فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الغنى غنى النفس

( بابٌُ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ الْغنى غنى النَّفس سَوَاء كَانَ الشَّخْص متصفاً بِالْمَالِ الْكثير أَو الْقَلِيل، والغنى بِالْكَسْرِ مَقْصُور وَرُبمَا مده الشَّاعِر للضَّرُورَة، وَهُوَ من الصَّوْت مَمْدُود والغناء بِالْفَتْح وَالْمدّ الْكِفَايَة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: بابُُ بِالتَّنْوِينِ.

قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن التَّنْوِين عَلامَة الْإِعْرَاب وَلَفظ بابُُ مُفْرد والمعرب جُزْء الْمركب.

وقَوْلُ الله تَعَالَى: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} ( الْمُؤْمِنُونَ: 55) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: { من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون} ( الْمُؤْمِنُونَ: 36)
فِي رِوَايَة أبي ذَر { إِلَى عاملون} وَبَقِيَّة هَذِه الْآيَة بعد بَنِينَ { نسارع لَهُم فِي الْخيرَات بل لَا يَشْعُرُونَ} ( الْمُؤْمِنُونَ: 65) ثمَّ من بعد هَذِه الْآيَة إِلَى قَوْله: { وهم لَهَا عاملون} ثَمَان آيَات أُخْرَى، فالجملة تسع آيَات سَاقهَا الْكرْمَانِي كلهَا فِي شَرحه، ثمَّ قَالَ: غَرَض البُخَارِيّ من ذكر الْآيَة أَن المَال مُطلقًا لَيْسَ خيرا.
قَوْله: ( أيحسبون) الْآيَة نزلت فِي الكفاء وَلَيْسَت بمعارضة لدعائه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأنس بِكَثْرَة المَال وَالْولد، وَالْمعْنَى: أيحسبون أَن مَا نمدهم بِهِ، أَي: نعطيهم ونزيدهم من مَال وبنين مجازاة لَهُم وَخيرا؟ بل هُوَ اسْتِدْرَاج لَهُم ثمَّ بَين المسارعين إِلَى الْخيرَات من هم، فَقَالَ: { إِن الَّذين هم من خشيَة رَبهم مشفقون} ( الْمُؤْمِنُونَ: 75) أَي: خائفون { وَالَّذين هم بآيَات رَبهم يُؤمنُونَ} ( الْمُؤْمِنُونَ: 85) أَي: يصدقون، وَهَذِه الْآيَة وَالَّتِي بعْدهَا فِي مدح هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ.
قَوْله: { وَالَّذين يُؤْتونَ} ( الْمُؤْمِنُونَ: 95) أَي: يُعْطون مَا أعْطوا من الزَّكَاة وَالصَّدقَات، وَالْحَال أَن قُلُوبهم وَجلة أَي: خائفة أَن لَا يقبل مِنْهُم.
قَوْله: { يُسَارِعُونَ} يَقُول سارعت وأسرعت بِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن سارعت، أبلغ من أسرعت.
قَوْله: ( وهم لَهَا) أَي: إِلَيْهَا وَالتَّقْدِير: وهم يسابقونها.
قَوْله: ( إِلَّا وسعهَا) يَعْنِي: إلاَّ مَا يَسعهَا.
قَوْله: { ولدينا كتاب} يَعْنِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ { ينْطق بِالْحَقِّ} يَعْنِي: يشْهد بِمَا عملوه.
قَوْله: { بل قُلُوبهم فِي غمرة} إضراب عَن وصف الْمُتَّقِينَ وشروع فِي وصف الْكفَّار.
أَي: فِي غَفلَة عَن الْإِيمَان بِالْقُرْآنِ، قَالَه مقَاتل، وَقيل: فِي عماية من هَذَا، أَي: من الْقُرْآن.
قَوْله: { لَهُم أَعمال من دون ذَلِك} أَي: أَعمال سَيِّئَة دون الشّرك، وَقيل: دون أَعمال الْمُؤمنِينَ.
قَوْله: { هم لَهَا عاملون} إِخْبَار عَمَّا سيعملونه من الْأَعْمَال الخبيثة الَّتِي كتبت عَلَيْهِم لَا بُد أَن يعملوها.
وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة: لَمْ يَعْمَلُوها: لَا بُدَّ مِنْ أنْ يَعْمَلُوها
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: { وَلَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون} ( الْمُؤْمِنُونَ: 36) حَاصله: كتبت عَلَيْهِم أَعمال سَيِّئَة لَا بُد من أَن يعملوها قبل مَوْتهمْ ليحق عَلَيْهِم كلمة الْعَذَاب.



