فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر»

(بابُُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا جَاءَ من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نصرت بِالرُّعْبِ) ، أَي: بالخوف.
قَوْله: (مسيرَة شهر) ، أَي: مَسَافَة شهر.
وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة: شهرا أَو شَهْرَيْن، وَمن رِوَايَته أَيْضا من حَدِيث السَّائِب بن يزِيد: (شهرا أَمَامِي وشهراً خَلْفي) ، وَخص بالشهرين لِأَن الله تَعَالَى خص نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بخصائص لم يشركها غَيره، فَكَانَ الرعب فِي هَذِه الْمدَّة، وَإِن حصل لِسُلَيْمَان، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي الرّيح { غدوها شهر ورواحها شهر} (سبأ: 21) .
وَنصر الله تَعَالَى إِيَّاه بِالرُّعْبِ مِمَّا خصّه الله بِهِ، وفضله وَلم يؤته أحدا غَيره.
فَإِن قلت: لم اقْتصر هَهُنَا على الشَّهْر؟ قلت: لِأَنَّهُ لم يكن بَينه وَبَين الممالك الْكِبَار أَكثر من ذَلِك: كالشام وَالْعراق ومصر واليمن، فَإِن بَين الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة وَبَين وَاحِدَة من هَذِه الممالك شهرا ودونه.

وقوْلِهِ جَلَّ وعَزَّ { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أشْرَكُوا بِاللَّه} (آل عمرَان) : 151) .

وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على: قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن معجزاته وخصائصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرعب الَّذِي أَلْقَاهُ الله تَعَالَى فِي قُلُوب الْكفَّار بِسَبَب مَا أشركوا بِاللَّه، وَلِهَذَا جعل الله لَهُ الْفَيْء بضعه حَيْثُ يَشَاء، لِأَنَّهُ وصل إِلَيْهِ من قبل الرعب الَّذِي فِي قُلُوبهم مِنْهُ، والفيء: كل مَال لم يوجف عَلَيْهِ بخيل وَلَا ركاب، وَهُوَ مَا خلا عَنهُ أَهله وتركوه من أجل الرعب، وَكَذَا مَا صَالحُوا عَلَيْهِ من جِزْيَة أَو خراج من وُجُوه الْأَمْوَال.

قَالَ جابِرٌ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ جَابر بن عبد الله حَدِيث: (نصرت بِالرُّعْبِ) ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا أخرجه مَوْصُولا فِي أول كتاب التَّيَمُّم من حَدِيث يزِيد الْفَقِير، قَالَ: أخبرنَا جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَعْطَيْت خمْسا لم يعطهنَّ أحد قبلي: نصرت بِالرُّعْبِ، مسيرَة شهر) الحَدِيث.
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كثير من النَّاس يخَافُونَ من الْمُلُوك من مَسَافَة شهر! قلت: هَذَا لَيْسَ بِمُجَرَّد الْخَوْف بل بالنصرة وَالظفر بالعدو.



[ قــ :2844 ... غــ :2977 ]
- حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بُعِثْتُ بِجَوَامِع الكَلِمِ ونُصِرْت بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ فوُضِعَتْ فِي يَدِي قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ وقدْ ذَهَبَ بالرُّعْب فبَيْنَا أنَا نَائِمٌ أُتيتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنْتُمْ تَنْتَثِلُونَها..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نصرت بِالرُّعْبِ) .
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّعْبِير عَن سعيد ابْن عفير.

قَوْله: (بجوامع الْكَلم) ، قَالَ ابْن التِّين: جَوَامِع الْكَلم الْقُرْآن لِأَنَّهُ يَقع فِيهِ الْمعَانِي الْكَثِيرَة بالألفاظ القليلة، وَكَذَلِكَ يَقع فِي الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة الْكثير من ذَلِك.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ إيجاز الْكَلَام فِي إشباع الْمعَانِي.
قلت: الْإِضَافَة فِي: جَوَامِع الْكَلم، من إِضَافَة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف، هِيَ: الْكَلِمَة الموجزة لفظا المتسعة معنى، يَعْنِي: يكون اللَّفْظ قَلِيلا وَالْمعْنَى كثيرا.
وَقَالُوا: فِيهِ الْحَث على اسْتِخْرَاج تِلْكَ الْمعَانِي وتبيين تِلْكَ الدقائق المودعة فِيهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن شهَاب، فِيمَا ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ: بَلغنِي أَن جَوَامِع الْكَلم: أَن الله تَعَالَى يجمع لَهُ الْأُمُور الْكَثِيرَة الَّتِي كَانَت تكْتب فِي الْكتب قبله فِي الْأَمر الْوَاحِد أَو الْأَمريْنِ أَو نَحْو ذَلِك، قَوْله: (فَبينا) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن أَصله: بَين، فأشبعت فَتْحة النُّون بِالْألف، وَهِي تُضَاف إِلَى الْجُمْلَة: (وأتيت) جَوَاب على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: (بمفاتيح خَزَائِن الأَرْض) ، قَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يُرِيد بِهَذَا مَا فتح الله لأمته بعده فغنموه واستباحوا خَزَائِن الْمُلُوك المدخرة، وَهُوَ مَا جزم بِهِ ابْن بطال،.

     وَقَالَ : يحْتَمل أَن يُرِيد الأَرْض الَّتِي فِيهَا الْمَعَادِن، وَلَا شكّ أَن الْعَرَب كَانَت أقل النَّاس وَأَقل الْأُمَم أَمْوَالًا، فبشرهم بِأَن أَمْوَال كسْرَى وَقَيْصَر تصير إِلَيْهِم وهم الَّذين يملكُونَ الخزائن، وَهَكَذَا وَقعت.
قَوْله: (تنتثلونها) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْأُخْرَى كَذَلِك وَكسر الثَّاء الْمُثَلَّثَة، على وزن تفتعلونها من بابُُ الافتعال وَمَعْنَاهُ: تستخرجونها من موَاضعهَا، وثلاثيه من: تثلث الْبِئْر وانتلثها إِذا استخرجت ترابها، وَكَذَلِكَ نثلث كِنَانَتِي إِذا استخرجت مَا فِيهَا من النبل، وَقيل: النثل ترك شَيْء بِمرَّة وَاحِدَة، وَفِي (التَّوْضِيح) وَفِي رِوَايَة: وَأَنْتُم ترغثونها أَي: تستخرجون درها وترضعونها، وَمعنى الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذهب وَلم ينل مِنْهَا شَيْئا، بل قسم مَا أدْرك مِنْهَا بَيْنكُم وآثركم بهَا، ثمَّ أَنْتُم تنتثلونها على حسب مَا وَعدكُم.





[ قــ :845 ... غــ :978 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أخْبَرَهُ أنَّ أبَا سُفْيَانَ أخْبَرَهُ أنَّ هِرَقْلَ أرْسَلَ إلَيْهِ وهُمْ بإيلياءَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ كثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ فارْتَفَعَتْ ثُمَّ دَعَا بِكِتابِ رَسُول الأصْوَاتُ وأُخْرِجْنَا فقُلْتُ لأِصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أمَرَ أمْرُ ابنِ أبِي كَبْشَةَ إنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأصْفَرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( إِنَّه يخافه ملك بني الْأَصْفَر) ، وَقيل: مُنَاسبَة دُخُول حَدِيث أبي سُفْيَان فِي هَذَا الْبابُُ هَذِه اللَّفْظَة، لِأَن بَين الْحجاز وَالشَّام مسيرَة شهر أَو أَكثر، وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث بِطُولِهِ فِي بَدْء الْوَحْي فِي أول الْكتاب.