فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها

( بابٌُ لَا يُسْألُ أهْلُ الشِّرْكِ عنِ الشَّهَادَةِ وغيْرِهَا)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: لَا يُسْألُ ... إِلَى آخِره، وَيسْأل على صِيغَة الْمَجْهُول، وَأَرَادَ بِهَذَا عدم قبُول شَهَادَتهم.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك: فَعِنْدَ الْجُمْهُور: لَا تقبل شَهَادَتهم أصلا وَلَا شَهَادَة بَعضهم على بعض، وَمِنْهُم من أَجَارَ شَهَادَة أهل الْكتاب بَعضهم على بعض للْمُسلمين، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم، وَمِنْهُم من أجَاز شَهَادَة أهل الشّرك بَعضهم على بعض، وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز وَالشعْبِيّ وَنَافِع وَحَمَّاد ووكيع، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة، وَمِنْهُم من قَالَ: لَا تجوز شَهَادَة أهل مِلَّة إلاَّ على أهل ملتها الْيَهُودِيّ على الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ على النَّصْرَانِي وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَالضَّحَّاك وَالْحكم وَابْن أبي ليلى وَعَطَاء وَأبي سَلمَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر وروى عَن شُرَيْح وَالنَّخَعِيّ تجوز شَهَادَتهم على الْمُسلمين فِي الْوَصِيَّة فِي السّفر للضَّرُورَة وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لَا تَجُوزُ شهَادَةُ أهْلِ المِلَلِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {فأغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ العَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ} ( الْمَائِدَة: 41) .


أَي: قَالَ عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ.
قَوْله: ( أهل الْملَل) ، أَي: ملل الْكفْر، وَهُوَ بِكَسْر الْمِيم جمع: مِلَّة، وَالْملَّة الدّين كملة الْإِسْلَام ومل الْيَهُودِيّ وملة النَّصَارَى، هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا سُفْيَان عَن دَاوُد عَن الشّعبِيّ، قَالَ: لَا تجوز شَهَادَة مِلَّة على مِلَّة إلاَّ الْمُسلمين.
وَاحْتج الشّعبِيّ بقوله تَعَالَى: {فأغرينا} ( الْمَائِدَة:) ، أَي: ألصقنا، وَمِنْه سمي الغرى الَّذِي يلصث بِهِ،.

     وَقَالَ  الرّبيع: يَعْنِي بِهِ النَّصَارَى خَاصَّة لأَنهم افْتَرَقُوا: نسطورية ويعقوبية وملكائية، وَعَن ابْن أبي نجيح يَعْنِي بِهِ: الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَاخْتلف فِيهِ على الشّعبِيّ، فروى عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن عِيسَى، وَهُوَ الحناط عَن الشّعبِيّ، قَالَ: كَانَ يُجِيز شَهَادَة النَّصْرَانِي على الْيَهُودِيّ واليهودي على النَّصْرَانِي، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أَشْعَث عَن الشّعبِيّ، قَالَ: تجوز شَهَادَة أهل الْملَل للْمُسلمين بَعضهم على بعض.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تُصَدِّقُوا أهْلِ الكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وقُولُوا آمَنَّا بِاللَّه وَمَا أُنْزِلَ} ( الْبَقَرَة: 631) .
الْآيَة

هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة من طَرِيق أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَالْغَرَض مِنْهُ هُنَا النَّهْي عَن تَصْدِيق أهل الْكتاب فِيمَا لَا يعرف صدقه من قبل غَيرهم فَيدل على رد شَهَادَتهم وَعدم قبُولهَا.



