فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب


[ قــ :185 ... غــ :189 ]
- حدّثنا عَليُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْراهِيمَ بنِ سَعْدٍ قالَ حدّثنا أبي عنْ صالِحٍ عَن ابنِ شِهابٍ قَالَ أخْبرَني مَحْمُودُ بنُ الرَّبِيعِ قالَ وَهْوَ الَّذِي مَجَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَجْهِهِ وهْوَ غُلاَمٌ منْ بِئْرِهِمْ..
هَذَا الحَدِيث لَا يُطَابق التَّرْجَمَة أصلا، وَإِنَّمَا يدل على ممازحة الطِّفْل بِمَا قد يصعب عَلَيْهِ، لِأَن مج المَاء قد يصعب عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ قد يستلذه.

وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْعلم فِي بابُُ: مَتى يَصح سَماع الصَّغِير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى من جمع الْوُجُوه.

وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، أحد الْأَعْلَام، وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
وَالربيع بِفَتْح الرَّاء.

قَوْله: ( من بئرهم) ، يتَعَلَّق بقوله: ( مج) .
وَقَوله: ( وَهُوَ غُلَام) جملَة إسمية وَقعت حَالا.
وَقَوله: ( وَهُوَ الَّذِي مج) إِلَى لفظ: ( بئرهم) ، كَلَام لِابْنِ شهَاب ذكره تعريفاً أَو تَشْرِيفًا، وَالضَّمِير فِي بئرهم: لمحمود وَقَومه بِدلَالَة الْقَرِينَة عَلَيْهِ، وَالَّذِي اخبر بِهِ مَحْمُود هُوَ قَوْله: عقلت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مجة مجها فِي وَجْهي وَأَنا ابْن خمس سِنِين من دلو.

وقالَ عُرْوَةُ عَنِ المِسْوَرِ وَغَيْرِهِ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ منْهُما صاحِبَهُ وَإِذا وَضَّأَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كادُوا يَقْتَتِلُونَ علَى وَضُوئِهِ

عُرْوَة: هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام تقدم.
الْمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء: الزُّهْرِيّ ابْن بنت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين، وَصَحَّ سَمَاعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رُوِيَ لَهُ اثْنَان وَعِشْرُونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا سِتَّة، فَأَصَابَهُ حجر من أَحْجَار المنجنيق وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْحجر، فَمَكثَ خَمْسَة أَيَّام ثمَّ مَاتَ زمن محاصرة الْحجَّاج مَكَّة سنة أَربع وَسِتِّينَ.
وَالْألف وَاللَّام فِيهِ كالألف وَاللَّام فِي: الْحَارِث، يجوز إِثْبَاتهَا وَيجوز نَزعهَا وَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ علم.

