فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب ما قيل في شهادة الزور

( بابُُ مَا قيلَ فِي شَهادَةِ الزُّورِ) أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا قيل فِي شَهَادَة الزُّور من التَّغْلِيظ والوعيد، والزور وصف الشَّيْء بِخِلَاف صفته، فَهُوَ تمويه الْبَاطِل بِمَا يُوهم أَنه حق، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا: الْكَذِب.

لِقَوْلِ الله عزَّ وجَلَّ { والَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ( الْفرْقَان: 27) .


ذكره هَذِه الْقطعَة من الْآيَة فِي معرض التَّعْلِيل لما قيل فِي شَهَادَة الزُّور من الْوَعيد والتهديد لَا وَجه لَهُ، لِأَن الْآيَة سيقت فِي مدح الَّذين لَا يشْهدُونَ الزُّور، وَمَا قبلهَا أَيْضا فِي مدح التائبين العاملين الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَتَمام الْآيَة أَيْضا مدح فِي الَّذين إِذا سمعُوا اللَّغْو مروا كراماً، وَمَا بعْدهَا أَيْضا من الْآيَات كَذَلِك،.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَشَارَ إِلَى أَن الْآيَة سيقت فِي ذمّ متعاطي شَهَادَة الزُّور، وَهُوَ اخْتِيَار لأحد مَا قيل فِي تَفْسِيرهَا.
انْتهى.
قلت: مَا سيقت الْآيَة، إلاَّ فِي مدح تاركي شَهَادَة الزُّور، كَمَا قُلْنَا.
وَقَوله: وَهُوَ اخْتِيَار لأحد مَا قيل فِي تَفْسِيرهَا، لم يقل بِهِ أحد من الْمُفَسّرين، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الزُّور، فَقَالَ أَكْثَرهم: الزُّور والشرك، وَقيل: شَهَادَة الزُّور، قَالَه ابْن طَلْحَة وَقيل: الْمُشْركُونَ، وَقيل: الصَّنَم، وَقيل: مجَالِس الخناء، وَقيل: مجْلِس كَانَ يشْتم فِيهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: العهود على الْمعاصِي.

وكِتْمَانِ الشِّهادةِ

وكتمان، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: فِي شَهَادَة الزُّور، أَي: وَمَا قيل فِي كتمان الشَّهَادَة بِالْحَقِّ من الْوَعيد والتهديد.

لقَوْله تَعَالَى: { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ومَنْ يَكْتُمْها فإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ( الْبَقَرَة: 382) .


هَذَا التَّعْلِيل فِي مَحَله، أَي: وَلَا تخفوا الشَّهَادَة، إِذا دعيتم إِلَى إِقَامَتهَا، وَمن كتمانها ترك التَّحَمُّل عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ.
قَوْله: { فَإِنَّهُ آثم قلبه} ( الْبَقَرَة: 382) .
أَي: فَاجر قلبه، وَخَصه بِالْقَلْبِ لِأَن الكتمان يتَعَلَّق بِهِ، لِأَنَّهُ يضمره فِيهِ فأسند إِلَيْهِ { وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم} ( الْبَقَرَة: 382) .
أَي: يجازي على أَدَاء الشَّهَادَة وكتمانها.

