فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: إذا كان الثوب ضيقا

( بابٌُ إذَا كانَ الثَّوْبُ ضَيِّقاً)

أَي: هَذَا بابُُ فِيهِ كَيفَ يفعل الْمُصَلِّي إِذا كَانَ الثَّوْب ضيقا، والضيق، بِفَتْح الضَّاد وَتَشْديد الْيَاء، وَجَاز فِيهِ تَخْفيف الْيَاء: وَهُوَ صفة مشبهة، وَاسم الْفَاعِل من هَذِه الْمَادَّة: ضائق، على وزن: فَاعل، وَالْفرق بَينهمَا: أَن الصّفة المشبهة تدل على الثُّبُوت، وَاسم الْفَاعِل يدل على الْحُدُوث.


[ قــ :357 ... غــ :361]
- ( حَدثنَا يحيى بن صَالح قَالَ حَدثنَا فليح بن سُلَيْمَان عَن سعيد بن الْحَارِث قَالَ سَأَلنَا جَابر بن عبد الله عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد فَقَالَ خرجت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بعض أَسْفَاره فَجئْت لَيْلَة لبَعض أَمْرِي فَوَجَدته يُصَلِّي وَعلي ثوب وَاحِد فاشتملت بِهِ وَصليت إِلَى جَانِبه فَلَمَّا انْصَرف قَالَ مَا السّري يَا جَابر فَأَخْبَرته بحاجتي فَلَمَّا فرغت قَالَ مَا هَذَا الاشتمال الَّذِي رَأَيْت قلت كَانَ ثوبا يَعْنِي ضَاقَ قَالَ فَإِن كَانَ وَاسِعًا فالتحف بِهِ وَإِن كَانَ ضيقا فاتزر بِهِ) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله " فَإِن كَانَ وَاسِعًا " إِلَى آخِره.
( ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة.
الأول يحيى بن صَالح أَبُو زَكَرِيَّا الوحاظي بِضَم الْوَاو وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة وبالظاء الْمُعْجَمَة الْحِمصِي الْحَافِظ الْفَقِيه مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي فليح بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة تقدم فِي أول كتاب الْعلم.
الثَّالِث سعيد بن الْحَارِث الْأنْصَارِيّ قَاضِي الْمَدِينَة.
الرَّابِع جَابر بن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
( ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَفِيه السُّؤَال وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني.
( ذكر من أخرجه غَيره) هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ من طَرِيق سعيد بن الْحَارِث وَأخرجه مُسلم من حَدِيث عبَادَة عَن جَابر مطولا وَفِيه " إِذا كَانَ وَاسِعًا فَخَالف بَين طَرفَيْهِ وَإِن كَانَ ضيقا فاشدده على حقوك " وَأخرجه أَبُو دَاوُد كَذَلِك قَوْله " على حقوك " بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسرهَا الْإِزَار وَالْأَصْل فِيهِ معقد الْإِزَار ثمَّ سمى بِهِ الْإِزَار للمجاورة وَجمعه أَحَق وأحقاء ( ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " فِي بعض أَسْفَاره " عينه مُسلم فِي رِوَايَته " غَزْوَة بواط " بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْوَاو وَبعد الْألف طاء مُهْملَة قَالَ الصغاني بواط جبال جُهَيْنَة من نَاحيَة ذِي خشب وَبَين بواط وَالْمَدينَة ثَلَاثَة برد أَو أَكثر.

