فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره

(بابُُ أَذانِ الأعْمَى إذَا كانَ لهُ مَنْ يُخْبِرِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان أَذَان الْأَعْمَى، إِذا كَانَ عِنْده من يُخبرهُ بِدُخُول الْوَقْت، يَعْنِي يجوز أَذَانه حِينَئِذٍ، وَمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر عَن ابْن مَسْعُود وَابْن الزبير وَغَيرهمَا أَنهم كَرهُوا أَن يكون الْمُؤَذّن أعمى، مَحْمُول على مَا إِذا لم يكن عِنْده من يُخبرهُ بِدُخُول الْوَقْت، وَنقل النَّوَوِيّ عَن أبي حنيفَة: أَن أَذَان الْأَعْمَى لَا يَصح قلت: هَذَا غلط لم يقل بِهِ أَبُو حنيفَة، وَإِنَّمَا ذكر أَصْحَابنَا أَنه يكره ذكره فِي (الْمُحِيط) وَفِي (الذَّخِيرَة) و (الْبَدَائِع) : غَيره أحب، فَكَأَن وَجه الْكَرَاهَة لأجل عدم قدرته على مُشَاهدَة دُخُول الْوَقْت، وَهُوَ فِي الأَصْل مَبْنِيّ على الْمُشَاهدَة.

[ قــ :600 ... غــ :617 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمِ ابنِ عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رجُلاً أعْمَى لاَ يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أصْبَحْتَ أصْبَحْتَ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يُنَادي) إِلَى آخِره.

وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، ومسلمة، بِفَتْح الْمِيم، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبد الله هُوَ ابْن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.

وَهَذَا الحَدِيث أخرجه الطَّحَاوِيّ من تسع طرق صِحَاح: ثَمَانِيَة مَرْفُوعَة، وَوَاحِدَة مَوْقُوفَة.
الأول: عَن يزِيد بن سِنَان عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك إِلَى آخِره، نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ.
الثَّانِي: عَن يزِيد بن سِنَان عَن عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث عَن ابْن شهَاب عَن سَالم عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله.
الثَّالِث: عَن إِبْرَاهِيم بن أبي دَاوُد عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: قَالَ سَالم بن عبد الله: سَمِعت عبد الله يَقُول: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي ابْن أم مَكْتُوم) .
الرَّابِع: عَن يزِيد ابْن سِنَان عَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن أبي سَلمَة عَن الزُّهْرِيّ، فَذكر مثله.
الْخَامِس: عَن الْحسن بن عبد الله بن مَنْصُور البالسي عَن مُحَمَّد بن كثير عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله.
السَّادِس: عَن إِبْرَاهِيم بن مَرْزُوق عَن وهب بن جرير عَن شُعْبَة عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْنَادِهِ، مثله.
السَّابِع: عَن يُونُس عَن ابْن وهب أَن مَالِكًا حَدثهُ عَن عبد الله بن دِينَار، فَذكر بِإِسْنَادِهِ مثله.
الثَّامِن: عَن عَليّ بن شيبَة عَن روح بن عبَادَة عَن مَالك وَشعْبَة عَن عبد الله بن دِينَار، فَذكره بِإِسْنَادِهِ مثله، غير أَنه قَالَ: (حَتَّى يُنَادي بِلَال أَو ابْن أم مَكْتُوم) ، شكّ شُعْبَة.
التَّاسِع: هُوَ الْمَوْقُوف عَن يُونُس عَن ابْن وهب أَن مَالِكًا حَدثهُ عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله، وَلم يذكر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.

وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: هَكَذَا رَوَاهُ يحيى عَن مَالك مُرْسلا عَن سَالم، لم يقل فِيهِ: عَن أَبِيه، وَتَابعه على ذَلِك أَكثر رُوَاة (الْمُوَطَّأ) ، وَمِمَّنْ تَابعه على ذَلِك: ابْن الْقَاسِم وَالشَّافِعِيّ وَابْن بكير وَأَبُو المصعب وَعبد الله بن يُوسُف التنيسِي، وَمصْعَب الزبيرِي وَمُحَمّد بن الْحسن وَمُحَمّد بن الْمُبَارك الصُّورِي وَسَعِيد بن عفير ومعن بن عِيسَى، وَوَصله جمَاعَة عَن مَالك فَقَالُوا فِيهِ: عَن سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمِمَّنْ رَوَاهُ مُسْندًا هَكَذَا: القعْنبِي وَعبد الرَّزَّاق وَأَبُو قُرَّة مُوسَى بن طَارق وروح بن عبَادَة وَعبد الله بن نَافِع ومطرف وَابْن أبي أويس وَعبد الرَّحْمَن ابْن مهْدي وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الخبيبي وَمُحَمّد بن عمر الْوَاقِدِيّ وَأَبُو قَتَادَة الْحَرَّانِي وَمُحَمّد بن حَرْب الأبرش وَزُهَيْر ابْن عباد وكامل بن طَلْحَة وَابْن وهب فِي رِوَايَة أَحْمد بن صَالح عَنهُ.
وَأما أَصْحَاب ابْن شهَاب فَرَوَوْه مُتَّصِلا مُسْندًا عَن ابْن شهَاب.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل) ، ومعناهما وَاحِد، لِأَن معنى قَوْله: يُنَادي يُؤذن، وَالْبَاء فِي: بلَيْل، للظرفية.
قَوْله: (حَتَّى يُنَادي) أَي: حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم، واسْمه: عبد الله، وَيُقَال: عَمْرو وَهُوَ الْأَكْثَر، وَيُقَال: كَانَ اسْمه الْحصين فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن قيس بن زَائِدَة الْقرشِي العامري، وَاسم أم مَكْتُوم: عَاتِكَة بنت عبد الله بن عنكشة بن عَامر بن مَخْزُوم، وَهُوَ ابْن خَال خَدِيجَة بنت خويلد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
وَابْن ام مَكْتُوم هَاجر الى الْمَدِينَة قبل مقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستخلفه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمَدِينَة ثَلَاث عشرَة مرّة، وَشهد فتح الْقَادِسِيَّة، وَقتل شَهِيدا، وَكَانَ مَعَه اللِّوَاء يَوْمئِذٍ.
وَقيل: رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة وَمَات بهَا، وَهُوَ الْأَعْمَى الْمَذْكُور فِي سُورَة: عبس، ومكتوم من: الكتم، سمي بِهِ لكتمان نور عَيْنَيْهِ.
قَوْله: (ثمَّ قَالَ وَكَانَ رجلا أعمى) .
قيل: إِن هَذَا الْقَائِل هُوَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَبِذَلِك جزم الشَّيْخ الْمُوفق فِي (المغنى) قلت: فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: قَالَ ابْن شهَاب؛ وَكَانَ رجلا أعمى، وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي خَليفَة.
فَإِن قلت: فعلى هَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ إدراج.
قلت: لَا نسلم ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يمْنَع كَون ابْن شهَاب قَالَه أَن يكون شَيْخه قَالَه، وَكَذَا شيخ شَيْخه، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان ... الحَدِيث الْمَذْكُور، وَفِيه: قَالَ سَالم: وَكَانَ رجلا ضَرِير الْبَصَر.
قَوْله: (أَصبَحت) ، أَي: قاربت الصَّباح، لِأَن قرب الشَّيْء قد يعبر عَنهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فَإِذا بلغن أَجلهنَّ} (الْبَقَرَة: 234، وَالطَّلَاق: 2) .
أَي: قاربن لِأَن الْعدة إِذا تمت فَلَا رَجْعَة، وَكَانَ فِيهِ تَامَّة، فَلَا تحْتَاج إِلَى خبر، فَهَذَا التَّفْسِير يدْفع إِشْكَال من يَقُول إِنَّه إِذا جعل أَذَانه غَايَة للْأَكْل فَلَو لم يُؤذن حَتَّى يدْخل الصَّباح للَزِمَ مِنْهُ جَوَاز الْأكل بعد طُلُوع الْفجْر، وَالْإِجْمَاع على خِلَافه إلاَّ مَا روى عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش جَوَازه بعد طُلُوع الْفجْر وَلَا يعْتد بِهِ.
فَإِن قيل: يشكل على هَذَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن يُونُس، وَاللَّيْث جَمِيعًا عَن ابْن شهَاب.
وَفِيه: (وَلم يكن يُؤذن حَتَّى يَقُول النَّاس حِين ينظرُونَ إِلَى بزوغ الْفجْر: أذن) .
وَكَذَا رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الصّيام: (حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم، فَإِنَّهُ لَا يُؤذن حَتَّى يطلع الْفجْر) .
وَأَيْضًا، فَإِن قَوْله: (إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل) يشْعر أَن ابْن أم مَكْتُوم بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ قبل الصُّبْح لم يكن بَينه وَبَين بِلَال فرق لصدق أَن كلا مِنْهُمَا أذن قبل الْوَقْت، وَأجِيب بِأَن المُرَاد بالبزوغ ابْتِدَاء طُلُوع الْفجْر، فَيكون أَذَانه عَلامَة لتَحْرِيم الْأكل، وَالظَّاهِر أَنه كَانَ يُرَاعِي لَهُ الْوَقْت، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو قُرَّة من وَجه آخر عَن ابْن عمر حَدِيثا فِيهِ، وَكَانَ ابْن ام مَكْتُوم يتوخى الْفجْر فَلَا يخطئه، وَلَا يكون توخي الْأَعْمَى فِي مثل هَذَا إلاَّ من كَانَ لَهُ من يُرَاعِي الْوَقْت.
وَأجَاب بَعضهم بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون المُرَاد بقَوْلهمْ: أَصبَحت، أَي: قاربت الصَّباح، وُقُوع أَذَانه قبل الْفجْر، لاحْتِمَال أَن يكون قَوْلهم ذَلِك وَقع فِي آخر جُزْء من اللَّيْل، وأذانه يَقع فِي أول جُزْء من طُلُوع الْفجْر.
انْتهى.
قلت: هَذَا بعيد جدا.
والمؤقت الحاذق فِي علمه يعجز عَن تَحْرِير ذَلِك.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ الْأَوْزَاعِيّ وَعبد الله بن الْمُبَارك وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ فَقَالُوا: يجوز أَن يُؤذن للفجر قبل دُخُول وقته، وَمِمَّنْ ذهب إِلَيْهِ: أَبُو يُوسُف، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن عَائِشَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: (إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم) .
على مَا يَجِيء، وَرَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا وَلَفظه: (إِذا أذن بِلَال فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي ابْن ام مَكْتُوم، فَإِن قلت: روى ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أنيسَة بنت خبيب، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أذن ابْن أم مَكْتُوم فَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَإِذا أذن بِلَال فَلَا تَأْكُلُوا وَلَا تشْربُوا.
وَإِن كَانَت الْمَرْأَة منا ليبقى عَلَيْهَا شَيْء من سحورها فَتَقول لِبلَال: أمْهل حَتَّى أفرغ من سحوري) .
وروى الدَّارمِيّ من حَدِيث الْأسود: (عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ لرَسُول الله ثَلَاثَة مؤذنين: بِلَال وَأَبُو مَحْذُورَة وَعَمْرو بن أم مَكْتُوم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا أذن عَمْرو فَإِنَّهُ ضَرِير الْبَصَر فَلَا يَغُرنكُمْ، وَإِذا أذن بِلَال فَلَا يطعمن أحد) .
وروى النَّسَائِيّ أَيْضا: عَن يَعْقُوب عَن هشيم عَن مَنْصُور عَن خبيب بن عبد الرَّحْمَن عَن عمته أنيسَة نَحْو حَدِيث ابْن خُزَيْمَة.
قلت: يجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد جعل الْأَذَان بِاللَّيْلِ نوبا بَين بِلَال وَعَمْرو، فَأمر فِي بعض اللَّيَالِي بِلَالًا أَن يُؤذن أَولا بِاللَّيْلِ، فَإِذا نزل بِلَال صعد عَمْرو فَأذن بعده بِالنَّهَارِ، فَإِذا جَاءَت نوبَة عَمْرو بَدَأَ فَأذن بلَيْل فَإِذا نزل صعد بِلَال فَأذن بعده بِالنَّهَارِ، وَكَانَت مقَالَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَت النّوبَة لِبلَال فِي الْأَذَان بِاللَّيْلِ، وَكَانَت مقَالَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن ابْن مَكْتُوم يُؤذن بلَيْل فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَت النّوبَة فِي الْأَذَان بِاللَّيْلِ نوبَة ابْن أم مَكْتُوم، فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم النَّاس فِي كلا الْوَقْتَيْنِ أَن الْأَذَان الأول مِنْهُمَا هُوَ أَذَان بلَيْل لَا بنهار، وَأَنه لَا يمْنَع من إراد الصَّوْم طَعَاما وَلَا شرابًا، وَإِن الْأَذَان الثَّانِي إِنَّمَا يمْنَع الْمطعم وَالْمشْرَب، إِذْ هُوَ بنهار لَا بلَيْل.
.

