فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب رفع العلم وظهور الجهل

( بابُُ رفْعِ العِلْمِ وظُهُورِ الجَهْلِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل، وَإِنَّمَا قَالَ: وَظُهُور الْجَهْل، مَعَ أَن رفع الْعلم يسْتَلْزم ظُهُور الْجَهْل، لزِيَادَة الْإِيضَاح.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبابُُ الأول: فضل الْعَالم والمتعلم، وَفِيه التَّرْغِيب فِي تَحْصِيل الْعلم وَالْإِشَارَة إِلَى فَضِيلَة الْعلم، وَهَذَا الْبابُُ فِيهِ ضد ذَلِك، لِأَن فِيهِ: رفع الْعلم المستلزم لظُهُور الْجَهْل، وَفِيه التحذير وذم الْجَهْل وبالضد تتبين الْأَشْيَاء.

وَقَالَ رَبيعَةُ لَا يَنْبَغِي لأحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ العِلْمِ أنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ.

ربيعَة: هُوَ الْمَشْهُور بربيعة الرَّأْي، بِإِسْكَان الْهمزَة، إِنَّمَا قيل لَهُ ذَلِك لِكَثْرَة اشْتِغَاله بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد، وَهُوَ ابْن أبي عبد الرَّحْمَن فروخ، بِالْفَاءِ وَالرَّاء الْمُشَدّدَة المضمومة وبالخاء الْمُعْجَمَة، الْمدنِي التَّابِعِيّ الْفَقِيه، شيخ مَالك بن أنس، روى عَنهُ الْأَعْلَام مِنْهُم أَبُو حنيفَة.
توفّي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة بِالْمَدِينَةِ، وَقيل: بالأنبار، فِي دولة أبي الْعَبَّاس.
فَإِن قلت: مَا وَجه مُنَاسبَة قَول ربيعَة هَذَا للتبويب فِي رفع الْعلم؟ قلت: من كَانَ لَهُ فهم وَقبُول يلْزمه من فرض الْعلم مَا لَا يلْزم غَيره، فَيَنْبَغِي أَن يجْتَهد فِيهِ وَلَا يضيع علمه فيضيع نَفسه، فَإِنَّهُ إِذا لم يتَعَلَّم أفْضى إِلَى رفع الْعلم، لِأَن البليد لَا يقبل الْعلم، فَهُوَ عَنهُ مُرْتَفع.
فَلَو لم يتَعَلَّم الْفَهم لارتفع الْعلم عَنهُ أَيْضا، فيرتفع عُمُوما، وَذَلِكَ من أَشْرَاط السَّاعَة.
وَيُقَال: معنى كَلَام ربيعَة: الْحَث على نشر الْعلم، لِأَن الْعَالم فِي قومه إِذا لم ينشر علمه، وَمَات قبل ذَلِك، أدّى ذَلِك إِلَى رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل، وَهَذَا الْمَعْنى أَيْضا يُنَاسب التَّبْوِيب.
وَيُقَال: مَعْنَاهُ: أَنه لَا يَنْبَغِي للْعَالم أَن يَأْتِي بِعِلْمِهِ أهل الدُّنْيَا.
وَلَا يتواضع لَهُم إجلالاً للْعلم.
فعلى هَذَا فَالْمَعْنى فِي مُنَاسبَة التَّبْوِيب مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ من قلَّة الإشتغال بِالْعلمِ والاهتمام بِهِ لما يرى من ابتذال أَهله وَقلة الاحترام لَهُم.
قَوْله: ( أَن يضيع) وَفِي بعض النّسخ: يضيع، بِدُونِ: أَن، مَعْنَاهُ، بِأَن لَا يُفِيد النَّاس وَلَا يسْعَى فِي تَعْلِيم الْغَيْر، وَقد قيل:
( وَمن منع المستوجبين فقد ظلم)

