فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب استقبال الرجل صاحبه أو غيره في صلاته وهو يصلي

( بابُُ اسْتِقْبالِ الرَّجُلِ وَهُوَ يُصَلِّي)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان اسْتِقْبَال الرجل الرجل، وَالْحَال أَنه يُصَلِّي يَعْنِي: هَل يكره أم لَا؟ وَالرجل الأول مُضَاف إِلَيْهِ للاستقبال وَالرجل الثَّانِي مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ بابُُ اسْتِقْبَال الرجل صَاحبه أَو غَيره، وَفِي بَعْضهَا اسْتِقْبَال الرجل وَهُوَ يُصَلِّي، وَفِي بَعْضهَا لفظ: الرجل مُكَرر، وَلَفظ: هُوَ، يحْتَمل عوده إِلَى الرجل الثَّانِي، فَيكون الرّجلَانِ متواجهين، وَإِلَى الأول فَلَا يلْزم التواجه.

وكَرِهَ عُثْمَانُ أنْ يُسْتَقْبَلَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُصَلّى.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعُثْمَان هُوَ ابْن عَفَّان أحد الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة الرَّاشِدين.
قَوْله: ( يسْتَقْبل) ، بِضَم الْيَاء على صِيغَة الْمَجْهُول، و: ( الرجل) مَرْفُوع لنيابته عَن الْفَاعِل، وَيجوز فتح الْيَاء على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَلَا مَانع من ذَلِك، والكرماني اقْتصر على الْوَجْه الأول.
قَوْله: ( وَهُوَ يُصَلِّي) جملَة إسمية وَقعت حَالا عَن: الرجل،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلم أر هَذَا الْأَثر عَن عُثْمَان إِلَى الْآن، وَإِنَّمَا رَأَيْته فِي ( مُصَنف) عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة وَغَيرهمَا: من طَرِيق هِلَال بن يسَاف عَن عمر أَنه زجر عَن ذَلِك، وَفِيهِمَا أَيْضا عَن عُثْمَان مَا يدل على عدم كَرَاهَة ذَلِك، فَلْيتَأَمَّل، لاحْتِمَال أَن يكون فِيمَا وَقع فِي الأَصْل تَصْحِيف عَن عمر إِلَى عُثْمَان.
قلت: لَا يلْزم من عدم رُؤْيَة هَذَا الْأَثر من عُثْمَان أَن لَا يكون مَنْقُولًا عَنهُ، فَلَيْسَ بسديد زعم التَّصْحِيف بِالِاحْتِمَالِ الناشيء عَن غير دَلِيل.
فَإِن قلت: رِوَايَة عبد الرَّزَّاق وَابْن أبي شيبَة عَن عُثْمَان بِخِلَاف مَا ذكره البُخَارِيّ عَنهُ دَلِيل الِاحْتِمَال.
قلت: لَا نسلم ذَلِك لاحْتِمَال أَن يكون الْمَنْقُول عَنهُ آخرا بِخِلَاف مَا نقل عَنهُ أَولا لقِيَام الدَّلِيل عِنْده بذلك.

وَإنّمَا هذَا إِذا اشْتَغَلَ بهِ فأمَّا إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ فَقَدْ قَالَ زَيْدُ بنُ ثابِتٍ مَا بالبَيْتُ إنَّ الرَّجُلَ لَا يَقْطَعُ صَلاَةَ الرَّجُلِ.

