فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: جعل الله الرحمة مائة جزء

( بابٌُ جَعَلَ الله الرَّحْمَةَ مائَةَ جُزْءٍ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: جعل الله الرَّحْمَة مائَة جُزْء، والترجمة بِبَعْض الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بابُُ من الرَّحْمَة وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: بابُُ، بِغَيْر تَرْجَمَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: بابُُ، بِالتَّنْوِينِ قلت: تكَرر هَذَا القَوْل مِنْهُ عِنْد ذكر الْأَبْوَاب الْمُجَرَّدَة، وَلَا يَصح هَذَا إلاَّ بمقدر، لِأَن الْإِعْرَاب يَقْتَضِي التَّرْكِيب.



[ قــ :5677 ... غــ :6000 ]
- حدَّثنا الحَكَمُ بنُ نافِع ألْبَهْرَانِيُّ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أخبرنَا سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ: أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: جَعَلَ الله الرَّحْمَةَ مائَةَ جُزْءٍ، فأمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وتسْعِينَ جُزْءاً وأنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءاً واحِداً، فَمِنْ ذالِكَ الجُزْءِ يَتَرعًّحَمُ الخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حافِرَها عَنْ وَلَدِها خَشيةَ أنْ تُصِيبَهُ.

( انْظُر الحَدِيث 6000 طرفه فِي: 6469) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ ابْن نَافِع هُوَ أَبُو الْيَمَان، وَقد ذكره البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة بكنيته وَهَهُنَا ذكره باسمه وَلم يذكر باسمه إِلَى هَهُنَا إلاَّ فِي هَذَا الْموضع وَذَلِكَ على قدر سَمَاعه، وَهَذَا السَّنَد بهؤلاء الرِّجَال تكَرر جدا.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم من طَرِيق عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة: أَن الله مائَة رَحْمَة، وَله من حَدِيث سلمَان: أَن الله خلق مائَة رَحْمَة يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، كل رَحْمَة طباق مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: يجوز أَن يكون معنى: خلق اخترع وأوجد، وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى: قدر، قد ورد خلق بِمَعْنى قدر فِي لُغَة الْعَرَب، فَيكون الْمَعْنى: أَن الله أظهر تَقْدِيره لذَلِك يَوْم أظهر تَقْدِير السَّمَوَات وَالْأَرْض.

قَوْله: ( مائَة جُزْء) ويروى: فِي مائَة جُزْء، وَكلمَة: فِي هَذِه الرِّوَايَة زَائِدَة كَمَا فِي قَوْله:
( وَفِي الرَّحْمَن للضعفاء كافٍ)

أَي: الرَّحْمَن لَهُم كَاف.
قَوْله: ( فَأمْسك عِنْده) وَفِي رِوَايَة عَطاء: وأخَّر عِنْده تِسْعَة وَتِسْعين رَحْمَة، قيل: رَحْمَة الله غير متناهية لَا مائَة وَلَا مِائَتَان.
وَأجِيب: بِأَن الرَّحْمَة عبارَة عَن الْقُدْرَة الْمُتَعَلّقَة بإيصال الْخَيْر، وَالْقُدْرَة صفة وَاحِدَة والتعلق غير متناه فحصره فِي مائَة على سَبِيل التَّمْثِيل تسهيلاً للفهم وتقليلاً لما عندنَا وتكثيراً لما عِنْده.
قَوْله: ( وَأنزل فِي الأَرْض) ، كَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: إِلَى الأَرْض، وَلَكِن حُرُوف الْجَرّ يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض، وَفِيه تضمين، وَالْغَرَض مِنْهُ الْمُبَالغَة، يَعْنِي: أنزلهَا منتشرة فِي جَمِيع الأَرْض.
فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تعْيين الْمِائَة من بَين الْأَعْدَاد وَلم تجر عَادَة الْعَرَب إلاَّ فِي السّبْعين؟ قلت: أُجِيب بِأَنَّهُ أطلق هَذَا الْعدَد الْخَاص لإِرَادَة التكثير وَالْمُبَالغَة، وَالسَّبْعُونَ من أَجزَاء الْمِائَة، وَقيل: ثَبت أَن نَار الْآخِرَة تفضل نَار الدُّنْيَا بِتِسْعَة وَسِتِّينَ جُزْءا، فَإِذا قوبل كل جُزْء برحمة زَادَت الرحمات ثَلَاثِينَ جُزْءا فَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن الرَّحْمَة فِي الْآخِرَة أَكثر من النقمَة فِيهَا، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله: غلبت رَحْمَتي غَضَبي.
قَوْله: ( يتراحم الْخلق) بالراء من التفاعل الَّذِي يشْتَرك فِيهِ الْجَمَاعَة.
قَوْله: ( حَتَّى ترفع الْفرس حافرها) .
الْحَافِر للْفرس كالظلف للشاة، وَخص الْفرس بِالذكر لِأَنَّهَا أَشد الْحَيَوَان المألوف الَّذِي يعاين المخاطبون حركتها مَعَ وَلَدهَا، وَلما فِي الْفرس من الخفة والسرعة فِي التنقل، وَمَعَ ذَلِك تتجنب أَن يصل الضَّرَر مِنْهَا إِلَى وَلَدهَا، وَفِي رِوَايَة عَطاء: فِيهَا يتعاطفون وَبهَا يتراحمون وَبِهَذَا يعْطف الْوَحْش وَالطير بَعْضهَا على بعض.
قَوْله: ( أَن تصيبه) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: خشيَة الْإِصَابَة.