فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قوله: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} [التوبة: 1]

50215 - ( بابٌُُ وَلِيجَة كلُّ شَيْءٍ أدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ)
لم يثبت لفظ بابُُ: فِي كثير من النّسخ وَلَا ثَبت لفظ وليجة فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَلَا الَّذِي قبله، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَلم يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة وَالله خَبِير بِمَا تعلمُونَ} ( التَّوْبَة: 16) وَفسّر: وليجة بقوله: كل شَيْء أدخلته فِي شَيْء وروى كَذَلِك عَن الرّبيع قَالَ ابْن أبي حَاتِم، حَدثنَا كثير بن شهَاب الْقزْوِينِي حَدثنَا مُحَمَّد يَعْنِي ابْن سعيد حَدثنَا أَبُو جَعْفَر عَنهُ، وَفِي التَّفْسِير، وليجة أَي: بطانة ودخيلة، يَعْنِي الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَلم يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله.
وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة أَي: بطالة بل هم فِي الظَّاهِر وَالْبَاطِن على النصح لله وَلِرَسُولِهِ.

الشُّقَّةُ السَّفَرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: { لَو كَانَ عرضا قَرِيبا وسفرا فَاسِدا لاتبعوك وَلَكِن بَعدت عَلَيْهِم الشقة} ( بَرَاءَة: 42) وَفسّر الشقة بِالسَّفرِ.
وَرُوِيَ كَذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو زرْعَة حَدثنَا منْجَاب أخبرنَا بشر بن عمَارَة عَن أبي روق عَن الضَّحَّاك عَنهُ، وَفِي التَّفْسِير { لَو كَانَ عرضا قَرِيبا} أَي: الْغَنِيمَة قريبَة { وسقرا قَاصِدا لاتبعوك} أَي: لكانوا مَعَك لذَلِك { وَلَكِن بَعدت عَلَيْهِم الشقة} أَي: الْمسَافَة إِلَى الشَّام.

الخبالُ الفَسادُ والخَبالُ المَوْتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إلاَّ خبالاً} ( التَّوْبَة: 47) وَفسّر الخبال بِالْفَسَادِ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، والخبال فِي الأَصْل الْفساد وَيكون فِي الْأَفْعَال والأبدان والعقول، من خبله يخبله خبلاً بِسُكُون الْبَاء وَبِفَتْحِهَا الْجُنُون.
قَوْله: ( والخبال الْمَوْت) ، كَذَا وَقع فِي جمع الرِّوَايَات قيل: الصَّوَاب الموتة بِضَم الْمِيم وبالهاء فِي آخِره،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: الموتة بِالضَّمِّ جنس من الْجُنُون والصرع يعتري الْإِنْسَان فَإِذا أَفَاق عَاد إِلَيْهِ كَمَال عقله كالنائم والسكران.

وَلا تَفُتِنِّي لَا تُوَبِّخْنِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَمِنْهُم من يَقُول ائْذَنْ لي وَلَا تفتني} ( التَّوْبَة: 47) وَفسّر قَوْله: لَا توبخني، من التوبيخ بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة، وَفِي وَرَايَة الْمُسْتَمْلِي والجرجاني: لَا توهني، بِالْهَاءِ وَتَشْديد النُّون من الوهن وَهُوَ الضعْف وَفِي رِوَايَة ابْن السكن: لَا تؤتمني بِالتَّاءِ الْمُثَلَّثَة الثَّقِيلَة وَسُكُون الْمِيم من الْإِثْم قَالَ عِيَاض: وَهُوَ الصَّوَاب، وَكَذَا وَقع فِي كَلَام أبي عُبَيْدَة، وَالْآيَة نزلت فِي جد ابْن قيس الْمُنَافِق قَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل لَك فِي جلاد بني الْأَصْفَر يَعْنِي الرّوم تتَّخذ مِنْهُم سراري ووصفاء؟ فَقَالَ: ائْذَنْ لي فِي الْقعُود عَنْك وَلَا تفتني بِذكر النِّسَاء فقد علم قومِي أَنِّي مغرم بِهن وَأَنِّي أخْشَى أَن لَا أَصْبِر عَنْهُن،.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: اعتل جد ابْن قيس بقوله: وَلَا تفتني، وَلم يكن لَهُ عِلّة إلاَّ النِّفَاق.
قَالَ تَعَالَى: { إِلَّا فِي الْفِتْنَة سقطوا} يَعْنِي: إلاَّ فِي الْإِثْم سقطوا.

كَرْها وَكُرْها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { قل اتَّفقُوا طَوْعًا أَو كرها لن يتَقَبَّل مِنْكُم} وَأَشَارَ بِأَن فِيهِ لغتين فتح الْكَاف وَضمّهَا فبالضم قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ حَمْزَة وَالْأَعْمَش وَيحيى بن وثاب وَالْكسَائِيّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْح، وَالْمعْنَى: قل يَا مُحَمَّد انفقوا طائعين أَو مكرهين لن يتَقَبَّل مِنْكُم أَنكُمْ كُنْتُم قوما فاسقين، وَبَين الله سَبَب ذَلِك بقوله: { وَمَا مَنعهم أَن تقبل مِنْهُم نفقاتهم} ( التَّوْبَة: 54) الْآيَة.