وَقَالَ التَّيْمِيّ: قَالَ الْفُقَهَاء: لزم معِين الْبَلَد للْقَضَاء طلبه لحَاجَة إِلَى رزقة من بَيت المَال أَو لخمول ذكره وَعدم شهرة فضيلته، يَعْنِي: إِذا ولي الْقَضَاء انْتَشَر علمه.
فَإِن قلت: مَا حَال هَذَا التَّعْلِيق؟ قلت: قد علم أَن مَا يذكر البُخَارِيّ بِصِيغَة الْجَزْم يدل على صِحَّته عِنْده، وَمَا يذكرهُ بِصِيغَة التمريض يدل على ضعفه.
وَهَذَا بِصِيغَة الْجَزْم وَوَصله الْخَطِيب فِي ( الْجَامِع) وَالْبَيْهَقِيّ فِي ( الْمدْخل) من طَرِيق عبد الْعَزِيز الأويسي عَن مَالك عَن ربيعَة.



[ قــ :80 ... غــ :80 ]
- حدّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ الوارِثِ عنْ أبي التَّيَّاحِ عنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( إِنَّ منْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أنْ يُرْفَعَ العِلْمُ وَيَثْبُتَ الجَهْلُ وَيُشْرَبَ الخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنا) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة.
الأول: عمرَان، بِكَسْر الْعين: ابْن ميسرَة، بِفَتْح الْمِيم، ضد الميمنة: أَبُو الْحسن الْمنْقري الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَالْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد، مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد بن ذكْوَان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم.
الثَّالِث: أَبُو التياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف والحاء الْمُهْملَة: اسْمه يزِيد بن زِيَادَة بن حميد الضبعِي، من أنفسهم، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة من يشْتَرك مَعَه فِي هَذِه الكنية، وَرُبمَا كنى بِأبي حَمَّاد، وَهُوَ ثِقَة ثَبت صَالح: مَاتَ سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة، روى عَنهُ الْجَمَاعَة.
الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله عَنهُ.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة: وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده رباعي.

بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن عمرَان بن ميسرَة، وَمُسلم فِي الْقدر عَن شَيبَان بن فروخ، وَالنَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن عمرَان بن مُوسَى الْقَزاز، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الْوَارِث عَنهُ بِهِ.

