فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال»

( بابُُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ آذَانُ بِلاَلٍ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره.
قَوْله: ( لَا يمنعنَّكم) ، بنُون التَّأْكِيد فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ( لَا يمنعْكم) بِسُكُون الْعين من غير نون التَّأْكِيد، والسحور، بِفَتْح السِّين: اسْم مَا يتسحر بِهِ من الطَّعَام وَالشرَاب، وبالضم الْمصدر، وَالْفِعْل نَفسه، وَأكْثر مَا يرْوى بِالْفَتْح، وَقيل: إِن الصَّوَاب بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ بِالْفَتْح الطَّعَام وَالْبركَة وَالْأَجْر وَالثَّوَاب فِي الْفِعْل لَا فِي الطَّعَام.



[ قــ :1836 ... غــ :1918 ]
- حدّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْماعِيلَ عنْ أبي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ الله عَنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ والْقَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أنَّ بِلاَلاً كانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَقال رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فإنَّهُ لاَ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ..
قَالَ الْقاسِمُ ولَمْ يَكنْ بَيْنَ أذَانِهِمَا إلاَّ أنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا.
( انْظُر الحَدِيث 226) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن مَعْنَاهُ وَمعنى التَّرْجَمَة وَاحِد، وَإِن اخْتلف اللَّفْظ.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَلم يَصح عِنْد البُخَارِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لفظ التَّرْجَمَة، فاستخرج مَعْنَاهُ من حَدِيث عَائِشَة،.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّلْوِيح) : فِيهِ نظر من حَيْثُ إِن البُخَارِيّ صَحَّ عِنْده لفظ التَّرْجَمَة، وَذَلِكَ أَنه ذكر فِي: بابُُ الآذان قبل الْفجْر حَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ( لَا يمنعن أحدكُم أَو وَاحِدًا مِنْكُم آذان بِلَال من سحوره) ، فَلَو خرجه أَبُو عبد الله فِي هَذَا الْبابُُ لَكَانَ أمس،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَلَفظ التَّرْجَمَة رَوَاهُ وَكِيع عَن أبي هِلَال عَن سوَادَة بن حَنْظَلَة عَن سَمُرَة، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَا يمنعكم من سحوركم آذان بِلَال وَلَا الْفجْر المستطيل، وَلَكِن الْفجْر المستطير فِي الْأُفق) .
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: هُوَ حَدِيث حسن، وَقد مضى فِي كتاب مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي: بابُُ الآذان قبل الْفجْر؛ عَن يُوسُف بن عِيسَى عَن الْفضل بن مُوسَى عَن عبيد الله بن عمر عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل: اسْمه فِي الأَصْل عبد الله، يكنى أَبَا مُحَمَّد الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي، مر فِي الْحيض عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق.

قَوْله: ( وَالقَاسِم) ، بِالْجَرِّ عطف على نَافِع لَا على ابْن عمر، لِأَن عبيد الله بن عمر رَوَاهُ عَن نَافِع عَن ابْن عَمْرو عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وَالْحَاصِل أَن لِعبيد الله هُنَا شَيْخَانِ يروي عَنْهُمَا، وهما نَافِع وَالقَاسِم بن مُحَمَّد،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: وَأَخْطَأ من ضَبطه بِالرَّفْع.
قَوْله: ( حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم) ، هُوَ عَمْرو بن الْقَيْس العامري، وَقيل: غير ذَلِك، وَقد مر فِيمَا مضى، وَأم مَكْتُوم اسْمهَا عَاتِكَة بنت عبد الله.
قَوْله: ( إلاَّ أَن يرقى) ، بِفَتْح الْقَاف، أَي: يصعد.
يُقَال: رقى يرقى رقياً من بابُُ: علم يعلم.
قَوْله: ( وَينزل) ؛ بِالنّصب أَي: وَأَن ينزل، وَكلمَة، أَن، مَصْدَرِيَّة، وَكلمَة: ذَا، فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحل الرّفْع على الفاعلية.
.