مُدَّخَلاً يَدْخَلُونَ فِيهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { لَو يَجدونَ ملْجأ أَو مغارات أَو مدخلًا} وَالْمعْنَى: لَو يَجدونَ حصنا يتحصنون بِهِ، وحرزا يحترزون بِهِ.
أَو مغارات وَهِي الكهوف فِي الْجبَال أَو مدخلًا وَهُوَ السَّرب فِي الأَرْض وَقد أخبر الله تَعَالَى عَنْهُم بِأَنَّهُم يحلفُونَ بِاللَّه أَنهم لمنكم يَمِينا مُؤَكدَة وَمَا هم مِنْكُم فِي نفس الْأَمر إِنَّمَا يخالطونكم كرها لَا محبَّة.

يَجْمَحُونَ يُسْرِعُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { لولوا إِلَيْهِ وهم يجمحون} وَفَسرهُ بقوله: يسرعون، وَهُوَ آخر الْآيَة الْمَذْكُورَة الْآن يَعْنِي: فِي ذهابهم عَنْكُم لأَنهم إِنَّمَا يخالطونكم كرها لَا محبَّة وودوا أَنهم لَا يخالطونكم وَلَكِن للضَّرُورَة أَحْكَام.

وَالمُؤْتَفِكَاتِ ائْتَفَكَتْ انْقَلَبَتْ بِهَا الأَرْضُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَأَصْحَاب مَدين والمؤتفكات اتتهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} ( بَرَاءَة: 70) وَفسّر الْمُؤْتَفِكَات بقوله: ائتفكت انقلبت بهَا الأَرْض وهم قوم لوط، وَفِي التَّفْسِير: والمؤتفكات قرى قوم لوط، عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانُوا يسكنون فِي مدن وَأمّهَا سدوم وأهلكهم الله عَن آخِرهم بتكذيبهم نَبِي الله لوطا عَلَيْهِ السَّلَام، وإتيانهم الْفَاحِشَة الَّتِي لم يسبقهم بهَا أحد من الْعَالمين، وَأَصله من أفكه يأفكه أفكا إِذا صرفه عَن الشَّيْء.
وَقَلبه، وأفك فَهُوَ مأفوك والآفكة الْعَذَاب الَّذِي أرْسلهُ الله على قوم لوط فَقلب بهَا دِيَارهمْ، والبلدة مؤتفكة وَتجمع على مؤتفكات.

أَهْوَى ألْقاهُ فِي هُوَّةٍ
هَذِه اللَّفْظَة لم تقع فِي سُورَة بَرَاءَة وَإِنَّمَا هِيَ فِي سُورَة النَّجْم ذكرهَا هُنَا البُخَارِيّ اسْتِطْرَادًا لقَوْله: والمؤتفكة أَهْوى، والهوة بِضَم الْهَاء وَتَشْديد الْوَاو وَهُوَ الْمَكَان العميق.

عَدْنٍ خُلْدٍ عَدَنْتُ بِأَرْضٍ أيْ أقَمْتُ وَمِنْهُ مَعْدِنٌ وَيُقالُ فِي مَعْدِنِ صِدْقٍ فِي مَنْبِتِ صِدْقٍ.

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { جنَّات عدن} ( التَّوْبَة: 72) وَفسّر قَوْله عدن، بقوله: خلد، بِضَم الْخَاء وَسُكُون اللَّام وَهُوَ دوَام الْبَقَاء، يُقَال: خلد الرجل يخلد خلودا من بابُُ نصر ينصر.
قَوْله: عدنت بِأَرْض، أَي: أَقمت بهَا لِأَنَّهَا من العدن وَهُوَ الْإِقَامَة، يُقَال: عدن بِالْمَكَانِ يعدن عدنا من بابُُ نصر ينصر، إِذا لزمَه وَلم يبرح بِهِ قَوْله: وَمِنْه مَعْدن.
أَي: وَمن عدن اشتقاق مَعْدن وَهُوَ الْموضع الَّذِي يسْتَخْرج مِنْهُ جَوَاهِر الأَرْض كالذهب وَالْفِضَّة والنحاس وَغير ذَلِك، قَوْله: وَيُقَال فِي مَعْدن صدق، يَعْنِي: يُقَال فلَان فِي مَعْدن صدق إِذا كَانَ مستمرا عَلَيْهِ وَلَا يبرح عَنهُ كَأَنَّهُ صَار معدنا للصدق.
قَوْله: فِي منبت صدق، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، اسْم لموْضِع النَّبَات، وَيُقَال: لمَكَان يسْتَقرّ فِيهِ النبت هَذَا منبت صدق، وَقَالُوا فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: { فِي مقْعد صدق} ( الْقَمَر: 55) أَي: مَكَان مرضِي، والصدق هُنَا كِنَايَة عَن اسْتِمْرَار الرِّضَا فِيهِ.

الْخَوَالِفُ الخَالِفُ الَّذِي خَلَفَنِي فَقَعَدَ بَعْدِي وَمِنْهُ يَخْلِفُهُ فِي العَابِرِينَ وَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ النِّسَاءُ مِنَ الخَالِفَةِ.

