فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي رضي الله عنهما: «

( بابُُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِلْحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا ابْني هذَا سيد ولَعَلَّ الله أنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي ذكر قَول االنبي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِلْحسنِ بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إِلَى آخِره، قَوْله: ( ابْني هَذَا) جملَة إسمية.
لِأَن قَوْله: ابْني، خبر عَن قَوْله: هَذَا، قَوْله: ( سيد) ، خبر بعد خبر، وَالسَّيِّد الرئيس، قَالَ كرَاع: وَجمعه سادة، قيل: سادة جمع: سائد، وَهُوَ من السؤدد، وَهُوَ الشّرف،.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: وَقد يهمز السؤدد وتضم، وَقد سادهم سُودًا وسودداً وسيادة وسيدودة، واستادهم كسادهم، وسوده هُوَ، وَذكر الزبيدِيّ فِي كِتَابه ( طَبَقَات النَّحْوِيين) : أَن أَبَا مُحَمَّد الْأَعرَابِي قَالَ لإِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج الثائر بأشبيلية: بِاللَّه أَيهَا الْأَمِير مَا سيَّدتْكَ الْعَرَب إلاَّ بحقك، يَقُولهَا بِالْيَاءِ، فَلَمَّا أنكر عَلَيْهِ، قَالَ: السوَاد السخام، وأصر على أَن الصَّوَاب مَعَه، ومالأه على ذَلِك الْأَمِير لعظم مَنْزِلَته فِي الْعلم.
وَقيل: اشتقاق السَّيِّد من السوَاد، أَي: الَّذِي يَلِي السوَاد الْعَظِيم من النَّاس.
قَوْله: ( وَلَعَلَّ الله) ، اسْتعْمل: لَعَلَّ، اسْتِعْمَال: عَسى، لاشْتِرَاكهمَا فِي الرَّجَاء.
قَوْله: ( فئتين عظيمتين) ووصفهما بالعظيمتين لِأَن الْمُسلمين كَانُوا يَوْمئِذٍ فرْقَتَيْن: فرقة مَعَ الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفرْقَة مَعَ مُعَاوِيَة، وَهَذِه معْجزَة عَظِيمَة من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أخبر بِهَذَا فَوَقع مثل مَا أخبر.

وأصل الْقَضِيَّة أَن عَليّ بن أبي طَالب، لما ضربه عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي يَوْم الْجُمُعَة لثلاث عشرَة بقيت من رَمَضَان من سنة أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة، قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ.
.

     وَقَالَ  ابْن الْهَيْثَم: ضربه فِي لَيْلَة سَبْعَة وَعشْرين من رَمَضَان،.

     وَقَالَ  أَبُو الْيَقظَان: فِي اللَّيْلَة السَّابِعَة عشر من رَمَضَان،.

     وَقَالَ  الْحسن: كَانَت لَيْلَة الْقدر، اللَّيْلَة الَّتِي عرج فِيهَا بِعِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ونبىء فِيهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَات فِيهَا مُوسَى ويوشع بن نون، عَلَيْهِمَا السَّلَام، مكث يَوْم الْجُمُعَة وَلَيْلَة السبت وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَحَد لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة، وبويع لِابْنِهِ الْحسن بالخلافة فِي شهر رَمَضَان من هَذِه السّنة، فَقيل: فِي الْيَوْم الَّذِي اسْتشْهد فِيهِ عَليّ، قَالَه الْوَاقِدِيّ، وَقيل: فِي اللَّيْلَة الَّتِي دفن فِيهَا، وَقيل: بعد وَفَاته بيومين،.

     وَقَالَ  هِشَام: وَأقَام الْحسن أَيَّامًا مفكراً فِي أمره ثمَّ رأى اخْتِلَاف النَّاس فرقة من جِهَته وَفرْقَة من جِهَة مُعَاوِيَة، وَلَا يَسْتَقِيم الْأَمر، وَرَأى النّظر فِي إصْلَاح الْمُسلمين وحقن دِمَائِهِمْ أولى من النّظر فِي حَقه، سلَّم الْخلَافَة لمعاوية فِي الْخَامِس من ربيع الأول من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين، وَقيل: من ربيع الْأُخَر، وَقيل: فِي غرَّة جمادي الأولى، وَكَانَت خِلَافَته سِتَّة أشهر إلاَّ أَيَّامًا.
وَسمي هَذَا الْعَام عَام الْجَمَاعَة.
وَهَذَا الَّذِي أخبر بِهِ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَعَلَّ الله أَن يصلح بِهِ بَين فئتين عظيمتين) .

وقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ { فأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ( الحجرات: 9) .


وَقَوله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَشَارَ بِذكر هَذِه الْقطعَة من الْآيَة الْكَرِيمَة: { وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا} ( الحجرات: 9) .
إِلَى أَن الصُّلْح أَمر مَشْرُوع ومندوب إِلَيْهِ.



[ قــ :2584 ... غــ :2704 ]
- حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ أبِي مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ الحسَنَ يَقُولُ اسْتَقْبَلَ وَالله الحَسَنُ بنُ علِيٍّ مُعاوِيَةَ بِكَتائِبَ أمْثَالِ الجبالِ فَقَالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ إنّى لأرى كَتَائِبَ لاَ تولِّي حتَّى تَقْتُلَ أقْرَانَها فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ وكانَ وَالله خَيْرُ الرُّجُلَيْنِ أيْ عَمْرُو إنْ قَتَلَ هَؤُلاءِ هَؤلاءِ وهَؤلاءِ هؤُلاءِ مَن لِي بأمُورِ النَّاس مَنْ لِي بِنِسائِهِمْ منْ لي بِضَيْعَتِهِمْ فبَعَثَ إلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِن بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ سَمُرَةَ وعَبْدَ الله بنَ عامِرِ بنِ كرَيْز فَقَالَ اذْهَبَا إلَى هَذَا الرَّجُلِ فاعْرِضَا عَلَيْهِ وقُولاَ لَهُ واطْلُبَا إلَيْهِ فأتَياهُ فَدَخَلا عَلَيْهِ فتَكَلَّمَا وَقَالا لَهُ فطَلَبا إلَيْهِ فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ إنَّا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ قدْ أصَبْنَا مِنَ المَالِ وإنَّ هذِهِ الأمَّةَ قدْ عاثَتْ فِي دِمائِهَا قَالَا فإنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كذَا وكَذَا ويَطْلُبُ إلَيْكَ ويَسْألُكَ قَالَ فَمَنْ لِي بهَذا قَالَا نَحْنُ لكَ بِهِ فَما سَألَهُما شَيْئاً إلاَّ قالاَ نَحْنُ لَكَ بِهِ فصَالَحَهُ فَقَالَ الحَسنُ ولَقَدْ سَمِعْتُ أبَا بَكْرَةَ يَقُولُ رأيْتُ رسولَ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلى المِنْبَرِ والحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ إِلَى جنْبِهِ وهْوَ يُقْبِلُ عَلى النَّاسِ مَرَّةً وَعلَيْهِ أُخْرَى ويَقُول إنَّ ابْنِي هَذا سَيِّدٌ ولَعلَّ الله أنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا مَأْخُوذَة من الحَدِيث، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأَبُو مُوسَى هُوَ إِسْرَائِيل بن مُوسَى الْبَصْرِيّ، نزل الْهِنْد، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن صَدَقَة بن الْفضل وَفِي الْفِتَن عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن عبد الله بن مُحَمَّد، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُسَدّد وَمُسلم بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن بنْدَار.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي قدامَة السَّرخسِيّ وَفِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن قُتَيْبَة بن سعيد وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان مُرْسل.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( الْحسن بن عَليّ) فَاعل قَوْله: اسْتقْبل، وَلَفْظَة: وَالله، مُعْتَرضَة بَينهمَا، وَمُعَاوِيَة، بِالنّصب مَفْعُوله.
قَوْله: ( بكتائب) جمع كَتِيبَة، وَهِي: الْجَيْش، وَيُقَال: الكتبية مَا جمع بَعْضهَا إِلَى بعض، وَمِنْه قيل للقطعة المجتمعة من الْجَيْش: كَتِيبَة، قَالَ الدَّاودِيّ: سميت بذلك لِأَنَّهُ كتب اسْم كل طَائِفَة من كتاب فلزمها هَذَا الإسم.