     وَقَالَ  الْمُهلب: وَالَّذِي يفهم من اخْتِلَاف أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث أَن بِلَالًا كَانَت رتبته أَن يُؤذن بلَيْل على أمره بِهِ الشَّارِع من الْوَقْت ليرْجع الْقَائِم وينبه النَّائِم وليدرك السّحُور مِنْهُم من لم يتسحر، وَقد روى هَذَا كُله ابْن مَسْعُود عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانُوا يتسحرون بعد آذانه وَفِيه قريب أَذَان ابْن أم مَكْتُوم من آذان بِلَال.
.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: قَوْله: ( لم يكن بَين أذانيهما)
إِلَى آخِره، وَقد قيل لَهُ: أَصبَحت أَصبَحت، دَلِيل على أَن ابْن أم مَكْتُوم كَانَ يُرَاعِي قرب طُلُوع الْفجْر أَو طلوعه، لِأَنَّهُ لم يكن يَكْتَفِي بآذان بِلَال فِي علم الْوَقْت، لِأَن بِلَالًا فِيمَا يدل عَلَيْهِ الحَدِيث كَانَ تخْتَلف أوقاته، وَإِنَّمَا حكى من قَالَ: ينزل ذَا ويرقى ذَا، مَا شَاهد فِي بعض الْأَوْقَات، وَلَو كَانَ فعله لَا يخْتَلف لَا كتفى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يقل: ( فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم) ، ولقال إِذا فرغ بِلَال فكفوا وَلكنه جعل أول أَذَان ابْن أم مَكْتُوم عَلامَة للكف، وَيحْتَمل أَن لِابْنِ أم مَكْتُوم من يُرَاعِي الْوَقْت، وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ رُبمَا خَفِي عَنهُ الْوَقْت، وَيبين ذَلِك مَا روى ابْن وهب عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب ( عَن سَالم، قَالَ: كَانَ ابْن أم مَكْتُوم ضَرِير الْبَصَر، وَلم يكن يُؤذن حَتَّى يَقُول لَهُ النَّاس حِين ينظرُونَ إِلَى بزوغ الْفجْر: إذِّن) .
وقدروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أنيسَة، وَكَانَت حجت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
أَنَّهَا قَالَت: كَانَ إِذا نزل وَأَرَادَ أَن يصعد ابْن أم مَكْتُوم تعلقوا بِهِ، قَالُوا: كَمَا أَنْت حَتَّى نتسحر،.

     وَقَالَ  أَبُو عبد الْملك: هَذَا الحَدِيث فِيهِ صعوبة، وَكَيف لَا يكون بَين آذانيهما، إلاَّ ذَلِك، وَهَذَا يُؤذن بلَيْل وَهَذَا بعد الْفجْر، فَإِن صَحَّ أَن بِلَالًا كَانَ يُصَلِّي وَيذكر الله فِي الْموضع الَّذِي هُوَ بِهِ حِين يسمع مَجِيء ابْن أم مَكْتُوم، وَهَذَا لَيْسَ يبين لِأَنَّهُ قَالَ: ( لم يكن بَين آذانيهما إِلَّا أَن يرقى ذَا وَينزل ذَا) ، فَإِذا أَبْطَأَ بعد الآذان لصَلَاة وَذكر لم يقل ذَلِك، وَإِنَّمَا يُقَال: لما نزل هَذَا طلع هَذَا،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: فعلى هَذَا كَانَ فِي وَقت تَأَخّر بِلَال، بآذانه فشهده الْقَاسِم، فَظن أَن ذَلِك عَادَتهمَا، قَالَ: وَلَيْسَ بمنكر أَن يَأْكُلُوا حَتَّى يَأْخُذ الآخر فِي آذانه، وَجَاء أَنه كَانَ لَا يُنَادي حَتَّى يُقَال لَهُ: أَصبَحت أَصبَحت، أَي: دخلت فِي الصَّباح، أَو قاربته.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) : قَوْله: فشهده الْقَاسِم، غلط فَتَأَمّله.
قلت: لِأَن قاسماً لم يدْرك هَذَا.

وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هَذَا الْبابُُ أَن الصَّائِم لَهُ أَن يَأْكُل وَيشْرب إل طُلُوع الْفجْر الصَّادِق، فَإِذا طلع الْفجْر الصَّادِق كف، وَهَذَا قَول الْجُمْهُور من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَذهب معمر وَسليمَان الْأَعْمَش وَأَبُو مجلز وَالْحكم بن عتيبة: إِلَى جَوَاز التسحر مَا لم تطلع الشَّمْس، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث حُذَيْفَة، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من رِوَايَة زر بن حُبَيْش، قَالَ: ( تسحرت ثمَّ انْطَلَقت إِلَى الْمَسْجِد فمررت بمنزل حُذَيْفَة فَدخلت عَلَيْهِ فَأمر بلقحة فحلبت، وبقدر فسخنت، ثمَّ قَالَ: كل، فَقلت: إِنِّي أُرِيد الصَّوْم، فَقَالَ: وَأَنا أُرِيد الصَّوْم.
قَالَ: فأكلنا وشربنا ثمَّ أَتَيْنَا الْمَسْجِد فأقيمت الصَّلَاة.
قَالَ: هَكَذَا فعل بِي رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، أَو: صنعت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قلت: بعد الصُّبْح؟ قَالَ: بعد الصُّبْح، غير أَن الشَّمْس لم تطلع)
.
وَأخرجه النَّسَائِيّ وَأحمد فِي ( مُسْنده) .

     وَقَالَ  ابْن حزم عَن الْحسن: كل مَا امتريت، وَعَن ابْن جريج: قلت: لعطاء: أيكره أَن أشْرب وَأَنا فِي الْبَيْت لَا أَدْرِي لعَلي أَصبَحت؟ قَالَ: لَا بَأْس بذلك، هُوَ شكّ،.

     وَقَالَ  ابْن شيبَة: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن مُسلم، قَالَ: لم يَكُونُوا يعدون الْفجْر فجركم إِنَّمَا كَانُوا يعدون الْفجْر الَّذِي يمْلَأ الْبيُوت والطرق.
وَعَن معمر: أَنه كَانَ يُؤَخر السّحُور جدا حَتَّى يَقُول الْجَاهِل: لَا صَوْم لَهُ.
وروى سعيد بن مَنْصُور وَابْن أبي شيبَة وَابْن الْمُنْذر، من طرق: عَن أبي بكر أَنه أَمر بغلق الْبابُُ حَتَّى لَا يرى الْفجْر، وروى ابْن الْمُنْذر بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه صلى الصُّبْح، ثمَّ قَالَ: الْآن حِين يتَبَيَّن الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: ذهب بَعضهم إِلَى أَن المُرَاد بتبين بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل أَن ينتشر الْبيَاض من الطّرق والسكك والبيوت، وروى بِإِسْنَاد صَحِيح عَن سَالم بن عبيد الْأَشْجَعِيّ وَله صُحْبَة، أَن أَبَا بكر، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ لَهُ: أخرج فَانْظُر هَل طلع الْفجْر؟ قَالَ: فَنَظَرت ثمَّ أَتَيْته فَقلت: قد ابيَّض وسطع، ثمَّ قَالَ: أخرج فَانْظُر هَل طلع؟ فَنَظَرت فَقلت: قد اعْترض.
فَقَالَ: الْآن أبلغني شرابي.
وروى من طَرِيق وَكِيع عَن الْأَعْمَش أَنه قَالَ: لَوْلَا الشُّهْرَة لصليت الْغَدَاة ثمَّ تسحرت، وروى التِّرْمِذِيّ،.

     وَقَالَ : حَدثنَا هناد حَدثنَا ملازم بن عمر وحَدثني عبيد الله بن النُّعْمَان عَن قيس بن طلق بن عَليّ حَدثنِي أبي طلق بن عَليّ: ( أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: وكلوا وَاشْرَبُوا وَلَا يهيدنكم الساطع المصعد، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يعْتَرض لكم الْأَحْمَر) .
قَوْله: ( لَا يهيدنكم) أَي: يمنعنكم الْأكل من هاد، يهيد، وأصل: الهيد، الزّجر.
قَوْله: ( الساطع المصعد) ، قَالَ الْخطابِيّ: سطوعه ارتفاعه مصعداً قبل أَن يعْتَرض.
قَالَ: وَمعنى الْأَحْمَر هَهُنَا أَن يستبطن الْبيَاض الْمُعْتَرض أَوَائِل حمرَة، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
<"