     وَقَالَ  الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَزفر بن الْهُذيْل: لَا يجوز أَن يُؤذن للفجر أَيْضا إلاَّ بعد دُخُول وَقتهَا، كَمَا لَا يجوز لسَائِر الصَّلَوَات إلاَّ بعد دُخُول وَقتهَا، لِأَنَّهُ للإعلام بِهِ، وَقبل دُخُوله تجهيل وَلَيْسَ بإعلام، فَلَا يجوز.
وَأما الْجَواب عَن أَذَان بِلَال الَّذِي كَانَ يُؤذن بِاللَّيْلِ قبل دُخُول الْوَقْت فَلم يكن ذَلِك لأجل الصَّلَاة، بل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لينتبه النَّائِم وليتسحر الصَّائِم، وليرجع الْغَائِب، بَين ذَلِك مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يمنعن أحدكُم أَو وَاحِدًا مِنْكُم أَذَان بِلَال من سحوره، فَإِنَّهُ يُؤذن أَو يُنَادي بلَيْل ليرْجع غائبكم ولينتبه نائمك) الحَدِيث على مَا يَأْتِي عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَأخرجه مُسلم أَيْضا.
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من ثَلَاث طرق، وَلَفظه: (لَا يمنعن أحدكُم أَذَان بِلَال من سحوره، فَإِنَّهُ يُنَادي أَو يُؤذن ليرْجع غائبكم ولينتبه نائمكم) .
الحَدِيث، وَمعنى: (ليرْجع غائبكم) : ليرد غائبكم من الْغَيْبَة، وَرجع يتَعَدَّى بِنَفسِهِ وَلَا يتَعَدَّى، وَالرِّوَايَة الْمَشْهُورَة: (ليرْجع قائمكم) من: الْقيام، وَمَعْنَاهُ: ليكمل ويستعجل بَقِيَّة ورده، وَيَأْتِي بوتره قبل الْفجْر.
.

