فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: الوضوء ثلاثا ثلاثا

(بابُُ الوُضُوءِ ثَلاثاً ثَلاثاً)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الْوضُوء ثَلَاثًا ثَلَاثًا لكل عُضْو.

والمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ ظَاهِرَة.



[ قــ :157 ... غــ :159 ]
- حدّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ الاُوَيْسِىُّ قَالَ حدّثني إبْراهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ أنَّ عَطَاءَ بنَ يَزِيدَ أخْبرَهُ أنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمانَ أخْبَرَهُ أنَّهُ رَأى عُثْمانَ بنَ عَفَّانَ دَعا باناءٍ فأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِناءِ فَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً وَيَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْن ثَلاثَ مِرَارٍ (ثُمَّ) مَسَحَ بِرَأسِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ إِلَى الكَعْبَيْنِ ثُمَّ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبِهِ.


مُطَابقَة الحدي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن فِيهِ غسل الْأَعْضَاء المغسوله كلهَا ثَلَاث مَرَّات.

بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد الْعَزِيز الأويسي، بِضَم الْهمزَة، وَقد مر فِي بابُُ الْحِرْص على الحَدِيث فِي كتاب الْعلم.
الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد، سبط عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف وَقد مر فِي بابُُ تفاضل أهل الْإِيمَان.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَقد تكَرر ذكره.
الرَّابِع: عطاه ابْن يزِيد التَّابِعِيّ، وَقد تقدم فِي بابُُ: وَقد تقدم فِي بابُُ: لَا يسْتَقْبل الْقبْلَة بغائط.
الْخَامِس: حمْرَان، بِضَم الْحَاء المهلمة وَسُكُون الْمِيم وبالراء: ابْن أبان، بِفَتْح الْهمزَة وَالْيَاء الْمُوَحدَة المخففة: ابْن خَالِد بن عَمْرو، من سبي عين التَّمْر، سباه خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَوَجَدَهُ غُلَاما كيساً، فوجهه إِلَى عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَأعْتقهُ، وَكَانَ كَاتبه وحاجبه، وَولي نيسابور من الْحجَّاج، ذكره البُخَارِيّ فِي (ضُعَفَائِهِ) ، وإحتج بِهِ فِي (صَحِيحه) ، وَكَذَا مُسلم وَالْأَرْبَعَة.
.

     وَقَالَ  ابْن سعد: كَانَ كثير الحَدِيث، لم أرهم يحتجون بحَديثه، مَاتَ سنة خمس وَسبعين أغرمه الْحجَّاج مائَة ألف لأجل الْولَايَة السَّابِقَة: ثمَّ، رد عَلَيْهِ ذَلِك بشفاعة عبد الْملك.
السَّادِس: أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف، أمه أروى بنت عمَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ أَصْغَر من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيُسمى بِذِي النوري لِأَنَّهُ تزوج بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رقية فَمَاتَتْ عِنْده، ثمَّ أم كُلْثُوم، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مائَة حَدِيث وسته وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج البُخَارِيّ مِنْهَا أحذد عشر.
اسْتخْلف أول يَوْم من الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين، وَقتل يَوْم الْجُمُعَة لثمان عشرَة خلت من ذِي الْحجَّة سنة خمس وَثَلَاثِينَ، قَتله الْأسود التحبيبي، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْجِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالياء الْمُوَحدَة.
وَدفن لَيْلَة السبت بِالبَقِيعِ، وعمره اثْنَان وَثَمَانُونَ سنة، وَصلى عَلَيْهِ حَكِيم بن حزَام، وَكَثُرت الْأَمْوَال فِي خِلَافَته حَتَّى بِيعَتْ جَارِيَة بوزنها، وَفرس بِمِائَة ألف، ونخلة بِأَلف دِرْهَم، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اسْمه عُثْمَان بن عَفَّان غَيره.

بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من التَّابِعين يروي بَعضهم عَن بعض: ابْن شهَاب وَعَطَاء وحمران.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن اخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأخرجه ايضاً فِي الصَّوْم عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ بِهِ.
وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي الطَّاهِر ابْن السَّرْح وحرملة بن يحيى، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن يُونُس، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سَلامَة عَن أَبِيه، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ ععن الْحسن بن عَليّ عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن ابْن مِسْكين وَاحْمَدْ بن عَمْرو بن السَّرْح كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب بِهِ، وَعَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ، وَعَن أَحْمد بن الْمُغيرَة عَن عُثْمَان بن سعيد بن كثير بن دِينَار عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن الزُّهْرِيّ بِهِ.

بَيَان اللُّغَات قَوْله: (فأفرغ على يَدَيْهِ) من أفرغت الْإِنَاء إفراغاً، وفرغته تفريغاً إِذا قلبت مَا فِيهِ، وَالْمعْنَى هَهُنَا: صب على يَدَيْهِ.
يُقَال: فرغ المَاء، بِالْكَسْرِ، إِذا انصب.
وأفرغته أَنا أَي: صببته، وتفريغ الظروف: إخلاؤها.
قَوْله: (فَمَضْمض) الْمَضْمَضَة تَحْرِيك المَاء فِي الْفَم.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: حَقِيقَة المضمضمة وكما لَهَا أَن يَجْعَل المَاء فِي فَمه، ثمَّ يديره فِيهِ، ثمَّ يمجه.
.

     وَقَالَ  الزندوستي، من أَصْحَابنَا: أَن يدْخل إصبعه فِي فَمه وَأَنْفه، وَالْمُبَالغَة فيهمَا سنة،.

     وَقَالَ  الصَّدْر الشَّهِيد: الْمُبَالغَة فِي الْمَضْمَضَة الغرغرة، وَقد مُضِيّ تَحْقِيق الْكَلَام فِيهَا فِيمَا مضى.
قَوْله: (واستنثر) قَالَ جُمْهُور أهل اللُّغَة وَالْفُقَهَاء والمحدثون: الاستنثار إِخْرَاج المَاء من الْأنف بعد الإستنشاق،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي وَابْن قُتَيْبَة: الاستنثار هُوَ الِاسْتِنْشَاق.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الصَّوَاب هُوَ الأول، وَيدل عَلَيْهِ الرِّوَايَة الْأُخْرَى (استنشق واستنثر) ، فَجمع بَينهمَا.
.

     وَقَالَ  أهل اللُّغَة: هُوَ مَأْخُوذ من النثرة، وَهِي طرف الْأنف.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ وَغَيره: هِيَ الْأنف.
.

     وَقَالَ  الْأَزْهَرِي: روى سَلمَة عَن الْفراء أَنه يُقَال: نثر الرجل وانتثر واستنثر: إِذا حرك النثرة فِي الطهار.
.

     وَقَالَ  ابْن الاثير: نثر ينثر، بِالْكَسْرِ، إِذا امتخط، واستنثر: استفعل مِنْهُ، اي: استنشق المَاء ثمَّ استخرج مَا فِي الْأنف فينثره، وَقيل: هِيَ من تَحْرِيك النثرة، وَهِي طرف الْأنف قلت: الصَّوَاب مَا قَالَه ابْن الْأَعرَابِي أَن المُرَاد من قَوْله: (واستنثر) الِاسْتِنْشَاق.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الصَّوَاب هُوَ الأول.
وَقَوله يدل عَلَيْهِ.
الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (استنشق واستنثر) ، لَا يدل على مَا ادَّعَاهُ، لِأَن المُرَاد من الاستنثار فِي هَذِه الرِّوَايَة الامتخاط، وَهُوَ أَن يمتخط بعد الِاسْتِنْشَاق.
.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: استنثر إِذا استنشق المَاء من ثمَّ استخرج ذَلِك بِنَفس الْأنف، والنثرة الخيشوم وَمَا وَالَاهُ، وتنشق واستنشق المَاء فِي انفه: صبه فِيهِ.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: الانتثار والاستنثار بِمَعْنى، وَهُوَ: نثر مَا فِي الْأنف بِالنَّفسِ.
.

     وَقَالَ  ابْن طَرِيق: نثر المَاء من أَنفه دَفعه.
وَفِي (جَامع) الْقَزاز: نثرت الشَّيْء أنثره وانثره نثراً: إِذا بددته، وانت ناثر، وَالشَّيْء منثور.
قَالَ: والمتوضىء يستنشق إِذا جذب المَاء برِيح أَنفه، ثمَّ يستنثره.
وَفِي (الغريبين) : يستنشق اي: يبلغ المَاء خياشيمه، وَيُقَال: نثر وانتثر واستنثر: إِذا حرك النثرة، وَهِي طرف الْأنف.
قَوْله: (وَجهه) الْوَجْه مَا يواجه الْإِنْسَان وَهُوَ من قصاص السّعر إِلَى أَسْفَل الذقن طولا وَمن شحمة الْأذن إِلَى شحمة الْأذن عرضا قَوْله: (ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ) ، الرَّأْس مُشْتَمل على الناصية والقفا والفودين، وَذكر ابْن جني: أَن الْجمع أرؤس واءرس على الْقلب، ورؤس.
.