تَلْوُوا ألْسِنَتَكُمْ بِالشَّهادَةِ

أَشَارَ بقوله: تلووا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَإِن تلووا أَو تعرضوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} ( النِّسَاء: 531) .
أَي: وَإِن تلووا أَلْسِنَتكُم بِالشَّهَادَةِ، وروى الطَّبَرِيّ عَن الْعَوْفِيّ فِي هَذِه الْآيَة، قَالَ: وتلوي لسَانك بِغَيْر الْحق، وَهِي اللجلجة، فَلَا تقيم الشَّهَادَة على وَجههَا.
وتلووا من اللي، وَأَصله اللوي.
قَالَ الْجَوْهَرِي: لوى الرجل رَأسه وألوى بِرَأْسِهِ، أقَال وَأعْرض.
وَقَوله تَعَالَى: { وَإِن تلووا أَو تعرضوا} ( النِّسَاء: 531) .
بواوين، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ القَاضِي يكون ليه وإعراضه لأحد الْخَصْمَيْنِ على الآخر، وَقد قرىء بواو وَاحِدَة مَضْمُومَة اللَّام من: وليت،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: أَي إِن تلووا الشَّهَادَة فتقيموها أَو تعرضوا عَنْهَا فتتركوها، فَإِن الله يجازيكم عَلَيْهِ، قَالَ الْكرْمَانِي: وَلَو فصل البُخَارِيّ بَين لفظ: تلووا، وَلَفظ: أَلْسِنَتكُم، بِمثل: أَي، أَو: يَعْنِي، ليتميز الْقرَان عَن كَلَامه لَكَانَ أولى قلت: بل كَانَ التَّمْيِيز بَين الْقُرْآن وَكَلَامه وَاجِبا، لِأَن من لَا يحفظ الْقُرْآن أَو لَا يحسن الْقِرَاءَة يظنّ أَن قَوْله: ( أَلْسِنَتكُم) من الْقُرْآن، وَكَانَ الَّذِي يَنْبَغِي أَن يَقُول، وَقَوله تَعَالَى: { وَإِن تلووا} ( النِّسَاء: 531) .
يَعْنِي أَلْسِنَتكُم.
و: إتْيَان، كلمة مُفْردَة من الْقُرْآن فِي معرض الِاحْتِجَاج لَا يُفِيد، وَلَا هُوَ بطائل أَيْضا.



[ قــ :2538 ... غــ :2653 ]
- حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُنيرٍ قَالَ سَمِعَ وهْبَ بنَ جَرِير وعبْدَ المَلِكِ بنَ إبْرَاهِيمَ قالاَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبِي بَكْرِ بنِ أنَسٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سُئلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الكَبَائِرِ قَالَ الأشْرَاكُ بِاللَّه وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ وقَتْلُ النَّفْسِ وشَهَادَةُ الزُّورِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( وَشَهَادَة الزُّور) .

ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون: أَبُو عبد الرَّحْمَن الزَّاهِد، مر فِي الْوضُوء.
الثَّانِي: وهب بن جرير بن حَازِم الْأَزْدِيّ أَبُو الْعَبَّاس.
الثَّالِث: عبد الْملك بن إِبْرَاهِيم أَبُو عبد الله، مولى بني عبد الدَّار الْقرشِي.
الرَّابِع: شُعْبَة بن الْحجَّاج.
الْخَامِس: عبيد الله، بتصغير العَبْد، ابْن أبي بكر بن أنس بن مَالك.
السَّادِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: السماع فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَن وهب بن جرير بَصرِي وَأَن عبد الْملك بن إِبْرَاهِيم مكي جدي، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَن شُعْبَة واسطي سكن الْبَصْرَة، وَأَن عبيد الله بَصرِي.
قَوْله: عَن عبد الله بن أبي بكر، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن جَعْفَر الَّتِي تَأتي فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة حَدثنِي عبيد الله بن أبي بكر سَمِعت أنس بن مَالك.
وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد، وَفِي الدِّيات عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن يحيى بن حبيب وَعَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء وَفِي الْقصاص وَفِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، ويروى: سُئِلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة بهز عَن شُعْبَة عِنْد أَحْمد أَو ذكرهَا، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن جَعْفَر: ذكر الْكَبَائِر أَو سُئِلَ عَنْهَا، قَوْله: ( عَن الْكَبَائِر) ، جمع كَبِيرَة وَهِي الفعلة القبيحة من الذُّنُوب الْمنْهِي عَنْهَا شرعا.
الْعَظِيم أمرهَا: كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا والفرار من الزَّحْف وَغير ذَلِك، وَهِي من الصِّفَات الْغَالِبَة، يَعْنِي صَار إسماً لهَذِهِ الفعلة القبيحة، وَفِي الأَصْل هِيَ صفة، وَالتَّقْدِير: الفعلة القبيحة أَو الْخصْلَة القبيحة، قيل: الْكَبِيرَة كل مَعْصِيّة، وَقيل: كل ذَنْب قرن بِنَار أَو لعنة أَو غضب أَو عَذَاب.
قلت: الْكَبِيرَة أَمر نسبي، فَكل ذَنْب فَوْقه ذَنْب فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَبِيرَة، وبالنسبة إِلَى مَا تَحْتَهُ صَغِيرَة.
وَاخْتلفُوا فِي الْكَبَائِر، وَهَهُنَا ذكر أَرْبَعَة، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا أَربع فَقَط، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْء مِمَّا يدل على الْحصْر.
وَقيل: هِيَ سبع، وَهِي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ( اجتنبوا السَّبع الموبقات وَهِي: الْإِشْرَاك بِاللَّه، وَقتل النَّفس الَّتِي حرم الله إلاَّ بِالْحَقِّ، وَالسحر، وَأكل الرِّبَا، وَأكل مَال الْيَتِيم، والتولي يَوْم الزَّحْف، وَقذف الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات الْغَافِلَات) .
وَقيل: الْكَبَائِر تسع، رَوَاهُ الْحَاكِم فِي حَدِيث طَوِيل فَذكر السَّبْعَة الْمَذْكُورَة، وَزَاد عَلَيْهَا: ( عقوق الْوَالِدين الْمُسلمين، وَاسْتِحْلَال الْحَرَام) .
وَذكر شَيخنَا عَن أبي طَالب الْمَكِّيّ أَنه قَالَ: الْكَبَائِر سبع عشرَة، قَالَ: جمعتها من جملَة الْأَخْبَار وَجُمْلَة مَا اجْتمع من قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَغَيرهم: الشّرك بِاللَّه، والإصرار على مَعْصِيَته، والقنوط من رَحمته، والأمن من مكره، وَشَهَادَة الزُّور، وَقذف الْمُحصن، وَالْيَمِين الْغمُوس، وَالسحر، وَشرب الْخمر، والمسكر، وَأكل مَال الْيَتِيم ظلما وَأكل الرِّبَا، وَالزِّنَا، واللواطة، وَالْقَتْل، وَالسَّرِقَة، والفرار من الزَّحْف، وعقوق الْوَالِدين.
انْتهى.
.

     وَقَالَ  رجل لِابْنِ عَبَّاس: الْكَبَائِر سبع؟ فَقَالَ: هِيَ إِلَى سَبْعمِائة.
قَوْله: ( الْإِشْرَاك بِاللَّه) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف التَّقْدِير: الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاللَّه وَمَا بعده عطف عَلَيْهِ، وَوجه تَخْصِيص هَذِه الْأَرْبَعَة بِالذكر لِأَنَّهَا أكبر الْكَبَائِر والشرك أعظمها.
قَوْله: ( وعقوق الْوَالِدين) ، العقوق من العق، وَهُوَ: الْقطع، وَذكر الْأَزْهَرِي أَنه يُقَال: عق وَالِده يعقه، بِضَم الْعين: عقاً وعقوقاً إِذا قطعه، والعاق اسْم فَاعل، وَيجمع على عققة، بِفَتْح الْحُرُوف كلهَا، و: عُقُق، بِضَم الْعين وَالْقَاف.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْمُحكم) : رجل عُقُق وعقوق وعق وعاق، بِمَعْنى وَاحِد.
والعاق هُوَ الَّذِي شقّ عَصا الطَّاعَة لوَالِديهِ.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: هَذَا قَول أهل اللُّغَة.
وَأما حَقِيقَة العقوق الْمحرم شرعا فقلَّ من ضَبطه، وَقد قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد بن عبد السَّلَام: لم أَقف فِي عقوق الْوَالِدين وَفِيمَا يختصان بِهِ من العقوق على ضَابِط اعْتمد عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يجب طاعتهما فِي كل مَا يأمران بِهِ وَلَا ينهيان عَنهُ بِاتِّفَاق الْعلمَاء، وَقد حرم على الْوَلَد الْجِهَاد بِغَيْر إذنهما لما يشق عَلَيْهِمَا من توقع قَتله أَو قطع عُضْو من أَعْضَائِهِ ولشدة تفجعهما على ذَلِك،، وَقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فِيهِ على نَفسه أَو عُضْو من أَعْضَائِهِ.
.