قَوْله: ( أَمْثَال الْجبَال) أَي: لَا يرى لَهَا طرف لكثرتها، كَمَا لَا يرى من قَابل الْجَبَل طَرفَيْهِ، وَكَانَت ملاقاة الْحسن مَعَ مُعَاوِيَة بِمَنْزِلَة من أَرض الْكُوفَة، وَكَانَ الْحسن لما مَاتَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بَايعه أهل الْكُوفَة، وَبَايع أهل الشَّام مُعَاوِيَة، فَالْتَقَيَا فِي الْموضع الْمَذْكُور، وَبعد كَلَام طَوِيل ومحاورات جرت بَينهمَا سلم الْحسن الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة وَصَالَحَهُ وَبَايَعَهُ على الْأَمر وَالطَّاعَة على إِقَامَة كتاب الله وَسنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ رَحل الْحسن إِلَى الْكُوفَة فَأخذ مُعَاوِيَة الْبيعَة لنَفسِهِ على أهل العراقين، فَكَانَت تِلْكَ السّنة سنة الْجَمَاعَة لِاجْتِمَاع النَّاس واتفاقهم، وَانْقِطَاع الْحَرْب، وَبَايع مُعَاوِيَة كل من كَانَ مُعْتَزِلا عَنهُ، وَبَايَعَهُ سعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن عمر وَمُحَمّد بن مسلمة، وتباشر النَّاس بذلك، وَأَجَازَ مُعَاوِيَة الْحسن بن عَليّ بثلاثمائة ألف وَألف ثوب وَثَلَاثِينَ عبدا، وَمِائَة جمل، ثمَّ انْصَرف الْحسن إِلَى الْمَدِينَة وَولى مُعَاوِيَة الكوفةَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة، وَولى الْبَصْرَة عبد الله بن عَامر، وَانْصَرف إِلَى دمشق واتخذها دَار مَمْلَكَته.
قَوْله: ( فَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: إِنِّي لأرى كتائب لَا تولي) ، أَرَادَ عَمْرو بِهَذَا الْكَلَام تحريض مُعَاوِيَة على الْقِتَال مَعَ الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، و: لَا تولي، من التَّوْلِيَة، وَهِي الإدبار أَي: إِن تولت بِغَيْر حَملَة غلبت لكثرتها.
قَوْله: ( أقرانها) ، بِفَتْح الْهمزَة جمع: قرن، بِكَسْر الْقَاف وَهُوَ الكفؤ والنظير فِي الشجَاعَة وَالْحَرب.
قَوْله: ( فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة) أَي: قَالَ لعَمْرو بن الْعَاصِ مُعَاوِيَة جَوَابا عَن قَوْله: ( إنى لأرى كتائب) إِلَى آخِره.
قَوْله: ( أَي عَمْرو!) مقول قَول مُعَاوِيَة، أَي: يَا عَمْرو ( وَإِن قتل هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ) إِلَى آخِره.
قَوْله: ( وَكَانَ وَالله خير الرجلَيْن) ، من كَلَام الْحسن الْبَصْرِيّ، وَقع مُعْتَرضًا بَين قَوْله: ( قَالَ لَهُ مُعَاوِيَة) ، وَبَين قَوْله: ( أَي عَمْرو) .
وَقَوله: ( وَالله أَيْضا) معترض بَين: كَانَ وَخَبره، وَأَرَادَ بِالرجلَيْنِ: مُعَاوِيَة وعمراً، وَأَرَادَ بخيرهما مُعَاوِيَة، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ يعلم أَن خلاف عَمْرو على الْحسن بن عَليّ كَانَ أَشد من خلاف مُعَاوِيَة إِيَّاه، لِأَنَّهُ كَانَ يحرض مُعَاوِيَة على الْقِتَال مَعَه وَمُعَاوِيَة كَانَ يتَوَقَّع الصُّلْح وَيُرِيد أَن يرد الْحسن بِدُونِ الْقِتَال، وَأَنه يبايعه وَيَأْخُذ مِنْهُ مَا يُريدهُ، وَيذْهب إِلَى الْمَدِينَة وَهَكَذَا وَقع فِي آخر الْأَمر.
وَإِثْبَات الْحسن الْبَصْرِيّ الْخَيْرِيَّة، لمعاوية بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَمْرو لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره، لِأَنَّهُ لم يشك هُوَ وَلَا غَيره أَن الْحسن بن عَليّ كَانَ خير النَّاس كلهم فِي ذَلِك الزَّمَان.
قَوْله: ( إِن قتل هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ) ، أَي: إِن قتل عَسْكَر الْحسن عسكرنا أَو عسكرنا عسكره، فَهَؤُلَاءِ الأول فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية، وَالثَّانِي النصب على المفعولية فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قَوْله: ( من لي؟) جَوَاب الشَّرْط، أَعنِي.
