فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل من يصرع من الريح

( بابُُ فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ مِنَ الرِّيحِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل من يصرع من الرّيح، كلمة: من، تعليلية أَي: فضل من يحصل لَهُ صرع بِسَبَب الرّيح، أَي: الرّيح الَّتِي تحتبس فِي مناقد الدِّمَاغ وتمنع الْأَعْضَاء الرئيسية عَن انفعالها منعا غير تَامّ، أَو بخار يرْتَفع إِلَيْهِ من بعض الْأَعْضَاء، وَالرِّيح هُوَ مَا يكون منشأ للصرع وَسَببه: شدَّة تعرض فِي بطُون الدِّمَاغ، وَفِي مجاري الأعصاب المحركة، وَسبب الزّبد غلظ الرُّطُوبَة وَالرِّيح وَقد يكون الصرع من الْجِنّ وَلَا يَقع إلاَّ من النُّفُوس الخبيثة مِنْهُم،.

     وَقَالَ  الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس: صرع الْجِنّ للإنس قد يكون عَن شَهْوَة وَهوى وعشق، كَمَا يتَّفق للإنس مَعَ الْإِنْس، وَقد يتناكح الْإِنْس وَالْجِنّ ويولد بَينهمَا ولد، وَقد يكون عَن بغض ومجازاة مثل أَن يؤذيهم بعض النَّاس أَو يَبُول على بَعضهم أَو يصب مَاء حاراً وَيقتل بَعضهم، وَإِن كَانَ الْإِنْس لَا يعرف ذَلِك، وَأنكر طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة كالجبائي وَأبي بكر الرَّازِيّ وَمُحَمّد بن زَكَرِيَّاء الطَّبِيب وَآخَرُونَ دُخُول الْجِنّ فِي بدن المصروع، وأحالوا وجود روحين فِي جَسَد مَعَ إقرارهم بِوُجُود الْجِنّ، وَهَذَا خطأ، وَذكر أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ فِي ( مقالات أهل السّنة وَالْجَمَاعَة) أَنهم يَقُولُونَ: إِن الْجِنّ يدْخل فِي بدن المصروع كَمَا قَالَ لله عز وَجل: { الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا أَلا يقومُونَ إلاَّ كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} ( الْبَقَرَة: 275) .

     وَقَالَ  عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل: قلت لأبي: إِن قوما يَقُولُونَ: إِن الْجِنّ لَا تدخل فِي بدن الْإِنْس، فَقَالَ: يَا بني! يكذبُون، هُوَ ذَا يتَكَلَّم على لِسَانه، وَفِي حَدِيث أم أبان الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أخرج عَدو الله، وَكَذَا فِي حَدِيث أُسَامَة بن زيد: أخرج يَا عَدو الله فَإِنِّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ  القَاضِي عبد الْجَبَّار: أجسامهم كالهواء فَلَا يمْتَنع دُخُولهمْ فِي أبدان الْإِنْس كَمَا يدْخل الرّيح وَالنَّفس المتردد، وَالله أعلم.



[ قــ :5352 ... غــ :5652 ]
- حدّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْيَى اعنْ عِمْرانَ أبي بَكْرٍ قَالَ: حدّثني عَطاءٌ بنُ أبي رباحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابنُ عبَّاسٍ: ألاَ أُرِيكَ امْرأةً منْ أهْلِ الجَنَّةِ؟.

قُلْتُ بَلى.
قَالَ: هاذِه المَرْأةُ السَّوْدَاءُ أتَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالتْ: إنِّي أُصْرِعُ وإنِّي أتَكَشَّفُ فادْعُ الله لِي.
قَالَ: إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلكِ الجَنَّةُ، وإنْ شِئْتِ دَعَوْتُ الله أنْ يُعافِيَكِ.
فقالَتْ: أصْبِرُ.
فقالَتْ: إنِّي أتَكَشَّفُ فادْعُ الله أنْ لَا أتكَشَّفَ، فَدَعا لَهَا.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( إِنِّي أصرع) .

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّلْوِيح) : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ ذكر الرّيح الَّذِي ترْجم لَهُ.
قلت: التَّرْجَمَة معقودة فِي فضل من يصرع، فَالْحَدِيث يدل عَلَيْهِ.
وَقَوله: ( من الرّيح) بَيَان سَبَب الصرع كَمَا قُلْنَا، وَلَا يلْزم أَن يكون لَهُ شَيْء.

وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَعمْرَان هُوَ ابْن مُسلم بَصرِي تَابِعِيّ صَغِير وكنيته أَبُو بكر، فَلذَلِك قَالَ: عَن عمرَان أبي بكر وَهُوَ مَعْرُوف بالقصير.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن القواريري.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم.