بَيَان اللُّغَات: قَوْله: ( من أَشْرَاط السَّاعَة) ، بِفَتْح الْهمزَة: أَي: علاماتها، وَهُوَ جمع شَرط، بِفَتْح الشين وَالرَّاء، وَبِه سميت: شَرط السُّلْطَان، لأَنهم جعلُوا لأَنْفُسِهِمْ عَلَامَات يعْرفُونَ بهَا.
وَقد مر زِيَادَة الْكَلَام فِيهِ فِي الْإِيمَان.
قَوْله: ( وَيثبت الْجَهْل) ، من الثُّبُوت، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ ضد النَّفْي.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: ( ويبث) ، من البث، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والثاء الْمُثَلَّثَة.
وَهُوَ الظُّهُور والفشو.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وغفل الْكرْمَانِي فعزاها إِلَى البُخَارِيّ، وَإِنَّمَا حَكَاهَا النَّوَوِيّ فِي ( شرح مُسلم) .
قلت: لم يقل الْكرْمَانِي: وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، وَلَا قَالَ: روى، وَإِنَّمَا قَالَ: وَفِي بعض النّسخ: يبث من البث، وَهُوَ النشر، وَلَا يلْزم من هَذِه الْعبارَة نسبته إِلَى البُخَارِيّ، لِأَنَّهُ يُمكن أَن تكون هَذِه الرِّوَايَة من غير البُخَارِيّ وَقد كتب فِي كِتَابه، وَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا: ينْبت من النَّبَات، بالنُّون.
والمعترض الْمَذْكُور أَيْضا، وَلَيْسَت هَذِه فِي شَيْء من الصَّحِيحَيْنِ قَالَ وَلَا يلْزم من عدم اطِّلَاعه على ذَلِك نَفْيه بِالْكُلِّيَّةِ، وَرُبمَا ثَبت ذَلِك عِنْد أَحْمد من نَقله ( الصَّحِيحَيْنِ) ، فنقله ثمَّ جعل ذَلِك نُسْخَة، وَالْمُدَّعِي بالفن لَا يقدر على إحاطة جَمِيع مَا فِيهِ، وَلَا سِيمَا علم الرِّوَايَة، فَإِنَّهُ علم وَاسع لَا يدْرك ساحله.
قَوْله: ( وَيشْرب الْخمر) قَالَ بَعضهم: المُرَاد كَثْرَة ذَلِك واشتهاره، ثمَّ أكد كَلَامه بقوله: وَعند المُصَنّف فِي النِّكَاح من طَرِيق هِشَام عَن قَتَادَة: ( وَيكثر شرب الْخمر) .
أَو الْعَلامَة مَجْمُوع ذَلِك.
قلت: لَا نسلم أَن المُرَاد كَثْرَة ذَلِك، بل شرب الْخمر مُطلقًا هُوَ جُزْء الْعلَّة من أَشْرَاط السَّاعَة، وَقَوله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: ( وَيكثر شرب الْخمر) لَا يسْتَلْزم أَن يكون نفي مُطلق الشّرْب من أشراطها، لِأَن الْمُقَيد بِحكم لَا يسْتَلْزم نفي الحكم الْمُطلق، وَالْأَصْل إِجْرَاء كل لفظ على مُقْتَضَاهُ، وَلَا تنَافِي بَين حكم يُمكن حُصُوله مُعَلّقا بِشَرْط تَارَة، وَبِغَيْرِهِ أُخْرَى، وَنَظِيره: الْملك، فَإِنَّهُ يُوجد بِالشِّرَاءِ وَغَيره، وَهَذَا الْقَائِل أَخذ مَا قَالَه من كَلَام الْكرْمَانِي حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: شرب الْخمر كَيفَ يكون من علاماتها، وَالْحَال أَنه كَانَ وَاقعا فِي جَمِيع الْأَزْمَان، وَقد حد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعض النَّاس لشربه إِيَّاهَا؟ قلت: المُرَاد مِنْهُ أَن يشرب شرباً فاشياً، أَو أَن نقس الشّرْب وَحده لَيْسَ عَلامَة، بل الْعَلامَة مَجْمُوع الْأُمُور الْمَذْكُورَة.
قلت: هَذَا السُّؤَال غير وَارِد لِأَنَّهُ لَا يلْزم من وُقُوعهَا فِي جَمِيع الْأَزْمَان، وحد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شاربها أَن لَا يكون من عَلَامَات السَّاعَة.
نعم قَوْله: بل الْعَلامَة مَجْمُوع الْأُمُور الْمَذْكُورَة هُوَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، جمع بَين الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بِحرف الْجمع، وَالْجمع بِحرف الْجمع كالجمع بِلَفْظ الْجمع، وَوُجُود الْمَجْمُوع هُوَ الْعَلامَة لوُقُوع السَّاعَة، وكل مِنْهَا جُزْء الْعلَّة، فحينئذٍ تَقْيِيد الشّرْب بِالْكَثْرَةِ لَا يُفِيد.
وَقد قُلْنَا: إِن مَا ورد من قَوْله: وَيكثر شرب الْخمر، لَا يُنَافِي كَون مُطلق الشّرْب جُزْء عِلّة، وكل من الشّرْب الْمُطلق وَالشرب الْمُقَيد بِالْكَثْرَةِ والشهرة جُزْء عِلّة لِأَن الْعلَّة الدَّالَّة على وُقُوع الحكم هِيَ الْعلَّة المركبة من وجود الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة.
ثمَّ الْخمر فِي اللُّغَة من التخمير، وَهُوَ: التغطية.
سميت بِهِ لِأَنَّهَا تغطي الْعقل.
وَمِنْه الْخمار للْمَرْأَة، وَفِي ( الْعبابُ) : يُقَال: خمرة وخمر وخمور.
مِثَال تَمْرَة وتمر وتمور، وَيُقَال: خمرة صرف، وَفِي الحَدِيث: ( الْخمْرَة مَا خامر الْعقل) .
.