[ قــ :2567 ... غــ :2685 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يونُسَ عنِ ابنِ شِهِابٍ عنْ عُبَيْدَ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْألُونَ أهْلَ الكِتَابِ وكتابكُمُ الَّذِي أُنْزِلَ على نَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحْدَثُ الأَخْبَارِ بِاللَّه تَقْرَؤُنَهُ لَمْ يُشَبْ وقدْ حدَّثَكُمُ الله أنَّ أهْلَ الكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ الله وغَيَّرُوا بأيْدِيهِمُ الكِتَابَ فَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أفَلاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عنْ مُسَائَلَتِهِمْ وَلَا وَالله مَا رَأيْنَا مِنْهُم رجُلاً قَطُّ يَسْألُكُمْ عنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الرَّد عَن مساءلة أهل الْكتاب، لِأَن أخبارهم لَا تقبل لكَوْنهم بدلُوا الْكتاب بِأَيْدِيهِم، فَإِذا لم يقبل أخبارهم لَا تقبل شَهَادَتهم بِالطَّرِيقِ الأولى، لِأَن بابُُ الشَّهَادَة أضيق من بابُُ الرِّوَايَة.

وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.

والأثر أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي التَّوْحِيد عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب.

قَوْله: ( كَيفَ تسْأَلُون أهل الْكتاب؟) إِنْكَار من ابْن عَبَّاس عَن سُؤَالهمْ من أهل الْكتاب.
قَوْله: ( وَكِتَابكُمْ) ، أَي: الْقُرْآن، وارتفاعه على أَنه مُبْتَدأ، وَقَوله: ( الَّذِي أنزل على نبيه) ، صفته.
وَقَوله: ( أحدث الْأَخْبَار) خَبره.
قَوْله: ( على نبيه) ، أَي: مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( الْإِخْبَار) ، بِكَسْر الْهمزَة بِمَعْنى الْمصدر، وَبِفَتْحِهَا بِمَعْنى الْجمع، وَمَعْنَاهُ: إِنَّه أقرب الْكتب نزولاً إِلَيْكُم من عِنْد الله، فَالْحَدِيث بِالنِّسْبَةِ إِلَى المنزول إِلَيْهِم وَهُوَ فِي نَفسه قديم على مَا عرف فِي مَوْضِعه.
قَوْله: ( لم يشب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من الشوب، وَهُوَ الْخَلْط، أَي: لم يخلط وَلم يُبدل وَلم يُغير.
وَفِي ( مُسْند أَحْمد) رَحمَه الله، من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا: ( لَا تسألوا أهل الْكتاب عَن شَيْء فَإِنَّهُم لن يهدوكم، وَقد ضلوا) الحَدِيث.
قَوْله: ( بدلُوا) ، من التبديل، قَالَ الله تَعَالَى فِي حق الْيَهُود: {فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا} ( الْبَقَرَة: 97) .
قَوْله: ( وَلَا وَالله) ، كلمة: لَا، زَائِدَة، إِمَّا تَأْكِيد لنفي مَا قبله أَو مَا بعده، يَعْنِي: هم لَا يسألونكم، فَأنْتم بِالطَّرِيقِ الأولى أَن لَا تسألوهم، وَاحْتج بِهَذَا الحَدِيث المانعون عَن شَهَادَتهم أصلا،
وَفِيه: أَن أهل الْكتاب بدلُوا وغيروا، كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَنْهُم فِي الْقُرْآن الْكَرِيم، وَسَأَلَ مُحَمَّد بن الوضاح بعض عُلَمَاء النَّصَارَى، فَقَالَ: مَا بَال كتابكُمْ معشر الْمُسلمين لَا زِيَادَة فِيهِ وَلَا نُقْصَان؟ وَكِتَابنَا بِخِلَاف ذَلِك؟ فَقَالَ: لِأَن الله تَعَالَى وكل حفظ كتابكُمْ إِلَيْكُم.
فَقَالَ: استحفظوا من كتاب الله، فَلَمَّا وَكله إِلَى مَخْلُوق دخله الخرم وَالنُّقْصَان،.

     وَقَالَ  فِي كتَابنَا: {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} ( الْحجر: 9) .
فَتَوَلّى الله حفظه، فَلَا سَبِيل إِلَى الزِّيَادَة فِيهِ، وَلَا النُّقْصَان مِنْهُ.