فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة

( بابٌُ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامْرَأةٍ إلاْ ذُو محْرَمِ والدُّخُولُ عَلى المُغِيبَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ: لَا يخلون رجل بِامْرَأَة ... الخ.
وَهَذِه التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على حكمين: أَحدهمَا: عدم جَوَاز اختلاء الرجل بِامْرَأَة أَجْنَبِيَّة.
وَالثَّانِي: عدم جَوَاز الدُّخُول على المغيبة، فَحَدِيث الْبابُُ يدل على الحكم الأول، وَالْحكم الثَّانِي لَيْسَ فِيهِ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ بطرِيق الاستنباط.
قَوْله: ( إِلَّا ذُو محرم) وَهُوَ من لَا يحل لَهُ نِكَاحهَا من الْأَقَارِب كَالْأَبِ والإبن وَالْأَخ وَالْعم وَمن يجْرِي مجراهم قَوْله: ( وَالدُّخُول) بِالْجَرِّ وَالرَّفْع، قَالَ بَعضهم: وَلم يبين وجههما.
قلت: أما الْجَرّ فللعطف عَليّ بِامْرَأَة، على تَقْدِير: وَلَا بِالدُّخُولِ على المغيبة، وَأما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَتَقْدِيره: وَكَذَا الدُّخُول على المغيبة، وَهُوَ بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوجهَا، يُقَال: أغابت الْمَرْأَة إِذا غَابَ زَوجهَا فَهِيَ مغيبة، وَتجمع على: مغيبات، وَقد روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث نصر بن عَليّ: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تلجوا على المغيبات، فَإِن الشَّيْطَان يجْرِي من أحدكُم مجْرى الدَّم ... الحَدِيث.
.

     وَقَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَقد تكلم بَعضهم فِي مجَالد بن سعيد من قبل حفظه.



[ قــ :4954 ... غــ :5232 ]
- حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعيدٍ حدَّثنا لَ يْثٌ بن يَزِيدَ بن أبِي حَبِيبٍ عنْ أبِي الْخَيْرِ عنْ عُقْبَةَ بنِ عامِرٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إيَّاكُمْ والدُّخُولَ علَى النِّساء، فَقَالَ رجُلٌ مِنَ الأنْصار: يَا رسُولَ الله! أفرأيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: الحَمْوُ المَوْتُ.

مطابقته للشطر الأول من التَّرْجَمَة كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَلَيْث هُوَ ابْن سعد، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي حبيب الْمصْرِيّ، وَاسم أبي حبيب سُوَيْد، أعْتقهُ امْرَأَة مولاة لبني حسان بن عَامر بن لؤَي الْقرشِي، وَأم يزِيد مولاة لنجيب، وَأَبُو الْخَيْر ضد الشَّرّ اسْمه مرْثَد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وبالدال الْمُهْملَة ابْن عبد الله الْيَزنِي الْمصْرِيّ، وَعقبَة بن عَامِرًا لجهني، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الاسْتِئْذَان عَن قُتَيْبَة وَغَيره وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن قُتَيْبَة فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة اشْتَركُوا فِي إِخْرَاجه عَن قُتَيْبَة، وَمُسلم أخرجه عَن غَيره أَيْضا.

قَوْله: ( عَن عقبَة) وَفِي رِوَايَة أبي نعيم سَمِعت عقبَة.
قَوْله: ( إيَّاكُمْ وَالدُّخُول) بِالنّصب على التحذير، وَإِيَّاكُم مفعول بِفعل مُضْمر تَقْدِيره: اتَّقوا أَنفسكُم أَن تدْخلُوا على النِّسَاء، ويتضمن منع مُجَرّد الدُّخُول منع الْخلْوَة بهَا بِالطَّرِيقِ الأولى.
قَوْله: ( أَفَرَأَيْت الحمو) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وبالواو يَعْنِي: أَخْبرنِي عَن دُخُول الحمو؟ فَأجَاب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( الحمو الْمَوْت) .
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: يُقَال الحمو أَب الزَّوْج، كَأَنَّهُ كره لَهُ أَن يَخْلُو بهَا، وَفِي رِوَايَة ابْن وهب عِنْد مُسلم: وَسمعت اللَّيْث يَقُول: الحمو أَخُو الزَّوْج وَمَا أشبهه من أقَارِب الزَّوْج ابْن الْعم وَنَحْوه،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: المُرَاد من الحمو فِي الحَدِيث أقَارِب الزَّوْج غير آبَائِهِ وأبنائه لأَنهم محارم للزَّوْجَة يجوز لَهُم الْخلْوَة بهَا، وَلَا يوصفون بِالْمَوْتِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا المُرَاد: الْأَخ وَابْن الْأَخ وَالْعم وَابْن الْعم وَابْن الْأُخْت وَنَحْوهم مِمَّن يحل لَهَا تزوجيه لَو لم تكن متزوجة، وَجَرت الْعَادة بالتساهل فِيهِ، فيخلو الْأَخ بِامْرَأَة أَخِيه فشبهه بِالْمَوْتِ.
.