قَوْله: ( يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه) أَي: يصد كل من الْمسور ومروان صَاحبه، لِأَن المُرَاد من قَوْله: وَغَيره، وَهُوَ مَرْوَان على مَا يَأْتِي.
وَقد خبط الْكرْمَانِي هُنَا خباطاً فَاحِشا، وسأبنيه عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: ( وَغَيره) يُرِيد بِهِ مَرْوَان بن الحكم، لِأَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا التَّعْلِيق فِي كتاب الشُّرُوط فِي بابُُ الشُّرُوط فِي الْجِهَاد مَوْصُولا، فَقَالَ: حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر قَالَ: اخبرني الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَة ابْن الزبير عَن الْمسور ابْن مخرمَة ومروان، يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا حَدِيث صَاحبه، قَالَا: ( خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زمن الْحُدَيْبِيَة) الحَدِيث وَهُوَ طَوِيل جدا إِلَى أَن قَالَ: ( ثمَّ إِن عُرْوَة جعل يرمق أَصْحَاب النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِعَيْنيهِ.
قَالَ: فوَاللَّه مَا تنخم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نخامة إلاَّ وَقعت فِي كف رجل مِنْهُم، فدلك بهَا وَجهه وَجلده، وَإِذا أَمرهم ابتدروا أمره، وَإِذا تَوَضَّأ كَانُوا يقتتلون على وضوئِهِ، وَإِذا تكلم خفضوا أَصْوَاتهم عِنْده، وَمَا يحدون إِلَيْهِ النّظر تَعْظِيمًا لَهُ)
إِلَى آخر الحَدِيث.
وَالْمرَاد من قَوْله: ثمَّ إِن عُرْوَة، وَهُوَ عُرْوَة بن مَسْعُود أرْسلهُ كفار مَكَّة إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، زمن الْحُدَيْبِيَة.
قَوْله: ( واذا تَوَضَّأ) الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والحاكي هُوَ عُرْوَة بن مَسْعُود لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَاهد من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بَين يَدي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَهُوَ أَيْضا أخبر بذلك لأهل مَكَّة، كَمَا ستقف على الحَدِيث بِطُولِهِ.
قَوْله: ( كَانُوا يقتتلون) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي، رِوَايَة البَاقِينَ: ( كَادُوا يقتتلون) .
قَالَ بَعضهم: هُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ لم يَقع بَينهم قتال.
قلت: كِلَاهُمَا سَوَاء، وَالْمرَاد بِهِ الْمُبَالغَة فِي ازدحامهم على نخامة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى وضوئِهِ.
وَأما الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ قَالَ: أَولا: فَإِن قلت: هُوَ رِوَايَة عَن الْمَجْهُول وَلَا اعْتِبَار بِهِ.
قلت: الْغَالِب أَن عُرْوَة لَا يرْوى إلاَّ عَن الْعدْل، فَحكمه حكم الْمَعْلُوم.
وَأَيْضًا هُوَ مَذْكُور على سَبِيل التّبعِيَّة، وَيحْتَمل فِي التَّابِع مَا لَا يحْتَمل فِي غَيره.
أَقُول هَذَا السُّؤَال، غير وَارِد أصلا، لِأَن هَذَا التَّعْلِيق، وَهُوَ قَوْله:.

     وَقَالَ  عُرْوَة ... قد أخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا، وَبَين فِيهِ أَن المُرَاد من قَوْله: وَغَيره هُوَ مَرْوَان، كَمَا ذَكرْنَاهُ، فَإِذا سقط السُّؤَال فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: ثَانِيًا: فَإِن قلت: هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ أم لَا؟ قلت: هُوَ عطف على مقول ابْن شهَاب اي: قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي مَحْمُود.

     وَقَالَ  عُرْوَة، أَقُول: نعم، هَذَا تَعْلِيق وَصله فِي كِتَابه كَمَا ذكرنَا وَلَيْسَ هُوَ عطفا على مقول ابْن شهَاب.
.

     وَقَالَ  ثَالِثا: قَوْله مِنْهُمَا أَي: من مَحْمُود والمسور، أَي: مَحْمُود يصدق مسوراً، ومسور يصدق مَحْمُودًا.
أَقُول: لَيْسَ كَذَلِك، بل الْمَعْنى أَن الْمسور يصدق مَرْوَان بن الحكم، ومروان يصدق مسوراً.
.

     وَقَالَ  رَابِعا: وَلَفظ يصدق، هُوَ كَلَام ابْن شهَاب أَيْضا، ومقول كل وَاحِد مِنْهُمَا هُوَ لفظ: وَإِذا تَوَضَّأ.
أَقُول: لفظ: وَإِذا تَوَضَّأ، لَيْسَ مقول كل وَاحِد مِنْهُمَا، بل مقول عُرْوَة بن مَسْعُود، لِأَنَّهُ هُوَ الْقَائِل بذلك والحاكي بِهِ عِنْد مُشْركي مَكَّة، وَذكر أَبُو الْفضل بن طَاهِر أَن هَذَا الحَدِيث مَعْلُول، وَذَلِكَ أَن الْمسور ومروان لم يدركا هَذِه الْقِصَّة الَّتِي كَانَت بِالْحُدَيْبِية سنة سِتّ لِأَن مولدهما كَانَ بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ، وعَلى ذَلِك اتّفق المؤرخون.
وَأما مَا فِي ( صَحِيح مُسلم) عَن الْمسور قَالَ: ( سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب النَّاس على هَذَا الْمِنْبَر وَأَنا يَوْمئِذٍ محتلم) ، فَيحْتَاج إِلَى تَأْوِيل لغَوِيّ أَنه كَانَ يعقل لَا الِاحْتِلَام الشَّرْعِيّ، أَو أَنه كَانَ سميناً غير مهزول فِيمَا ذكره الْقُرْطُبِيّ.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْأَفْعَال) : حلم حلماً إِذا عقل.
.