قَالَ صَاحب ( التَّوْضِيح) : هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ يُشِير بِهِ إِلَى أَن مذْهبه هَهُنَا بالتفصيل، وَهُوَ أَن اسْتِقْبَال الرجل الرجل فِي الصَّلَاة إِنَّمَا يكره إِذا اشْتغل الْمُسْتَقْبل الْمُصَلِّي، لِأَن عِلّة الْكَرَاهَة فِي كف الْمُصَلِّي عَن الْخُشُوع وَحُضُور الْقلب، وَأما إِذا لم يشْغلهُ فَلَا بَأْس بِهِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَول زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ النجاري الفرضي، كَاتب رَسُول ا: مَا باليت، أَي: بالاستقبال الْمَذْكُور.
يُقَال: لَا أباليه أَي: لَا أكترث لَهُ.
قَوْله: ( إِن الرجل) بِكَسْر: إِن لِأَنَّهُ اسْتِئْنَاف ذكر لتعليل عدم المبالاة.
وروى أَبُو نعيم فِي ( كتاب الصَّلَاة) : حدّثنا مسعر، قَالَ: أَرَانِي أول من سَمعه من الْقَاسِم قَالَ: ضرب عمر رجلَيْنِ: أَحدهمَا مُسْتَقْبل وَالْآخر يُصَلِّي.
وحدّثنا سُفْيَان حدّثنا رجل عَن سعيد بن جُبَير أَنه: كره أَن يُصَلِّي وَبَين يَدَيْهِ مخنث مُحدث، وحدّثنا سُفْيَان عَن أَشْعَث بن أبي الشعْثَاء عَن ابْن جُبَير.
قَالَ: إِذا كَانُوا يذكرُونَ اتعالى فَلَا بَأْس،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: أجَاز الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ الصَّلَاة خلف المتحدثين، وَكَرِهَهُ ابْن مَسْعُود، وَكَانَ ابْن عمر لَا يسْتَقْبل من يتَكَلَّم إلاَّ بعد الْجُمُعَة.
وَعَن مَالك: لَا بَأْس أَن يُصَلِّي إِلَى ظهر الرجل، وَأما إِلَى جنبه فَلَا، وروى عَنهُ التَّخْفِيف فِي ذَلِك.
.

     وَقَالَ : لَا تصلوا إِلَى المتحلقين، لِأَن بَعضهم يستقبله.
قَالَ: وَأَرْجُو أَن يكون وَاسِعًا، وَذَهَبت طَائِفَة من الْعلمَاء إِلَى أَن الرجل يستر إِلَى الرجل إِذا صلى.
.

     وَقَالَ  الْحسن وَقَتَادَة يستره إِذا كَانَ جَالِسا.
وَعَن الْحسن: يستره وَلم يشْتَرط الْجُلُوس وَلَا تَوْلِيَة الظّهْر، وَأكْثر الْعلمَاء على كَرَاهَة استقباله بِوَجْهِهِ.
.

     وَقَالَ  نَافِع: كَانَ ابْن عمر إِذا لم يجد سَبِيلا إِلَى سَارِيَة الْمَسْجِد قَالَ لي: ظهرك، وَهُوَ قَول مَالك.
.

     وَقَالَ  ابْن سِيرِين: لَا يكون الرجل ستْرَة للْمُصَلِّي.



[ قــ :498 ... غــ :511]
- حَدَّثَنَا إسْمَاعيلُ بنُ خَلِيلٍ قَالَ حدّثنا عَليُّ بنُ مُسْهِرٍ عنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ يَعْنِي ابْنَ صُبَيْحٍ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ أنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَها مَا يَقْطَعُ الصَّلاَةَ فَقالُوا يَقْطَعُها الْكَلْبُ والحِمَارُ والمَرْأةُ قالَتْ لَقدْ جَعَلْتُمُونا كِلاَباً لَقَدْ رَأيْتُ النبيَّ يُصَلِّي وإِنِّي لَبَيْنَهُ وَبَيْنُ القِبْلَةِ وَأَنا مضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ فَتَكُونُ لِيَ الحَاجَةُ فأكْرَهُ أنْ أسْتَقْبِلَهُ فأنْسَلُّ انْسِلاَلاً.
.


وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة على وُجُوه: الأول: مَا قَالَه الْكرْمَانِي: حكم الرِّجَال وَالنِّسَاء وَاحِد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إلاَّ مَا خصّه الدَّلِيل.
قلت: بَيَان ذَلِك أَن عَائِشَة كَانَت مُضْطَجِعَة على السرير، وَكَانَت بَين يَدي النَّبِي وَبَين الْقبْلَة، فَيكون اسْتِقْبَال الرجل الْمَرْأَة فِي الصَّلَاة وَلم تكن تشغل النَّبِي، فَدلَّ على عدم الْكَرَاهَة.
وَلَا يُقَال: التَّرْجَمَة اسْتِقْبَال الرجل الرجل، وَفِيمَا ذكر اسْتِقْبَال الرجل الْمَرْأَة، لأَنا نقُول: حكم الرِّجَال وَالنِّسَاء وَاحِد إِلَى آخر مَا ذكرنَا، وَقد ذكرنَا أَن التَّرْجَمَة رويت على ثَلَاثَة أوجه، وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْوَجْه الْوَاحِد، وَهُوَ: بابُُ اسْتِقْبَال الرجل الرجل، وَهُوَ يُصَلِّي.
وَأما فِي الْوَجْهَيْنِ الآخرين فالتطابق ظَاهر فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّكَلُّف.
الْوَجْه الثَّانِي: ذكره ابْن الْمُنِير فَقَالَ: لِأَنَّهُ يدل على الْمَقْصُود بطرِيق الأولى، وَإِن لم يكن تَصْرِيح بِأَنَّهَا كَانَت مُسْتَقْبلَة، فلعلها كَانَت منحرفة أَو مستدبرة.
الْوَجْه الثَّالِث: ذكره ابْن رشد فَقَالَ: قصد البُخَارِيّ: أَن شغل الْمُصَلِّي بِالْمَرْأَةِ إِذا كَانَت فِي قبلته، على أَي حَالَة كَانَت، أَشد من شغله بِالرجلِ، وَمَعَ ذَلِك فَلم يضر صلَاته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ غير مشتغل بهَا، فَكَذَلِك لَا تضر صَلَاة من لم يشْتَغل بهَا، وَبِالرجلِ من بابُُ أولى.

ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: كلهم قد ذكرُوا، وَإِسْمَاعِيل بن خَلِيل أَبُو عبد االخراز الْكُوفِي، تقدم فِي بابُُ مُبَاشرَة الْحَائِض، وَكَذَلِكَ عَليّ بن مسْهر، وَالْأَعْمَش: هُوَ سُلَيْمَان الْكُوفِي، وَمُسلم: هُوَ البطين ظَاهرا، قَالَه الْكرْمَانِي.
قلت: الظَّاهِر أَنه مُسلم بن صبيح أَبُو الضُّحَى، ومسروق بن الأجدع.

وَالْكَلَام فِيهِ قد مر فِي بابُُ الصَّلَاة إِلَى السرير، لِأَنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من أوجه أخر.
قَوْله: ( كلابا) أَي: كالكلاب فِي حكم قطع الصَّلَاة.
قَوْله: ( رَأَيْت) أَي: أَبْصرت.
قَوْله: ( وَإِنِّي لبينه) أَي: لبين النَّبِي،، وَهَذِه الْجُمْلَة فِي مَحل النصب على الْحَال، وَكَذَلِكَ: وَأَنا مُضْطَجِعَة.
قَوْله: ( وأكره) كَذَا هُوَ بِالْوَاو فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الكشمهيني: ( فأكره) بِالْفَاءِ.
قَوْله: ( فأنسل) أَي فَأخْرج بالخفية.

وَعنِ الأعْمَش عنْ إبْراهِيمَ عَن الأسْوَدِ عنْ عائِشَةَ نَحْوَهُ.

أَي وَرُوِيَ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ عَن عَائِشَة، ى ضي اتعالى عَنْهَا، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا يحْتَمل التَّعْلِيق وَكَونه من كَلَام ابْن مسْهر أَيْضا.
قلت: خرجه بعد الْبابَُُيْنِ فِي بابُُ من قَالَ لَا يقطع الصَّلَاة شَيْء، وَالْحَاصِل أَن هَذَا مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الَّذِي قبله، وَنبهَ بِهِ على أَن عَليّ بن مسْهر قد روى هَذَا الحَدِيث عَن الْأَعْمَش باسنادين إِلَى عَائِشَة.
أَحدهمَا: عَن مُسلم عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور.
وَالْآخر: عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، بِالْمَعْنَى.
وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله.
( نَحوه) وَهُوَ بِالنّصب.
فَإِن قلت: كَيفَ يَقُول: نَحوه، وَلَفظ النَّحْو يَقْتَضِي الْمُمَاثلَة بَينهمَا من كل الْوُجُوه وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك؟ قلت: لَا نسلم أَنه كَذَلِك، بل يَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِي أصل الْمَعْنى الْمَقْصُود فَقَط.