فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب في الأمل وطوله

( بابٌُ فِي الأمَلِ وطُولِهِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان الْهَاء الأمل عَن الْعَمَل، والأمل مَذْمُوم لجَمِيع النَّاس إلاَّ الْعلمَاء فلولا أملهم وَطوله لما صنفوا وَلما ألفوا، وَقد نبه عَلَيْهِ ابْن الْجَوْزِيّ بقوله:
( وآمال الرِّجَال لَهُم فضوح ... سوى أمل المُصَنّف ذِي الْعُلُوم)

وَالْفرق بَين الأمل وَالتَّمَنِّي أَن الأمل مَا يقوم بِسَبَب وَالتَّمَنِّي بِخِلَافِهِ،.

     وَقَالَ  بعض الْحُكَمَاء: إِن الْإِنْسَان لَا يَنْفَكّ عَن الأمل فَإِن فَاتَهُ الأمل عول على التَّمَنِّي وَقيل: كَثْرَة التَّمَنِّي تخلق الْعقل وتفسد الدّين وتطرد القناعة،.

     وَقَالَ  الشَّاعِر: ( الله أصدق والآمال كَاذِبَة ... وَجل هَذَا المنى فِي الصَّدْر وسواس)

وَقَوْلِ الله تَعَالَى: { فَمن زحزح عَن النَّار وادخل الْجنَّة.
.
مَتَاع الْغرُور}
( آل عمرَان: 581) .
إِلَى قَوْله: { ذرهم يَأْكُلُوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فَسَوف يعلمُونَ} ( الْحجر: 3) .

هَاتَانِ الْآيَتَانِ: الأولى: مسوقة بِتَمَامِهَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ هَكَذَا: { فَمن زحزح عَن النَّار وادخل الْجنَّة فقد فَازَ} الْآيَة.
وَالثَّانيَِة: فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَغَيرهَا مسوقة.
إِلَى آخرهَا.
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر هَكَذَا { ذرهم يَأْكُلُوا ويتمتعوا} ... الْآيَة وَبَين الْآيَتَيْنِ سقط لفظ: قَوْله، فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَجه مُنَاسبَة الْآيَة الأولى بالترجمة صدرها وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: { كل نفس ذائقة الْمَوْت} أَو عجزها وَهُوَ { وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا الامتاع الْغرُور} وَهَذَا يبين أَن مُتَعَلق الأمل لَيْسَ بِشَيْء قَوْله: { فَمن زحزح} أَي: أبعد قَوْله: { فَازَ} أَي: نجا.
قَوْله: { ذرهم} الْأَمر فِيهِ للتهديد أَي: ذَر الْمُشْركين يَا مُحَمَّد يَأْكُلُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا ويتمتعوا من لذاتها إِلَى أَجلهم الَّذِي أجل لَهُم، وَفِيه زجر عَن الانهماك فِي ملاذ الدُّنْيَا.
قَوْله: { ويلههم الأمل} أَي: يشغلهم عَن عمل الْآخِرَة.

وَقَالَ عَلِيٌّ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيا مُدْبِرَةً وارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَة ولِكُلِّ واحِدَةٍ مِنْهُما بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أبْناءِ الآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أبْناءِ الدُّنْيا، فإنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسابَ، وغَداً حِسابٌ وَلَا عَمَلَ.

