فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه

( بابٌُ: خَيْرُكُمْ منْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه وَوضع التَّرْجَمَة من نفس الحَدِيث.



[ قــ :4758 ... غــ :5027 ]
- حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ: أخبرَني عَلْقَمَةُ بنُ مَرْثَدٍ سَمعْتُ سَعْدَ بنَ عُبَيْدَةَ عنْ أبي عبْدِ الرَّحْمانِ السَّلَمِيِّ عنْ عُثْمانَ، رَضِي الله عنهُ، عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القرْآنَ وعَلَّمَهُ.

التَّرْجَمَة والْحَدِيث وَاحِد.
وعلقمة بن مرْثَد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْمُثَلَّثَة وبالدال الْمُهْملَة: الْحَضْرَمِيّ الْكُوفِي، وَسعد بن عُبَيْدَة أَبُو حَمْزَة الْكُوفِي السّلمِيّ ختن أبي عبد الرَّحْمَن واسْمه عبد الله بن حبيب بن ربيعَة بِالتَّصْغِيرِ السمي الْكُوفِي القارىء، لِأَبِيهِ صَحبه.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن حَفْص ابْن عَمْرو وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مَحْمُود بن غيلَان وَغَيره وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي قدامَة السَّرخسِيّ وَغَيره.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن مُحَمَّد بن بشار بِهِ وَغَيره وَهنا أَدخل شُعْبَة بَين عَلْقَمَة وَأبي عبد الرَّحْمَن بن سعد بن عُبَيْدَة.
وَفِي الحَدِيث الْآتِي خَالف الثَّوْريّ شُعْبَة وَلم يدْخلهُ بَينهمَا، وَقد تَابع شُعْبَة جمَاعَة وعدهم الْحَافِظ أَبُو الْعَلَاء الْحسن بن أَحْمد الْعَطَّار فِي كِتَابه الْهَادِي فِي الْقرَاءَات فَوق الثَّلَاثِينَ مِنْهُم، عبد بن حميد وَقيس بن الرّبيع، قَالَ: وَقد تَابع سُفْيَان أَيْضا جمَاعَة وعدهم فَوق الْعشْرين، مِنْهُم: مسعر وَعَمْرو بن قيس الْملَائي وَأخرج البُخَارِيّ الطَّرِيقَيْنِ، فَكَأَنَّهُ ترجح عِنْده أَنَّهُمَا جَمِيعًا محفوظان: وَرجح الْحفاظ رِوَايَة الثَّوْريّ، وعدوا رِوَايَة شُعْبَة من الْمَزِيد فِي مُتَّصِل الْأَسَانِيد، وَيحمل على أَن عَلْقَمَة سَمعه أَولا من سعد ثمَّ لَقِي أَبَا عبد الرَّحْمَن فحدثه بِهِ أَو سَمعه مَعَ سعد من أبي عبد الرَّحْمَن، فَثَبت فِيهِ سعد.