قَوْله: ( ألاَ) بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام للعرض.
قَوْله: ( هَذِه الْمَرْأَة السَّوْدَاء) روى أَبُو مُوسَى فِي ( الذيل) من رِوَايَة عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن عَطاء بن أبي رَبَاح فِي هَذَا الحَدِيث: فَأرَانِي حبشية صفراء عَظِيمَة، فَقَالَ: هَذِه سعيرة الأَسدِية، وسعيرة بِضَم السِّين وَفتح الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء، وَيُقَال: شقيرة بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْقَاف، قَالَ الذَّهَبِيّ فِي بابُُ الشين الْمُعْجَمَة: شقيرة الأَسدِية مولاتهم حبشية، قيل: هِيَ سعيرة الَّتِي كَانَت تصرع، وَفِي رِوَايَة المستغفري: سكيرة بِالْكَاف قَوْله: ( إِنِّي أصرع) على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( أتكشف) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة من التكشف من بابُُ التفعل ويروى: انْكَشَفَ، بالنُّون من الانكشاف من بابُُ الانفعال، أَرَادَت أَنَّهَا تخشى أَن تظهر عورتها وَهِي لَا تشعر.
قَوْله: ( إِن شِئْت صبرت)
إِلَى الخ، خَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أَن تصبر على هَذِه الْهَيْئَة وَلها الْجنَّة، وَبَين أَن يَدْعُو الله تَعَالَى فيعافيها، فَاخْتَارَتْ الصَّبْر، ثمَّ قَالَت: أخْشَى من كشف الْعَوْرَة، فَدَعَا لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَانْقَطع عَنْهَا التكشف.
قَوْله: ( فَادع الله أَن لَا أتكشف) بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، ويروى: فَادع الله أَن لَا أنكشف، بالنُّون وَبِزِيَادَة كلمة لي، وَفِيه فَضِيلَة مَا يَتَرَتَّب على الصَّبْر على الصرع، وَأَن اخْتِيَار الْبلَاء وَالصَّبْر عَلَيْهِ يُورث الْجنَّة، وَأَن الْأَخْذ بالشدة أفضل من الْأَخْذ بِالرُّخْصَةِ لمن علم من نَفسه أَنه يُطيق التَّمَادِي على الشدَّة، وَلَا يضعف عَن التزامها.


حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أخبرَنا مَخْلَدٌ عنِ ابنِ جُرَيحٍّ أخْبرنِي عطاءٌ أنَّهُ رأى أُمَّ زُفَرَ تِلْكَ امْرَأةٌ طَوِيلَةٌ سَوْدَاءُ علَى سِتْرِ الكَعْبَةِ.


الَّذِي: يفهم من هَذِه الرِّوَايَة الَّتِي رَوَاهَا البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن مخلد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة ابْن يزِيد عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن عَطاء بن أبي رَبَاح: أَن أم زفر هِيَ الْمَرْأَة السَّوْدَاء الْمَذْكُورَة، وَبِهَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: أم زفر، بِضَم الزَّاي وَفتح الْفَاء وبالراء، كنية تِلْكَ الْمَرْأَة المصروعة، وَلَكِن الَّذِي يفهم من كَلَام الذَّهَبِيّ فِي ( تَجْرِيد الصَّحَابَة) أَن أم زفر غير السَّوْدَاء الْمَذْكُورَة لِأَنَّهُ ذكر كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فِي بابُُ، وَكَذَلِكَ يفهم من كَلَام ابْن الْأَثِير: إِن أم زفر غَيرهَا، حَيْثُ قَالَ: أم زفر ماشطة خَدِيجَة كَانَت عجوزاً سَوْدَاء يَغْشَاهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي زمَان خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَذكر الذَّهَبِيّ أَن أم زفر ثِنْتَانِ حَيْثُ قَالَ فِي بابُُ الكنى: أم زفر كَانَ بهَا جُنُون، ذكرت فِي حَدِيث مُرْسل،.

     وَقَالَ  أَيْضا: أم زفر ماشطة خَدِيجَة فِيمَا قيل، فعلَّم على الأولى عَلامَة البُخَارِيّ وَلم يعلّم على الثَّانِيَة، وَعَن هَذَا قَالَ صَاحب ( التَّلْوِيح) : ذكرت فِي الصحابيات أم زفر ثِنْتَانِ، ثمَّ طول الْكَلَام من غير تَحْرِير، وَقَول الذَّهَبِيّ: ذكرت فِي حَدِيث مُرْسل، هُوَ مَا ذكره أَبُو عمر فِي ( الِاسْتِيعَاب) فَقَالَ: أم زفر الَّتِي كَانَ بهَا مس من الْجِنّ.
ذكر حجاج وَغَيره عَن ابْن جريج عَن الْحسن بن مُسلم أَنه أخبرهُ أَنه سمع طاووساً يَقُول: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُؤْتى بالمجانين فَيضْرب صدر أحدهم وَيبرأ، فَأتي بمجنونة يُقَال لَهَا: أم زفر، فَضرب صدرها فَلم تَبرأ وَلم يخرج شيطانها، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هُوَ مَعهَا فِي الدُّنْيَا وَلها فِي الْآخِرَة خير.
قَوْله: ( تِلْكَ امْرَأَة) هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: تِلْكَ الْمَرْأَة قَوْله: ( على ستر الْكَعْبَة) بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة، أَي: جالسة على ستر الْكَعْبَة أَو مُعْتَمدَة عَلَيْهِ، وعَلى يتَعَلَّق بقوله: رأى،.

     وَقَالَ  أَبُو عمر: قَالَ ابْن جريج: أَخْبرنِي عَطاء أَنه رأى أم زفر تِلْكَ الْمَرْأَة سَوْدَاء طَوِيلَة على سلم الْكَعْبَة، وروى الْبَزَّار من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهَا قَالَت: إِنِّي أَخَاف الْخَبيث أَن يجردني، فَدَعَا لَهَا، فَكَانَت إِذا خشيت أَن يَأْتِيهَا تَأتي أَسْتَار الْكَعْبَة فتتعلق بهَا.