قَوْله: ( إِن قتل) ، أَي: من يتكفل لي بِأُمُور النَّاس؟ يَعْنِي: على كلا التَّقْدِيرَيْنِ أَنا المطالب عِنْد الله، فَإِذا وَقع الصُّلْح فَأَكُون أَنا أول من يسلم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَهَذَا يدل على نظر مُعَاوِيَة فِي العواقب ورغبته فِي دفع الْحَرْب.
قَوْله: ( من لي بضيعتهم) ، هَكَذَا هُوَ فِي كثير من النّسخ، والضيعة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالعين الْمُهْملَة: وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا: الْعقار، ويروى: ( بصبيتهم) ، وعَلى هَذِه الرِّوَايَة فَسرهَا الْكرْمَانِي بقوله: ( والصبية) ، المُرَاد بهَا الْأَطْفَال والضعفاء لأَنهم لَو تركُوا بحالهم لضاعوا لعدم استقلالهم بالمعاش.
قَوْله: ( عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة بن حبيب) ، ضد الْعَدو ابْن عبد شمس الْقرشِي أسلم يَوْم الْفَتْح، وَهُوَ الَّذِي فتح سجستان وَمَات بِالْبَصْرَةِ أَو بمرو سنة إِحْدَى وَخمسين، وَعبد الله بن عَامر ابْن كريز، بِضَم الْكَاف وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالزاي، مَاتَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ابْن ثَلَاث عشرَة سنة، وَقد افْتتح خُرَاسَان وأصبهان وكرمان، وَقتل كسْرَى فِي ولَايَته، وَقيل: أحرم من نيسابور شكرا الله تَعَالَى، وَمَات سنة تسع وَخمسين.
قَوْله: ( واطلبا إِلَيْهِ) ، أَي: يكون مطلوبكما مفوضاً إِلَيْهِ وطلبكما منتهياً إِلَيْهِ، أَي: التزما مطالبه.
قَوْله: ( إِنَّا بَنو عبد الْمطلب قد أصبْنَا من هَذَا المَال) ، مَعْنَاهُ إِنَّا بَنو عبد الْمطلب المجبولون على الْكَرم والتوسع لمن حوالينا من الْأَهْل والموالي، وَقد أصبْنَا من هَذَا المَال بالخلافة مَا صَارَت لنا بِهِ عَادَة إِنْفَاق وأفضال على الْأَهْل والحاشية، فَإِن تخليت من هَذَا الْأَمر قَطعنَا الْعَادة، وَإِن هَذِه الْأمة قد عاثت فِي دمائها، قتل بَعْضهَا بَعْضًا، فَلَا يكفون إلاَّ بِالْمَالِ، فَأَرَادَ أَن يسكن الْفِتْنَة وَيفرق المَال فِيمَا لَا يرضيه غير المَال، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن وَعبد الله: نفرض لَك من المَال فِي كل عَام كَذَا، وَمن الأقوات وَالثيَاب مَا تحْتَاج إِلَيْهِ لكل مَا ذكرت، فصالحاه على ذَلِك، فَقبل مِنْهُمَا لعلمه أَن مُعَاوِيَة لَا يخالفهما، وَاشْترط شُرُوطًا، وَسلم الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة.
قَوْله: ( قَالَا: فَإِنَّهُ يعرض عَلَيْك) أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن وَعبد الله: فَإِن مُعَاوِيَة يعرض عَلَيْك.
قَوْله: ( قَالَ: فَمن لي بِهَذَا؟) أَي: قَالَ الْحسن: فَمن يكفل لي بِالَّذِي تذكر أَنه؟ ( قَالَا: نَحن لَك بِهِ) أَي: نَحن نكفل لَك بِالَّذِي ذكرنَا.
قَوْله: ( فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئا) أَي: فَمَا سَأَلَ الْحسن عبد الرَّحْمَن وَعبد الله شَيْئا من الْأَشْيَاء.
( إلاَّ قَالَا: نَحن لَك بِهِ) أَي: نَحن نكفل لَك بِهِ.
قَوْله: ( فَصَالحه) أَي: فَلَمَّا فرغت هَذِه المحاورات بَينهمَا وَبَين الْحسن صَالح الْحسن مُعَاوِيَة.
قَوْله: ( فَقَالَ الْحسن) أَي: الْحسن الْبَصْرِيّ.
قَوْله: ( أَبَا بكرَة) ، هُوَ نفيع بن الْحَارِث الثَّقَفِيّ، وَالْوَاو فِي قَوْله: ( وَالْحسن) وَفِي قَوْله: ( وَهُوَ يقبل) للْحَال.
قَوْله: ( فئتين) ، تَثْنِيَة فِئَة، الفئة: الْفرْقَة مَأْخُوذَة من: فأوت رَأسه بِالسَّيْفِ، وفأيت: إِذا شققته، وَجمع الفئة فئات وفئون،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير، رَحمَه الله تَعَالَى: الفئة الْجَمَاعَة من النَّاس فِي الأَصْل، والطائفة الَّتِي تقيم وَرَاء الْجَيْش، فَإِن كَانَ عَلَيْهِم خوف أَو هزيمَة التجئوا إِلَيْهِم، وَمعنى: عظيمتين، قد مر فِي أول الْبابُُ.