     وَقَالَ  ابْن اسحق جَمِيع مَا غزا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِنَفسِهِ الْكَرِيمَة سبع وَعِشْرُونَ غَزْوَة.
ودان وَهِي غَزْوَة الْأَبْوَاء وغزوة بواط من نَاحيَة رضوى ثمَّ عد الْجَمِيع قَوْله " فَجئْت " أَي إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " لبَعض أَمْرِي " أَي لأجل بعض حوائجي وَالْأَمر هُوَ وَاحِد الْأُمُور لَا وَاحِد الْأَوَامِر قَوْله " يُصَلِّي " فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان لوجدت قَوْله " وعَلى ثوب وَاحِد " جملَة إسمية فِي مَحل النصب على الْحَال قَوْله " وَصليت إِلَى جَانِبه " كلمة إِلَى فِي الأَصْل للانتهاء فَالْمَعْنى صليت منتهيا إِلَى جَانِبه وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى فِي لِأَن حُرُوف الْجَرّ يقوم بَعْضهَا مقَام بعض وَيجوز أَن يُقَال فِيهِ تضمين معنى الانضمام أَي صليت مُنْضَمًّا إِلَى جَانِبه قَوْله " فَلَمَّا انْصَرف " أَي من الصَّلَاة واستقبال الْقبْلَة قَوْله " فَقَالَ مَا السرى " بِضَم السِّين مَقْصُورا وَهُوَ السّير بِاللَّيْلِ وَهُوَ اسْتِفْهَام عَن سَبَب سراه بِاللَّيْلِ وَالسُّؤَال لَيْسَ عَن نفس السرى بل عَن سَببه قَوْله " مَا هَذَا الاشتمال " كَأَنَّهُ اسْتِفْهَام إِنْكَار وَسبب الْإِنْكَار أَن الثَّوْب كَانَ ضيقا وَأَنه خَالف بَين طَرفَيْهِ وتواقص أَي انحنى عَلَيْهِ حَتَّى لَا يسْقط فَكَأَنَّهُ عِنْد الْمُخَالفَة بَين طرفِي الثَّوْب لم يصر ساترا إِذا انحنى ليستتر فَأعلمهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِأَن مَحل ذَلِك فِيمَا إِذا كَانَ الثَّوْب وَاسِعًا وَأما إِذا كَانَ ضيقا فَإِنَّهُ يجْزِيه أَن يتزر بِهِ لِأَن الْمَقْصُود هُوَ ستر الْعَوْرَة وَهُوَ يحصل بالاتزار وَلَا يحْتَاج إِلَى الانحناء المغاير للاعتدال الْمَأْمُور بِهِ قَوْله " كَانَ ثوبا " أَي كَانَ الْمُشْتَمل بِهِ ثوبا فَيكون انتصاب ثوبا على أَنه خبر كَانَ وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وكريمة " كَانَ ثوب " بِالرَّفْع وَوَجهه أَن تكون كَانَ تَامَّة فَلَا تحْتَاج إِلَى الْخَبَر وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " كَانَ ثوبا ضيقا " قَوْله " فاتزر بِهِ " أَمر.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي بإدغام الْهمزَة المقلوبة تَاء فِي التَّاء وَقَول التصريفيين اتزر خطأ هُوَ الْخَطَأ ( قلت) تَحْقِيق هَذِه الْمَادَّة أَن أصل الْفِعْل أزر على ثَلَاثَة أحرف فَلَمَّا نقل إِلَى بابُُ الافتعال صَار امتزر على وزن افتعل بهمزتين أولاهما مَكْسُورَة وَهِي همزَة الافتعال وَالْأُخْرَى سَاكِنة وَهِي همزَة الْفِعْل ثمَّ يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ أَحدهمَا أَن تقلب الْهمزَة يَاء آخر الْحُرُوف فَيُقَال أيتزر وَالْآخر أَن تقلب تَاء مثناة من فَوق وتدغم التَّاء فِي التَّاء وَهُوَ معنى قَول الْكرْمَانِي بإدغام الْهمزَة المقلوبة تَاء فِي التَّاء وَلَفظ الحَدِيث على الْوَجْه الأول.
( ذكر استنباط الحكم مِنْهُ) قَالَ الْخطابِيّ الاشتمال الَّذِي أنكرهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ اشْتِمَال الصماء وَهُوَ أَن يُجَلل نَفسه بِثَوْبِهِ وَلَا يرفع شَيْئا من جوانبه وَلَا يُمكنهُ إِخْرَاج يَدَيْهِ إِلَّا من أَسْفَله فيخاف أَن تبدو عَوْرَته عِنْد ذَلِك.

     وَقَالَ  ابْن بطال حَدِيث جَابر هَذَا تَفْسِير حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي فِي الْبابُُ الْمُتَقَدّم وَهُوَ " لَا يصلين أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على عَاتِقه مِنْهُ شَيْء " فِي أَنه أَرَادَ الثَّوْب الْوَاسِع الَّذِي يُمكن أَن يشتمله وَأما إِذا كَانَ ضيقا فَلم يُمكنهُ أَن يشْتَمل بِهِ فليتز بِهِ.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي فَإِن قيل الحَدِيث السَّابِق فِيهِ نهي عَن الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد متزرا بِهِ وَظَاهره يُعَارض " وَإِن كَانَ ضيقا فاتزر بِهِ " وَأجَاب الطَّحَاوِيّ بِأَن النَّهْي عَنهُ للواجد لغيره وَأما من لم يجد غَيره فَلَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِيهِ كَمَا لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوْب الضّيق متزرا.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ جَوَاز طلب الْحَوَائِج بِاللَّيْلِ من السُّلْطَان لخلأ مَوْضِعه وَجَوَاز مَجِيء الرجل إِلَى غَيره بِاللَّيْلِ لِحَاجَتِهِ.
وَمن ذَلِك أَن الثَّوْب إِذا كَانَ وَاسِعًا يُخَالف بَين طَرفَيْهِ وَإِن كَانَ ضيقا يتزر بِهِ.