أَشَارَ بقوله الْخَوَالِف: إِلَى قَوْله تَعَالَى: { رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف وطبع الله على قُلُوبهم فهم لَا يعلمُونَ} ( التَّوْبَة: 87) هَذِه الْآيَة وَمَا قبلهَا فِي قَضِيَّة غَزْوَة تَبُوك، وَذَلِكَ أَنهم لما أمروا بغزوة تَبُوك تخلفت جمَاعَة مِنْهُم من بَين الله عذرهمْ بقوله: { لَيْسَ على الضُّعَفَاء وَلَا على المرضى} إِلَى قَوْله: { أَلا يَجدوا مَا يُنْفقُونَ} ( التَّوْبَة: 91) وَنفى الله تَعَالَى عَنْهُم الْمَلَامَة، ثمَّ رد الله على الَّذين يستأذنون فِي الْقعُود وهم أَغْنِيَاء وأنبهم بقوله: { رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف} أَي: مَعَ النِّسَاء الْخَوَالِف فِي الرِّجَال { طبع الله على قُلُوبهم فهم لَا يعلمُونَ} قَوْله: الخالف الَّذِي خلفني فَقعدَ بعدِي: إِشَارَة إِلَى تَفْسِير الخالف، وَهُوَ الَّذِي يقْعد بعد الشَّخْص فِي رَحْله وَيجمع على خالفين كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { فاقعدوا مَعَ الخالفين} ( التَّوْبَة: 83) قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي الرِّجَال الَّذين تخلفوا عَن الْغُزَاة وَلَا يجمع الخالف على الخالفين لِأَن جمع النِّسَاء لَا يكون بِالْيَاءِ وَالنُّون.
فَإِن قلت: رُوِيَ عَن قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: { فاقعدوا مَعَ الخالفين} قَالَ أَي: النِّسَاء.
قلت: رد عَلَيْهِ ابْن جرير بِمَا ذكرنَا وَرجح عَلَيْهِ قَول ابْن عَبَّاس، وَكَانَ الْكرْمَانِي أَخذ قَول قَتَادَة فَقَالَ: قَوْله الْخَوَالِف جمع الخالف أَي: مَعَ المتخلفين ثمَّ قَالَ: وَيجوز أَن يكون المُرَاد جمع النِّسَاء فَيكون جمع خالفة، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر لِأَن فواعل جمع فاعلة، وَلم يُوجد فِي كَلَامهم إلاَّ لفظان فوارس وهوالك.
قلت: جَاءَ سَابق وسوابق وناكس ونواكس وداجن ودواجن، وَمن الْأَسْمَاء عَازِب وعوازب وكاهل وكواهل وحاجة وحوائج وعائش وعوائش للدخان، وَالْحَاصِل أَن المُرَاد من الْخَوَالِف النِّسَاء المتخلفات، وَقيل: أخساه النَّاس.
قَوْله: ( وَمِنْه يخلفه فِي الغابرين) ، أَي: وَمن هَذَا لفظ يخلفه فِي الغابرين، هَذَا دُعَاء لمن مَاتَ لَهُ ميت اللَّهُمَّ اخلفه فِي الغابرين، أَي: فِي البَاقِينَ من عقبه، وَفِي مُسلم من حَدِيث أم سَلمَة اللَّهُمَّ اغْفِر لأبي سَلمَة وارفع دَرَجَته فِي المهديين واخلفه فِي عقبه فِي الغابرين،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ فِي شَرحه أَي: البَاقِينَ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { إلاَّ امْرَأَته كَانَت من الغابرين} ( الْأَعْرَاف: 83) قلت: لفظ غبر، يسْتَعْمل فِي الْمَاضِي والمستقبل فَهُوَ من الأضداد وَالْفرق فِي الْمَعْنى بِالْقَرِينَةِ.
قَوْله: ( وَيجوز أَن يكون النِّسَاء من الخالفة) إِنَّمَا يجوز ذَلِك إِذا كَانَ يجمع مَعَ الخالفة على خوالف وَأما على مَا يفهم من صدر كَلَامه أَن الخالف يجمع على خوالف فَلَا يجوز على مَا نبهنا عَلَيْهِ من قريب، وَإِنَّمَا الخالف يجمع على الخالفين بِالْيَاءِ وَالنُّون فَافْهَم.

وَإنْ كَانَ جَمْعَ الذُّكُورِ فَإنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عَلَى تَقْدِيرِ جَمْعِهِ إلاّ حَرْفانِ فَارِسٌ وَفَوَارِسُ وَهَالِكٌ وَهَوَالِكُ.

فِيهِ نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْمَفْهُوم من صدر كَلَامه أَن خوالف جمع خَالف وَهنا ذكره بِالشَّكِّ أَنه إِذا كَانَ خوالف جمع الْمُذكر فَإِنَّهُ لم يُوجد إِلَى آخِره.
وَالْآخر: فِي ادعائه أَن لفظ فَاعل لَا يجمع على فواعل إلاَّ فِي لفظين: أَحدهمَا: فَارس، فَإِنَّهُ يجمع على فوارس.
وَالْآخر: هَالك فَإِنَّهُ يجمع على هوالك، وَقد ذكرنَا ألفاظا غَيرهمَا أَنَّهَا على وزن فَاعل قد جمعت على فواعل وَلم أر أحدا من الشُّرَّاح حرر هَذَا الْموضع كَمَا هُوَ حَقه، وَقد حررناه فللَّه الْحَمد.