     وَقَالَ  غَيره: تحلم الْغُلَام صَار سميناً، وَهُوَ مَعْدُود فِي صغَار الصَّحَابَة، مَاتَ سنة أَربع وَسِتِّينَ.





[ قــ :186 ... غــ :190 ]
- حدّثنا عَبْد الرَّحْمنِ بنُ يُونُسَ قالَ حدّثنا حاتِمُ بنُ إسْماعِيلَ عَنِ الجَعْدِ قالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بن يَزِيدَ يَقُولُ ذَهَبَتْ بِي خالَتِي إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَتْ يَا رسولَ اللَّهِ إنَّ ابنَ اُخْتِي وَجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعا لي بالْبَرَكَةِ ثُمَّ تَوَضَأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلفَ ظَهْرِهِ فَنظَرْتُ إِلَى خاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة إِن كَانَ المُرَاد من قَوْله: ( فَشَرِبت من وضوئِهِ) المَاء الَّذِي يتقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة، وَإِن كَانَ المُرَاد: من فضل وضوئِهِ، فَلَا مُطَابقَة.
وَوَقع للمستملي على رَأس هَذَا الحَدِيث لَفظه: بابُُ، بِلَا تَرْجَمَة.
وَعند الْأَكْثَرين وَقع بِلَا فصل بَينه وَبَين الَّذِي قبله.

بَيَان رِجَاله وهم اربعة.
الأول: عبد الرَّحْمَن بن يُونُس أَبُو مُسلم الْبَغْدَادِيّ الْمُسْتَمْلِي اُحْدُ الْحفاظ، استملى لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَغَيره، مَاتَ فَجْأَة سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: حَاتِم بن إِسْمَاعِيل الْكُوفِي، نزل الْمَدِينَة وَمَات بهَا سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، فِي خلَافَة هَارُون.
الثَّالِث: الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة ابْن عبد الرَّحْمَن بن أَوْس الْمدنِي الْكِنْدِيّ، وَالْمَشْهُور أَنه يُقَال لَهُ: الجعيد، بِالتَّصْغِيرِ.
الرَّابِع: السَّائِب اسْم فَاعل من السَّبَب، بِالْمُهْمَلَةِ وبالياء آخر الْحُرُوف بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة الْكِنْدِيّ.
قَالَ: حج بِي أبي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة الْوَدَاع وَأَنا ابْن سبع سِنِين، رُوِيَ لَهُ خَمْسَة أَحَادِيث، وَالْبُخَارِيّ أخرجهَا كلهَا، توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَتِسْعين.

بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة وَالسَّمَاع.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وكوفي ومدني.
وَمِنْهَا: أَن الرِّوَايَة فِيهِ من صغَار الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مُحَمَّد بن عبيد الله، وَفِي الطِّبّ عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة، وَفِي الدَّعْوَات عَن قُتَيْبَة وهناد عَن عبد الرَّحْمَن، أربعتهم عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل وَفِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن الْفضل بن مُوسَى.
وَأخرجه مُسلم فِي صفة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن عباد، كِلَاهُمَا عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن قُتَيْبَة بِهِ.

     وَقَالَ  حسن غَرِيب من هَذَا الْوَجْه وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن قُتَيْبَة بِهِ.