وَعلل أَبُو الْحسن الْقشيرِي هَذَا الحَدِيث بِثَلَاث علل: الأولى: الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور.
الثَّانِيَة: وقف من وَقفه، وإرسال من أرْسلهُ.
الثَّالِثَة: مَا رُوِيَ عَن شُعْبَة أَنه قَالَ: لم يسمع أَبُو عبد الرَّحْمَن من عُثْمَان، وَقيل لأبي حَاتِم: أسمع من عُثْمَان قَالَ: رُوِيَ عَنهُ لَا يذكر سَمَاعا.
وَأجِيب عَن الأولى: بِأَنَّهُ لَا يُوجب الْقدح فِي الحَدِيث لأَنا نعلم أَن سُفْيَان وَشعْبَة إِذا اخْتلفَا فِي الحَدِيث فَالْحَدِيث حَدِيث سُفْيَان.
قَالَ وَكِيع: رُوِيَ شُعْبَة حَدِيثا فَقيل لَهُ: إِن سُفْيَان يخالفك فِيهِ، قَالَ: دعوا حَدِيثي، سُفْيَان أحفظ مني وَعَن الثَّانِيَة: إِن الاعتلال بِالْوَقْفِ والإرسال لَيْسَ بقادح لِأَن الزِّيَادَة عَن الْحَافِظ الثِّقَة مَقْبُولَة إِجْمَاعًا.
وَعَن الثَّالِثَة: بِأَن بَعضهم قَالُوا: إِن الأكابر من الصَّدْر الأول قَالُوا: إِن أَبَا عبد الرَّحْمَن قَرَأَ الْقُرْآن على عُثْمَان وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،، فَإِن قلت: رُوِيَ أَبُو الْحسن سعيد بن سَلام الْعَطَّار الْبَصْرِيّ هَذَا الحَدِيث عَن مُحَمَّد بن أبان عَن عَلْقَمَة عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ عَن أبان بن عُثْمَان بن عَفَّان عَن أَبِيه عُثْمَان.
قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وهم فِي ذكر أبان فِي إِسْنَاده، فَقَالَ أَبُو الْعَلَاء: فَإِن ثَبت رِوَايَته فَالْحَدِيث غَرِيب على أَنه يحْتَمل أَن يكون السّلمِيّ سمع الحَدِيث من أبان ثمَّ سَمعه من عُثْمَان نَفسه، وَرُوِيَ عَاصِم بن عَليّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ عَن شُعْبَة عَن مسعر عَن عَلْقَمَة عَن سعد بن عُبَيْدَة عَن السّلمِيّ عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن ثبتَتْ هَذِه الرِّوَايَة فَهُوَ غَرِيب جدا وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن أبي بكر الْحَضْرَمِيّ عَن شريك عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة عَن السّلمِيّ عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وأصحها: عَلْقَمَة عَن سعد عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن عُثْمَان مَرْفُوعا، وَقد أدرج بعض الروَاة فِي هَذَا الحَدِيث كَلِمَات يظنّ من لَا علم لَهُ بمساق الحَدِيث إِنَّهَا مَرْفُوعَة، وَهُوَ أَن أَبَا يحيى إِسْحَاق بن سُلَيْمَان الرَّازِيّ رُوِيَ عَن الْجراح بن الضَّحَّاك رُوِيَ عَن الْجراح بن الضَّحَّاك عَن عَلْقَمَة عَن السّلمِيّ عَن عُثْمَان قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه، وَفضل على سَائِر الْكَلَام كفضل الْخَالِق على الْمَخْلُوق، وَذَلِكَ أَنه مِنْهُ، وَهَذِه الزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ من كَلَام أبي عبد الرَّحْمَن، قَالَ ذَلِك عَامَّة الْحفاظ بَينهَا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَغَيره.

قَوْله: ( وَعلمه) بواو الْعَطف عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ: أَو علمه، بِكَلِمَة أَو للتنويع لَا للشَّكّ.
وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَن قِرَاءَة الْقُرْآن أفضل أَعمال الْبر كلهَا، لِأَنَّهُ لما كَانَ من تعلم الْقُرْآن أَو علمه أفضل النَّاس أَو خَيرهمْ دلّ عَليّ على مَا قُلْنَا.
فَإِن قلت: إيما أفضل تعلم الْقُرْآن أَو تعلم الْفِقْه؟ قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: تعلم اللَّازِم مِنْهُمَا فرض على الْأَعْيَان، وَتعلم جميعهما فرض على الْكِفَايَة إِذا قَامَ بِهِ قوم سقط عَن البَاقِينَ، فَإِن فَرضنَا الْكَلَام فِي التزيد مِنْهُمَا على قدر الْوَاجِب فِي حق الْأَعْيَان فالمتشاغل بالفقه أفضل، وَذَلِكَ رَاجع إِلَى حَاجَة الْإِنْسَان لِأَنَّهُ الْفِقْه أفضل من الْقِرَاءَة، وَإِنَّمَا كَانَ القارىء فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الأفقه فَلذَلِك قدم القارىء فِي الصَّلَاة.

قَالَ: وأقْرَأْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمانِ فِي إمْرةِ عُثْمانَ حتَّى كانَ الحَجَّاجُ، قَالَ: وذَاكَ الَّذِي أقْعَدَني مَقْعَدِي هاذَا.

