فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب الانتهاء عن المعاصي

( بابُُ الانْتِهاءِ عنِ المَعاصِي)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان وجوب الِانْتِهَاء عَن الْمعاصِي أَي: تَركهَا أصلا.
والإعراض عَنْهَا بعد الْوُقُوع فِيهَا.

حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاءِ حَدثنَا أبُو أُسامَةَ عنْ بُرَيْدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسَى قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( مَثَلِي ومَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله كَمَثَلِ رَجُلٍ أتَى قَوْماً فَقَالَ: رَأيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنِيَّ وإنِّي أَنا النذِيرُ العُرْيانُ، فالنَّجاءَ النَّجاءَ، فأطاعَتْهُ طائِفَةٌ فأدْلَجُوا على مَهْلِهِمْ، فَنَجَوا، وكَذَّبَتْهُ طائِفَةٌ فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فاجْتاحَهُمْ) .


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْإِنْذَار عَن الْوُقُوع فِي الْمعاصِي والانتهاء عَنْهَا.

وَمُحَمّد بن الْعَلَاء بن كريب أَبُو كريب الْكُوفِي وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة اللَّيْثِيّ، وبريد بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة مصغر برد ابْن عبد الله بن أبي بردة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة واسْمه عَامر، وَقيل: الْحَارِث، وبريد هَذَا يرْوى عَن جده أبي بردة بن أبي مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام.
وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

قَوْله: ( مثلي) الْمثل بِفتْحَتَيْنِ الصّفة العجيبة الشَّأْن يوردها البليغ على سَبِيل الشّبَه لإِرَادَة التَّقْرِيب والتفهيم.

قَوْله: ( وَمثل مَا بَعَثَنِي الله) الْعَائِد مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا بَعَثَنِي الله بِهِ إِلَيْكُم.
قَوْله: ( قوما) التنكير فِيهِ للشيوع.
قَوْله: ( الْجَيْش) اللَّام فِيهِ للْعهد.
قَوْله: ( بعيني) بالتثنية وَهِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره بِالْإِفْرَادِ.
قَوْله: ( وَأَنا النذير الْعُرْيَان) أَي: الْمُنْذر الَّذِي تجرد عَن ثَوْبه وَأَخذه يرفعهُ ويديره حول رَأسه، علاماً لِقَوْمِهِ بالغارة.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: النذير الْعُرْيَان رجل من خثعم حمل عَلَيْهِ رجل يَوْم ذِي الخلصة فَقطع يَده وَيَد امْرَأَته فَانْصَرف إِلَى قومه فَحَذَّرَهُمْ فَضرب بِهِ الْمثل فِي تحقق الْخبز.
.

     وَقَالَ  ابْن السّكيت: اسْم الرجل الَّذِي حمل عَلَيْهِ عَوْف بن عَامر الْيَشْكُرِي، وَالْمَرْأَة كَانَت من بني كنَانَة، وتنزيل هَذِه الْقِصَّة على لفظ الحَدِيث بعيد لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَنه كَانَ عُريَانا.
.

     وَقَالَ  أَبُو عبد الْملك: هَذَا مثل قديم، وَذَلِكَ أَن رجلا لَقِي جَيْشًا فجردوه وعروه، فجَاء إِلَى الْمَدِينَة فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت الْجَيْش بعيني وَإِنِّي أَنا النذير لكم وتروني عُريَانا جردني الْجَيْش فالنجاء النَّجَاء،.

