فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: قدر كم يعطى من الزكاة والصدقة، ومن أعطى شاة

(بابٌُ قَدْرُ كَمْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَنْ أعْطَى شَاة)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان قدر كم يُعْطي من الزَّكَاة، وَكم يُعْطي من الصَّدَقَة؟ وَإِنَّمَا لم يبين الكمية فِيهَا إعتمادا على سبق الأفهام إِلَيْهِ، لِأَن عَادَته قد جرت بِمثل ذَلِك فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، أما الكمية فِي قدر مَا يُعْطي من الزَّكَاة فقد علمت فِي أَبْوَاب الزَّكَاة فِي كل صنف من الْأَصْنَاف، وَقد أَشَارَ فِي الْكتاب إِلَى أَكْثَرهَا على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقد علم أَيْضا أَن التنقيص فِيهَا من الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّارِع لَا يجوز، وَأما الكمية فِي الصَّدَقَة فَغير مقدرَة لِأَن الْمُتَصَدّق محسن، وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ.
قَوْله: (كم يعْطى) على بِنَاء الْمَجْهُول، وَيجوز أَن يكون على بِنَاء الْمَعْلُوم أَي: مِقْدَار كم يُعْطي الْمُزَكي فِي زَكَاته، وَكم يُعْطي الْمُتَصَدّق فِي صدقته.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَحذف مفعول يُعطي اختصارا لكَوْنهم ثَمَانِيَة أَصْنَاف، وَأَشَارَ بذلك إِلَى الرَّد على من كره أَن يدْفع إِلَى شخص وَاحِد قدر النّصاب، وَهُوَ محكي عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قلت: لَيْت شعري كم من لَيْلَة سهر هَذَا الْقَائِل حَتَّى سطر هَذَا الْكَلَام الَّذِي تمجه الأسماع، وَحذف الْمَفْعُول هُنَا كَمَا فِي قَوْلهم: فلَان يعْطى وَيمْنَع، وَكَيف يدل ذَلِك على الرَّد على أبي حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى، وَلَكِن هَذَا يطرد فِي الصَّدَقَة وَلَا يطرد فِي الزَّكَاة على مَا لَا يخفى.
قَوْله: (وَالصَّدَََقَة) من عطف الْعَام على الْخَاص، قيل: لَو اقْتصر على الزَّكَاة لأوهم أَن غَيرهَا بِخِلَافِهَا.
قلت: لَا يشك أحد أَن حكم الصَّدَقَة غير حكم الزَّكَاة إِذا ذكرت فِي مُقَابلَة الزَّكَاة، وَأما إِذا أطلق لفظ الصَّدَقَة فَتكون شَامِلَة لَهما.
قَوْله: (وَمن أعْطى شَاة) ، عطف على قَوْله: (قدر كم يُعْطي؟) أَي: وَفِي بَيَان حكم من أعْطى شَاة فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى أَنه إِذا أعْطى شَاة فِي الزَّكَاة، إِنَّمَا تجوز إِذا كَانَت كَامِلَة، لِأَن الشَّارِع نَص على كَمَال الشَّاة فِي مَوضِع تُؤْخَذ مِنْهُ الشَّاة، فَإِذا أعْطى جزأ مِنْهَا لَا يجوز، وَأما فِي الصَّدَقَة فَيجوز أَن يُعْطي الشَّاة كلهَا وَيجوز أَن يُعْطي جزأ مِنْهَا، على مَا يَأْتِي بَيَان ذَلِك فِي حَدِيث الْبابُُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

[ قــ :1389 ... غــ :1446 ]
- حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا أبُو شِهَابٍ عنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عنْ أُمِّ عطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ بُعِثَ إلَي نُسَيْبَةَ الأنْصَارِيَّةَ بِشَاةٍ فأرْسَلَتْ إلَى عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا مِنْها فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَقُلْتُ لاَ إلاَّ مَا أرْسَلَتْ بِهِ نُسَيْبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ فَقَالَ هاتِ فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن لَهَا جزآن: أَحدهمَا: مِقْدَار كم يُعْطي؟ وَالْآخر: وَمن أعْطى شَاة؟ فمطابقته للجزء الأول فِي إرْسَال نسيبة إِلَى عَائِشَة من تِلْكَ الشَّاة الَّتِي أرسلها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا من الصَّدَقَة، على مَا صرح بِهِ مُسلم على مَا نذكرهُ فِي مَوْضِعه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ مِقْدَار مِنْهَا.