أَي: قَالَ سعد بن عُبَيْدَة أَقرَأ أَبُو عبد الرَّحْمَن من الإقراء يَعْنِي أَقرَأ أَبُو عبد الرَّحْمَن النَّاس فِي إمرة عُثْمَان بن عَفَّان إِلَى أَن انْتهى إقراؤه النَّاس إِلَى زمن الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ، وَهَذِه مُدَّة طَوِيلَة، وَلم يبين ابْتِدَاء إقرائه، وَلَا انْتِهَاء آخِره على التَّحْرِير، غَايَة مَا فِي الْبابُُ أَن بَين أول خلَافَة عُثْمَان وَآخر ولَايَة الْحجَّاج الْعرَاق ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ سنة إلاَّ ثَلَاثَة أشهر، وَبَين آخر خلَافَة عُثْمَان وَأول ولَايَة الْحجَّاج الْعرَاق ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة.
قَوْله: ( قَالَ: وَذَاكَ الَّذِي) أَي: قَالَ أَبُو عبد الرخمن السّلمِيّ: وَذَاكَ إِشَارَة إِلَى الحَدِيث الْمَرْفُوع أَي: إِن الحَدِيث الَّذِي حدث بِهِ عُثْمَان فِي أَفضَلِيَّة من تعلم الْقُرْآن وَعلمه حَملَنِي على أَن أقعدني مقعدي هَذَا وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَقْعَده الَّذِي كَانَ يقْرَأ النَّاس فِيهِ.
وَفِي الْحَقِيقَة مُرَاده من المعقد الَّذِي أقعد فِيهِ مَنْزِلَته الَّتِي حصلت لع مَعَ طول الْمدَّة ببركة تَعْلِيمه الْقُرْآن الْكَرِيم للنَّاس، وَإِسْنَاده إِلَيْهِ إِسْنَاد مجازي، وَيُؤَيّد مَا ذكرنَا صَرِيحًا مَا رَوَاهُ أَحْمد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وحجاج بن مُحَمَّد جَمِيعًا عَن شُعْبَة عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن سعد بن عُبَيْدَة قَالَ: قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن: فَذَاك الَّذِي أقعدني هَذَا المقعد.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَفِي بعض نسخ البُخَارِيّ: أَقْرَأَنِي، بِذكر الْمَفْعُول وَهَذَا أنسب لقَوْله: وَذَلِكَ أَي إقراؤه إيَّايَ هُوَ الَّذِي أقعدني فِي هَذَا المقعد الرفيع والمنصب الْجَلِيل، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بقوله: إِن الْكرْمَانِي كَأَنَّهُ ظن أَن قَائِل: وَذَاكَ الَّذِي أقعدني، هُوَ سعد بن عُبَيْدَة وَلَيْسَ كَذَلِك: بل هُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن، وَلَو كَانَ كَمَا ظن للَزِمَ أَن تكون الْمدَّة الطَّوِيلَة سبقت لبَيَان زمَان قِرَاءَة أبي عبد الرَّحْمَن لسعد بن عُبَيْدَة، وَلَيْسَ كَذَلِك وَأَيْضًا فَكَانَ يلْزم أَن يكون سعد بن عُبَيْدَة قَرَأَ على أبي عبد الرَّحْمَن من زمن عُثْمَان، وَسعد لم يدْرك زمَان عُثْمَان، فَإِن أكبر شيخ لَهُ الْمُغيرَة بن شُعْبَة وَقد عَاشَ بعد عُثْمَان خمس عشر سنة.
انْتهى.
قلت: مَا قَالَه هُوَ الصَّوَاب، وَقد تاه الْكرْمَانِي فِي هَذَا، وَمَا اكْتفى بنقله رِوَايَة: أَقْرَأَنِي الني مَا صحت حَتَّى بنى عَلَيْهَا كَلَامه الَّذِي صدر من غير روية.





[ قــ :4759 ... غــ :508 ]
- حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ عَلْقَمَةَ بنِ مَرْثَد عنْ أبي عبْدِ الرَّحْمانِ السُّلَمِيِّ عنْ عُثْمانَ بنِ عَفَّانَ، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ أفْضَلَكُمْ مَنْ تَعلَّمَ القُرْآنَ أوْ عَلَّمَهُ.

( انْظُر الحَدِيث 705) .

هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور.
أخرجه عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِلَى آخِره.

قَوْله: ( إِن أفضلكم) ، وَذكر فِي الطَّرِيق الْمَاضِي: خَيركُمْ، وَلَا فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى لِأَن قَوْله: خَيركُمْ، تَقْدِيره: أخيركم، وَلَا شكّ أَن أخيرهم هُوَ أفضلهم.
قَوْله: ( أَو علمه) بِكَلِمَة: أَو ثَبت عِنْدهم وَقد ذكرنَا وَجهه، وَوَقع فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من طَرِيق بشر بن السّري عَن سُفْيَان: خَيركُمْ أَو أفضلكم، وَوَقع التنويع بَين الْخَيْرِيَّة والأفضلية كَمَا نرَاهُ.