     وَقَالَ  ابْن السّكيت: وروس على الْحَذف، وَأنْشد:
(فيوماً إِلَى أَهلِي وَيَوْما إِلَيْكُم ... وَيَوْما أحط الْخَيل من روس الْجبَال)

وَرجل أراسي ورواسي: عَظِيم الرَّأْس.
.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: رواس كَذَلِك.
.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده فِي (الْمُخَصّص) : وَإِذا قيل: رَأس، فتخفيفه قِيَاس ثَابت.
يُقَال: لرأس الانسان قلَّة، وَالْجمع قلل وقلال.
.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم وَهِي القنة، وَالْجمع: قنن، والعلاوة وَهِي: حِكْمَة الْإِنْسَان وقادمه وملطاطه وهامته.
قَوْله: (غفر لَهُ) : الغفر والغفران: السّتْر، وَمِنْه: المغفر لِأَنَّهُ يغْفر الرَّأْس أَي: يستره.
.

     وَقَالَ  ابْن الاثير: أصل الغفر: التغطية، وَالْمَغْفِرَة: إلباس الله الغفر للمذنبين.

بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: (أخبرهُ) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر: أَن.
قَوْله: (أَن حمْرَان) ، أَصله: بِأَن حمْرَان.
قَوْله: (مولى عُثْمَان) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة: لحمران، وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ اسْم: أَن، وَمنع من الصّرْف للعلمية وَالْألف وَالنُّون الزائدتين.
قَوْله: (انه رأى عُثْمَان) أَصله: بِأَنَّهُ.
قَوْله: (دَعَا بِإِنَاء) جملَة وَقعت حَالا بِتَقْدِير: قد، كَمَا فِي؛ قَوْله تَعَالَى: { أَو جاؤكم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90) وَلَفظه: رأى، بِمَعْنى: أبْصر، فَلذَلِك اكْتفى بمفعول وَاحِد وَهُوَ: عُثْمَان.
قَوْله: (فأفرغ) الْفَاء فِيهِ فَاء التَّفْسِير.
قَوْله: (ثَلَاث مرار) كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه صفة الْمصدر مَحْذُوف أَي: إفراغاً ثَلَاث مَرَّات.
قَوْله: (فَمَضْمض) الْفَاء فِيهِ فَاء فصيحة، وَتَقْدِيره: فَأخذ المَاء مِنْهُ وَأدْخلهُ فِي فِيهِ فَمَضْمض.
قَوْله: (ثَلَاثًا) نصب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف اي: غسلا ثَلَاث مَرَّات.
قَوْله: (وَيَديه) عطف على قَوْله: (وَجهه) ، وَالتَّقْدِير: وَغسل يَدَيْهِ.
قَوْله: (من تَوَضَّأ) كلمة: من، مَوْصُولَة معنى الشَّرْط، فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء.
وَقَوله: (تَوَضَّأ) جملَة وَقعت صلَة للموصول.
قَوْله: (نَحْو وضوئى) كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف تَقْدِيره: من تَوَضَّأ وضواً نَحْو وضوئي.
قَوْله: (ثمَّ صلى) عطف على: تَوَضَّأ قَوْله: (لَا يحدث فيهمَا نَفسه) جملَة نَافِيَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة: لركعتي.
قَوْله: (غفر لَهُ) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع على الخبرية.
قَوْله: (مَا تقدم) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَكلمَة: من، فِي قَوْله: (من ذَنبه) ، للْبَيَان.

بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (دَعَا بِإِنَاء) أَي: بظرف فِيهِ المَاء للْوُضُوء، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب الْآتِيَة قَرِيبا: (دَعَا بِوضُوء) بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ اسْم للْمَاء الْمعد للتوضيء، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق يُونُس.
قَوْله: (ثَلَاث مَرَّات) وَفِي بعض النّسخ: (ثَلَاث مَرَّات) .
قَوْله: (فَمَضْمض واستنثر) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (واستنشق) بدل قَوْله: (واستنثر) وَثبتت الثَّلَاثَة فِي رِوَايَة شُعَيْب الْآتِيَة فِي بابُُ الْمَضْمَضَة وَلَيْسَ فِي طرق هَذَا الحَدِيث تَقْيِيد الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق بِعَدَد غير طَرِيق يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، فِيمَا ذكره ابْن الْمُنْذر، وَكَذَا فِيمَا ذكره أَبُو دَاوُد من وَجْهَيْن آخَرين عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن فِي أَحدهمَا: (فَتَمَضْمَض ثَلَاثًا واستنثر ثَلَاثًا) .
وَفِي الآخر: (ثمَّ تمضمض واستنشق ثَلَاثًا) .
قَوْله: (ثمَّ غسل وَجهه) عطف بِكَلِمَة: ثمَّ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب والمهلة.
فان قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَأْخِير غسل الْوَجْه عَن الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق؟ قلت: ذكرُوا أَن حِكْمَة ذكل اعْتِبَار أَوْصَاف المَاء، لِأَن اللَّوْن يدْرك بالبصر، والطعم يدْرك بالفم، وَالرِّيح يدْرك بالأنف، فَقدم الْأَقْوَى مِنْهَا وَهُوَ الطّعْم ثمَّ الرّيح ثمَّ اللَّوْن.
قَوْله: (وَيَديه إِلَى الْمرْفقين) أَي: كل وَاحِدَة، كَمَا جَاءَ هَكَذَا مُبينًا فِي رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ كَمَا يَجِيء فِي كتاب الصَّوْم، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق يُونُس، وَفِيهِمَا تَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى، وَالتَّعْبِير فِي كل مِنْهُمَا بِكَلِمَة: ثمَّ، وَكَذَا فِي الرجلَيْن أَيْضا.
قَوْله: (ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ) وَفِي الرِّوَايَتَيْنِ المذكورتين، ثمَّ مسح رَأسه بِلَا بَاء، الْجَرّ وَالْفرق بَينهمَا أَن فِي الأول لَا يقتضى اسْتِيعَاب الْمسْح بِخِلَاف الثَّانِي.
قَوْله: (نَحْو وضوئي هَذَا) قَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّمَا قَالَ: نَحْو وضوئي، وَلم يقل: مثل، لِأَن حَقِيقَة مماثلته لَا يقدر عَلَيْهَا غَيره، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الرقَاق من طَرِيق المعاذ بن عبد الرَّحْمَن عَن حمْرَان عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَفظه: (من تَوَضَّأ مثل هَذَا الْوضُوء) .
وَجَاء فِي رِوَايَة مُسلم أَيْضا، من طَرِيق زيد بن أسلم عَن حمْرَان: (من تَوَضَّأ مثل وضوئي هَذَا) ، وَالتَّقْدِير: مثل وضوئي، وكل وَاحِد من لَفْظَة: نَحْو وَمثل.
من أَدَاة التَّشْبِيه والتشبيه لَا عُمُوم لَهُ، سَوَاء قَالَ: نَحْو وضوئي هَذَا، أَو: مثل وضوئي، فَلَا يلْزم مَا ذكره النَّوَوِيّ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: فالتعبير: بِنَحْوِ، من تصرف الروَاة لِأَنَّهَا تطلق على المثلية مجَازًا، لَيْسَ بِشَيْء، لِأَنَّهُ ثَبت فِي اللُّغَة مجىء: نَحْو، بِمَعْنى: مثل.
يُقَال: هَذَا نَحْو ذَاك، أَي: مثله.
قَوْله: (لَا يحدث فيهمَا) أَي: فِي الرَّكْعَتَيْنِ، قَالَ القَاضِي عِيَاض: يويد بِحَدِيث النَّفس الحَدِيث المجتلب والمكتسب، وَأما مَا يَقع فِي الخاطر غَالِبا فَلَيْسَ هُوَ المُرَاد.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: هَذَا الَّذِي يكون من غَيره قصد يُرْجَى أَن تقبل مَعَه الصَّلَاة، وَيكون دون صَلَاة من لم يحدث نَفسه بِشَيْء لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا ضمن الغفران لمراعي ذَلِك لِأَنَّهُ قل من تسلم صلَاته من حَدِيث النَّفس، وَإِنَّمَا حصلت لَهُ هَذِه الْمرتبَة لمجاهدة نَفسه من خطرات الشَّيْطَان ونفيها عَنهُ ومحافظته عَلَيْهَا حَتَّى لَا يشْتَغل عَنْهَا طرفَة عين، وَسلم من الشَّيْطَان بِاجْتِهَادِهِ وتفريغه قلبه.
قيل: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ إخلاص الْعَمَل لله تَعَالَى وَلَا يكون لطلب الجاء، وان يُرَاد ترك الْعجب بِأَن لَا يرى لنَفسِهِ منزلَة رفيعة بأدائها، بل يَنْبَغِي أَن يحقر نَفسه كي لَا تغتر فتتكبر.
وَيُقَال: إِن كَانَ المُرَاد بِهِ أَن لَا يخْطر بِبَالِهِ شَيْء من أُمُور الدُّنْيَا فَذَلِك صَعب وَإِن كَانَ المُرَاد بِهِ أَنه بعد خطوره بِهِ لَا يسْتَمر عَلَيْهِ فَهُوَ عمل المخلصين.
قلت: التَّحْقِيق فِيهِ أَن حَدِيث النَّفس قِسْمَانِ: مَا يهجم عَلَيْهَا ويتعذر دَفعهَا، وَمَا يسترسل مَعهَا وَيُمكن قطعه، فَيحمل الحَدِيث عَلَيْهِ دون الأول لعسر اعْتِبَاره.
وَقَوله: (يحدث) من بابُُ التفعيل وَهُوَ يَقْتَضِي التكسب من أَحَادِيث النَّفس، وَدفع هَذَا مُمكن.
وَأما مَا يهجم من الخطرات والوساوس فَإِنَّهُ يتَعَذَّر دَفعه فيعفى عَنهُ، وَنقل القَاضِي عِيَاض عَن بَعضهم بِأَن المُرَاد: من لم يحصل لَهُ حَدِيث النَّفس أصلا ورأساً، ورده النَّوَوِيّ فَقَالَ: الصَّوَاب حُصُول هَذِه الْفَضِيلَة مَعَ طريان الخواطر الْعَارِضَة غَيره المستقرة، ثمَّ حَدِيث النَّفس يعم الخواطر الدُّنْيَوِيَّة والأخروية، والْحَدِيث مَحْمُول على الْمُتَعَلّق بالدنيا فَقَط، وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة فِي هَذَا الحَدِيث: ذكره الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي كتاب الصَّلَاة، تأليفه: (لَا يحدث فيهمَا نَفسه بِشَيْء من الدُّنْيَا، ثمَّ دَعَا إِلَيْهِ إلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ) .
انْتهى فَإِذا حدث نَفسه فِيمَا يتَعَلَّق بِأُمُور الْآخِرَة: كالفكر فِي مَعَاني المتلو من الْقُرْآن الْعَزِيز وَالْمَذْكُور من الدَّعْوَات والأذكار، أَو فِي أَمر مَحْمُود أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ لَا يضر ذَلِك، وَقد ورد عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: لأجهز الْجَيْش وَأَنا فِي الصَّلَاة، أَو كَمَا قَالَ قَوْله: (غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) يَعْنِي: من الصَّغَائِر دون الْكَبَائِر، كَذَا هُوَ مُبين فِي مُسلم، وَظَاهر الحَدِيث يعم جَمِيع الذُّنُوب، وَلكنه خص بالصغائر، والكبائر إِنَّمَا تكفر بِالتَّوْبَةِ وَكَذَلِكَ مظالم الْعباد فَإِن قيل: حَدِيث عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الآخر الَّذِي فِيهِ: (خرجت خطاياه من جسده حَتَّى تخرج من تَحت أَظْفَاره) مُرَتّب على الْوضُوء وَحده، فَلَو لم يكن المُرَاد بِمَا تقدم من ذَنبه فِي هَذَا الحَدِيث الْعُمُوم فِي الصَّغَائِر والكبائر لَكَانَ الشَّيْء مَعَ غَيره كالشيء لَا مَعَ غَيره، فَإِن فِيهِ الْوضُوء وَالصَّلَاة، وَفِي الأول الْوضُوء وَحده وَذَلِكَ لَا يجوز.
أُجِيب: بِأَن قَوْله: (خرجت خطاياه) لَا يدل على خُرُوج جَمِيع مَا تقدم لَهُ من الْخَطَايَا، فَيكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى يَوْمه أَو إِلَى وَقت دون وَقت، وَأما قَوْله: (مَا تقدم من ذَنبه) فَهُوَ عَام بِمَعْنَاهُ وَلَيْسَ لَهُ بعض مُتَيَقن، كالثلاثة فِي الْجمع.
أَعنِي: الْخَطَايَا، فَيحمل على الْعُمُوم فِي الصَّغَائِر.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَهُوَ فِي حق من لَهُ كَبَائِر وصغائر وَمن لَيْسَ لَهُ إلاَّ صغائر كفرت عَنهُ، وَمن لَيْسَ لَهُ إلاَّ كَبَائِر خففت عَنهُ مِنْهَا بِمِقْدَار مَا لصَاحب الصَّغَائِر، وَمن لَيْسَ لَهُ صغائر وَلَا كَبَائِر يُزَاد فِي حَسَنَاته بنظير ذَلِك.
قلت: الْأَقْسَام الثَّلَاثَة الْأَخِيرَة غير صَحِيحَة، أما الَّذِي لَيْسَ لَهُ إِلَّا، صغائر فَلهُ كَبَائِر أَيْضا، لِأَن كل صَغِيرَة تحتهَا صَغِيرَة فَهِيَ كَبِيرَة، أما الَّذِي لَيْسَ لَهُ إلاَّ كَبَائِر فَلهُ صغائر، لِأَن كل كَبِيرَة تحتهَا صَغِيرَة، وإلاَّ لَا يكون كَبِيرَة، وَأما الَّذِي لَيْسَ لَهُ إلاّ صغائر فَلهُ كَبَائِر أَيْضا، لِأَن مَا فَوق الصَّغِيرَة الَّتِي لَيْسَ تحتهَا صَغِيرَة، فَهِيَ كَبَائِر.
فَافْهَم.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن هَذَا الحَدِيث أصل عَظِيم فِي صفة الْوضُوء، وَالْأَصْل فِي الْوَاجِب غسل الْأَعْضَاء مرّة مرّة، وَالزِّيَادَة عَلَيْهَا سنة، لِأَن الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَردت بِالْغسْلِ: ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَمرَّة مرّة ومرتين مرَّتَيْنِ، وَبَعض الْأَعْضَاء ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَبَعضهَا مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ وَبَعضهَا مرّة مرّة، فالاختلاف على هَذِه الصّفة دَلِيل الْجَوَاز فِي الْكل، فَإِن الثَّلَاث هِيَ الْكَمَال، والواحدة تجزىء.
قد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
وَصفَة الْوضُوء على وُجُوه.

الاول: فِيهِ غسل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما فِي الْإِنَاء، وَلَو لم يكن عقيب النّوم، وَهَذَا مُسْتَحبّ بِلَا خلاف، وَفِيه الإفراغ على الْيَدَيْنِ مَعًا.
وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى: (افرغ بِيَدِهِ الْيُمْنَى على الْيُسْرَى ثمَّ غسلهمَا) وَهُوَ قدر مُشْتَرك بَين غسلهمَا مَعًا مجموعتين أَو متفرقتين، وَالْفُقَهَاء اخْتلفُوا فِي ايهما افضل.

الثَّانِي: فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، وهما سنتَانِ فِي الْوضُوء، وَكَانَ عَطاء وَالزهْرِيّ وَابْن أبي ليلى وَحَمَّاد وَإِسْحَاق يَقُولُونَ: يُعِيد إِذا ترك الْمَضْمَضَة فِي الْوضُوء،.

     وَقَالَ  الْحسن وَعَطَاء فِي آخر قوليه وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَرَبِيعَة وَيحيى الانصاري وَمَالك والاوزاعي وَالشَّافِعِيّ: لَا يُعِيد.
.

     وَقَالَ  احْمَد: يُعِيد فِي الِاسْتِنْشَاق خَاصَّة وَلَا يُعِيد من ترك الْمَضْمَضَة، وَبِه قَالَ ابو عبيد وابو ثَوْر.
.