     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي: سميت الْخمْرَة خمرًا لِأَنَّهَا تركت فَاخْتَمَرت، واختمارها تَغْيِير رِيحهَا، وَعند الْفُقَهَاء: الْخمر هِيَ النيء من مَاء الْعِنَب إِذا غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد، وَيلْحق بهَا غَيرهَا من الْأَشْرِبَة إِذا أسكر.
قَوْله: ( وَيظْهر الزِّنَا) أَي: يفشو وينتشر، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ( ويفشو الزِّنَا) ، وَالزِّنَا: يمد وَيقصر، وَالْقصر لأهل الْحجاز قَالَ الله تَعَالَى: { وَلَا تقربُوا الزِّنَا} ( الْإِسْرَاء: 32) وَالْمدّ لأهل نجد، وَقد زنى يَزْنِي وَهُوَ من النواقص اليائية، وَالنِّسْبَة إِلَى الْمَقْصُور: زنوي، وَإِلَى المدود: زنائي.

بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: ( أَن) : حرف من الْحُرُوف المشبهة بِالْفِعْلِ يرفع وَينصب فَقَوله: ( أَن يرفع الْعلم) فِي مَحل النصب إسمها، و: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْرِيره: رفع الْعلم.
وخبرها قَوْله: ( من أَشْرَاط السَّاعَة) وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: ( من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم) ، من غير أَن فِي أَوله، فعلى هَذِه الرِّوَايَة يكون مَحل ( أَن يرفع الْعلم) الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مقدما ( من أَشْرَاط السَّاعَة) .
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَسَقَطت: أَن، من رِوَايَة النَّسَائِيّ حَيْثُ أخرجه عَن عمرَان شيخ البُخَارِيّ.
قلت: هَذَا غَفلَة وسهو، لِأَن شيخ البُخَارِيّ هُوَ عمرَان بن ميسرَة، وَشَيخ النَّسَائِيّ هُوَ عمرَان بن مُوسَى.
قَوْله: ( وَيثبت) بِالنّصب عطفا على: ( أَن يرفع) ، وَكَذَلِكَ: ( وَيشْرب وَيظْهر) منصوبان بالْعَطْف على الْمَنْصُوب، و: أَن، مقدرَة فِي الْجمع، و: يرفع وَيشْرب، مَجْهُولَانِ، و: وَيثبت وَيظْهر، معلومان.

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: ( أَن يرفع الْعلم) فِيهِ إِسْنَاد مجازي، وَالْمرَاد: رَفعه بِمَوْت حَملته وَقبض الْعلمَاء، وَلَيْسَ المُرَاد محوه من صُدُور الْحفاظ وَقُلُوب الْعلمَاء، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي بابُُ: كَيفَ يقبض الْعلم؟ عَن عبد اللَّه بن عمر، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ( إِن الله عز وَجل لَا يقبض الْعلم انتزاعاً ينتزعه من الْعباد، وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء حَتَّى إِذا لم يبْق عَالما اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فيسألوا، فافتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا) .
وَبَين بِهَذَا الحَدِيث أَن المُرَاد بِرَفْع الْعلم هُنَا قبض أَهله وهم الْعلمَاء لَا محوه من الصُّدُور، لَكِن بِمَوْت أَهله واتخاذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فيحكمون فِي دين الله تَعَالَى برأيهم ويفتون بجهلهم، قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَقد وجد ذَلِك فِي زَمَاننَا، كَمَا أخبر بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: قلت: هَذَا قَوْله مَعَ توفر الْعلمَاء فِي زَمَانه، فَكيف بزماننا؟ قَالَ العَبْد الضَّعِيف: هَذَا قَوْله مَعَ كَثْرَة الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة والمحدثين الْكِبَار فِي زَمَانه، فَكيف بزماننا الَّذِي خلت الْبِلَاد عَنْهُم، وتصدرت الْجُهَّال بالإفتاء والتعين فِي الْمجَالِس والتدريس فِي الْمدَارِس؟ فنسأل السَّلامَة والعافية.