بَيَان اللُّغَات قَوْله: ( ذهبت بِهِ) ، وَالْفرق بَينه وَبَين: أذهبه أزاله وَجعله ذَاهِبًا.
وَمعنى ذهب بِهِ: استصحبه وَمضى بِهِ مَعَه.
قَوْله: ( وَقع) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْقَاف وبالتنوين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَأبي ذَر الْهَرَوِيّ وَقع بِفَتْح الْقَاف على لفظ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: ( وجع) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْجِيم، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَمعنى: وَقع، بِكَسْر الْقَاف: أَصَابَهُ وجع فِي قَدَمَيْهِ وَزعم ابْن سَيّده أَنه يُقَال: وَقع الرجل وَالْفرس وَقعا فَهُوَ وَقع: إِذا حفي من الْحِجَارَة والشوط، وَقد وقعه الْحجر، وحافر وقيع وقعته الْحِجَارَة فقصت مِنْهُ، ثمَّ استعير للمشتكي الْمَرِيض، يُبينهُ قَوْلهَا: وجع، وَالْعرب تسمي كل مرض وجعاً.
وَفِي ( الْجَامِع) : وَقع الرجل فَوَقع إِذا حفي من مَشْيه على الْحِجَارَة.
وَقيل: هُوَ أَن يشتكي لحم رجلَيْهِ من الحفا.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَقع مَعْنَاهُ أَنه وَقع فِي الْمَرَض.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: وَقع أَي: سقط، والوقع أَيْضا: الحفا.
قَوْله: ( فَشَرِبت من وضوئِهِ) بِفَتْح الْوَاو.
قَوْله: ( إِلَى خَاتم النُّبُوَّة) بِكَسْر: التَّاء، أَي: فَاعل الْخَتْم، وَهُوَ الْإِتْمَام وَالْبُلُوغ إِلَى الآخر، وبفتح: التَّاء، بِمَعْنى: الطابع، وَمَعْنَاهُ الشَّيْء الَّذِي هُوَ دَلِيل على أَنه لَا نَبِي بعده.
.

     وَقَالَ  القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: خَاتم النُّبُوَّة أثر بَين كَتفيهِ، نعت بِهِ فِي الْكتب الْمُتَقَدّمَة وَكَانَ عَلامَة يعلم بهَا أَنه النَّبِي الْمَوْعُود، وصيانة لنبوته عَن تطرق الْقدح إِلَيْهَا صِيَانة الشَّيْء المستوثق بالختم.
قَوْله: ( مثل زر الحجلة) : الزر، بِكَسْر الزَّاي وَتَشْديد الرَّاء.
والحجلة، بِفَتْح الْحَاء وَالْجِيم: وَاحِدَة الحجال، وَهُوَ بيُوت تزين بالثياب والستور والإثرة، لَهَا على وأزرار.
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: الحجلة، بِالتَّحْرِيكِ: بَيت كالقبة يستر بالثياب وَيكون لَهُ أزرار كبار، وَيجمع على: حجال.
وَقيل: المُرَاد بالحجلة: الطير، وَهِي الَّتِي تسمى القبحة، وَتسَمى الْأُنْثَى الحجلة، وَالذكر: يَعْقُوب، وزرها: بيضها.
وَيُؤَيّد هَذَا أَن فِي حَدِيث آخر: ( مثل بَيْضَة الْحَمَامَة) .
وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله شيخ البُخَارِيّ.
الحجلة من حجل الْفرس الَّذِي بَين عَيْنَيْهِ، وَفِي بعض نسخ المغاربة: الحجلة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَقد رُوِيَ أَيْضا بِتَقْدِيم الرَّاء على الزَّاي، وَيكون المُرَاد مِنْهُ: الْبيض.
يُقَال: أرزت الجرادة بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الزَّاي: إِذا كبست ذنبها فِي الأَرْض فباضت.