     وَقَالَ  ابو حنيفَة وَالثَّوْري: يُعِيد إِن تَركهَا فِي الْجَنَابَة وَلَا يُعِيد فِي الْوضُوء.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: وَبقول أَحْمد أَقُول.
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: هَذَا هُوَ الْحق لِأَن الْمَضْمَضَة لَيست فرضا، وَإِن تَركهَا فوضوءه تَامّ وَصلَاته تَامَّة، عمدا تَركهَا أَو نِسْيَانا، لانه لم يَصح فِيهَا عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر، إِنَّمَا هِيَ فعل فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأفعاله لَيست فرضا وَإِنَّمَا فِيهَا الائتساء بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قلت: وَفِيه نظر لِأَن الْأَمر بالمضمضة صَحِيح على شَرطه، أخرجه أَبُو دَاوُد بِسَنَد احْتج ابْن حزم بِرِجَالِهِ وبأصل الحَدِيث، وَلَفظ ابي دَاوُد من حَدِيث عَاصِم بن لَقِيط بن صبرَة عَن أَبِيه مَرْفُوعا: (اذا تَوَضَّأت فَمَضْمض) .
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ.

     وَقَالَ : حَدِيث حسن صَحِيح، وخرَّجه ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَابْن الْجَارُود فِي (الْمُنْتَقى) .
.

     وَقَالَ  الْبَغَوِيّ فِي (شرح السّنة) : صَحِيح، وَصحح أسناده الطَّبَرِيّ فِي كِتَابه (تَهْذِيب الْآثَار) والدولابى فِي جمعه، وَابْن الْقطَّان فِي آخَرين.
.

     وَقَالَ  الْحَاكِم: صَحِيح وَلم يخرجَاهُ وَهُوَ فِي جملَة مَا قُلْنَا إنَّهُمَا أعرضا عَن الصَّحَابِيّ الَّذِي لَا يرْوى عَنهُ غير الْوَاحِد، وَقد احتجا جَمِيعًا بِبَعْض هَذَا الحَدِيث وَله شَاهد من حَدِيث ابْن عَبَّاس.
انْتهى كَلَامه.
وَفِيه نظر، لِأَنَّهُمَا لم يشترطا مَا ذكره فِي كِتَابَيْهِمَا أَحَادِيث جمَاعَة بِهَذِهِ المثابة، مِنْهُم: الْمسيب بن حزم وَأَبُو قيس بن أبي حَازِم ومرادس وَرَبِيعَة بن كَعْب الْأَسْلَمِيّ.
وَلَئِن سلمنَا قَوْله، كَانَ لَقِيط هَذَا خَارِجا عَمَّا ذكره لرِوَايَة جمَاعَة عَنهُ مِنْهُم ابْن أَخِيه وَكِيع بن حدس وَعَمْرو بن أَوْس يرفعهُ.
وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فَذكره أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ من حَدِيث الرّبيع بن بدر عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَنهُ يرفعهُ: (مضمضوا واستنشقو) .
.

     وَقَالَ : حَدِيث غَرِيب من حَدِيث ابْن جريج، وَلَا أعلم رَوَاهُ عَنهُ غير الرّبيع.
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ: (أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَمر بالمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق) .
وَصحح أسناده، وَأخرج أَيْضا من حَدِيث ابْن جريج عَن سُلَيْمَان ابْن مُوسَى عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، ترفعه: (الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق من الْوضُوء الَّذِي لَا بُد مِنْهُ) .
.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: الصَّوَاب: ابْن جريج عَن سُلَيْمَان مُرْسلا، وَفِي لفظ عِنْده مَرْفُوعا: (من تَوَضَّأ فليمضمض) ، وَضَعفه.
والمضمضة مُقَدّمَة على الِاسْتِنْشَاق، قَالَ النَّوَوِيّ: وَهل هُوَ تَقْدِيم اسْتِحْبابُُ أَو اشْتِرَاط: وَجْهَان، وَفِي كيفيتهما خَمْسَة أوجه.
الأول: أَن يتمضمض ويستنشق بِثَلَاث غرفات، وَهَذَا فِي الصَّحِيح وَغَيره.
الثَّانِي: أَن يجمع بَينهمَا بغرفة وَاحِدَة يتمضمض مِنْهَا ثَلَاثًا ويستنشق مِنْهَا ثَلَاثًا، رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَالب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ عِنْد ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان، وَرَوَاهُ أَيْضا وَائِل ابْن حجر بِسَنَد فِيهِ ضعف، وَهُوَ عِنْد الْبَزَّار.
الثَّالِث: أَن يجمع بَينهمَا بغرفة، وَهُوَ أَن يتمضمض مِنْهَا ثمَّ يستنشق ثمَّ الثَّانِيَة كَذَلِك وَالثَّالِثَة، رَوَاهُ عبد الله بن زيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد التِّرْمِذِيّ،.

     وَقَالَ : حسن غَرِيب وخرَّجه أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس.

     وَقَالَ : وَهُوَ أحسن شَيْء فِي الْبابُُ وَأَصَح.
الرَّابِع: أَن يفصل بَينهمَا بغرفتين يتمضمض بِثَلَاث ويستنشق بِثَلَاث، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أَصْحَابنَا، رَحِمهم الله، وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا هناد وقتيبة قَالَا: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن ابي حَيَّة قَالَ: (رَأَيْت عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تَوَضَّأ فَغسل كفيه حَتَّى أنقاهما ثمَّ مضمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا ً وَغسل وَجهه ثَلَاثًا وذراعيه ثَلَاثًا وَمسح بِرَأْسِهِ مرّة ثمَّ غسل قدمية إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثمَّ قَامَ فَأخذ فضل طهوره فشربه وَهُوَ قَائِم، ثمَّ قَالَ: احببت أَن أريكم كَيفَ كَانَ طهُور رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
.

     وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
فان قلت: لم يحك فِيهِ أَن كل وَاحِدَة من المضامض والاستنشاقات بِمَاء وَاحِد، بل حكى أَنه تمضمض ثَلَاثًا.
قلت: مَدْلُوله ظَاهرا مَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ أَن يتمضمض ثَلَاثًا يَأْخُذ لكل مرّة مَاء جَدِيدا، ثمَّ يستنشق كَذَلِك، وَهُوَ رِوَايَة الْبُوَيْطِيّ عَن الشَّافِعِي فَإِنَّهُ روى عَنهُ أَنه يَأْخُذ ثَلَاث غرفات للمضمضة وَثَلَاث غرفات للاستنشاق، وَفِي رِوَايَة غَيره عَنهُ فِي (الْأُم) بفرق غرفَة يتمضمض مِنْهَا ويستنشق ثمَّ يغْرف غرفَة يتمضمض فِيهَا ويستنشق ثمَّ يغْرف ثَالِثَة ويستنشق فَيجمع فِي كل غرفتين بَين الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وَاخْتلف نَصه فِي الكيفيتين وَهُوَ نَص مُخْتَصر الْمُزنِيّ أَن الْجمع أفضل وَنَصّ السُّيُوطِيّ أَن الْفضل أفضل وَنَقله الترمذيعن الشَّافِعِي النَّوَوِيّ: قَالَ صَاحب (الْمُهَذّب) القَوْل بِالْجمعِ أَكثر فِي كَلَام الشَّافِعِي، وَهُوَ أَيْضا أَكثر فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة؛ وَوجه الْفَصْل بَينهمَا، كَمَا هُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة، مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن طَلْحَة بن مصرف عَن أَبِيه عَن جده كَعْب بن عَمْرو اليمامي: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَمَضْمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا فَأخذ لكل وَاحِدَة مَاء جَدِيدا) ، وَكَذَا روى عَنهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) وَسكت عَنهُ، وَهُوَ دَلِيل رِضَاهُ بِالصِّحَّةِ.
وَالْجَوَاب عَمَّا ورد فِي الحَدِيث: (فَتَمَضْمَض واستنشق من كف وَاحِد) أَنه مُحْتَمل لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه تمضمض واستنشق بكف وَاحِد بِمَاء وَاحِد، وَيحْتَمل أَنه فعل ذَلِك بكف وَاحِد بمياه، والمحتمل لَا يقوم بِهِ حجَّة أَو يرد هَذَا الْمُحْتَمل إِلَى الْمُحكم الَّذِي ذَكرْنَاهُ تَوْفِيقًا بَين الدليلينن.
وَقد يُقَال: إِن المُرَاد اسْتِعْمَال الْكَفّ الْوَاحِد بِدُونِ الِاسْتِعَانَة بالكفين كَمَا فِي الْوَجْه، وَقد يُقَال: إِنَّه فعلهمَا بِالْيَدِ الْيُمْنَى ردا على قَول من يَقُول: يسْتَعْمل فِي الِاسْتِنْشَاق الْيَد الْيُسْرَى، لِأَن الْأنف مَوضِع الْأَذَى كموضع الِاسْتِنْجَاء، كَذَا فِي (الْمَبْسُوط) وَفِيه نظر لَا يخفى، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: إِن كل مَا رُوِيَ عَن ذَلِك فِي هَذَا الْبابُُ هُوَ مَحْمُول على الْجَوَاز.