     وَقَالَ  الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح فِي ( فَتَاوِيهِ) : العقوق الْمحرم كل فعل يتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدَان تأذياً لَيْسَ بالهين مَعَ كَونه لَيْسَ من الْأَفْعَال الْوَاجِبَة، قَالَ: وَرُبمَا قيل: طَاعَة الْوَالِدين وَاجِبَة فِي كل مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَة، وَمُخَالفَة أَمرهمَا فِي ذَلِك عقوق، وَقد أوجب كثير من الْعلمَاء طاعتهما فِي الشُّبُهَات، وَلَيْسَ قَول من قَالَ من عُلَمَائِنَا: يجوز لَهُ السّفر فِي طلب الْعلم وَفِي التِّجَارَة بِغَيْر إذنهما مُخَالفا لما ذكرته، فَإِن هَذَا كَلَام مُطلق، وَفِيمَا ذكرته بَيَان لتقييد ذَلِك الْمُطلق.
قَوْله: ( وَقتل النَّفس) ، يَعْنِي: بِغَيْر الْحق وَيَكْفِي فِيهِ وعيداً قَوْله تَعَالَى: { وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا} ( النِّسَاء: 39) .
الْآيَة.
قَوْله: ( وَشَهَادَة الزُّور) ، وَقد مر تَفْسِير الزُّور فِي أول الْبابُُ.
وَقد رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: عدلت شَهَادَة الزُّور بالإشراك بِاللَّه، وَقَرَأَ عبد الله { فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور} ( الْحَج: 03) .
وَاخْتلف فِي شَاهد الزُّور، إِذا تَابَ، فَقَالَ مَالك: تقبل تَوْبَته وشهادته كشارب الْخمر، وَعَن عبد الْملك: لَا تقبل كالزنديق.
.

     وَقَالَ  أَشهب: إِن أقرّ بذلك لم تقبل تَوْبَته أبدا، وَعند أبي حنيفَة: إِذا ظَهرت تَوْبَته يجب قبُول شَهَادَته إِذا أَتَى ذَلِك مرّة أُخْرَى، يظْهر فِي مثلهَا تَوْبَته، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر،.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: وَقَول أبي حنيفَة وَمن تبعه أصح.
.

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم: بَلغنِي عَن مَالك أَنه: لَا تقبل شَهَادَته أبدا وَإِن تَابَ وَحسنت تَوْبَته.
وَاخْتلف هَل يُؤَدب إِذا أقرّ، فَعَن شُرَيْح أَنه: كَانَ يبْعَث بِشَاهِد الزُّور إِلَى قومه أَو إِلَى سوقه إِن كَانَ مولى، إِنَّا قد زيفنا شَهَادَة هَذَا، وَيكْتب اسْمه عِنْده ويضربه خفقات، وَينْزع عمَامَته عَن رَأسه، وَعَن الْجَعْد بن ذكْوَان: أَن شريحاً ضرب شَاهد زور عشْرين سَوْطًا.
وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز: أَنه اتهمَ قوما على هِلَال رَمَضَان فضربهم سبعين سَوْطًا وأبطل شَهَادَتهم، وَعَن الزُّهْرِيّ: شَاهد الزُّور يُعَزّر.
.

     وَقَالَ  الْحسن: يضْرب شَيْئا.
وَيُقَال للنَّاس: إِن هَذَا شَاهد زور،.