[ قــ :4760 ... غــ :509 ]
- حدَّثنا عَمْرُو بنُ هَوْنِ حَدثنَا حَمَّادٌ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قَالَ: أتَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأةٌ فقالَتْ: إنَّها قَدْ وهَبَتْ نَفْسَها لِلّهِ ولِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَالِي فِي النِّساءِ مِنْ حاجَةٍ، فَقَالَ رجُلٌ: زَوِّجْنِيها.
قَالَ: أعْطِها ثَوْبا.
قَالَ: لَا أجِدُ.
قَالَ: أعْطِها ولوْ هاتَما مِنْ حَديدٍ، فاعْتَلَّ لهُ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ قَالَ: كذَا وكَذَا.
قَالَ: فقَدْ زَوَّجْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ..
قيل مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زوج الْمَرْأَة لحُرْمَة الْقُرْآن، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن السِّيَاق يدل على أَنه زَوجهَا لَهُ على أَن يعلمهَا قلت: فِي كل مِنْهُمَا نظر.
أما الأول: فَلِأَن التَّرْجَمَة لَيست فِي بَيَان حُرْمَة الْقُرْآن، وَأما الثَّانِي: فدلالته على التَّزْوِيج على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَيُمكن أَن يُوَجه الْمُطَابقَة من قَوْله: كَذَا وَكَذَا أَي: سُورَة كَذَا، على مَا وَقع هَكَذَا فِي الْبابُُ الَّذِي يَلِيهِ، وَهُوَ أَن الْفضل ظهر على الرجل بحفظه كَذَا وَكَذَا، سُورَة، وَلم يحصل لَهُ هَذَا الْفضل إلاَّ من فضل الْقُرْآن، فَدخل تَحت قَوْله: ( خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن) ، لِأَنَّهُ تعلم وَدخل فِي المتعلمين، وَدخل أَيْضا تَحت قَوْله: ( وَعلمه) لِأَنَّهُ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا زوجه إِيَّاهَا على أَن يعلمهَا الْقُرْآن.

وَبَقِي الْكَلَام هُنَا فِي فُصُول.

الأول: فِي رجال الحَدِيث، وهم: عَمْرو بِالْفَتْح ابْن عون بن أَوْس الوَاسِطِيّ، نزل الْبَصْرَة وَرُوِيَ مُسلم عَنهُ بِوَاسِطَة، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار، وَسَهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي موضِعين.

الثَّانِي: أَنه أخرجه البُخَارِيّ هُنَا أَيْضا عَن قُتَيْبَة على مَا يَأْتِي، وَأخرجه أَيْضا فِي النِّكَاح فِي مَوَاضِع فِي: بابُُ النّظر إِلَى الْمَرْأَة قبل التَّزْوِيج، عَن قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بأتم من هَذَا، وَهنا اخْتَصَرَهُ فِي: بابُُ إِذا قَالَ الْخَاطِب للْوَلِيّ: زَوجنِي فُلَانَة، عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد بن زيد إِلَى آخِره مُخْتَصرا وَفِي: بابُُ التَّزْوِيج على الْقُرْآن عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي: بابُُ الْمهْر بالعروض عَن يحيى عَن وَكِيع مُخْتَصرا.
وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة فَمُسلم أخرجه فِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة بن سعيد، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ وَالنَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن هَارُون بن عبد الله وَابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن حَفْص بن عَمْرو.

الثَّالِث: فِي مَعْنَاهُ قَوْله: ( امْرَأَة) ، اخْتلف فِي اسْم هَذِه الْمَرْأَة الواهبة نَفسهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقيل: هِيَ خَوْلَة بنت حَكِيم، وَقيل: هِيَ أم شريك الْأَزْدِيَّة، وَقيل: مَيْمُونَة، حُكيَ هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة أَبُو الْقَاسِم بن بشكوال فِي كتاب المبهماتوق ال شَيخنَا زين الدّين لَا يَصح شَيْء من هَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة أما خوله فَإِنَّهَا لم تتَزَوَّج، وَكَذَلِكَ أم شريك لم تتَزَوَّج، وَأما مَيْمُونَة فَكَانَت إِحْدَى زَوْجَاته، فَلَا يَصح أَن تكون هَذِه لِأَن هَذِه قدر زَوجهَا لغيره.
قَوْله: ( وَلَو خَاتمًا) ، بِالنّصب أَي: وَلَو كَانَ الَّذِي يُعْطِيهَا خَاتمًا، ويروي بِالرَّفْع، فوجهه إِن صحت الرِّوَايَة يكون مَرْفُوعا بكان التَّامَّة الْمقدرَة أَي: وَلَو كَانَ خَاتم.
قَوْله: ( من حَدِيد) كلمة من بَيَانِيَّة.
قَوْله: ( فاعتل لَهُ) أَي: حزن وتضجر لأجل ذَلِك، وَقد جَاءَ اعتل بِمَعْنى تشاغل.
قَوْله: ( مَا مَعَك من الْقُرْآن؟) أَي: أَي شَيْء تحفظ من الْقُرْآن؟ قَوْله: ( قَالَ: كَذَا وَكَذَا) ، وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة أبي دَاوُد سُورَة الْبَقَرَة وَالَّتِي تَلِيهَا.