الْوَجْه الثَّالِث: فِي غسل الْوَجْه وَهُوَ فرض بِالنَّصِّ بِلَا خلاف، وَفِيه تثليث غسله وَالْإِجْمَاع قَائِم على سنيته.

الْوَجْه الرَّابِع: فِي غسل الْيَدَيْنِ الى الْمرْفقين وَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْوَجْه، وَقد بَينا حد الْمرْفق وَهُوَ أَنه موصل الذِّرَاع فِي الْعَضُد، وَلَكِن اخْتلف قَول الشَّافِعِي: هَل هُوَ اسْم لإبرة الذِّرَاع أَو لمجموع عظم رَأس الْعَضُد مَعَ الإبرة؟ على قَوْلَيْنِ، وَبنى على ذَلِك أَنه لَو سل الذِّرَاع من الْعَضُد هَل يجب غسل رَأس الْعَضُد أَو يسْتَحبّ؟ فِيهِ قَولَانِ أشهرهما وُجُوبه، وَاخْتلفُوا وَأَيْضًا فِي وجوب إِدْخَال الْمرْفقين فِي الْغسْل على قَوْلَيْنِ، فَذَهَبت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، كَمَا عزاهُ ابْن هُبَيْرَة إِلَيْهِم، وَالْجُمْهُور إِلَى الْوُجُوب، وَذهب زفر وَأَبُو بكر بن دَاوُد إِلَى عدم الْوُجُوب، وَرَوَاهُ أَشهب عَن مَالك، وزيفه القَاضِي عبد الْوَهَّاب، ومنشأ الْخلاف من كلمة: إِلَى، وَقد حققنا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى.

الْوَجْه الْخَامِس: فِي مسح الرَّأْس، وَالْكَلَام فِيهِ على انواع.
الأول: فِي أَن ظَاهر الحَدِيث يقتضى اسْتِيعَاب الرَّأْس بِالْمَسْحِ لِأَن اسْم الرَّأْس حَقِيقَة فِي الْعُضْو، لَكِن الِاسْتِيعَاب هَل هُوَ على سَبِيل الْوُجُوب اَوْ النّدب؟ فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء: فمذهب الشَّافِعِي أَن الْوَاجِب مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم وَلَو بعض شَعْرَة، ومشهور مَذْهَب مَالك وَأحمد أَن الْوَاجِب مسح الْجَمِيع، ومشهور مَذْهَب ابي حنيفَة أَن الْوَاجِب مسح ربع الرَّأْس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مَبْسُوطا فِي أول كتاب الْوضُوء.
النَّوْع الثَّانِي: أَن قَوْله: (ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ) يَقْتَضِي مرّة وَاحِدَة، كَذَا فهمه غير وَاحِد من الْعلمَاء، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة مَالك وَأحمد،.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: يسْتَحبّ التَّثْلِيث لغَيْرهَا من الْأَعْضَاء وَهُوَ مَشْهُور مذْهبه، وَقد وَردت أَحَادِيث صَحِيحَة بِالْمَسْحِ مرّة وَاحِدَة.
.

     وَقَالَ  أَبُو دَاوُد: أَحَادِيث عُثْمَان الصِّحَاح كلهَا تدل على مسح الرَّأْس أَنه مرّة، فَإِنَّهُم ذكرُوا الْوضُوء ثَلَاثًا، قَالُوا: وفيهَا مسح رَأسه، وَلم يذكرُوا عددا كَمَا ذكرُوا فِي غَيره.
.

     وَقَالَ  ابو عبيد الْقَاسِم بن سَلام: لَا نعلم أحدا من السّلف جَاءَ عَنهُ اسْتِعْمَال الثَّلَاث إلاَّ ابراهيم التَّيْمِيّ.
قلت: فِيهِ نظر، لِأَن ابْن أبي شيبَة حكى ذَلِك عَن أنس بن مَالك وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وزاذان وميسرة أَنهم كَانُوا إِذا توضؤا مسحوا رؤوسهم ثَلَاثًا، وَذكر ابْن السكن أَيْضا عَن مصرف بن عَمْرو.
ووردت أَحَادِيث كَثِيرَة بِالْمَسْحِ ثَلَاثًا، فَفِي (سنَن ابي دَاوُد) بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن وردان عَن حمْرَان، وَفِيه: (وَمسح رَأسه ثَلَاثًا) ، وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) مَا يدل على أَن سَائِر وضوئِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ ثَلَاثًا وَالرَّأْس دَاخِلَة فِيهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ بِسَنَد صَحِيح عَن مَحْمُود بن خَالِد: ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم عَن ثَوْبَان عَن عَبدة بن أبي لبابَُُة عَن شَقِيق بن سَلمَة قَالَ: (رَأَيْت عُثْمَان وعلياً، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يتوضآن ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ويقولان: هَكَذَا كَانَ وضوء رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) .
وَفِي (علل) التِّرْمِذِيّ: وَسَأَلَ البُخَارِيّ عَن حَدِيث سعيد بن الْحَارِث بن خَارِجَة بن زيد بن ثَابت عَن زيد: (أَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) ، ثمَّ رَفعه فَقَالَ: هُوَ حَدِيث حسن.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ هُوَ غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَفِي (مُسْند) أَحْمد بن منيع: (عَمَّن رأى عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، دَعَا بِوضُوء وَعند الزبير وَسعد بن ابي وَقاص فَتَوَضَّأ ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ: أنشدكما الله، أتعلمان أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ كَمَا تَوَضَّأت؟ قَالَا: نعم) .
وَفِي كتاب (الظُّهُور) لأبي عبيد بن سَلام: وَعِنْده طَلْحَة وَعلي وَالزُّبَيْر وَسعد، رَضِي الله عَنْهُم، فَذكره.
وَفِي (صَحِيح) ابْن حبَان وَغَيره من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا: (أَنه تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَرفع ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
وَفِي (سنَن ابي دَاوُد) من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ رَفعه: (وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) وَسَنَده صحيحح.
وَفِي (سنَن الدَّارَقُطْنِيّ) بِسَنَد فِيهِ الْبَيْلَمَانِي، عَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، وَوصف وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) .
وَفِي (مُسْند الْبَزَّار) بطرِيق صَحِيح عَن ابْن الْمثنى عَن حجاج بن منهال عَن همام عَن عَامر الْأَحول عَن عَطاء عَن ابي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) ، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ يرْوى عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، بِأَحْسَن من هَذَا الْإِسْنَاد، وَذكره الطَّبَرِيّ فِي التَّهْذِيب وَصحح إِسْنَاده، وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن عَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِي كتاب أبي عبيد عَن أبي الورقاء، وَهُوَ ثِقَة عِنْد ابْن الْمَدِينِيّ وَابْن شاهين، عَن عبد الله بن أبي أوفي: (أَنه تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) .
قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل هَكَذَا، وَفِي (سنَن ابْن مَاجَه) أَيْضا بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن ابي مَالك الْأَشْعَرِيّ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) ، وَعِنْده أَيْضا بِسَنَد لابأس بِهِ من حَدِيث الرّبيع بنت معوذ: (تَوَضَّأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِي (مُسْند ابْن السكن) من حَدِيث مصرف بن عَمْرو: (ثمَّ مسح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على رَأسه ثَلَاثًا، وَظَاهر أُذُنَيْهِ ولحيته ورقبته ثَلَاثًا) .
وَفِي كتاب (الدَّلَائِل) لِثَابِت بن الْقَاسِم السَّرقسْطِي بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ من حَدِيث أبي أُمَامَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني من حَدِيث أبي رَافع مَرْفُوعا: (مسح بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ وَغسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا) ،.

     وَقَالَ : لَا يرْوى عَن أبي رَافع إلاَّ بِهَذَا الْإِسْنَاد، تَفِر بِهِ الدَّرَاورْدِي عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو عَن عبد الله بن عبد الله بن أبي رَافع عَنهُ.
وَفِي كتاب (الْمُفْرد) لأبي دَاوُد من حَدِيث عَليّ بن ابي حَملَة عَن أَبِيه عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ، عبد الْملك: حَدثنِي أَبُو خَالِد عَن مُعَاوِيَة، رَضِي الله عَنهُ: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث أنس قَالَ: (وضأت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وخلل لحيته مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) .
.