أَي: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، وَهَكَذَا وَقع فِي بعض النّسخ، ومطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من أَوله لِأَن الدُّنْيَا لما كَانَت مُدبرَة فالأمل فِيهَا مَذْمُوم، وَمن كَلَام عَليّ هَذَا أَخذ بعض الْحُكَمَاء قَوْله: الدُّنْيَا مُدبرَة وَالْآخِرَة مقبلة فَعجب لمن يقبل على الْمُدبرَة وَيُدبر عَن الْمُقبلَة.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) : روينَا فِي كتاب أبي اللَّيْث السَّمرقَنْدِي، رَحمَه الله قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( صَلَاح أول هَذِه الْأمة بالزهد وَالْيَقِين وَيهْلك آخرهَا بالبخل والأمل) قلت: روى هَذَا الحَدِيث عبد الله بن عَمْرو رَفعه، أخرجه الطَّبَرَانِيّ وَابْن أبي الدُّنْيَا، وَأثر عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه ابْن الْمُبَارك فِي ( رقائقه) وَرَوَاهُ نعيم بن حَمَّاد عَن سُلَيْمَان ابْن خَلاد: حَدثنَا سُفْيَان عَن زبيد اليامي عَن مهَاجر الطَّبَرِيّ عَنهُ.
قَوْله: ( فَإِن الْيَوْم عمل) ، قيل الْيَوْم لَيْسَ عملا بل فِيهِ الْعَمَل وَلَا يُمكن تَقْدِير: فِي وإلاَّ وَجب نصب عمل.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ جعله نفس الْعَمَل مُبَالغَة كَقَوْلِهِم: أَبُو حنيفَة فقه ونهاره صَائِم.
قَوْله: ( وَلَا حِسَاب) بِالْفَتْح أَي: لَا حِسَاب فِيهِ.
وَيجوز بِالرَّفْع أَي: لَيْسَ فِي الْيَوْم حِسَاب، وَمثله شَاذ عِنْد النُّحَاة، وَهَذَا حجَّة عَلَيْهِم.



[ قــ :6080 ... غــ :6417 ]
- حدّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ أخبرنَا يَحْيَى عنْ سُفْيانَ قَالَ: حدّثني أبي عنْ مُنذرٍ عنْ رَبِيعِ بنِ خُثَيْمٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: خَط النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطا مُرَبَّعاً، وخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خارِجاً منْهُ، وخَطَّ خُطُطاً صِغاراً إِلَى هاذا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جانبِهِ الّذِي فِي الوَسَطِ،.

     وَقَالَ : ( هاذَا الإنْسانُ وهاذَا أجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ أَو: قَدْ أحاطَ بِهِ: وهاذَا الذِي هُوَ خارِجٌ أمَلُهُ وهاذِهِ الخَطُطُ الصِّغَارُ الأعْرَاضُ، فإنْ أخْطأهُ هاذَا نَهَشَهُ هاذَا وإنْ أخْطأهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا) .


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مِثَال أمل الْإِنْسَان وأجله والأعراض الَّتِي تعرض عَلَيْهِ وَمَوته عِنْد وَاحِد مِنْهَا، فَإِن سلم مِنْهَا فيأتيه الْمَوْت عِنْد انْقِضَاء أَجله.

ويحيي هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ يروي عَن أَبِيه سعيد بن مَسْرُوق، وَسَعِيد بن مَسْرُوق، وَسَعِيد يروي عَن مُنْذر على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من الْإِنْذَار ابْن يعلى على وزن يرضى بِفَتْح الْيَاء الثَّوْريّ الْكُوفِي يروي عَن ربيع بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن خثيم بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالميم الثَّوْريّ أَيْضا.

وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة ثوريون كوفيون، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن ابْن بشار.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرقَاق عَن عَمْرو بن عَليّ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن أبي بشر بكر بن خلف وَأبي بكر بن خَلاد خمستهم عَن يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان الثَّوْريّ.

قَوْله: ( خطّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخط) الرَّسْم والشكل.
قَوْله: ( مربعًا) هُوَ المستوي الزوايا قَوْله: ( مِنْهُ) أَي: من الْخط المربع.
قَوْله: ( وَخط خططاً) بِضَم الْخَاء وَكسرهَا جمع الخطة.
قَوْله: ( وَقَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( هَذَا الْإِنْسَان) مُبْتَدأ وَخبر أَي: هَذَا الْخط هُوَ الْإِنْسَان هَذَا على سَبِيل التَّمْثِيل وَهَذِه صفته.


أجل
::
: إِنْسَان 111111:
:: أمل
: 111111:
::

وَقيل هَكَذَا:
أجل
::
: إِنْسَان 111111: 111111
:: أمل
: 111111: 111111
::

:.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: الخطوط ثَلَاثَة لِأَن الصغار كلهَا فِي حكم وَاحِد والمشار إِلَيْهِ أَرْبَعَة فَكيف ذَلِك؟ .

قلت: الدَّاخِل لَهُ اعتباران إِذْ نصفه دَاخل وَنصفه مثلا خَارج، فالمقدار الدَّاخِل مِنْهُ هُوَ الْإِنْسَان فرضا وَالْخَارِج أمله.
قَوْله: ( وَهَذِه الخطط الصغار الْأَعْرَاض) أَي: الْآفَات الْعَارِضَة لَهُ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي: وَهَذِه الخطوط.
وَهِي الشطبات على الْخط الْخَارِج من وسط المربع من فَوْقه وَمن أَسْفَله وَهِي الْأَعْرَاض أَي: الْآفَات فَإِن أخطأه هَذَا أَي فَإِن تجَاوز عَنهُ هَذَا الْعرض نهشه هَذَا أَي الْعرض الآخر، ونهشه بالنُّون والشين الْمُعْجَمَة وَمَعْنَاهُ أَصَابَهُ.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: روينَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ والمهملة، وَمَعْنَاهُ: أَخذ الشَّيْء بِمقدم الْأَسْنَان والحية تنهس إِذا عضت.
قَوْله: ( وَإِن أَخطَأ هَذَا) أَي: وَإِن أَخطَأ الْإِنْسَان هَذَا الْعرض نهشه هَذَا أَي: عرض آخر وَهُوَ الْأَجَل، يَعْنِي: إِن يمت بِالْمَوْتِ الاخترامي لَا بُد أَن يَمُوت بِالْمَوْتِ الطبيعي، وَحَاصِله: أَن ابْن آدم يتعاطى الأمل ويختلجه الْأَجَل دون الأمل.





[ قــ :6081 ... غــ :6418 ]
- حدّثنا مُسْلمٌ حَدثنَا هَمَّامٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَةَ عنْ أنَسٍ قَالَ: خَطَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُطُوطًا فَقَالَ: ( هاذَا الأمَلُ وهاذَا أجَلُهُ فَبَيْنَما هُوَ كَذَلِكَ إذْ جاءَهُ الخَطُّ الأقْرَبُ) .


هَذَا وَجه آخر فِي مِثَال الْأَمر وَالْأَجَل أخرجه مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن همام بن يحيى عَن إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة واسْمه زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك يكنى أَبَا يحيى يروي عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ.

والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الرقَاق عَن عبيد الله بن سعيد عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم.

قَوْله: ( خطّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُطُوطًا) وَهَذِه صفتهَا

أجل
::
: إِنْسَان: 111111
:: أمل
:: 111111
::

وَهَذِه الخطوط
الْآفَات الَّتِي تعرض فَبَيْنَمَا الْإِنْسَان كَذَلِك فِي هَذِه الْآفَات الَّتِي تعرض فَبَيْنَمَا الْإِنْسَان كَذَلِك فِي هَذِه الْآفَات ( إِذْ جَاءَهُ الْخط الْأَقْرَب) وَهُوَ الْأَجَل،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: قَالَ: خُطُوطًا فِي مجملة، وَذكر اثْنَيْنِ فِي مفصله.

قلت: فِيهِ اخْتِصَار عَن مطول والخطوط الْأُخَر الْآفَات والخط الْأَقْرَب يَعْنِي الْأَجَل إِذْ لَا شكّ أَن الْخط الْمُحِيط هُوَ أقرب من الْخط الْخَارِج مِنْهُ.