الخَيْرَاتُ وَاحِدُها خَيْرَةٌ وَهِيَ الفَوَاضِلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَأُولَئِكَ لَهُم الْخيرَات وَأُولَئِكَ هم المفلحون} وَذكر أَن وَاحِدَة الْخيرَات خيرة.
ثمَّ فسر الْخيرَات بالفواضل وَفِي التَّفْسِير: أُولَئِكَ لَهُم الْخيرَات.
أَي: فِي الدَّار الْآخِرَة فِي جنَّات الفردوس والدرجات العلى.

مُرْجَؤونَ مُؤَخَّرونَ
لم يثبت هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: ( وَآخَرُونَ مرجؤون لأمر الله إِمَّا يعذبهم وَإِمَّا يَتُوب عَلَيْهِم) ، ( التَّوْبَة: 106) وَفسّر مرجؤون، بقوله: مؤخرون أَي: يؤخرون لأمر الله ليقضي الله فيهم مَا هُوَ قَاض، ومرجؤون من أرجأت الْأَمر وأرجيته بهمز وَبِغَيْرِهِ وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى التَّأْخِير، وَمِنْه المرجئة.
وهم فرقة من فرق الْإِسْلَام يَعْتَقِدُونَ أَنه لَا يضر مَعَ الْإِيمَان مَعْصِيّة كَمَا أَنه لَا ينفع مَعَ الْكفْر طَاعَة.
أَي: آخِره عَنْهُم، والمرجئة بهمز وَلَا تهمز، فالنسبة من الأول مرجىء وَمن الثَّانِي مرجي، وَالْمرَاد من قَوْله تَعَالَى: { وَآخَرُونَ مرجؤون} الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا فِي غَزْوَة تَبُوك، وهم: مرَارَة بن الرّبيع وَكَعب بن مَالك وهلال بن أُميَّة قعدوا عَن غَزْوَة تَبُوك فِي جملَة من قعد كسلاً وميلاً إِلَى الدعة والخفض وَطيب الثِّمَار والظلال، لَا شكا ونفاقا قَالَه ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَآخَرُونَ.

الشَّفاشَفِيٌ وَهُوَ حَدُّهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { أم من أسس بُنْيَانه على شفا جرف هار} ( التَّوْبَة: 109) فسر الشفا بقوله شَفير، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ حَده أَي: طرفه، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَهُوَ حرفه.

والجُرْفُ مَا تَجَرَّفَ مِنَ السُّيُولِ وَالأوْدِيَّةِ هَارِ هائِرٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { شفا جرف هار} ( التَّوْبَة: 109) ثمَّ فسره الجرف بقوله: مَا تجرف من السُّيُول وَهُوَ الَّذِي ينحفر بِالْمَاءِ فَيبقى واهيا، وَفسّر قَوْله: هار، بقوله: هائر، يُقَال: تهورت الْبِئْر إِذا انْهَدَمت وانهار مثله، وَفِيه إِشَارَة أَيْضا إِلَى أَن لفظ: هار، مقلوب من هائر ومعلول إعلال قَاض، وَقيل: لَا حَاجَة إِلَيْهِ بل أَصله: هور وألفه لَيست بِأَلف فَاعل وَإِنَّمَا هِيَ عينه وَهُوَ بِمَعْنى: سَاقِط.

لأَوَّاهٌ شَفَقا وَفَرَقا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { إِن إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم} ( التَّوْبَة: 114) والأواه المتأوه المتضرع، وَهُوَ على وزن فعال، بِالتَّشْدِيدِ،.

     وَقَالَ  سُفْيَان وَغير وَاحِد.
عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة عَن زر بن حُبَيْش عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: الأواه الدُّعَاء، وروى ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث ابْن الْمُبَارك عَن عبد الحميد بن بهْرَام، قَالَ: الأواه المتضرع الدُّعَاء، وَعَن مُجَاهِد وَأبي ميسرَة عَمْرو بن شُرَحْبِيل وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة أَنه الرَّحِيم أَي: لعباد الله، وَعَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: الأواه الموقن بِلِسَان الْحَبَشَة، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاك،.

     وَقَالَ  عَليّ بن أبي طَلْحَة وَمُجاهد عَن ابْن عَبَّاس، الأواه الْمُؤمن التواب،.

     وَقَالَ  سعيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ: الأواه المسبح،.