     وَقَالَ  عِيَاض مَا ملخصه: مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة بعيد إِذْ لم يخْتَص هَذَا بِشَهْر رَمَضَان، وَإِنَّمَا أخبر عَن عَادَته فِي أَذَانه، وَلِأَنَّهُ الْعَمَل الْمَنْقُول فِي سَائِر الْحول بِالْمَدِينَةِ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُف حِين تحَققه، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ للسحور لم يخْتَص بِصُورَة الْأَذَان للصَّلَاة.
قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه بعيد لأَنهم لم يَقُولُوا بِأَنَّهُ مُخْتَصّ بِشَهْر رَمَضَان، وَالصَّوْم غير مَخْصُوص بِهِ، فَكَمَا أَن الصَّائِم فِي رَمَضَان يحْتَاج إِلَى الإيقاظ لأجل السّحُور، فَكَذَلِك الصَّائِم فِي غَيره، بل هَذَا أَشد لِأَن من يحيي ليَالِي رَمَضَان أَكثر مِمَّن يحيي ليَالِي غَيره، فعلى قَوْله: إِذا كَانَ أَذَان بِلَال للصَّلَاة كَانَ يَنْبَغِي أَن يجوز أَدَاء صَلَاة الْفجْر بِهِ، بل هم يَقُولُونَ أَيْضا بِعَدَمِ جَوَازه، فَعلم أَن أَذَانه إِنَّمَا كَانَ لأجل إيقاظ النَّائِم، ولإرجاع الْقَائِم.
وَمن أقوى الدَّلَائِل على أَن أَذَان بِلَال لم يكن لأجل الصَّلَاة مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن نَافِع: (عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: أَن بِلَالًا أذن قبل طُلُوع الْفجْر، فَأمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يرجع فينادي: أَلا إِن العَبْد نَام، فَرجع فَنَادَى: أَلا إِن العَبْد نَام) .
وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا، فَهَذَا ابْن عمر روى هَذَا، وَالْحَال أَنه روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي ابْن ام مَكْتُوم) ، فَثَبت بذلك أَن مَا كَانَ من ندائه قبل طُلُوع الْفجْر لم يكن للصَّلَاة.
فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة غير مَحْفُوظ، وَالصَّحِيح هُوَ حَدِيثه الَّذِي فِيهِ: (إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل) إِلَى آخِره؟ قلت: مَا قَالَه: لَا يكون مَحْفُوظًا، صَحِيحا، لِأَنَّهُ لَا مُخَالفَة بَين حديثيه، لأَنا قد ذكرنَا أَن حَدِيثه الَّذِي رَوَاهُ غير حَمَّاد إِنَّمَا كَانَ لأجل إيقاظ النَّائِم وإرجاع الْقَائِم، فَلم يكن للصَّلَاة.
وَأما حَدِيث حَمَّاد فَإِنَّهُ كَانَ لأجل الصَّلَاة فَلذَلِك أمره بِأَن يعود وينادي: (أَلا إِن العَبْد نَام) ، وَمِمَّا يُقَوي حَدِيث حَمَّاد مَا رَوَاهُ سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن بِلَالًا أذن قبل الْفجْر فَأمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يصعد فينادي: إِن العَبْد نَام) .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ أَبُو يُوسُف عَن سعيد، وَغَيره يُرْسِلهُ، والمرسل أصح.
قلت: أَبُو يُوسُف ثِقَة، وهم وثقوه، وَالرَّفْع من الثِّقَة زِيَادَة مَقْبُولَة، وَمِمَّا يقويه حَدِيث حَفْصَة بنت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أذن الْمُؤَذّن بِالْفَجْرِ قَامَ فصلى رَكْعَتي الْفجْر، ثمَّ خرج إِلَى الْمَسْجِد وَحرم الطَّعَام، وَكَانَ لَا يُؤذن حَتَّى يصبح) .
رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: فَهَذِهِ حَفْصَة تخبر أَنهم كَانُوا لَا يُؤذنُونَ للصَّلَاة إلاَّ بعد طُلُوع الْفجْر.
فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا مَحْمُول إِن صَحَّ على الْأَذَان الثَّانِي،.

     وَقَالَ  الْأَثْرَم: رَوَاهُ النَّاس عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن حَفْصَة، وَلم يذكرُوا فِيهِ مَا ذكره عبد الْكَرِيم عَن نَافِع.
قلت: كَلَام الْبَيْهَقِيّ يدل على صِحَة الحَدِيث عِنْده، وَلكنه لما لم يجد مجالاً لتضعيفه ذهب إِلَى تَأْوِيله، وَعبد الْكَرِيم الْجَزرِي ثِقَة، أخرج لَهُ الْجَمَاعَة وَغَيرهم، فَمن كَانَ بِهَذِهِ المثابة لَا يُنكر عَلَيْهِ إِذا ذكر مَا لم يذكرهُ غَيره.
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: يحْتَمل أَن يكون بِلَال كَانَ يُؤذن فِي وَقت يرى أَن الْفجْر قد طلع فِيهِ، وَلَا يتَحَقَّق لضعف فِي بَصَره، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال، فَإِن فِي بَصَره شَيْئا) .
وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى، وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا تَأْكِيدًا لذَلِك عَن أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال: (أَنَّك تؤذن إِذا كَانَ الْفجْر ساطعا وَلَيْسَ ذَلِك الصُّبْح، إِنَّمَا الصُّبْح هَكَذَا مُعْتَرضًا) وَالْمعْنَى: أَن بِلَالًا كَانَ يُؤذن عِنْد طُلُوع الْفجْر الْكَاذِب الَّذِي لَا يخرج بِهِ حكم اللَّيْل، وَلَا تحل بِهِ صَلَاة الصُّبْح، وَمِمَّا يدل حَدِيث الْبابُُ على اسْتِحْبابُُ أَذَان وَاحِد بعد وَاحِد.

وَأما أَذَان اثْنَيْنِ مَعًا فَمنع مِنْهُ قوم، وَقَالُوا: أول من أحدثه بَنو أُميَّة.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِيَّة: لَا يكره إلاَّ إِن حصل مِنْهُ تهويش.
.

     وَقَالَ  ابْن دَقِيق الْعِيد: وَأما الزِّيَادَة على الْإِثْنَيْنِ فَلَيْسَ فِي الحَدِيث تعرض إِلَيْهِ.
وَنَصّ الشَّافِعِي على جَوَازه، وَلَفظه: وَلَا يضيق إِن أذن أَكثر من اثْنَيْنِ.

وَفِيه: جَوَاز تَقْلِيد الْأَعْمَى للبصير فِي دُخُول الْوَقْت، وَصحح النَّوَوِيّ فِي كتبه: أَن للأعمى والبصير إعتماد الْمُؤَذّن الثِّقَة.

وَفِيه: الِاعْتِمَاد على صَوت الْمُؤَذّن والاعتماد عَلَيْهِ أَيْضا فِي الرِّوَايَة إِذا كَانَ عَارِفًا بِهِ، وَإِن لم يُشَاهد الرَّاوِي.

وَفِيه: اسْتِحْبابُُ السّحُور وتأخيره.
وَفِيه: جَوَاز الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد.
وَفِيه: أَن مَا بعد الْفجْر حكم النَّهَار.
وَفِيه جَوَاز ذكر الرجل بِمَا فِيهِ من العاهة إِذا كَانَ لقصد التَّعْرِيف وَفِيه جَوَاز نِسْبَة الرجل إِلَى أمه إِذا اشْتهر بذلك.
وَفِيه: جَوَاز التكنية للْمَرْأَة.