فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الدفن بالليل

(بابُُ الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة دفن الْمَيِّت فِي اللَّيْل، وَإِنَّمَا لم يُفَسر الْجَوَاز بل أطلق التَّرْجَمَة لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ، فَذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَقَتَادَة وَأحمد فِي رِوَايَة إِلَى كَرَاهَة دفن الْمَيِّت بِاللَّيْلِ، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَحْمد والطَّحَاوِي، قَالَ: (إِن رجلا من بني عذرة دفن لَيْلًا وَلم يصل عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنهى عَن الدّفن بِاللَّيْلِ، وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: (لَا تدفنوا أمواتكم بِاللَّيْلِ) .
.

     وَقَالَ  ابْن حزم: لَا يجوز أَن يدْفن أحد لَيْلًا إلاَّ عَن ضَرُورَة، وكل من دفن لَيْلًا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن أَزوَاجه وَأَصْحَابه، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَإِنَّمَا ذَلِك لضَرُورَة أوجبت ذَلِك من خوف زحام أَو خوف الْحر على من حضر وحر الْمَدِينَة شَدِيد، أَو خوف تغير أَو غير ذَلِك مِمَّا يُبِيح الدّفن لَيْلًا، لَا يحل لأحد أَن يظنّ بهم خلاف ذَلِك، وَذهب النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَعَطَاء وَابْن أبي حَازِم ومطرف ابْن عبد الله وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي الْأَصَح وَإِسْحَاق إِلَى أَن دفن الْمَيِّت بِاللَّيْلِ يجوز، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث الْبابُُ، وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار، قَالَ أَخْبرنِي: جَابر بن عبد الله أَو سَمِعت جَابر بن عبد الله، قَالَ: (رأى نَاس نَارا فِي الْمقْبرَة فأتوها فَإِذا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقَبْر، وَإِذا هُوَ يَقُول: ناولوني صَاحبكُم، فَإِذا هُوَ الرجل الَّذِي كَانَ يرفع صَوته بِالذكر) .
.

     وَقَالَ  الطَّحَاوِيّ: النَّهْي فِي حَدِيث جَابر الْمَذْكُور لَيْسَ لأجل كَرَاهَة الدّفن بِاللَّيْلِ، وَلَكِن لإِرَادَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُصَلِّي على جَمِيع الْمُسلمين، لما يكون لَهُم فِي ذَلِك من الْفضل وَالْخَيْر ببركة صلَاته عَلَيْهِم، لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيث يزِيد بن ثَابت: فَإِن صَلَاتي عَلَيْهِم رَحْمَة، وَلِأَن صلَاته عَلَيْهِم نور فِي قُبُورهم.
وَذكر فِيهِ وَجها آخر، وَهُوَ مَا ذكره عَن الْحسن: أَن قوما كَانُوا يسيئون أكفان موتاهم فيدفنونهم لَيْلًا، فَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك،.

     وَقَالَ  أَيْضا: وَقد فعل ذَلِك برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدفن بِاللَّيْلِ، وَرُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَت: دفن عَليّ بن أبي طَالب فَاطِمَة لَيْلًا، وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: دفن أَبُو بكر لَيْلًا.

وَدُفِنَ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لَيْلاً

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي أَوَاخِر الْجَنَائِز فِي: بابُُ موت يَوْم الْإِثْنَيْنِ، من حَدِيث عَائِشَة، وَفِيه: (دفن أَبُو بكر قبل أَن يصبح) ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن الْوَلِيد عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، قَالَ: (دفن أَبُو بكر لَيْلًا، قَالَ: وَحدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن ابْن جريج عَن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد عَن ابْن السباق أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، دفن أَبَا بكر لَيْلًا، ثمَّ دخل الْمَسْجِد فأوتر.



[ قــ :1288 ... غــ :1340 ]
- حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدثنَا جَرِيرٌ عنِ الشَّيْبَانِيِّ عنِ الشَّعْبِيِّ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
قَالَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى رَجُلٍ بَعْدَما دُفِنَ بِلَيْلَةٍ قامَ هُوَ وَأصْحَابُهُ وكانَ سَألَ عَنْهُ فقالَ مَنْ هاذا فَقَالُوا فُلانٌ دُفِنَ البَارِحَةَ فَصَلُّوا عَلَيهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهُم لما قَالُوا: دفن البارحة، لم يُنكر عَلَيْهِم، فَدلَّ ذَلِك على عدم كَرَاهَة دفن الْمَيِّت بِاللَّيْلِ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بابُُ الصُّفُوف على الْجِنَازَة، وَفِي: بابُُ سنة الصَّلَاة على الْجِنَازَة، وَفِي: بابُُ الصَّلَاة على الْقَبْر بَعْدَمَا يدْفن، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
والشيباني: هُوَ سُلَيْمَان، وَالشعْبِيّ: هُوَ عَامر بن شرَاحِيل.

قَوْله: (قَامَ) ، ويروى: (فَقَامَ) ، قَوْله: (فصلوا) ، على صِيغَة الْجمع من الْمَاضِي: أَي صلى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه عَلَيْهِ، وَلَا يُقَال: هَذَا تكْرَار لقَوْله صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن ذَلِك مُجمل وَهَذَا تَفْصِيل لأحواله، فَافْهَم وتيقظ.