     وَقَالَ : لم يروه عَن إِبْرَاهِيم بن أبي عبلة، يَعْنِي عَن أنس، إلاَّ قَتَادَة بن الْفضل الرهاوي، تفرد بِهِ الزبير بن مُحَمَّد.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن مُحَمَّد بن الوَاسِطِيّ عَن شُعَيْب بن أَيُّوب عَن أبي يحيى الْحمانِي عَن أبي حنيفَة عَن خَالِد بن عَلْقَمَة عَن عبد خير عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ: (أَنه تَوَضَّأ)
.
.
الحَدِيث، وَفِيه: (وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) ، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن عَلْقَمَة بن خَالِد، وَخَالفهُ جمَاعَة من الْحفاظ الثِّقَات، فَرَوَوْه عَن خَالِد بن عَلْقَمَة فَقَالُوا فِيهِ: وَمسح رَأسه مرّة وَاحِدَة، وَمَعَ خلَافَة إيَّاهُم قَالَ: إِن السّنة فِي الْوضُوء مسح الرَّأْس مرّة وَاحِدَة قلت: الزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة وَلَا سِيمَا من مثل أبي حنيفَة.
وَأما قَوْله: فقد خَالف فِي حكم الْمسْح، فَغير صَحِيح، لِأَن تكْرَار الْمسْح كسنون عِنْد أبي حنيفَة أَيْضا صرح بذلك صَاحب الْهِدَايَة وَلَكِن بهاء وَاحِدَة وَقد رودت الْأَحَادِيث أَيْضا فِي الْمسْح مرَّتَيْنِ: مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن الرّبيع: (تَوَضَّأ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمسح على رَأسه مرَّتَيْنِ) .
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: هُوَ حَدِيث حسن.
.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: وَبِه قَالَ ابْن سِيرِين.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن زيد: (وَمسح بِرَأْسِهِ مرَّتَيْنِ) وَسَنَده صَحِيح.
النَّوْع الثَّالِث فِي كَيْفيَّة الْمسْح.
رويت فِيهَا أَحَادِيث مُخْتَلفَة فَعِنْدَ النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن زيد: (ثمَّ مسح رَأسه بيدَيْهِ فَأقبل بهما وَأدبر، بَدَأَ بِمقدم رَأسه ثمَّ ذهب بهما إِلَى قَفاهُ، ثمَّ ردهما حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ) .
وَعند ابْن أبي شيبَة من حَدِيث الرّبيع: (بَدَأَ بمؤخره ثمَّ رديديه على ناصيته) ، وَعند الطَّبَرَانِيّ: (بَدَأَ بمؤخر رَأسه ثمَّ جَرّه إِلَى قَفاهُ ثمَّ جَرّه إِلَى مؤخره) ، وَعند ابي دَاوُد: (يبْدَأ بمؤخرة ثمَّ بمقدمه وبأذنيه كليهمَا) : وَفِي لفظ: (وَمسح الرَّأْس كُله من قرن الشّعْر كل نَاحيَة لمنصب الشّعْر لَا يُحَرك الشّعْر عَن هَيئته) ، وَفِي لفظ: (مسح رَأسه وَمَا أقبل وَمَا أدبر وصدغيه) ، وَعند الْبَزَّار من حَدِيث بكار بن عبد الْعَزِيز عَن أَبِيه عَن ابي بكرَة يرفعهُ: (تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِيه: (مسح بِرَأْسِهِ يَقُول بِيَدِهِ من مقدمه إِلَى مؤخره وَمن مؤخره إِلَى مقدمه) ، وبكار لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَعند ابْن قَانِع من حَدِيث ابي هُرَيْرَة: (وضع يَدَيْهِ على النّصْف من رَأسه ثمَّ جرهما إِلَى مقدم رَأسه ثمَّ أعادهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ وجرهما إِلَى صدغيه) ، وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث أنس: (أَدخل يَده من تَحت الْعِمَامَة فَمسح مقدم رَأسه) ، وَفِي كتاب ابْن السكن: (فَمسح بَاطِن لحيته وَقَفاهُ) ، وَفِي (مُعْجم) الْبَغَوِيّ، وَكتاب ابْن أبي خَيْثَمَة: (مسح رَأسه إِلَى سالفته) ، (وَفِي كتاب النَّسَائِيّ عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وصفت وضوءه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوضعت يَدهَا فِي مقدم رَأسهَا ثمَّ مسحت إِلَى مؤخره، ثمَّ مدت بِيَدَيْهَا بأذنيها ثمَّ مدت على الْخَدين، وَعند ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح أَن ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، كَانَ يمسح رَأسه هَكَذَا، وَوضع أَيُّوب كَفه وسط رَأسه ثمَّ أمرَّها إِلَى مقدم رَأسه، وَفِي (الْمحلى) صَحِيحا عَن ابْن عمر: (كَانَ يمسح اليافوخ فَقَط) .
وَفِي (المُصَنّف) أَن ابراهيم كَانَ يمسح على يَافُوخه.
وروى أَيْضا فِي الْمسْح مَا هُوَ كالغسل، فَفِي (سنَن أبي دَاوُد) من حَدِيث أبي إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن يزِيد بن ركَانَة عَن عبيد الله الْخَولَانِيّ عَن ابْن عَبَّاس وصف وضوء عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: (وَأخذ بكفه الْيُمْنَى قَبْضَة من مَاء فصبها على ناصيته فَتَركهَا تسيل على وَجهه) ، وَفِيه أَيْضا من حَدِيث مُعَاوِيَة مَرْفُوعا: (فَلَمَّا بلغ رَأسه غرف غرفَة من مَاء فتلقاها بِشمَالِهِ حَتَّى وَضعهَا على وسط رَأسه حَتَّى قطر المَاء أَو كَاد يقطر) ، وَفِيه أَيْضا من حَدِيث ذَر بن حُبَيْش أَنه سمع عليا، رَضِي الله عَنهُ، وَسُئِلَ عَن وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر الحَدِيث، قَالَ: (وَمسح على رَأسه حَتَّى المَاء يقطر) ،.

     وَقَالَ  ابْن الْحصار فِي هَذَا غسل الرَّأْس بدل مَسحه، وَيرد بِهَذَا على من قَالَ: لَو كرر الْمسْح لصار غسلا، فَخرج عَن وَظِيفَة الرَّأْس.

الْوَجْه السَّادِس: فِي غسل الرجلَيْن، وَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْيَدَيْنِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مَبْسُوطا فِي أَوَائِل كتاب الْوضُوء.

الحكم الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي إحصار المَاء، وَهُوَ إِجْمَاع من غير كَرَاهَة.

الحكم الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبابُُ الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْوضُوء، وَيفْعل كل وَقت إلاَّ فِي الْأَوْقَات المنهية،.

     وَقَالَ ت ... .


يفعل كل وَقت حَتَّى وَقت النَّهْي،.

     وَقَالَ ت الْمَالِكِيَّة: لَيست هَذِه من السّنَن،.

     وَقَالَ ت الشَّافِعِيَّة: هَل تحصل هَذِه الْفَضِيلَة بِرَكْعَة الظَّاهِر الْمَنْع، وَفِي جَرَيَان الْخلاف فِيهِ، وَفِي التَّحِيَّة ونظائره نظر.

الحكم الرَّابِع: الثَّوَاب الْمَوْعُود بِهِ مُرَتّب على أَمريْن: الأول: وضوؤه على النَّحْو الْمَذْكُور.
الثَّانِي: صلَاته رَكْعَتَيْنِ عَقِيبه بِالْوضُوءِ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، والمرتب على مَجْمُوع أَمريْن لَا يلْزم ترتبه على أَحدهمَا إلاَّ بِدَلِيل خَارج، وَقد يكون للشَّيْء فَضِيلَة بِوُجُود أحد جزئيه، فَيصح كَلَام من أَدخل هَذَا الحَدِيث فِي فضل الْوضُوء فَقَط لحُصُول مُطلق الثَّوَاب، لَا الثَّوَاب الْمَخْصُوص الْمُتَرَتب على مَجْمُوع الْوضُوء على النَّحْو الْمَذْكُور، وَالصَّلَاة الموصوفة بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور.

الْخَامِس: فِيهِ إِثْبَات حَدِيث النَّفس وَهُوَ مَذْهَب اهل الْحق.