وَفِيه: فَضِيلَة الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، دَعَاهُ ورعه إِلَى ترك الْملك وَالدُّنْيَا رَغْبَة فِيمَا عِنْد الله تَعَالَى، وَلم يكن ذَلِك لعِلَّة وَلَا لذلة وَلَا لقلَّة، وَقد بَايعه على الْمَوْت أَرْبَعُونَ ألفا، فَصَالحه رِعَايَة لمصْلحَة دينه ومصلحة الْأمة، وَكفى بِهِ شرفاً وفضلاً، فَلَا أسيَد مِمَّن سَمَّاهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سيداً.
وَفِيه: وَفِيه أَن الرُّسُل يسمع قَوْلهم وَلَا يتَعَرَّض إِلَيْهِ.
وَفِيه ولَايَة الْمَفْضُول على الْفَاضِل لِأَن مُعَاوِيَة ولى وَسعد وَسَعِيد حَيَّان وهما يدريان أَن قتال الْمُسلم الْمُسلم لَا يُخرجهُ عَن الْإِسْلَام إِذا كَانَ على تَأْوِيل.
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول فِي النَّار) ، المُرَاد بِهِ تَأْكِيد الْوَعيد عَلَيْهِم،.

     وَقَالَ  الْمُهلب: الحَدِيث يدل على أَن السِّيَادَة إِنَّمَا يَسْتَحِقهَا من ينْتَفع بِهِ النَّاس، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، علق السِّيَادَة بالإصلاح بَين النَّاس.

وَقَالَ أَبُو عَبْدُ الله قَالَ لِي عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله إنَّما ثَبَتَ لَنا سَماعُ الْحَسَنِ مِنْ أبِي بَكْرَةَ بِهَذَا الحَدِيثِ

أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ.
قَوْله: ( سَماع الْحسن) ، أَي: الْبَصْرِيّ من أبي بكرَة نفيع الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ صرح بِالسَّمَاعِ مِنْهُ والْحَدِيث الْمَذْكُور رُوِيَ عَن جَابر أَيْضا، قَالَ الْبَزَّار: وَحَدِيث أبي بكرَة أشهر وَأحسن إِسْنَادًا، وَحَدِيث جَابر أعرف، وَذكر ابْن بطال أَنه روى أَيْضا عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة، وَزعم الدَّارَقُطْنِيّ أَن الْحسن رَوَاهُ أَيْضا عَن أم سَلمَة.
قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَة وهم، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن ابْن أَزْهَر وعَوْف الْأَعرَابِي عَن الْحسن مُرْسلا، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال، وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآل.