فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله

( بابُُ غَسْلِ الحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِها وَتَرْجِيلِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان غسل الْحَائِض رَأس زَوجهَا، وَحكم ترجيل رَأسه، والترجيل مجرور عطف على غسل، وَهُوَ بِالْجِيم: تَسْرِيح شعر الرَّأْس.
.

     وَقَالَ  ابْن السّكيت، شعر رجل، بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا، إِذا لم يكن شَدِيد الجعودة وَلَا سبطاً، تَقول مِنْهُ: رجل شعره ترجيلاً.

والمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم مُتَعَلق بالحائض.



[ قــ :291 ... غــ :295 ]
- حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قالَ حدّثنا مالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قالَتْ كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا حائِضٌ.
.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي ترجيل رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما أَمر الْغسْل فَلَا مُطَابقَة لَهُ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: الْحق بِهِ الْغسْل قِيَاسا أَو إِشَارَة إِلَى الطَّرِيق الْآتِيَة فِي بابُُ مُبَاشرَة الْحَائِض، فَإِنَّهُ صَرِيح فِي ذَلِك، والوجهان اللَّذَان ذكرهمَا هَذَا الْقَائِل لَا وَجه لَهما أصلا.
أما الأول: فَلِأَن وضع التراجم من الْأَبْوَاب هَل هُوَ حكم من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة حَتَّى يُقَاس حكم مِنْهَا على حكم آخر.
وَأما الثَّانِي: فَهَل وَجه الْوَضع تَرْجَمَة فِي بابُُ، وَالْإِشَارَة إِلَى المترجم الَّذِي وضع لَهَا فِي الْبابُُ الثَّالِث.

ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة ذكرُوا فِي بابُُ الْوَحْي على هَذَا التَّرْتِيب.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا عبد الله فَإِنَّهُ تنيسي.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن عبد الله بن يُوسُف، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة، وَفِي الِاعْتِكَاف عَن قُتَيْبَة، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك.
قَوْله: ( كنت أرجل رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فِيهِ الْإِضْمَار تَقْدِيره: كنت أرجل شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن الترجيل للشعر لَا للرأس، وَيجوز أَن يكون من بابُُ إِطْلَاق الْمحل وَإِرَادَة الْحَال.
قَوْله: ( وَأَنا حَائِض) جملَة أسمية وَقعت حَالا.

وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ جَوَاز ترجيل الْحَائِض شعر رَأس زَوجهَا، وَاعْلَم أَنه لم يخْتَلف أحد فِي غسل الْحَائِض رَأس زَوجهَا وترجيله إلاَّ مَا نقل عَن ابْن عَبَّاس أَنه دخل على مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
فَقَالَت: ( أَي بني مَالِي أَرَاك شعث الرَّأْس، فَقَالَ: إِن أم عمار ترجلني وَهِي الْآن حَائِض.
فَقَالَت: أَي بني لَيست الْحَيْضَة بِالْيَدِ، كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضع رَأسه فِي حجر إحدانا وَهِي حَائِض)
ذكره ابْن أبي شيبَة.
فَقَالَ: حدّثنا ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: حَدثنَا منبوذ عَن أَبِيه بِهِ.
وَمِمَّا يُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز اسْتِخْدَام الزَّوْجَة بِرِضَاهَا وَهُوَ إِجْمَاع.





[ قــ :9 ... غــ :96 ]
- حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قالَ أخْبَرَنَا هِشَامُ بنُ يُوسِفَ أنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قالَ أخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ أنَّهُ سُئِلَ أَتَخْدُمُنِي الحَائِضُ أَوْ تَدْنُو مِنِّي المَرْأَةُ وَهِيَ جُنُبٌ فَقالَ عُرْوَةُ كُلُّ ذِلِكَ عَلَى هَيْنٌ وكُلُّ ذَلِكَ تَخْدُمُنِي وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِي ذِلِكَ بَأْسٌ أَخْبَرْتَنِي عائِشَةُ أنَّهَا كانَتْ ترَجِّلُ تَعْني رَأَسَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِيَ حائِضٌ ورسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حينَئِذٍ مُجَاوِرُ فِي المَسْجِدِ يُدْنَى لَهَا رَأْسَهُ وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا فَتُرَجِّلُهُ وَهِيَ حائِضٌ.
.

مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة كمطابقة الحَدِيث السَّابِق.

ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد التَّمِيمِي الرَّازِيّ أَبُو إِسْحَاق الْفراء، يعرف بالصغير، وَكَانَ أَحْمد يُنكر على من يَقُول لَهُ الصَّغِير،.

     وَقَالَ : هُوَ كَبِير فِي الْعلم وَالْجَلالَة.
الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي صنعاء من أَبنَاء الْفرس، وَهُوَ أكبر اليمانيين وأحفظهم وأتقنهم، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة.
الثَّالِث: ابْن جريح، بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء واسْمه عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريح الْمَكِّيّ القريشي الْمدنِي، أَصله رومي، وَهُوَ أحد الْعلمَاء الْمَشْهُورين، وَهُوَ أول من صنف فِي الْإِسْلَام فِي قَول: وَكَانَت لَهُ كنيتان أَبُو الْوَلِيد وَأَبُو خَالِد، مَاتَ سنة خمسين وَمِائَة، وَهُوَ جَاوز السّبْعين.
الرَّابِع: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
السَّادِس: عَائِشَة الصديقة بنت الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع غير أَن فِي قَوْله: قَالَ أَخْبرنِي، رُوِيَ: الثَّالِث: أخبرنَا الأول أَكثر.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: لَطِيفَة حَسَنَة وَهِي أَن ابْن جريح يروي عَن هِشَام، وَهِشَام يروي عَن ابْن جريج فالأعلى ابْن عُرْوَة، والأدنى ابْن يُوسُف.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين رازي وصنعاني ومكي ومدني.

ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: ( أَنه سُئِلَ) أَي: عُرْوَة سُئِلَ، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: ( أتخدمني الْحَائِض؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام.
قَوْله: ( أَو تَدْنُو؟) أَي: أَو تقرب؟ قَوْله: ( وَهِي جنب) جملَة إسمية وَقعت حَالا.
وَلَفظ جنب، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث وَالْوَاحد وَالْجمع، وَهِي اللُّغَة الفصيحة قَوْله: ( كل ذَلِك) إِشَارَة إِلَى الْخدمَة، والدنو اللَّذَان يدلان عَلَيْهِمَا لفظ أتخدمني وتدنو؟ وَجَاءَت الْإِشَارَة بِلَفْظ ذَلِك للمثنى قَالَ الله تَعَالَى: { عوان بَين ذَلِك} ( سُورَة الْبَقَرَة: 68) قَوْله: ( هَين) أَي: سهل، وَهُوَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف: كميت وميت، وَأَصله: هيون إجتمعت الْيَاء وَالْوَاو وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ، فقلبت الْوَاو يَاء، وأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء.
قَوْله: ( وكل ذَلِك) أَي: الْحَائِض وَالْجنب، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور لفظا، وَوجه التَّثْنِيَة قد ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: ( وَلَيْسَ على أحد فِي ذَلِك بَأْس) أَي: حرج، وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يَقُول: وَلَيْسَ عَليّ فِي ذَلِك بَأْس، لكنه قصد بذلك التَّعْمِيم مُبَالغَة فِيهِ، وَدخل هُوَ فِيهِ بِالْقَصْدِ الأول.
قَوْله: ( ترجل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( وَهِي حَائِض) جملَة حَالية، وَإِنَّمَا لم يقل: حائضة، لعدم الالتباس، وَأما قَوْلهم: جَاءَ الحاملة والمرضعة، فِي الِاسْتِعْمَال، فلإرادة التباسهما بِتِلْكَ الصّفة بِالْفِعْلِ، فَإِذا أُرِيد التباسهما بِالْقُوَّةِ.
يكون بِلَا تَاء،.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: { يَوْم ترونها تذهل كل مُرْضِعَة عَمَّا أرضعت} ( سُورَة الْحَج: ) فَإِن قلت: لم قيل مُرْضِعَة دون مرضع؟ قلت: الْمُرضعَة الَّتِي هِيَ فِي حَال الْإِرْضَاع تلقم ثديها الصَّبِي، والمرضع الَّتِي من شَأْنهَا أَن ترْضع وَإِن لم تباشر الْإِرْضَاع فِي حَال وصفهَا بِهِ.
قَوْله: ( حِينَئِذٍ) أَي: حِين الترجيل.
قَوْله: ( مجاور) أَي: معتكف.
قَوْله: ( بدني) بِضَم الْيَاء أَي: يقرب لَهَا، أَي: لعَائِشَة رَأسه، وَالْحَال أَنَّهَا فِي حُجْرَتهَا، وَكَانَت حُجْرَتهَا ملاصقة لِلْمَسْجِدِ، والحجرة، بِضَم الْحَاء الْبَيْت.
قَوْله: ( فترجله) أَي: ترجل عَائِشَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: ترجل شعر رَأسه، وَالْحَال أَنَّهَا حَائِض.