السَّادِس: فِيهِ التَّرْتِيب بَين الْمسنون والمفروض وهما: الْمَضْمَضَة وَغسل الْوَجْه، وَبَعْضهمْ رأى التَّرْتِيب فِي الْمَفْرُوض دون الْمسنون، وَهُوَ مَذْهَب مَالك.
وَاخْتلف أَصْحَابه فِي التَّرْتِيب فِي الْوضُوء على ثَلَاثَة أَقْوَال: الْوُجُوب وَالنَّدْب وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْدهم الِاسْتِحْبابُُ، وَمذهب الشَّافِعِيَّة وُجُوبه، وَخَالفهُم الْمُزنِيّ فَقَالَ: لَا يجب.
وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر والبندنيجي، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيّ عَن أَكثر الْمَشَايِخ، وَحَكَاهُ قولا قَدِيما وَعَزاهُ إِلَى صَاحب (التَّقْرِيب).

     وَقَالَ  إِمَام الْحَرَمَيْنِ: لم ينْقل أحد قطّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نكس وضوءه، فاطرد الْكتاب وَالسّنة على وجوب التَّرْتِيب، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من ذَلِك الْوُجُوب.





[ قــ :157 ... غــ :160 ]
- وَعَنْ إبْراهِيمَ قَالَ قَالَ صالِحُ بنُ كَيْسَان قالَ ابنُ شِهابٍ وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عنْ حُمْرَانَ فَلَمَّا تَوضَّأَ عُثْمانُ قَالَ ألاَ أحَدِّثُكُمْ حَدِيثاً لوْلاَ آيَةٌ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ سَمِعْتُ النَّبيَّ صلي الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ يَتَوضَّأُ رَجُلٌ يُحْسِنُ وُضُوءَهُ ويُصَلِّى الصَّلاَةَ إلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وبَيْنَ الصَّلاَةِ حَتَّى يُصَلِّيهَا قالَ عُرْوَةُ الآْيَةُ إنّ الذيِنَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ.


قَالَت جمَاعَة من الشُّرَّاح هَذَا من تعليقات البُخَارِيّ عَن إِبْرَاهِيم بِصِيغَة التمريض،.

     وَقَالَ  ابو نعيم الْحَافِظ: لم يذكر البُخَارِيّ شَيْخه فِيهِ، وَلَا أَدْرِي هُوَ معقب بِحَدِيث إِبْرَاهِيم بن سعيد عَن الزُّهْرِيّ نَفسه أَو أخرجه عَن إِبْرَاهِيم بِلَا سَماع.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَزَعَمُوا أَنه مُعَلّق وَلَيْسَ كَذَلِك، فقد أخرجه مُسلم والإسماعيلي من طَرِيق يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بالإسنادين مَعًا وَإِذا كَانَا جَمِيعًا عِنْد يَعْقُوب فَلَا مَانع أَن يَكُونَا عِنْد الأويسي، ثمَّ وجدت الحَدِيث الثَّانِي عِنْد أبي عوَانَة فِي صَحِيحه من حَدِيث الأويسي الْمَذْكُور فصح مَا قلته.
قلت: لَا يلْزم من إِخْرَاج مُسلم والإسماعيلي من طَرِيق يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه ابراهيم بن سعد مَوْصُولا أَن يكون كَذَلِك عِنْد البُخَارِيّ، غَايَة مَا فِي الْبابُُ أَنه يحْتَمل أَن يكون معقبا، بِحَدِيث إِبْرَاهِيم الأول فَيكون مَوْصُولا، وبمجرد الِاحْتِمَال لَا يتَعَيَّن نفي كَونه مُعَلّقا، وَالْحَال أَن صورته صُورَة التَّعْلِيق، وَإِلَيْهِ أقرب، وَكَذَا لَا يلْزم من كَونه عِنْد أبي عوَانَة من حَدِيث الأويسي أَن يكون مَوْصُولا عِنْد البُخَارِيّ لاحْتِمَال عدم السماع مِنْهُ فِي هَذَا على مَا لَا يخفى.
وَأما مُسلم فقد قَالَ: حَدثنَا زُهَيْر حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا ابي عَن صَالح بِهِ؛ وَأما الْإِسْمَاعِيلِيّ فَأخْرجهُ عَن ابْن نَاجِية حَدثنَا فُضَيْل بن سهل وَعبيد الله بن سعد قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم فَذكره، وَزعم الدَّارَقُطْنِيّ أَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، رَوَاهُ عَنهُ أَيْضا عَمْرو بن سعيد بن العَاصِي وَابْن أبي مليكَة وابو عَلْقَمَة وَأَبُو أنس وشقيق وَسَلَمَة، وَرَوَاهُ مَالك وَاللَّيْث عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن حمْرَان، وَرَوَاهُ حُسَيْن بن مُحَمَّد الْمروزِي عَن شُعْبَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عُثْمَان، وَرَوَاهُ حَمْزَة بن زِيَاد عَن شُعْبَة عَن أبان أَبِيه عَن أَبِيه.

بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة.
الأول: إِبْرَاهِيم بن سعد الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق.
الثَّانِي: صَالح بن كيسَان، بِفَتْح الْكَاف، مر ذكره فِي آخر قصَّة هِرقل.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، تقدم فِي أول كتاب الْوَحْي.
الْخَامِس: حمْرَان بن أبان.

بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ العنعنة وَلَيْسَ فِيهِ صِيغَة التحديث وَلَا الْإِخْبَار، وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِخْبَار بِلَفْظ قَالَ.
وَمِنْهَا: أَن هَؤُلَاءِ كلهم مدنيون.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ أَرْبَعَة تابعيين وهم: صَالح وَابْن شهَاب وَعُرْوَة وحمران.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر، فَإِن صَالحا أكبر سنا من الزُّهْرِيّ.
وَمِنْهَا: أَن إِبْرَاهِيم هَهُنَا يروي عَن ابْن شهَاب بالواسطة، وَهُوَ صَالح.
وروى عَنهُ فِي أول الْبابُُ بِلَا وَاسِطَة.
قَوْله: ( وَلَكِن عُرْوَة يحدث) ، اسْتِدْرَاك من ابْن شهَاب، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن شَيْخي ابْن شهَاب فِي هَذَا الحَدِيث وهما: عَطاء بن يزِيد وَعُرْوَة بن الزبير اخْتلفَا فِي روايتهما عَن حمْرَان عَن عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله عَنهُ، فَحدث بِهِ عَطاء على وَجه، وَعُرْوَة على وَجه، وَلَيْسَ ذَلِك باخْتلَاف لِأَنَّهُمَا حديثان متغايران، وَقد رَوَاهُمَا مَعًا عَن حمْرَان معَاذ بن عبد الرَّحْمَن، فَأخْرج البُخَارِيّ من طَرِيقه نَحْو سِيَاق عَطاء، وَمُسلم من طَرِيقه نَحْو سِيَاق عُرْوَة، وَأخرجه أَيْضا من طَرِيق هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه.

بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني قَوْله: ( عَن حمْرَان فَلَمَّا تَوَضَّأ) ، وَفِي بعض النّسخ: ( عَن حمْرَان، قَالَ: فَلَمَّا تَوَضَّأ) .
وَقَوله: ( فَلَمَّا تَوَضَّأ) عطف على مَحْذُوف تَقْدِيره عَن حمْرَان أَنه رأى عُثْمَان دَعَا بِإِنَاء فأفرغ على كفيه إِلَى أَن قَالَ: ثمَّ غسل رجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فَلَمَّا تَوَضَّأ قَالَ: إِلَى آخِره.
قَوْله: ( لأحدثنكم) جَوَاب قسم مَحْذُوف.
قَوْله: ( حَدِيثا) نصب على أَنه مفعول ثَان لقَوْله ( لأحدثنكم) .
قَوْله: ( لَوْلَا) لربط امْتنَاع الثَّانِيَة لوُجُود الأولى، نَحْو: لَوْلَا زيد لأكرمتك، اي: لَوْلَا زيد مَوْجُود لأكرمتك.
قَوْله: ( آيَة) مبتدا وَخَبره مَحْذُوف، وحذفه هَهُنَا وَاجِب كَمَا علم فِي مَوْضِعه، وَالتَّقْدِير: لَوْلَا آيَة ثَابِتَة فِي الْقُرْآن.
وَفِي رِوَايَة مُسلم: ( لَوْلَا آيَة فِي كتاب الله تَعَالَى) ،.