     وَقَالَ  شفي ابْن مَانع عَن أبي أَيُّوب: الأواه الَّذِي إِذا ذكر خطاياه اسْتغْفر مِنْهَا، وروى ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دفن مَيتا فَقَالَ: رَحِمك الله إِن كنت لأواها يَعْنِي: تلاء لِلْقُرْآنِ.
قَوْله: ( شفقا) أَي: لأجل الشَّفَقَة وَلأَجل الْفرق، وَهُوَ الْخَوْف، وَهَذَا كَانَ فِي إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَنَّهُ كَانَ حَلِيمًا عَمَّن ظلمه وخائفا من عَظمَة الله تَعَالَى وَمن كَثْرَة حلمه وشدته أَنه اسْتغْفر لِأَبِيهِ مَعَ شدَّة أَذَاهُ لَهُ فِي قَوْله: { أراغب أَنْت عَن آلهتي يَا إِبْرَاهِيم لَئِن لم تَنْتَهِ لأرجمنك واهجرني مَلِيًّا} ( مَرْيَم: 46) .

وَقَالَ الشَّاعِر:

( إِذا مَا قُمْتُ أرْحَلُها بِلَيْلٍ تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزِينِ)

كَأَنَّهُ يحْتَج بِهَذَا الْبَيْت على أَن لفظ: أَواه، على وزن فعال من التأوه،.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إِذا قَالَ: أوه، وَالِاسْم مِنْهُ الآهة بِالْمدِّ.
ثمَّ قَالَ: قَالَ المثقب الْعَبْدي: إِذا مَا قُمْت إِلَى آخِره، ويروى أهة، تَشْدِيد الْهَاء من قَوْلهم: أه أَي توجع.
قلت: فَلذَلِك قَالَ أَكثر الروَاة آهة بِالْمدِّ وَالتَّخْفِيف، وروى الْأصيلِيّ: أهة بِلَا مد وَتَشْديد الْهَاء، وَقد نسب الْجَوْهَرِي الْبَيْت الْمَذْكُور إِلَى المثقب الْعَبْدي، بتَشْديد الْقَاف الْمَفْتُوحَة، وَزعم بَعضهم بِكَسْر الْقَاف، وَالْأول أشهر وَسمي المثقب بقوله:

( أرين محاسنا وكنن أُخْرَى ... وثقبن الوصاوص للعيون)

قَوْله: كنن أَي: سترن، والوصاوص، جمع وصواص وَهُوَ البرقع الصَّغِير، وَهَكَذَا فسره الْجَوْهَرِي ثمَّ أنْشد هَذَا الْبَيْت، وَاسم المثقب، جحاش عَائِذ بن مُحصن بن ثَعْلَبَة بن وائلة بن عدي بن زهر بن مُنَبّه بن بكرَة بن لكز بن أفصى بن عبد الْقَيْس، قَالَ المرزباني: وَقيل: اسْمه شَاس بن عَائِذ بن مُحصن،.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو هفان اسْمه شَاس ابْن نَهَار، وَالْبَيْت الْمَذْكُور من قصيدة من الْمُتَوَاتر وَهِي طَوِيلَة وأولها قَوْله:
( أفاطم قبل بَيْنك متعبني ... ومنعك مَا سَأَلت كَأَن تبيني)

( فَلَا تعدِي مواعد كاذباتَ ... تمر بهَا ريَاح الصَّيف دوني)

( فَإِنِّي لَو تخالفني شمَالي ... لما اتبعتها أبدا يَمِيني)

( إِذا لقطعتها ولقلت: بيني ... لذَلِك اجتوى من يجتويني)

إِلَى أَن قَالَ:
( فسلِّ الْهم عَنْك بِذَات لَوَث ... عذافرة كمطرقة القيون)

( إِذا مَا قُمْت أرحلها بلَيْل ... تأوه آهة الرجل الحزين)

( تَقول: إِذا درأت لَهَا وضيني ... أَهَذا دينه أبدا وديني)

( أكلُّ الدَّهْر حل وارتحال ... فَمَا يبْقى عَليّ وَلَا يقيني)

وَمن حكمهَا:
( فإمَّا أَن تكون أخي بِصدق ... فأعرف مِنْك غثي من سميني)

( وإلاَّ فاطرحني واتخذني ... عدوا أتقيك وتتقيني) ( فَمَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا ... أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا يليني)

( آلخير الَّذِي أَنا أبتغيه ... أم الشَّرّ الَّذِي هُوَ يبتغيني)

قَوْله: ( أفاطم) ، بِفَتْح الْمِيم وَضمّهَا، منادى مرخم.
قَوْله: ( بَيْنك) ، أَي: قبل قَطعك.
قَوْله: ( اجتوى) ، من الجوى، وَهُوَ: الْمَرَض وداء الْبَطن إِذا تطاول.
قَوْله: ( ذَات لوث) ، بِضَم اللَّام، يُقَال نَاقَة لوثة أَي: كَثِيرَة اللَّحْم والشحم.
قَوْله: ( عذافرة) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الذَّال الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء وَفتح الرَّاء يُقَال: نَاقَة عذافرة، أَي: عَظِيمَة.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: يُقَال جمل عذافر وَهُوَ الْعَظِيم الشَّديد.
قَوْله: ( كمطرقة القيون) ، وَهُوَ جمع قين، وَهُوَ الْحداد.
قَوْله: ( أرحِّلها) من رحَّلت النَّاقة أرحلها رحلاً إِذا شددت الرحل على ظهرهَا، والرحل أَصْغَر من القتب.
قَوْله: ( وضيني) بِفَتْح الْوَاو وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون، وَهُوَ الهودج بِمَنْزِلَة البطان للقتب قَوْله: ( حل) أَي: حُلُول الْحل، والحلول وَالْمحل مصَادر من حل بِالْمَكَانِ، وَالْمعْنَى: أكل الزَّمَان مَوضِع الْحُلُول وَمَوْضِع الارتحال؟ قَوْله: ( لَا يقيني) أَي: لَا يحفظني من وقى يقي وقاية.
قَوْله: ( بِصدق) ويروي بِحَق.
قَوْله: ( فاعرف) بِالنّصب أَي: فَإِن أعرف.
قَوْله: ( غثى) بالغين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الثَّاء الْمُثَلَّثَة من غث اللَّحْم إِذا كَانَ مهزولاً وَالْمعْنَى أعرف مِنْك مَا يفْسد مِمَّا يصلح.