والْحَدِيث دلّ على جَوَاز خدمَة الْحَائِض فَقَط، وَأما دلَالَته على دنو الْجنب فبالقياس عَلَيْهَا، وَالْجَامِع إشتراكهما فِي الْحَدث الْأَكْبَر، وَهُوَ من بابُُ الْقيَاس الْجَلِيّ، لِأَن الحكم بالفرع أولى، لِأَن الاستقذار من الْحَائِض أَكثر.

وَمِمَّا يستنبط من الحَدِيث أَن الْمُعْتَكف إِذا خرج رَأسه أَو يَده أَو رِجَاله من الْمَسْجِد لم يبطل اعْتِكَافه، وَأَن من حلف لَا يدْخل دالااً أَو لَا يخرج مِنْهَا فَأدْخل بعضه أَو أخرج بعضه لَا يخنث.
وَفِيه: جَوَاز اسْتِخْدَام الزَّوْجَة فِي الْغسْل وَنَحْوه بِرِضَاهَا، وَأما بِغَيْر رِضَاهَا فَلَا يجوز، لِأَن عَلَيْهَا تَمْكِين الزَّوْج من نَفسهَا وملازمة بَيته فَقَط،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَهُوَ حجَّة على طَهَارَة الْحَائِض وَجَوَاز مباشرتها.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الْمُبَاشرَة الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى: { وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} ( سُورَة الْبَقَرَة: 187) لم يرد بهَا كل مَا وَقع عَلَيْهِ اسْم الْمس، وَإِنَّمَا أَرَادَ بهَا الْجِمَاع أَو مَا دونه من الدَّوَاعِي للذة.
وَفِيه: ترجيل الشّعْر للرِّجَال وَمَا فِي مَعْنَاهُ من الزِّينَة.
وَفِيه: أَن الْحَائِض لَا تدخل الْمَسْجِد تَنْزِيها لَهُ وتعظيماً، وَهُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك، وَحكى ابْن سَلمَة أَنَّهَا تدخل هِيَ وَالْجنب، وَفِي رِوَايَة: يدْخل الْجنب وَلَا تدخل الْحَائِض.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَفِيه: حجَّة على الشَّافِعِي فِي أَن الْمُبَاشرَة الْخَفِيفَة مثل مَا فِي هَذَا الحَدِيث لَا تنقض الْوضُوء.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: لَيْسَ فِيهِ حجَّة على الشَّافِعِي، إِذْ هُوَ لَا يَقُول بِأَن مس الشّعْر نَاقض للْوُضُوء،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلَا حجَّة فِيهِ، لِأَن الِاعْتِكَاف لَا يشْتَرط فِيهِ الْوضُوء، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَنه عقب ذَلِك الْفِعْل بِالصَّلَاةِ، وعَلى تَقْدِير ذَاك فمس الشّعْر لَا ينْقض الْوضُوء.
قلت: وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَيْضا أَنه تَوَضَّأ عقيب ذَلِك، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.