وَجَاءَت فِيهِ رِوَايَات كَثِيرَة: فَفِي رِوَايَة مُسلم عَن جَابر بن سَمُرَة: ( وَرَأَيْت الْخَاتم عِنْد كَتفيهِ مثلي بَيْضَة الْحَمَامَة يشبه جسده) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد، من حَدِيث عبد الله بن سرجس: ( وَرَأَيْت خَاتم النُّبُوَّة فِي نغض كتفه الْيُسْرَى كَأَنَّهُ جمع فِيهِ خيلان سود كَأَنَّهُمَا الثآليل) .
وَفِي رِوَايَة أَحْمد أَيْضا من حَدِيث ابي رمثة التَّيْمِيّ، قَالَ: ( خرجت مَعَ أبي حَتَّى أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأَيْت بِرَأْسِهِ ردع حناء، وَرَأَيْت على كتفه مثل التفاحة، فَقَالَ ابي: إِنِّي طَبِيب أَلاَ أبطها لَك؟ قَالَ: طبيبها الَّذِي خلقهَا) .
وَفِي ( صَحِيح) الْحَاكِم: ( شعر مُجْتَمع) ، وَفِي كتاب الْبَيْهَقِيّ: ( مثل السّلْعَة) .
وَفِي ( الشَّمَائِل) : ( بضعَة نَاشِزَة) .
وَفِي حَدِيث عَمْرو بن أَخطب: ( كشيء يخْتم بِهِ) .
وَفِي ( تَارِيخ) ابْن عَسَاكِر: ( مثل البندقة) ، وَفِي التِّرْمِذِيّ: ( كالتفاحة) .
وَفِي ( الرَّوْض) : كاثم المحجم الغائص على اللَّحْم.
وَفِي ( تَارِيخ ابْن ابي خَيْثَمَة) : شامة خضراء محتفرة فِي اللَّحْم، وَفِيه أَيْضا: شامة سوادء تضرب إِلَى الصُّفْرَة حولهَا شَعرَات متراكبات كَأَنَّهَا عرف الْفرس.
وَفِي ( تَارِيخ الْقُضَاعِي) : ثَلَاث مجتمعات.
وَفِي كتاب ( المولد) لِابْنِ عَابِد: كَانَ نورا يتلألأ.
وَفِي ( سيرة) ابْن أبي عَاصِم: عذرة كعذرة الْحَمَامَة.
قَالَ أَبُو أَيُّوب: يعْنى فرطمة الْحَمَامَة، وَفِي ( تَارِيخ نيسابور) : مثل البندقة من لحم مَكْتُوب فِيهِ بِاللَّحْمِ: ( مُحَمَّد رَسُول الله) .
وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كتينة صَغِيرَة تضرب إِلَى الدهمة، وَكَانَت مِمَّا يَلِي الْقَفَا.
قَالَت: فلمسته حِين توفّي فَوَجَدته قد رفع.
وَقيل: كركبة العنز، وأسده أَبُو عمر عَن عباد بن عَمْرو، وَذكر الْحَافِظ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه ( التَّنْوِير) : كَانَ الْخَاتم الَّذِي بَين كَتِفي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَأَنَّهُ بَيْضَة حمامة مَكْتُوب فِي بَاطِنهَا: ( الله وَحده) : وَفِي ظَاهرهَا: ( توجه حَيْثُ شِئْت فَإنَّك مَنْصُور) .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب استنكره؛ قَالَ: وَقيل: كَانَ من نور.
فَإِن قلت: هَل كَانَ خَاتم النُّبُوَّة بعد ميلاده أَو ولد هُوَ مَعَه؟ قلت: قيل: ولد وَهُوَ مَعَه، وَعَن ابْن عَائِد فِي ( مغازيه) بِسَنَدِهِ إِلَى شَدَّاد بن أَوْس، فَذكر حَدِيث الرَّضَاع وشق الصَّدْر، وَفِيه: وَأَقْبل الثَّالِث.
يعين الْملك وَفِي يَده خَاتم لَهُ شُعَاع فَوَضعه بَين كَتفيهِ وثدييه، وَوجد برده زَمَانا.