( { سُورَةُ بَرَاءَةَ} )

أَي: هَذِه سُورَة بَرَاءَة يَعْنِي: فِي بَيَان بعض تَفْسِيرهَا، وَسَيَأْتِي معنى بَرَاءَة، عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
.

     وَقَالَ  أَبُو الْحسن بن الْحصار: هِيَ مَدَنِيَّة بِاتِّفَاق.
.

     وَقَالَ  مقَاتل: إِلَّا آيَتَيْنِ من آخرهَا { لقد جَاءَكُم} ( التَّوْبَة: 128) إِلَى آخرهَا نزلت بِمَكَّة، وَقيل: فِيهَا اخْتِلَاف فِي أَربع عشرَة آيَة، وَهِي عشرَة آلَاف وَثَمَانمِائَة وَسَبْعَة وَثَمَانُونَ حرفا وَأَلْفَانِ وَأَرْبَعمِائَة وَسبع وَتسْعُونَ كلمة، وَمِائَة وَثَلَاثُونَ آيَة مدنِي وبصري وشامي ومكي، وَمِائَة وَعِشْرُونَ وتسع كُوفِي، وَلها ثَلَاثَة عشر اسْما اثْنَان مشهوران ( بَرَاءَة) ، و ( التَّوْبَة) و ( سُورَة الْعَذَاب) و ( والمقشقشة) لِأَنَّهَا تقشقش عَن النِّفَاق أَي: تبرىء، وَقيل: من تقشقش الْمَرِيض إِذا برأَ ( والبحوث) لِأَنَّهَا تبحث عَن سرائر الْمُنَافِقين و ( الفاضحة) لِأَنَّهَا فضحت الْمُنَافِقين و ( المبعثرة) لِأَنَّهَا بعثرت أَخْبَار النَّاس وكشفت عَن سرائرهم و ( المثيرة) لِأَنَّهَا أثارت مخازي الْمُنَافِقين و ( الحافرة) لِأَنَّهَا حفرت عَن قُلُوبهم و ( المشردة) لِأَنَّهَا تشرد بالمنافقين و ( المخزية) لِأَنَّهَا تخزي الْمُنَافِقين و ( المنكلة) لِأَنَّهَا تَتَكَلَّم و ( المدمدمة) لِأَنَّهَا تدمدم عَلَيْهِم.
وَاخْتلف فِي سَبَب سُقُوط الْبَسْمَلَة من أَولهَا.
فَقيل: لِأَن فِيهَا نقض الْعَهْد وَالْعرب فِي الْجَاهِلِيَّة كَانُوا إِذا نقض الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَينهم وَبَين قوم لم يكتبوا فِيهِ الْبَسْمَلَة، وَلما نزلت برَاء بِنَقْض الْعَهْد قَرَأَهَا عَلَيْهِم عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم يبسمل جَريا على عَادَتهم، وَقيل: لِأَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: كَانَت الْأَنْفَال من أَوَائِل مَا نزل وَبَرَاءَة من آخِره، وَكَانَت قصَّتهَا شَبيهَة بِقِصَّتِهَا، وَقبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يبين لنا أَنَّهَا مِنْهَا فَظَنَنْت أَنَّهَا مِنْهَا فَمن ثمَّة قرنت بَينهمَا وَلم أكتب بَينهمَا الْبَسْمَلَة، رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ، وَقيل: لما سقط الْبَسْمَلَة مَعَه، رُوِيَ عَن عُثْمَان أَيْضا.

     وَقَالَ هُ مَالك فِي رِوَايَة ابْن وهب وَابْن الْقَاسِم،.

     وَقَالَ  ابْن عجلَان: بَلغنِي أَن بَرَاءَة كَانَت تعدل الْبَقَرَة أَو قربهَا فَذهب مِنْهَا فَلذَلِك لم تكْتب الْبَسْمَلَة، وَقيل: لما كتب الْمُصحف فِي خلَافَة عُثْمَان اخْتلفت الصَّحَابَة.
فَقَالَ بَعضهم: بَرَاءَة والأنفال سُورَة وَاحِدَة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: هما سورتان، فَترك بَينهمَا فُرْجَة لقَوْل من لم يقل إنَّهُمَا سُورَة وَاحِدَة، وَبِه قَالَ: خَارِجَة وَأَبُو عصمَة وَآخَرُونَ، وَقيل: روى الْحَاكِم فِي ( مُسْتَدْركه) عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: سَأَلت عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن ذَلِك فَقَالَ: لِأَن الْبَسْمَلَة أَمَان وَبَرَاءَة نزلت بِالسَّيْفِ لَيْسَ فِيهَا أَمَان.
قَالَ الْقشيرِي: وَالصَّحِيح أَن الْبَسْمَلَة لم تكْتب فِيهَا لِأَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، مَا نزل بهَا فِيهَا، وروى الثَّعْلَبِيّ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( مَا نزل عليّ الْقُرْآن إلاَّ آيَة آيَة وحرفا حرفا خلا بَرَاءَة وَقل هُوَ الله أحد فَإِنَّهُمَا أَنْزَلَتَا عليّ ومعهما سَبْعُونَ ألفا من الْمَلَائِكَة) .