[ قــ :81 ... غــ :81 ]
- حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ: حدّثنا يَحْيَى عنْ شُعْبَةَ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسٍ قالَ: لأحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثاً لَا يُحَدِّثُكُمْ أحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: ( منْ أشْراطِ السَّاعَةِ أنْ يَقلَّ العِلْمُ، ويَظْهَرَ الجَهلُ، ويَظْهَرَ الزِّنا، وتَكْثُرَ النِّساءُ ويَقِلَّ الرِّجالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسينَ امْرَأةً القَيِّمُ الوَاحدُ) ..
مُطَابقَة هَذَا أَيْضا للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَفِي التَّرْجَمَة: رفع الْعلم، من لفظ الحَدِيث الأول، وفيهَا: ظُهُور الْجَهْل من لفظ هَذَا الحَدِيث.

بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة، وَالْكل قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَالْكل بصريون، وَبِهَذَا التَّرْتِيب وَقع فِي بابُُ الْإِيمَان: ( أَن يحب لاخيه) .
وَفِي إِسْنَاده تحديث وعنعنة وَسَمَاع.
قَوْله: ( عَن أنس) ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: عَن أنس بن مَالك.

بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْقدر عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار كِلَاهُمَا عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن شُعْبَة عَنهُ بِهِ،.

     وَقَالَ : حسن صَحِيح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن عَمْرو بن عَليّ وَأبي مُوسَى، وَابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: ( أَن يقل) ، بِكَسْر الْقَاف: من الْقلَّة ضد الْكَثْرَة.
قَوْله: ( الْقيم الْوَاحِد) ، بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْيَاء الْمُشَدّدَة، وَهُوَ الْقَائِم بِأُمُور النِّسَاء، وَكَذَا الْقيام والقوام.
يُقَال: فلَان قوام أهل بَيته وقيامه، وَهُوَ الَّذِي يُقيم شَأْنهمْ.
وَمِنْه قَوْله: تَعَالَى: { وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم الَّتِي جعل الله لكم قيَاما} ( النِّسَاء: 5) وقوام الْأَمر أَيْضا: ملاكه الَّذِي يقوم بِهِ، وأصل: قيم قيوم على وزن فيعل، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء، وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ، فابدلت من الْوَاو يَاء، وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء.
وَلم يعكس الْأَمر هَهُنَا هرباً من الالتباس: بِقوم، الَّذِي هُوَ ماضٍ من التَّقْوِيم.
قَوْله: ( لأحدثنكم) اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة، وَهُوَ جَوَاب قسم مَحْذُوف، أَي وَالله لاحدثنكم، وَلِهَذَا جَازَ دُخُول النُّون الْمُؤَكّدَة عَلَيْهِ، وَصرح بِهِ أَبُو عوَانَة من طَرِيق هِشَام عَن قَتَادَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن غنْدر عَن شُعْبَة: ( أَلا أحدثكُم) .
فَيحْتَمل أَن يكون قَالَ لَهُم أَولا: أَلا أحدثكُم، فَقَالُوا: نعم.
فَقَالَ: لأحدثنكم.
قَوْله: ( حَدِيثا) قَائِم مقَام أحد المفعولين: لأحدثنكم.
قَوْله: ( لَا يُحَدثكُمْ أحد) جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لقَوْله: ( حَدِيثا) .
قَوْله: ( بعدِي) ، كَلَام إضافي صفة: لأحد، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ( لَا يحدث أحد بعدِي) .
بِحَذْف الْمَفْعُول، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه عَن غنْدر عَن شُعْبَة: ( لَا يُحَدثكُمْ بِهِ أحد بعدِي) .
وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيق هِشَام: ( لَا يُحَدثكُمْ بِهِ غَيْرِي) .
وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من هَذَا الْوَجْه: لَا يُحَدثكُمْ أحد سَمعه من رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بعدِي.
قَوْله: ( سَمِعت) بَيَان أَو بدل لقَوْله: ( لأحدثنكم) وَقد مر تَوْجِيه كَيْفيَّة جعل الذَّات مسموعاً.
قَوْله: ( يَقُول) جملَة وَقعت حَالا.
قَوْله: ( أَن يقل الْعلم) فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء، وَأَن: مَصْدَرِيَّة.
قَوْله: ( من أَشْرَاط السَّاعَة) خبر مقدم، وَالتَّقْدِير: من أَشْرَاط السَّاعَة قلَّة الْعلم.
قَوْله: ( وَيظْهر) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، و: تكْثر ويقل، فِي الْأَخير كلهَا منصوبات بِتَقْدِير: أَن، لِأَنَّهَا عطف على قَوْله: ( أَن يقل الْعلم) وَالْكل على صِيغَة الْمَعْلُوم.
قَوْله: ( حَتَّى يكون) حَتَّى، هَهُنَا للغاية، بِمَعْنى إِلَى، و: أَن، بعْدهَا مقدرَة.
قَوْله: ( الْقيم) مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم: يكون، و: الْوَاحِد، صفته.

