُنَا كِنَايَة عَن نفي الرَّحْمَة، فَعبر عَن الْمَعْنى الْكَائِن عِنْد النّظر بِالنّظرِ لِأَن من نظر إِلَى متواضع رَحمَه، وَمن نظر إِلَى متكبر متجبر مقته، فالنظر إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالة اقْتضى الرَّحْمَة أَو المقت.
قَوْله: ( خُيَلَاء) بِالضَّمِّ وَالْكَسْر وَهُوَ الْكبر وَالْعجب، يُقَال: اختال فَهُوَ مختال، وانتصابه على الْحَال بالتأويل.