[ قــ :358 ... غــ :36] ( حَدثنَا مُسَدّد قَالَ حَدثنَا يحيى عَن سُفْيَان قَالَ حَدثنِي أَبُو حَازِم عَن سهل قَالَ كَانَ رجال يصلونَ مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عاقدي أزرهم على أَعْنَاقهم كَهَيئَةِ الصّبيان) ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي أول بَاب عقد الْإِزَار على الْقَفَا مُعَلّقا حَيْثُ قَالَ.

     وَقَالَ  أَبُو حَازِم عَن سهل " صلوا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عاقدي أزرهم على عواتقهم " وَأخرجه هَهُنَا مُسْندًا عَن مُسَدّد بن مسرهد عَن يحيى الْقطَّان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة سَلمَة بن دِينَار عَن سهل بن سعد السَّاعِدِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى آخِره وَأخرجه أَيْضا عَن مُحَمَّد بن كثير وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد عَن يحيى بِهِ وَلَفظ أبي دَاوُد عَن سهل بن سعد قَالَ " رَأَيْت الرِّجَال عاقدي أزرهم فِي أَعْنَاقهم من ضيق الأزر خلف رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّلَاة كأمثال الصّبيان فَقَالَ قَائِل يَا معشر النِّسَاء لَا ترفعن رؤسكن حَتَّى يرفع الرِّجَال ".
( ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " عَن سُفْيَان " قد ذكرنَا أَنه الثَّوْريّ.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي يحْتَمل أَن يكون سُفْيَان بن عُيَيْنَة لِأَنَّهُمَا يرويان عَن أبي حَازِم ( قلت) نَص الْمزي فِي الْأَطْرَاف أَنه سُفْيَان الثَّوْريّ قَوْله " كَانَ رجال " قَالَ الْكرْمَانِي التنكير فِيهِ للتنويع أَو للتَّبْعِيض أَي بعض الرِّجَال وَلَو عرفه لأفاد الِاسْتِغْرَاق وَهُوَ خلاف الْمَقْصُود وَتَبعهُ بَعضهم فِي شَرحه فَقَالَ التنكير فِيهِ للتنويع وَهُوَ يَقْتَضِي أَن بَعضهم كَانَ بِخِلَاف ذَلِك وَهُوَ كَذَلِك ( قلت) مَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد الْمَذْكُورَة يرد مَا ذكرَاهُ لِأَن فِي رِوَايَته رَأَيْت الرِّجَال بالتعريف قَوْله " يصلونَ " خبر كَانَ قَوْله " عاقدي أزرهم " أَصله عاقدين أزرهم فَلَمَّا أضيف سَقَطت النُّون وَهِي حَال وَيجوز أَن يكون انتصابه على أَنه خبر كَانَ وَيكون قَوْله " يصلونَ " فِي مَحل النصب على الْحَال قَوْله " كَهَيئَةِ الصّبيان " وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " كأمثال الصّبيان " كَمَا ذكرنَا وَالْمعْنَى قريب.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ أَن الثَّوْب إِذا كَانَ يُمكن الالتحاف بِهِ كَانَ أولى من الاتزار بِهِ لِأَنَّهُ أبلغ فِي السّتْر ( وَيُقَال للنِّسَاء لَا ترفعن رؤسكن حَتَّى يَسْتَوِي الرِّجَال جُلُوسًا) قَالَ الْكرْمَانِي أَي قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " فَقَالَ قَائِل يَا معشر النِّسَاء " كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن وَهَذَا الْقَائِل أَعم من أَن يكون النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَو غَيره وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة الْكشميهني " وَيُقَال للنِّسَاء " وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ " فَقيل للنِّسَاء " وروى أَبُو دَاوُد ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أَسمَاء بنت أبي بكر " سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول من كَانَ مِنْكُن تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا ترفع رَأسهَا حَتَّى يرفع الرِّجَال رُؤْسهمْ كَرَاهِيَة أَن تَرين عورات الرِّجَال " وَهَذَا فِيهِ التَّصْرِيح بِأَن الْقَائِل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " لَا ترفعن " أَي من السُّجُود قَوْله " جُلُوسًا " أما جمع جَالس كالركوع جمع رَاكِع وَأما مصدر بِمَعْنى جالسين وعَلى كل حَال انتصابه على الْحَال وَإِنَّمَا نهى عَن رفع رُؤْسهنَّ قبل جُلُوس الرِّجَال خشيَة أَن يلمحن شَيْئا من عورات الرِّجَال عِنْد الرّفْع مِنْهُ.