وَفِي ( الدَّلَائِل) لأبي نعيم: أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما ولد ذكرت أمه أَن الْملك غمسه فِي المَاء الَّذِي أنبعه ثَلَاث غمسات، ثمَّ أخرج صرة من حَرِير أَبيض، فَإِذا فِيهَا خَاتم، فَضرب على كَتفيهِ كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة: فان قلت: أَيْن كَانَ مَوْضِعه؟ قلت: قد رُوِيَ أَنه بَين كَتفيهِ.
وَقيل: كَانَ على نغض كتفه اليسى، لِأَنَّهُ يُقَال: إِنَّه الْموضع الَّذِي يدْخل مِنْهُ الشَّيْطَان إِلَى بَاطِن الْإِنْسَان، فَكَانَ هَذَا عصمَة لَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الشَّيْطَان.
وَذكر أَبُو عمرَان، مَيْمُون بن مهْرَان، ذكر عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ: أَن رجلا سَأَلَ ربه أَن يرِيه مَوضِع الشَّيْطَان مِنْهُ، فَرَأى جسده ممهى يرى دَاخله من خَارجه، وَرَأى الشَّيْطَان فِي صُورَة ضفدع عِنْد نغض كتفه حداء قلبه، لَهُ خرطوم كخرطوم الْبَعُوضَة، وَقد أدخلهُ فِي مَنْكِبه الْأَيْسَر إِلَى قلبه يوسوس إِلَيْهِ، فَإِذا ذكر الله تَعَالَى العَبْد خنس.
ثمَّ الْحِكْمَة فِي الْخَاتم.
على وَجه الِاعْتِبَار.
أَن قلبه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما ملىء حِكْمَة وإيمانا، كَمَا فِي ( الصَّحِيح) ، ختم عَلَيْهِ كَمَا يخْتم على الْوِعَاء المملوء مسكاً أَو درا، فَلم يجد عدوه سَبِيلا إِلَيْهِ من أجل ذَلِك الْخَتْم، لِأَن الشَّيْء الْمَخْتُوم محروس، وَكَذَا تَدْبِير الله، عز وَجل، فِي هَذِه الدُّنْيَا إِذا وجد الشَّيْء بختمه زَالَ الشَّك وَانْقطع الْخِصَام فِيمَا بَين الْآدَمِيّين، فَلذَلِك ختم رب العلمين فِي قلبه ختماً تطامن لَهُ الْقلب، وَبَقِي النُّور فِيهِ، ونفذت قُوَّة الْقلب إِلَى الصلب فظهرت بَين الْكَتِفَيْنِ كالبيضة، وَمن أجل ذَلِك برز بِالصّدقِ على أهل الْموقف، فَصَارَت لَهُ الشَّفَاعَة من بَين الرُّسُل بالْمقَام الْمَحْمُود، لِأَن ثَنَاء الصدْق هُوَ الَّذِي خصّه ربه بِمَا لم يخص بِهِ أحدا غَيره من الْأَنْبِيَاء، وَغَيرهم، يحققه قَول الله الْعَظِيم: { وَبشر الَّذين آمنُوا أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم} ( يُونُس: ) قَالَ ابو سعيد الْخُدْرِيّ، وَقد صدق: هُوَ مُحَمَّد، عَلَيْهِ السَّلَام، شفيعكم يَوْم الْقِيَامَة، وَكَذَا قَالَ الْحسن وَقَتَادَة وَزيد بن أسلم: وَقَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا ذكره مُسلم من حَدِيث أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وأخرت الثَّالِثَة ليَوْم ترغب إِلَيّ فِيهِ الْخلق كلهم حَتَّى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: هَذَا الْخَاتم هُوَ أثر شقّ الْملكَيْنِ بَين كَتفيهِ.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: هَذَا بَاطِل، لِأَن شقّ الْملكَيْنِ إِنَّمَا كَانَ فِي صَدره.