     وَقَالَ  القَاضِي: الْخلْوَة بالأحماء مؤدية إِلَى الْهَلَاك فِي الدّين.
وَقيل: مَعْنَاهُ، احْذَرُوا الحمو كَمَا يحذر الْمَوْت، فَهَذَا فِي أَب الزَّوْج فَكيف فِي غَيره؟.

     وَقَالَ  ابْن الْأَعرَابِي: هِيَ كلمة تَقُولهَا الْعَرَب كَمَا يُقَال الْأسد الْمَوْت، أَي لقاؤه مثل الْمَوْت، وكما يُقَال: السُّلْطَان نَار، وَيُقَال: مَعْنَاهُ فليمت وَلَا يفعل ذَلِك،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ أَنه يُفْضِي إِلَى موت الدّين أَو إِلَى مَوتهَا بِطَلَاقِهَا عِنْد غيرَة الزَّوْج، أَو برجمها إِن زنت مَعَه.

وَفِي ( مجمع الغرائب) : يحْتَمل أَن يُرَاد بِالْحَدِيثِ أَن الْمَرْأَة إِذا خلت فَهِيَ مَحل الآفة فَلَا يُؤمن عَلَيْهَا أحد فَلْيَكُن حموها الْمَوْت، أَي: لَا يجوز أَن يدْخل عَلَيْهَا أحد إلاَّ الْمَوْت، كَمَا قَالَ الآخر: والقبر صهر ضَامِن، وَهَذَا مُتَّجه لَائِق بِكَمَال الْغيرَة وَالْحمية، والحمو مُفْرد الأحماء، قَالَ الْأَصْمَعِي: الأحماء من قبل الزَّوْج، والأختان من قبل الْمَرْأَة، والأصهاري يجمع الْفَرِيقَيْنِ.
وَفِي ( الإفصاح) لِابْنِ بزِي: عَن الْأَصْمَعِي: الأحماء من قبل الْمَرْأَة،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: حاء الحمو هُنَا مهموزا والمهموز أحد لغاته، وَيُقَال فِيهِ: حمو، بواو مَضْمُومَة متحركة كدلو، وَحمى مَقْصُور كعصا، قَالَ: وَالْأَشْهر فِيهِ أَنه من الْأَسْمَاء السِّتَّة المعتلة المضافة الَّتِي تعرب فِي حَال إضافتها إِلَى غير يَاء الْمُتَكَلّم بِالْوَاو رفْعَة وبالألف نصبا وبالياء خفضا، وَيكون على قَول الْأَصْمَعِي إِنَّه مَهْمُوز مثل كمء وَإِعْرَابه بالحركات كَسَائِر الْأَسْمَاء الصَّحِيحَة، وَمن قصره لَا يدْخلهُ سوى التَّنْوِين فِي الرع وَالنّصب والجر إِذا لم يضف، وَحكى عِيَاض: هَذَا حمؤك، بِإِسْكَان الْمِيم وهمزة مَرْفُوعَة، وحم كأب.





[ قــ :4955 ... غــ :533 ]
- حدّثنا عَليُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ حَدثنَا عَمْرٌ وعنْ أبي مَعْبَدٍ عَن ابنِ عَبَّاسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامرَأةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، فقامَ رجُلٌ مِنَ الأنْصارِ فَقَالَ: يَا رسولَ الله! امْرَأتِي خَرَجَتْ حاجَّةً واكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وكَذَا، قَالَ: إرْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأتكَ.

)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَأَبُو معبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالدال الْمُهْملَة واسْمه نَافِذ، بالنُّون وَالْفَاء وبالذال الْمُعْجَمَة: مولى ابْن عَبَّاس.

والْحَدِيث مضى بأتم مِنْهُ فِي كتاب الْحَج فِي: بابُُ حج النِّسَاء فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد بن زيد عَن عَمْرو عَن أبي معبد ... الخ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

وَفِيه: إِبَاحَة الرُّجُوع عَن الْجِهَاد إِلَى إحجاج امْرَأَته، لِأَن سترهَا وصيانتها فرض عَلَيْهِ، وَالْجهَاد فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَ يقوم بِهِ غَيره، فَلذَلِك أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يحجّ مَعهَا إِذا لم يكن مَعهَا محرم يحجّ مَعهَا، وَهَذَا صَرِيح فِي أَن الْحَج لَا يجب على الْمَرْأَة عِنْد الِاسْتِطَاعَة إِلَّا بزوجها أَو بِمحرم مَعهَا.
وَالله أَعم.