الرَّابِع: فِي استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ وَفِيه: جَوَاز عقد النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَالْحسن بن حَيّ.
وَصورته أَن يَقُول الرجل: قد وهبت لَك ابْنَتي، فَيَقُول الآخر: قبلت أَو تزوجت، وسواه فِي ذَلِك سميا الْمهْر أَو لَا فَإِن سمياه فلهَا الْمُسَمّى وإلاَّ فلهَا مهر مثلهَا.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: لَا ينْعَقد بِلَفْظ الْهِبَة، وَبِه قَالَ ربيعَة وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَمَالك على اخْتِلَاف عَنهُ.
وَلَا خلاف فِي جَوَاز هبة الْمَرْأَة نَفسهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ من خَصَائِصه لقَوْله عز وَجل: { وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي} ( الْأَحْزَاب: 05) .

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: لَا تحل الْهِبَة لأحد بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه مَا يسْتَدلّ بِهِ الشَّافِعِي على جَوَاز النِّكَاح بِمَا تراضى عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ: كالسوط والنعل، وَإِن كَانَت قِيمَته أقل من دِرْهَم، وَبِه قَالَ ربيعَة وَأَبُو الزِّنَاد وَابْن أبي ذِئْب وَيحيى بن سعيد وَاللَّيْث بن سعد وَمُسلم بن خَالِد الزنْجِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَدَاوُد وَابْن وهب من الْمَالِكِيَّة،.

     وَقَالَ  مَالك لَا يجوز أقل من ربع دِينَار قِيَاسا على الْقطع فِي السّرقَة،.