مُرْصَدٌ طَرِيقٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { واقعدوا لَهُم كل مرصد} ( التَّوْبَة: 5) أَي: على كل طَرِيق وَيجمع على مراصد، وَهِي الطّرق.
قَوْله لَهُم: أَي للْكفَّار الْمُشْركين وَلم تقع هَذِه اللَّفْظَة إلاَّ فِي بعض النّسخ.




(بابُُ قَوْلِهِ: { بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ} (التَّوْبَة: 3)

أَي: هَذَا بابُُ فِي قَوْله عز وَجل: { بَرَاءَة من الله} الْآيَة.
قَالَ الإِمَام أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي رَحمَه الله أَي: تبرؤ من الله وَرَسُوله إِلَى من كَانَ لَهُ عهد من الْمُشْركين من ذَلِك الْعَهْد، وَيُقَال: هَذِه الْآيَة بَرَاءَة، وَيُقَال: هَذِه السُّورَة بَرَاءَة،.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: الْبَرَاءَة نقض الْعَهْد إِلَى الَّذين عاهدتم من الْمُشْركين لأَنهم نقضوا عهودهم قبل الْأَجَل فَأمر الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَن من كَانَ عَهده إِلَى أَرْبَعَة أشهر أَن يقره إِلَى أَن تَنْقَضِي أَرْبَعَة أشهر.

     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ: ابْتِدَاء هَذَا الْأَجَل يَوْم الْحَج الْأَكْبَر وانقضاؤه إِلَى عشر من ربيع الآخر،.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيّ: هِيَ شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة وَالْمحرم لِأَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي شَوَّال،.

     وَقَالَ  مقَاتل: نزلت فِي ثَلَاثَة أَحيَاء من الْعَرَب، خُزَاعَة وَبني مُدْلِج وَبني جزيمة كَانَ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عاهدهم بِالْحُدَيْبِية لِسنتَيْنِ فَجعل الله أَجلهم أَرْبَعَة أشهر وَلم يعاهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد هَذِه الْآيَة أحدا من النَّاس.
.

     وَقَالَ  النّحاس: قَول من قَالَ: لم يعاهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد هَذِه الْآيَة، غير صَحِيح، وَالصَّحِيح أَنه قد عَاهَدَ بعد هَذِه الْآيَة جمَاعَة مِنْهُم أهل نَجْرَان، قَالَ الْوَاقِدِيّ: عاهدهم وَكتب لَهُم سنة عشر قبل وَفَاته بِيَسِير.

أذَانٌ إعْلامٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وأذان من الله وَرَسُوله} وَفَسرهُ بقوله: إِعْلَام، وَهَذَا ظَاهر.

وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أُذُنٌ يُصَدِّقُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَمِنْهُم الَّذين يُؤْذونَ النَّبِي وَيَقُولُونَ هُوَ أذن} (التَّوْبَة: 461) الْآيَة.
أَي: وَمن الْمُنَافِقين قوم يُؤْذونَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالْكلَام فِيهِ، وَيَقُولُونَ: هُوَ أذن يَعْنِي من قَالَ لَهُ شَيْء صدقه من قَالَ فِينَا بِحَدِيث صدقه، وَإِذا جِئْنَا وحلفنا لَهُ صدقنا روى مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: يَقُول فِي قَوْله: (وَيَقُولُونَ) ، هُوَ أذن يَعْنِي: هُوَ يسمع من كل أحد.

تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَنَحْوُها كَثِيرٌ وَالزَّكاةُ الطاعَةُ وَالإخْلاصُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا} (التَّوْبَة: 13) أَي: خُذ يَا مُحَمَّد،.