     وَقَالَ  ابْن السّكيت: ضرب بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمثل لأمته لِأَنَّهُ تجرد لإنذارهم.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: رُوِيَ عَن مُحَمَّد بن خَالِد: العربان، بباء مُوَحدَة فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا فَمَعْنَاه صَحِيح وَهُوَ الفصيح بالإنذار لَا يكنى وَلَا يورى، يُقَال: رجل عربان أَي: فصيح اللِّسَان، من: أعرب الرجل عَن حَاجته إِذا أفْصح عَنْهَا.
قَوْله: ( فالنجاء) بِالنّصب مفعول مُطلق فِيهِ إغراء أَي: اطْلُبُوا النَّجَاء بِأَن تسرعوا الْهَرَب لأنكم لَا تطيقون مقاومة ذَلِك الْجَيْش، ( والنجاء) الثَّانِي تَأْكِيد وَكِلَاهُمَا ممدودان، وَجَاء الْقصر فيهمَا تَخْفِيفًا وَجَاء مد الأول وَقصر الثَّانِي.
قَوْله: ( فأدلجوا) من الإدلاج من بابُُ الإفعال وَهُوَ السّير أول اللَّيْل، أَو كل اللَّيْل على الِاخْتِلَاف فِي مَعْنَاهُ، وهمزته همزَة قطع، وَفِي ( التَّوْضِيح) : قَوْله: ( فأدلجوا) بتَشْديد الدَّال قلت لَا يَسْتَقِيم هَذَا هُنَا لِأَن الادلاج بِالتَّشْدِيدِ هُوَ السّير آخر اللَّيْل فَلَا يُنَاسب هَذَا الْمقَام وَالصَّوَاب مَا ذَكرْنَاهُ قَوْله: ( على مهلهم) بِفتْحَتَيْنِ أَي: على السكينَة والتأني، وَأما الْمهل بِسُكُون الْهَاء فَمَعْنَاه الْإِمْهَال فَلَا يُنَاسب هُنَا، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن مهلتهم، قَوْله: ( فنجوا) لأَنهم أطاعوا النذير وَسَارُوا من أول اللَّيْل فنجوا.
قَوْله: ( فصبحهم الْجَيْش) أَي: أتوهم صباحاً، هَذَا أَصله ثمَّ اسْتعْمل فِيمَن يطْرق بَغْتَة فِي أَي وَقت كَانَ.
قَوْله: ( فاجتاحهم) بجيم ثمَّ بحاء مُهْملَة أَي: استأصلهم، من جحت الشَّيْء أجوحه إِذا استأصلته، وَمِنْه الْجَائِحَة وَهِي الْهَلَاك.



[ قــ :6145 ... غــ :6483 ]
- حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ حَدثنَا أبُو الزِّنادِ عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ أنَّهُ حَدَّثَه أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ: ( إنَّما مَثَلِي ومَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُل اسْتَوْقَدَ نارَاً، فَلمَّا أضاءَتْ مَا حَوْلهُ جَعَلَ الفَرَاشُ وهاذِهِ الدَّوابُّ الَّتي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيها، فَجَعَلَ يَنْزعُهُنَّ ويَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحمْنَ فِيها، فَأَنا آخذ بِحُجَزكمْ عنِ النَّارِ وهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيها) ( انْظُر الحَدِيث 6243) .


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ منع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاهُم عَن الْإِتْيَان بِالْمَعَاصِي الَّتِي تؤديهم إِلَى الدُّخُول فِي النَّار.

وَأَبُو الْيَمَان الحكم ب نَافِع، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ الْأَعْرَج.

والْحَدِيث مضى فِي: بابُُ قَول الله { وَوَهَبْنَا لداود سُلَيْمَان} ( ص: 03) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِعَين هَذَا السَّنَد عَن أبي الْيَمَان إِلَى قَوْله: ( وَهَذِه الدَّوَابّ تقع فِي النَّار) ثمَّ اخْتَصَرَهُ وَذكر حَدِيثا آخر.
قَوْله: ( استوقد) بِمَعْنى: أوقد، وَلَكِن استوقد أبلغ.
قَوْله: ( أَضَاءَت) من الإضاءة وَهِي فرط الإنارة.
قَوْله: ( الْفراش) بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وبالشين الْمُعْجَمَة جمع الفراشة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: هِيَ صغَار البق، وَقيل: هِيَ مَا يتهافت فِي النَّار من الطيارات.

قلت: هَذَا أصح من الأول،.

     وَقَالَ  الْفراء فِي تَفْسِيرهَا: إِنَّهَا كغوغاء الْجَرَاد يركب بعضه بَعْضًا.
.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: هِيَ دَوَاب مثل البعوض واحدتها فراشة،.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: لَيْسَ هِيَ ببعوض وَلَا ذُبابُُ،.