     وَقَالَ  ابْن حزم: وَجَائِز أَن يكون صَدَاقا كل مَاله نصف قلَّ أَو كثر، وَلَو أَنه حَبَّة بر أَو حَبَّة شعير أَو غير ذَلِك، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله: ( وَلَو خَاتمًا من حَدِيد) وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أكره أَن يكون الْمهْر بِمثل أجر الْبَغي وَلَكِن الْعشْرَة وَالْعِشْرين، وَعنهُ: السّنة فِي النِّكَاح الرطل من الْفضة، وَعَن الشّعبِيّ: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يتَزَوَّج الرجل على أقل من ثَلَاث أواقي.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز أَن يكون الصَدَاق أقل من عشرَة دَرَاهِم، لما رُوِيَ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه: عَن شريك عَن دَاوُد الزعافري عَن الشّعبِيّ، قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا مهر أقل من عشرَة دَرَاهِم.
وَالظَّاهِر أَنه قَالَ تَوْفِيقًا لِأَنَّهُ بابُُ لَا يُوصل إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاس.
فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم: الرِّوَايَة عَن عَليّ بَاطِلَة لِأَنَّهَا عَن دَاوُد الزعافري، وَهُوَ فِي غَايَة السُّقُوط، ثمَّ هِيَ مُرْسلَة لِأَن الشّعبِيّ لم يسمع من عَليّ قطّ حَدِيثا.
قلت: قَالَ ابْن عدي: لم أَرَ لَهُ حَدِيثا مُنْكرا جَاوز الْحَد إِذا رُوِيَ عَنهُ ثِقَة، وَإِن كَانَ لَيْسَ بِقَوي فِي الحَدِيث فَإِنَّهُ يكْتب حَدِيثه وَيقبل إِذا رُوِيَ عَنهُ ثِقَة، وَذكر عَن الْمزي أَن الشّعبِيّ سمع عَليّ بن أبي طَالب، وَلَئِن سلمنَا أَن رِوَايَته مُرْسلَة فقد قَالَ الْعجلِيّ: مُرْسل الشّعبِيّ صَحِيح وَلَا يكَاد يُرْسل إلاَّ صَحِيحا.
وَالْجَوَاب عَن قَوْله: ( وَلَو خَاتمًا من حَدِيد) أَنه خَارج مخرج الْمُبَالغَة كَمَا فِي قَوْله: تصدقوا وَلَو بظلف محرق، وَفِي لفظ: وَلَو بفرسن شَاة، وَلَيْسَ الظلْف والفرسن مِمَّا يتَصَدَّق بهما وَلَا مِمَّا ينتفعه بهما، وَيُقَال: وَلَعَلَّ الْخَاتم كَانَ يُسَاوِي ربع دِينَار، وَيُقَال: لَعَلَّ التماسه للخاتم لم يكن كل الصَدَاق بل شَيْء يعجله لَهَا قبل الدُّخُول: وَفِيه: إجَازَة اتِّخَاذ خَاتم الْحَدِيد.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز لبسه، وَفِيه: مَا يسْتَدلّ بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، والظاهرية على جَوَاز التَّزْوِيج على سُورَة من الْقُرْآن، وَعَلِيهِ أَن يعلمهَا وَلم يجوز ذَلِك أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة صَحِيحَة وَاللَّيْث بن سعد وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَقَالُوا: إِذا تزَوجهَا عَليّ تَعْلِيم سُورَة فَالنِّكَاح صَحِيح وَيجب فِيهِ مهر مثلهَا، وَهَذَا كمن تزوج امْرَأَة وَلم يسم لَهَا مهْرا فَإِنَّهُ يجب مهْرا لمثل وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَنهُ بِأَن قَوْله: ( زوجتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن) أَن حمل على الظَّاهِر، فَذَلِك على السُّورَة لَا على تعليمها، وَإِذا كَانَ ذَلِك على السُّورَة فَهُوَ على حرمتهَا، وَلَيْسَ فِيهِ التَّعَرُّض للمهر كَمَا فِي تزوج أم سليم على إِسْلَامه فَلم يكن ذَلِك الْإِسْلَام مهْرا فِي الْحَقِيقَة، وَالسورَة من الْقُرْآن لَا تكون مهْرا بِالْإِجْمَاع، وَيكون الْمَعْنى: زوجتكها بِسَبَب حُرْمَة مَا مَعَك من الْقُرْآن وبركته، فَتكون الْبَاء للتَّعْلِيل كَمَا فِي قَوْله: { فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ} ( العنكبوت: 04) فَإِن قلت: فِي رِوَايَة ابْن ماجة ذُو جتكها على مَا مَعَك من الْقُرْآن وَفِي مُسْند أحد السّنة: مَا مَعَك من الْقُرْآن.
قلت أما على فَإِنَّهَا تَجِيء للتَّعْلِيل أَيْضا كالباء كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} ( الْبَقَرَة: 581) أَي: لهدايته إيَّاكُمْ، وَيكون الْمَعْنى زوجتكها لأجل مَا مَعَك من الْقُرْآن وَلَا يُنَافِي هَذَا تَسْمِيَة المَال، وَأما مَعَ، فَإِنَّهَا للمصاحبة وَالْمعْنَى، زوجتكها لمصاحبتك الْقُرْآن فَإِن قلت: الأَصْل فِي الْبَاء للمقابلة فَتكون هَهُنَا نَحْو وقولك: بِعْتُك ثوبي بِدِينَار.
قلت: لَا يَصح هُنَا أَن تكون للمقابلة لِأَنَّهُ يلْزم أَن تكون الْمَرْأَة موهوبة وَذَلِكَ لَا يجوز إلاَّ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَإِن قلت: الْمَعْنى زوجتكها بِأَن تعلمهَا مَا مَعَك من الْقُرْآن، أَو مِقْدَار مَا مِنْهُ، وَيكون ذَلِك صَدَاقهَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم: أَنطلق فقد زوجتكها فعلمها من الْقُرْآن، وَفِي رِوَايَة عَطاء: فعلمها عشْرين آيَة.
قلت: قد ذكرنَا غير مرّة أَن هَذَا لَا يُنَافِي تَسْمِيَة المَال فَيكون قد زَوجهَا مِنْهُ مَعَ تحريضه على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَيكون الْمهْر مسكوتا عَنهُ إِمَّا النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، قد أصدق عَنهُ، كَمَا كفر عَن الواطىء فِي رَمَضَان إِذْ لم يكن عِنْده شَيْء موفقا بأمته، وَإِمَّا أَنه أبقى الصَدَاق فِي ذمَّته إِلَى أَن ييسر الله عَلَيْهِ.