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: ( وتكثر النِّسَاء ويقل الرِّجَال) قَالَ القَاضِي وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا: يقل الرِّجَال بِكَثْرَة الْقَتْل فَيَمُوت الرِّجَال فتكثر النِّسَاء، وبقتلهم يكثر الْفساد وَالْجهل.
.

     وَقَالَ  أَبُو عبد الْملك: هُوَ إِشَارَة إِلَى كَثْرَة الْفتُوح فتكثر السبايا، فيتخذ الرجل الْوَاحِد عدَّة موطوآت.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ صرح بِالْعِلَّةِ فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْآتِي فِي الزَّكَاة عِنْد المُصَنّف.
فَقَالَ: ( من قلَّة الرِّجَال وَكَثْرَة النِّسَاء) .
وَالظَّاهِر أَنَّهَا عَلامَة مَحْضَة لَا لسَبَب آخر.
قلت: لَيْسَ فِي حَدِيث أبي مُوسَى شَيْء من التَّنْبِيه على الْعلَّة، لَا صَرِيحًا وَلَا دلَالَة، وَإِنَّمَا معنى قَوْله: ( من قلَّة الرِّجَال وَكَثْرَة النِّسَاء) مثل معنى قَوْله فِي هَذَا الحَدِيث: ( وتكثر النِّسَاء ويقل الرِّجَال) ، وَالْعلَّة لهَذَا لَا تطلب إلاَّ من خَارج، وَقد ذكرُوا هذَيْن الْوَجْهَيْنِ، وَيُمكن أَن يُقَال: يكثر فِي آخر الزَّمَان ولادَة الْإِنَاث، ويقل ولادَة الذُّكُور، وبقلة الرِّجَال يظْهر الْجَهْل وَيرْفَع الْعلم، وَيَكْفِي كثرتهن فِي قلَّة الْعلم وَظُهُور الْجَهْل وَالزِّنَا، لِأَن النِّسَاء حبائل الشَّيْطَان وَهن ناقصات عقل وَدين.
قَوْله: ( لخمسين امْرَأَة) يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا حَقِيقَة هَذَا الْعدَد، وَأَن يُرَاد بهَا كَونهَا مجَازًا عَن الْكَثْرَة، وَلَعَلَّ السِّرّ فِيهِ أَن الْأَرْبَعَة فِي كَمَال نِصَاب الزَّوْجَات، فَاعْتبر الْكَمَال مَعَ زِيَادَة وَاحِدَة عَلَيْهِ، ثمَّ اعْتبر كل وَاحِدَة بِعشر أَمْثَالهَا ليصير فَوق الْكَمَال مُبَالغَة فِي الْكَثْرَة، أَو لِأَن الْأَرْبَعَة مِنْهَا يُمكن تألف الْعشْرَة، لِأَن فِيهَا وَاحِد أَو اثْنَيْنِ وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة، وَهَذَا الْمَجْمُوع: عشرَة، وَمن العشرات المئات، وَمن المئات الألوف، فَهِيَ أصل جَمِيع مَرَاتِب الْأَعْدَاد، فزيد فَوق الأَصْل وَاحِد آخر ثمَّ اعْتبر كل وَاحِدَة مِنْهَا بِعشر أَمْثَالهَا أَيْضا تَأْكِيدًا للكثرة، ومبالغة فِيهَا.

الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: من أَيْن عرف أنس، رَضِي الله عَنهُ، أَن أحدا لَا يحدث بعده؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ لَعَلَّه عرفه بِإِخْبَار الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَو قَالَ بِنَاء على ظَنّه أَنه لم يسمع الحَدِيث غَيره من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: يحْتَمل أَن أنسا، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ لم يبْق من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيره، أَو لما رأى من التَّغَيُّر وَنقص الْعلم فوعظهم بِمَا سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نقص الْعلم أَنه من أَشْرَاط السَّاعَة، ليحضهم على طلب الْعلم، ثمَّ أَتَى بِالْحَدِيثِ على نَصه.
قلت: يحْتَمل أَن يكون الْخطاب بذلك لأهل الْبَصْرَة خَاصَّة، لِأَنَّهُ آخر من مَاتَ بِالْبَصْرَةِ، رَضِي الله عَنهُ.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قلَّة الْعلم تَقْتَضِي بَقَاء شَيْء مِنْهُ، وَفِي الحَدِيث السَّابِق: ( يرفع الْعلم) ، وَالرَّفْع عدم بَقَائِهِ، فبينهما تناف.
أُجِيب: بِأَن الْقلَّة قد تطلق وَيُرَاد بهَا الْعَدَم، أَو كَانَ ذَلِك بِاعْتِبَار الزمانين، كَمَا يُقَال مثلا: الْقلَّة فِي ابْتِدَاء أَمر الإشراط والعدم فِي انتهائه، وَلِهَذَا قَالَ ثمَّة: ( يثبت الْجَهْل) ، وَهَهُنَا ( يظْهر) وَمن الدَّلِيل على إِطْلَاق الْقلَّة وَإِرَادَة الْعَدَم وَالرَّفْع أَنه وَقع هَهُنَا فِي رِوَايَة مُسلم عَن غنْدر، وَغَيره عَن شُعْبَة: أَن يرفع الْعلم.
وَكَذَا فِي رِوَايَة سعيد عِنْد ابْن أبي شيبَة، وَهَمَّام عِنْد البُخَارِيّ فِي الْحُدُود، وَهِشَام عِنْده فِي النِّكَاح، كلهم عَن قَتَادَة، وَهُوَ مُوَافق لرِوَايَة أبي التياح.
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة، من طَرِيق هِشَام: أَن يقل، فَافْهَم.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا فَائِدَة التَّعْرِيف فِي قَوْله: ( الْقيم) ، وَكَانَ حق الظَّاهِر أَن يُقَال: قيم وَاحِد؟ أُجِيب: بِأَن فَائِدَته الْإِشْعَار بِمَا هُوَ مَعْهُود من: { الرِّجَال قوامون على النِّسَاء} ( النِّسَاء: 34) فَاللَّام للْعهد.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا فَائِدَة تَخْصِيص هَذِه الْأَشْيَاء الْخَمْسَة بِالذكر؟ أُجِيب: بِأَن فَائِدَة ذَلِك أَنَّهَا مشعرة باختلال الضرورات الْخمس الْوَاجِبَة رعايتها فِي جَمِيع الْأَدْيَان الَّتِي بحفظها صَلَاح المعاش والمعاد ونظام أَحْوَال الدَّاريْنِ، وَهِي: الدّين وَالْعقل وَالنَّفس وَالنّسب وَالْمَال، فَرفع الْعلم مخل بِحِفْظ الدّين، وَشرب الْخمر بِالْعقلِ وبالمال أَيْضا، وَقلة الرِّجَال سَبَب الْفِتَن بِالنَّفسِ وَظُهُور الزِّنَا بِالنّسَبِ، وَكَذَا بِالْمَالِ.
وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ كَانَ اختلال هَذِه الْأُمُور من علاماتها؟ أُجِيب: لِأَن الْخَلَائق لَا يتركون سدى وَلَا نَبِي بعد هَذَا الزَّمَان، فَتعين خراب الْعَالم، وَقرب الْقِيَامَة.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث علم من أَعْلَام النُّبُوَّة، إِذْ أخبر عَن أُمُور ستقع فَوَقَعت، خُصُوصا فِي هَذِه الْأَزْمَان.
وَالله الْمُسْتَعَان.