     وَقَالَ  أَبُو نصر: هِيَ الَّتِي تطير وتتهافت فِي السراج، وَفِي ( مجمع الغرائب) : هِيَ مَا تتهافت فِي النَّار من الطيارات،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ: هِيَ طَائِر فَوق البعوض.
قَوْله: ( يقعن) خبر قَوْله: ( جعل الْفرش) قَوْله: ( وَهَذِه الدَّوَابّ الَّتِي تقع فِي النَّار) جملَة مُعْتَرضَة وَأَشَارَ بهَا إِلَى تَفْسِير الْفراش.
قَوْله: ( فَجعل) بِالْفَاءِ وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِالْوَاو وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الرجل.
قَوْله: ( ينزعهن) بِفَتْح الْيَاء وَالزَّاي وَضم الْعين الْمُهْملَة أَي: يدفعهن، ويروى: يزعهن، بِلَا نون من وزعه يزعه وزعاً، فَهُوَ وازع إِذا كَفه وَمنعه.
قَوْله: ( فيقتحمن) من الاقتحام وَهُوَ الهجوم على الشَّيْء، يُقَال: قحم فِي الْأَمر أَي: رمى بِنَفسِهِ فِيهِ فَجْأَة، واقحمته فاقتحم، وَيُقَال: اقتحم الْمنزل إِذا هجم.
قَوْله: ( فِيهَا) أَي: فِي النَّار.
قَوْله: ( فَأَنا آخذ) قَالَ النَّوَوِيّ: رُوِيَ باسم الْفَاعِل، ويروى بِصِيغَة الْمُضَارع من الْمُتَكَلّم،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: الْفَاء فِيهِ فصيحة كَأَنَّهُ لما قَالَ: ( مثلي وَمثل النَّاس)
إِلَى آخِره، أَتَى بِمَا هُوَ أهم، وَهُوَ قَوْله: ( فَأَنا آخذ بِحُجزِكُمْ) وَمن هَذِه الدقيقة الْتفت من الْغَيْبَة فِي قَوْله: ( مثل النَّاس) إِلَى الْخطاب فِي قَوْله: ( بِحُجزِكُمْ) قَوْله: ( بِحُجزِكُمْ) بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم وبالزاي جمع حجزة وَهِي معقد الْإِزَار، وَمن السَّرَاوِيل مَوضِع التكة، وَيجوز ضم الْجِيم فِي الْجمع.
قَوْله: ( وهم يقتحمون فِيهَا) هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: وَأَنْتُم تقتحمون، وعَلى الأول سَأَلَ الْكرْمَانِي فَقَالَ: الْقيَاس: وَأَنْتُم، لَا: هم، ليُوَافق لفظ: حُجُزكُمْ، ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ الْتِفَات.

وَفِيه: إِشَارَة إِلَى أَن من أَخذه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحجرته لَا اقتحام لَهُ فِيهَا.





[ قــ :6146 ... غــ :6484 ]
- حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا زَكرِيَّاءُ عنْ عامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ عَمْرٍ ويَقُولُ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ منْ لِسانِهِ ويَدِهِ، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى الله عنْهُ) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ترك أَذَى الْمُسلم بِالْيَدِ وَاللِّسَان من جملَة الِانْتِهَاء عَن الْمعاصِي، وَأَيْضًا قَوْله: ( من هجر مَا نهى الله عَنهُ) من جملَة الِانْتِهَاء عَن الْمعاصِي.

وَأَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وزَكَرِيا هُوَ ابْن أبي زَائِدَة، وعامر هُوَ الشّعبِيّ.

والْحَدِيث مضى فِي أول كتاب الْإِيمَان.
قيل: خص المُهَاجر بِالذكر تطبيباً لقلب من لم يُهَاجر من الْمُسلمين لفَوَات ذَلِك بِفَتْح مَكَّة، فأعلمهم بِأَن من هجر مَا نهى الله عَنهُ كَانَ هُوَ المُهَاجر الْكَامِل.