     وَقَالَ  عِيَاض: لَوْلَا آيَة، هَكَذَا هُوَ بِالْمدِّ وبالياء الْمُثَنَّاة من تَحت، وَرَوَاهُ الْبَاجِيّ: لَوْلَا أَنه، بالنُّون يَعْنِي: لَوْلَا أَن معنى مَا أحدثكُم بِهِ فِي كتاب الله تَعَالَى مَا حدثتكم.
وَفِي ( الْمطَالع) قَول عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَوْلَا أَنه فِي كتاب الله تَعَالَى، بِالنورِ فِي رِوَايَة يحيى، وَجَمَاعَة مَعَه ذكره ابْن ماهان فِي مُسلم، وَعند ابْن مُصعب وَابْن وهب وَآخَرين من رُوَاة الْمُوَطَّأ: ( لَوْلَا آيَة) ، وَهِي رِوَايَة الجلودي فِي مُسلم.
قَالَ مَالك الْآيَة: { إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} ( هود: 114) .

     وَقَالَ  عُرْوَة فِي كتاب مُسلم: { إِن الَّذين يكتمون} ( الْبَقَرَة: 159 و 174) الْآيَة، وَالصَّوَاب قَول عُرْوَة: يَعْنِي، لِئَلَّا يتكل النَّاس، فَكَأَن النَّهْي عَن الكتمان أوجب عَلَيْهِ التحديث بِهِ مَخَافَة الكتمان.
قَوْله: ( مَا حَدَّثتكُمُوهُ) جَوَاب: ( لَوْلَا) ، وَاللَّام محذوفة مِنْهُ، وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا أَن الله تَعَالَى أوجب على من علم علما إبلاغه لما كنت حَرِيصًا على تحديثكم، وَلما كنت متكثراً بتحديثكم قَوْله : ( يَقُول) ، جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال.
قَوْله: ( فَيحسن) من الْإِحْسَان، وَمعنى: إِحْسَان الْوضُوء الْإِتْيَان بِهِ تَاما بِصفتِهِ وآدابه وتكميل سنَنه، وَهُوَ بِالرَّفْع عطف على قَوْله: ( لَا يتَوَضَّأ) وَكلمَة: الْفَاء، هَهُنَا بِمَعْنى: ثمَّ، لِأَن إِحْسَان الْوضُوء لَيْسَ مُتَأَخِّرًا عَن الْوضُوء حَتَّى يعْطف عَلَيْهِ بِالْفَاءِ التعقيبية، وَإِنَّمَا موقعها موقع ثمَّ، الَّتِي لبَيَان الْمرتبَة، وشرفها دلَالَة على أَن الْإِحْسَان فِي الْوضُوء والإجادة من مُحَافظَة السّنَن ومراعاة الأداب، أفضل وأكمل من أَدَاء مَا وَجب مُطلقًا، وَلَا شكّ أَن الْوضُوء المحسن فِيهِ أَعلَى رُتْبَة من الْغَيْر المحسن فِيهِ.
قَوْله: ( وَيُصلي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة) وَفِي رِوَايَة لمُسلم: ( فَيصَلي هَذِه الصَّلَوَات الْخمس) .
قَوْله: ( إلاَّ غفر لَهُ) التَّقْدِير: لَا يتَوَضَّأ رجل إلاَّ رجل غفر لَهُ، فالمستثنى مَحْذُوف لِأَن الْفِعْل لَا يَقع مُسْتَثْنى، أَو التَّقْدِير: لَا يتَوَضَّأ رجل فِي حَال إلاَّ فِي حَال الْمَغْفِرَة، فَيكون الِاسْتِثْنَاء من أَعم عَام الْأَحْوَال.
قَوْله: ( وَبَين الصَّلَاة) أَي: الَّتِي يَليهَا، كَمَا صرح بِهِ مُسلم فِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة قَوْله: ( حَتَّى يُصليهَا) ، مَعْنَاهُ: حَتَّى يفرغ مِنْهَا.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَي يشرع فِي الصَّلَاة الثَّانِيَة.
قلت: هَذَا معنى فَاسد، لِأَن قَوْله: ( مَا بَينه وَبَين الصَّلَاة) يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ بَين الشُّرُوع فِي الصَّلَاة وَبَين الْفَرَاغ عَنْهَا وَلما كَانَ المُرَاد الْفَرَاغ عَنْهَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله ( وَحَتَّى يُصليهَا) وَلِهَذَا لم يكتف بقوله ( بَين الصَّلَاة) لِأَنَّهُ لَا يُغني عَن ذكر حَتَّى يُصليهَا، لما ذكرنَا.
فَإِن قلت: لَفْظَة: حَتَّى، غَايَة لماذا؟ قلت: لحصل الْمُقدر الْعَامِل فِي الظّرْف إِذْ الغفران لَا غَايَة لَهُ.
قَوْله: ( قَالَ عُرْوَة الْآيَة) أَرَادَ أَن الْآيَة فِي سُورَة الْبَقَرَة إِلَى قَوْله: { اللاعنون} ( الْبَقَرَة: 159) كَمَا صرح بِهِ مُسلم، وَقد روى عَن مَالك هَذَا الحَدِيث فِي ( الْمُوَطَّأ) عَن هِشَام بن عُرْوَة، وَلم يَقع فِي رِوَايَته تعْيين الْآيَة، فَقَالَ من قبل نَفسه أرَاهُ يُرِيد { أقِم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} ( هود: 114) .

بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ أَن الْفَرْض على الْعَالم تَبْلِيغ مَا عِنْده من الْعلم، لِأَن الله تَعَالَى قد توعد الَّذين يكتمون مَا أنزل الله باللعنة، وَالْآيَة، وَإِن كَانَت نزلت فِي أهل الْكتاب، وَلَكِن الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص السَّبَب، فَدخل فِيهَا كل من علم علما تعبد الله الْعباد بمعرفته لزمَه من عدم تبليغه مَا لزم أهل الْكتاب مِنْهُ.
الثَّانِي: فِيهِ أَن الْإِخْلَاص لله تَعَالَى فِي الْعِبَادَة وَترك الشّغل بِأَسْبابُُ الدُّنْيَا يُوجب من الله عَلَيْهِ الغفران ويتقبلها من عَبده.
الثَّالِث: فِيهِ أَن ظَاهر الحَدِيث على أَن الْمَغْفِرَة الْمَذْكُورَة لَا تحصل إلاَّ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور وإحسانه وَالصَّلَاة فِي ( الصَّحِيح) من حَدِيث ابي هُرَيْرَة: ( إِذا تَوَضَّأ العَبْد الْمُسلم خرجت خطاياه) ، فَفِيهِ أَن الْخَطَايَا تخرج من أول الْوضُوء حَتَّى يفرغ من الْوضُوء نقياً من الذُّنُوب، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الصَّلَاة، فَيحْتَمل أَن يحمل حَدِيث ابي هُرَيْرَة عَلَيْهَا، لَكِن يبعده أَن فِي رِوَايَة لمُسلم من حَدِيث عُثْمَان: ( وَكَانَت صلَاته ومشيه إِلَى الْمَسْجِد نَافِلَة) ، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك باخْتلَاف الْأَشْخَاص، فشخص يحصل لَهُ ذَلِك عِنْد الْوضُوء، وَآخر عِنْد تَمام الصَّلَاة.
الرَّابِع: أَن المُرَاد بِهَذَا وَأَمْثَاله غفران الصَّغَائِر، كَمَا مر فِيمَا مضى وَجَاء فِي ( صَحِيح) مُسلم: ( مَا من امرىء مُسلم تحضره صَلَاة مَكْتُوبَة فَيحسن وضوءها وخضوعها وخشوعها وركوعها، إلاَّ كَانَت كَفَّارَة لما قبلهَا من الذُّنُوب مَا لم يُؤْت كَبِيرَة) .
وَفِي الحَدِيث الآخر ( والصلوات الْخمس وَالْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة ورمضان إِلَى رَمَضَان مكفرات لما بَينهُنَّ إِذْ اجْتنبت الْكَبَائِر) لَا يُقَال إِذا كفر الْوضُوء فَمَاذَا تكفر الصَّلَاة، وَإِذا كفرت الصَّلَاة فَمَاذَا تكفر الْجُمُعَات ورمضان؟ وَكَذَا صِيَام عَرَفَة يكفر سنتَيْن، وَيَوْم عَاشُورَاء كَفَّارَة سنة، وَإِذا وَافق تأمينة تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه، لِأَن المُرَاد: أَن كل وَاحِد من هَذِه الْمَذْكُورَات صَالح للتكفير، فَإِن وجد مَا يكفره من الصَّغَائِر كفره، وَإِن لم يُصَادف صَغِيرَة كتبت لَهُ حَسَنَات وَرفعت لَهُ دَرَجَات، وَإِن صَادف كَبِيرَة أَو كَبَائِر وَلم يُصَادف صَغِيرَة رجى أَن يُخَفف مِنْهَا.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: رجونا أَن يُخَفف من الْكَبَائِر.
وَالله تَعَالَى أعلم.