مشكلات مَا وَقع فِي هَذَا الْبابُُ قَوْله: ( فِي نغض كتفه الْيُسْرَى) ، بِضَم النُّون وَفتحهَا وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره ضاد مُعْجمَة، قَالَ ابْن الاثير: النغض والنغض والناغض: أَعلَى الْكَتف.
وَقيل: هُوَ الْعظم الرَّقِيق الَّذِي على طرفه.
قَوْله: ( كأه جمع) ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْمِيم، مَعْنَاهُ: مثل جمع الْكَفّ، وَهُوَ أَن تجمع الْأَصَابِع وتضمها، وَمِنْه يُقَال: ضربه بِجمع كَفه.
( و: الخيلان) بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء، جمع: خَال.
قَوْله: ( الثآليل) جمع: ثؤلول، وَهُوَ الْحبَّة الَّتِي تظهر فِي الْجلد كالحمصة فمادونها.
قَوْله: ( ردع حناء) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الدَّال وَفِي آخِره عين مُهْملَة: أَي لطخ حناء، والحناء، بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيد وبالمد، مَعْرُوف.
والحناءة أخص مِنْهُ.
قَوْله: ( أَلاَ أبطها) ؟ من البَطِّ، وَهُوَ: شقّ الدمل وَالْخَرَاج.
قَوْله: ( بضعَة نَاشِزَة) .
الْبضْعَة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: الْقطعَة من اللَّحْم.
و: نَاشِزَة، بالنُّون والشين وَالزَّاي المعجمتين أَي: مُرْتَفعَة عَن الْجِسْم.
قَوْله: ( محتفرة) : أَي غائصة، وَأَصله من حفر الأَرْض.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام الاول: فِيهِ بركَة الاسترقاء.
الثَّانِي: فِيهِ الدّلَالَة على مسح رَأس الصَّغِير، وَكَانَ مولد السَّائِب الَّذِي مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأسه فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة، وَشهد حجَّة الْوَدَاع، وَخرج مَعَ الصّبيان إِلَى ثنية الْوَدَاع يتلَقَّى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقدمه من تَبُوك.
الثَّالِث: فِيهِ الدّلَالَة على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل، وَإِن كَانَ المُرَاد من قَول السَّائِب بن يزِيد: فَشَرِبت من وضوئِهِ، وَهُوَ: المَاء الَّذِي يتقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: هَذِه الْأَحَادِيث يَعْنِي الَّتِي فِي هَذَا الْبابُُ.
ترد عَلَيْهِ: أَي على أبي حنيفَة، لِأَن النَّجس لَا يتبرك بِهِ.
قلت: قصد هَذَا الْقَائِل التشنيع على أبي حنيفَة بِهَذَا الرَّد الْبعيد، لِأَن لَيْسَ فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة مَا يدل صَرِيحًا على أَن المُرَاد من: فضل وضوئِهِ، هُوَ: المَاء الَّذِي تقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة.
وَكَذَا فِي قَوْله: ( كَانُوا يقتتلون على وضوئِهِ) ، وَكَذَا فِي قَول السَّائِب: ( فَشَرِبت من وضوئِهِ) .
وَلَئِن سلمنَا أَن المُرَاد هُوَ المَاء الَّذِي يتقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة، فَأَبُو حنيفَة يُنكر هَذَا وَيَقُول بِنَجَاسَة ذَاك، حاشاه مِنْهُ، وَكَيف يَقُول ذَلِك هُوَ يَقُول بِطَهَارَة بَوْله وَسَائِر فضلاته؟ وَمَعَ هَذَا قد قُلْنَا: لم يَصح عَن أبي حنيفَة تنجيس المَاء الْمُسْتَعْمل، وفتوى الحنيفة عَلَيْهِ، فَانْقَطع شغب هَذَا المعاند.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: وَفِي إِجْمَاع أهل الْعلم على أَن البلل الْبَاقِي على أَعْضَاء المتوضىء، وَمَا قطر مِنْهُ على ثِيَابه، دَلِيل قوي على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل.
قلت: الْمثل.

حفظت شَيْئا وَغَابَتْ عَنْك أَشْيَاء.

وَالْمَاء الْبَاقِي على أَعْضَاء المتوضيء لَا خلاف لأحد فِي طَهَارَته، لِأَن من يَقُول بِعَدَمِ طهرته إِنَّمَا يَقُول بالانفصال عَن الْعُضْو، بل عِنْد بضعهم بالانفصال والاستقرار فِي مَكَان.
وَأما المَاء الَّذِي قطر مِنْهُ على ثِيَابه فَإِنَّمَا سقط حكمه للضَّرُورَة لتعذر الِاحْتِرَاز عَنهُ.