ومطابقته للجزء الثَّانِي فِي إرْسَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا من الصَّدَقَة بِشَاة كَامِلَة.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس، وَهُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس أَبُو عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي.
الثَّانِي: أَبُو شهَاب، واسْمه: عبد ربه بن نَافِع الحناط، بالنُّون: صَاحب الطَّعَام.
الثَّالِث: خَالِد بن مهْرَان الْحذاء.
الرَّابِع: حَفْصَة بنت أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين.
الْخَامِس: أم عَطِيَّة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، وَاسْمهَا: نسيبة، بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد مرت فِي: بابُُ التَّيَمُّن فِي الْوضُوء.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه كُوفِي وَأَن أَبَا شهَاب مدائني وَأَن خَالِدا بَصرِي وَأَن حَفْصَة وَأم عَطِيَّة مدنيتان.
وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصحابية.
وَفِيه: أَن شَيْخه ذكر بنسبته إِلَى جده.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الْهِبَة عَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بعث إِلَى نسيبة الْأَنْصَارِيَّة) بعث، على صِيغَة الْمَجْهُول، والباعث هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا فِي (صَحِيح مُسلم) قَالَ: حَدثنِي زُهَيْر بن حَرْب، قَالَ: حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن خَالِد عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة، قَالَت: بعث إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَاة من الصَّدَقَة، فَبعثت إِلَى عَائِشَة مِنْهَا بِشَيْء، فَلَمَّا جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عَائِشَة، فَقَالَ: هَل عنْدكُمْ شَيْء؟ فَقَالَت: لَا إلاَّ أَن نسيبة بعثت إِلَيْنَا من الشَّاة الَّتِي بعثتم بهَا إِلَيْهَا.
قَالَ: إِنَّهَا بلغت محلهَا) .
وَكَانَ مُقْتَضى هَذَا أَن يَقُول فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: بعث إِلَيّ، بِلَفْظ ضمير الْمُتَكَلّم الْمَجْرُور، لَكِن وضع الظَّاهِر مَوضِع الْمُضمر، إِمَّا على سَبِيل الإلتفات، وَإِمَّا على سَبِيل التَّجْرِيد من نَفسهَا شخصا اسْمه نسيبة.
قَوْله: (إِلَى نسيبة) ، بِالْفَتْح فِي آخِره لِأَنَّهُ غير منصرف للعلمية والتأنيث، وَقَوله: (الْأَنْصَارِيَّة) ، بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ صفته.
قَوْله: (فَأرْسلت) ، يحْتَمل أَن يكون متكلما، وَأَن يكون غَائِبا وَكِلَاهُمَا صَحِيح، لَكِن الرِّوَايَة بالغيبة.
(مِنْهَا) أَي: من تِلْكَ الشَّاة.
قَوْله: (عنْدكُمْ شَيْء؟) أَي: هَل عنْدكُمْ شَيْء كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة مُسلم.
قَوْله: (هَات) أَصله: هَاتِي، لِأَنَّهُ أَمر للمؤنث، وَلَكِن حذفت الْيَاء مِنْهُ تَخْفِيفًا.
قَالَ الْخَلِيل: أصل: هَات، آتٍ من آتى يُؤْتِي، فقلبت الْألف هَاء.
قَوْله: (فقد بلغت محلهَا) ، بِكَسْر الْحَاء أَي: مَوضِع الْحُلُول والاستقرار، يَعْنِي أَنه قد حصل الْمَقْصُود مِنْهَا من ثَوَاب التَّصَدُّق، ثمَّ صَارَت ملكا لمن وصلت إِلَيْهِ،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَرِيرَة: (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة، وَهُوَ لنا هَدِيَّة) .