[ قــ :6108 ... غــ :6446 ]
- حدّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ حدّثنا أبُو بَكْرٍ حَدثنَا أبُو حَصِينٍ عنْ أبي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( لَيْسَ الغِنَى عنْ كَثْرَةِ العَرِضَ ولاكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ) .


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَأما وَجه الْمُنَاسبَة بَين الحَدِيث وَالْآيَة هُوَ أَن خيرية المَال لَيست لذاته بل بِحَسب مَا يتَعَلَّق بِهِ وَإِن كَانَ يُسمى خيرا، وَكَذَلِكَ لَيْسَ صَاحب المَال الْكثير غَنِيا لذاته بل بِحَسب تصرفه فِيهِ، فَإِن كَانَ غَنِيا فِي نَفسه لم يتَوَقَّف فِي صرفه فِي الْوَاجِبَات والمستحبات من وُجُوه الْبر والقربات، وَإِن كَانَ فِي نَفسه فَقِيرا أمْسكهُ وَامْتنع من بذله فِيمَا أَمر بِهِ خشيَة من نفاده، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة فَقير صُورَة وَمعنى، وَإِن كَانَ المَال تَحت يَده لكَونه لَا ينْتَفع بِهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة بل رُبمَا كَانَ وبالاً عَلَيْهِ.

وَأحمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس التَّيْمِيّ الْيَرْبُوعي الْكُوفِي، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَأَبُو بكر هُوَ ابْن عَيَّاش بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة القارىء الْمَشْهُور الْكُوفِي، وَأَبُو حُصَيْن بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ واسْمه عُثْمَان بن عَاصِم الْأَسدي الْكُوفِي، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات.

والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن أَحْمد بن بديل بن قُرَيْش اليامي الْكُوفِي.

قَوْله: ( من كَثْرَة الْعرض) بِفتْحَتَيْنِ حطام الدُّنْيَا وبالسكون الْمَتَاع.
.

     وَقَالَ  أَبُو عبيد: الْعرُوض الْأَمْتِعَة وَهِي مَا سوى الْحَيَوَان وَالْعَقار وَمَا لَا يدْخلهُ كيل وَلَا وزن،.

     وَقَالَ  ابْن فَارس: الْعرض بِالسُّكُونِ كل مَا كَانَ من المَال غير نقدوجمعه عرُوض، وَأما بِالْفَتْح فَمَا يُصِيبهُ الْإِنْسَان من حَظّ فِي الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى: { تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا} ( الْأَنْفَال: 76) .

     وَقَالَ : { وَإِن يَأْتهمْ عرض مثله يأخذوه} ( الْأَعْرَاف: 961) حَاصِل معنى الحَدِيث: لَيْسَ الْغنى الْحَقِيقِيّ الْمُعْتَبر من كَثْرَة المَال، بل هُوَ من اسْتغْنَاء النَّفس وَعدم الْحِرْص على الدُّنْيَا، وَلِهَذَا ترى كثيرا من المتمولين، فَقير النَّفس مُجْتَهدا فِي الزِّيَادَة، فَهُوَ لشدَّة شرهه وَشدَّة حرصه على جمعه كَأَنَّهُ فَقير، وَأما غنى النَّفس فَهُوَ من بابُُ الرِّضَا بِقَضَاء الله لعلمه أَن مَا عِنْد الله لَا ينْفد.