     وَقَالَ  الْمُفَسِّرُونَ: لما تَابَ الله على أبي لبابَُُة وَأَصْحَابه.
قَالُوا يَا رَسُول الله! هَذِه أَمْوَالنَا تصدق بهَا وَطَهِّرْنَا واستغفر لنا فَقَالَ: مَا أمرت أَن آخذ من أَمْوَالكُم شَيْئا، فَنزلت هَذِه الْآيَة.
وَفِي الصَّدَقَة قَولَانِ: أَحدهمَا: التَّطَوُّع.
وَالْآخر: الزَّكَاة،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: تطهرهُمْ صفة لصدقة، وقرىء: يطهرهم، من أطهرهم بِمَعْنى: طهرهم، وتطهرهم بِالْجَزْمِ جَوَابا لِلْأَمْرِ وَالتَّاء فِي تطهرهُمْ للخطاب أَو لغيبة الْمُؤَنَّث، والتزكية مُبَالغَة فِي التَّطْهِير وَزِيَادَة فِيهِ أَو بِمَعْنى الإنماء وَالْبركَة.
قَوْله: (وَنَحْوهَا كَثِيرُونَ) وَفِي بعض النّسخ.
وَنَحْو هَذَا كثير، وَهَذِه أحسن، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن اللَّفْظَيْنِ الْمُخْتَلِفين فِي الْمَادَّة ومتفقين فِي الْمَعْنى كثير فِي لُغَات الْعَرَب.
وَذَلِكَ لِأَن الزَّكَاة والتزكية فِي اللُّغَة الطَّهَارَة، وَلِهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: والتزكية مُبَالغَة فِي التَّطْهِير، وَهَذَا يُشِير إِلَى أَن معنى التَّزْكِيَة التَّطْهِير.
وَلَكِن فِيهِ زِيَادَة وتجيء التَّزْكِيَة أَيْضا بِمَعْنى النَّمَاء وَالْبركَة والمدح، وكل ذَلِك قد اسْتعْمل فِي الْقُرْآن، وعجبي من الشُّرَّاح كَيفَ أهملوا تَحْرِير مثل هَذَا ونظائره.
قَوْله: (وَالزَّكَاة الطَّاعَة) ، يَعْنِي: تَأتي بِمَعْنى الطَّاعَة وَبِمَعْنى الْإِخْلَاص، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْله: (تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا) قَالَ: الزَّكَاة طَاعَة الله وَالْإِخْلَاص.

لَا يُؤْتُون الزَّكَاةَ لَا يَشْهَدُونَ أنْ لَا إلاهَ إلاَّ الله
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة} (فصلت: 7) وَلَكِن هَذِه الْآيَة من سُورَة فصلت ذكرهَا هُنَا اسْتِطْرَادًا وفسرها بقوله: لَا يشْهدُونَ أَن لَا إلاه إِلَّا الله وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه فَسرهَا هَكَذَا.

يُضاهُونَ يُشَبِّهُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { ذَلِك قَوْلهم بأفواههم يضاهون قَول الَّذين كفرُوا من قبل} (التَّوْبَة: 3) وَفسّر: يضاهون، بقوله: يشبهون، وَكَذَا فسره ابْن عَبَّاس فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ عَليّ بن أبي طَلْحَة، وَهُوَ من المضاهاة.
.

     وَقَالَ  أَبُو عُبَيْدَة: هِيَ التَّشْبِيه، وَهَذَا إِخْبَار من الله تَعَالَى عَن قَول الْيَهُود: عُزَيْرًا ابْن الله، وَالنَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله، فأكذبهم بقوله ذَلِك قَوْلهم: بأفواههم، يَعْنِي لَا مُسْتَند لَهُم فِيمَا ادعوهُ سوى افترائهم وَاخْتِلَافهمْ يضاهون أَي: يشابهون قَول الَّذين كفرُوا من قبلهم من الْأُمَم ضلوا كَمَا ضل هَؤُلَاءِ قَاتلهم الله.
قَالَ ابْن عَبَّاس: لعنهم الله.



[ قــ :44 ... غــ :4654 ]
- ح دَّثنا أبُو الوَلِيدِ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنْ أبِي إسْحاقَ قَالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ رَضِيَ الله عَنهُ يَقُولُ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: { يَسْتَفْتُونَكَ قُل الله يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ} (النِّسَاء: 176) وَآخِرِ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث.
وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي والبراء بن عَازِب.

والْحَدِيث مضى فِي آخر سُورَة النِّسَاء فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق: سَمِعت الْبَراء قَالَ: آخر سُورَة نزلت بَرَاءَة وَآخر آيَة نزلت: يستفتونك، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَقد تقدم فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة عَن ابْن عَبَّاس أَن آخر آيَة نزلت آيَة الرِّبَا وَقيل: { وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله} (الْبَقَرَة: 281) بعْدهَا.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: لم يَخْتَلِفُوا فِي أَن أول بَرَاءَة نزلت سنة تسع لما حج أَبُو بكر الصّديق بِالنَّاسِ وأنزلت: { الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) عَام حجَّة الْوَدَاع فَكيف تكون بَرَاءَة آخر سُورَة أنزلت؟ وَلَعَلَّ الْبَراء أَرَادَ بعض سُورَة بَرَاءَة.
قلت: المُرَاد الآخرية الْمَخْصُوصَة لِأَن الأولية والآخرية من الْأُمُور النسبية، وَالْمرَاد بالسورة بَعْضهَا أَو معظمها، وَلَا شكّ أَن غالبها نزل فِي غَزْوَة تَبُوك وَهِي آخر غزوات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَيجمع بَين حَدِيثي الْبَراء وَابْن عَبَّاس بِأَنَّهُمَا لم ينقلاه وَإِنَّمَا ذكرَاهُ عَن اجْتِهَاد قلت: لَا مَحل للِاجْتِهَاد فِي مثل ذَلِك على مَا لَا يخفى على المتأمل.