     وَقَالَ  الشّعبِيّ: يضْرب مَا دون الْأَرْبَعين خَمْسَة وَثَلَاثِينَ سَبْعَة وَثَلَاثِينَ سَوْطًا.
وَفِي ( كتاب الْقَضَاء) لأبي عبيد بن سَلام: عَن معمر: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد شَهَادَة رجل فِي كذبة كذبهَا.
وَذكره أَبُو سعيد النقاش بِإِسْنَادِهِ إِلَى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، بِلَفْظ: كذبة وَاحِدَة كذها.
وَفِي ( الْأَشْرَاف) : كَانَ سوار يَأْمر بِهِ، يلبب بِثَوْبِهِ، وَيَقُول لبَعض أعوانه: إذهبوا بِهِ إِلَى مَسْجِد الْجَامِع فدوروا بِهِ على الْخلق وَهُوَ يُنَادي: من رَآنِي فَلَا يشْهد بزور.
وَكَانَ النُّعْمَان يرى أَن يبْعَث بِهِ إِلَى سوقه إِن كَانَ سوقياً أَو إِلَى مَسْجِد قومه، وَيَقُول: القَاضِي يقرؤكم السَّلَام، وَيَقُول: إِنَّا وجدنَا هَذَا شَاهد زور، فَاحْذَرُوهُ وَحَذرُوهُ الناسَ، وَلَا يرى عَلَيْهِ تعزيراً.
وَعَن مَالك: أرى أَن يفضح ويعلن بِهِ وَيُوقف، وَأرى أَن يضْرب ويسار بِهِ،.

     وَقَالَ  أَحْمد وَإِسْحَاق: يُقَام للنَّاس، ويعذر ويؤدب.
.

     وَقَالَ  أَبُو ثَوْر: يُعَاقب.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي: يُعَزّر وَلَا يبلغ بالتعزير أَرْبَعِينَ سَوْطًا ويشهر بأَمْره، وَعَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَنه حَبسه يَوْمًا وخلى عَنهُ، وَعَن ابْن أبي ليلى: يضْرب خَمْسَة وَسبعين سَوْطًا لاولا يبْعَث بِهِ.
وَعَن الْأَوْزَاعِيّ: إِذا كَانَا اثْنَيْنِ وشهدا على طَلَاق فَفرق بَينهمَا ثمَّ أكذبا نفسهما، أَنَّهُمَا يضربان مائَة مائَة ويغرمان للزَّوْج الصَدَاق.
وَعَن الْقَاسِم وَسَالم: شاهذ الزُّور يحبس ويخفق سبع خفقات بعد الْعَصْر، وينادى عَلَيْهِ.
وَعَن عبد الْملك بن يعلى قَاضِي الْبَصْرَة: أَنه أَمر بحلق أَنْصَاف رؤوسهم وتسخم وُجُوههم وَيُطَاف بهم فِي الْأَسْوَاق.
قلت: عِنْد أبي حنيفَة: شَاهد الزُّور يبْعَث بِهِ إِلَى محلته أَو سوقه، فَيُقَال لَهُم: إِنَّا وجدنَا هَذَا شَاهد زور فَاحْذَرُوهُ، فَلَا يضْرب وَلَا يحبس.
وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد، يضْرب وَيحبس إِن لم يحدث تَوْبَة، لِأَنَّهُ ارْتكب مَحْظُورًا فيعزر.

تابَعَهُ غُنْدَرٌ وأبُو عامِرٍ وبَهْزٌ وعَبْدُ الصَّمَدِ عنْ شُعْبَةَ

أَي: تَابع وهب بن جرير فِي رِوَايَته عَن شُعْبَة غنْدر، وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَأَبُو عَامر عبد الْملك الْعَقدي، وبهز، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء وَفِي آخِره زَاي: ابْن أَسد الْعمي، وَعبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، وَهَؤُلَاء بصريون، فمتابعة الْعَقدي وَصلهَا أَبُو سعيد النقاش فِي ( كتاب الشُّهُود) وَابْن مَنْدَه فِي ( كتاب الْإِيمَان) من طَرِيقه عَن شعبه بِلَفْظ: ( أكبر الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاللَّه) .
ومتابعة بهز وَصلهَا أَحْمد عَنهُ ومتابعة عبد الصَّمد وَصلهَا البُخَارِيّ فِي الدِّيات.





[ قــ :539 ... غــ :654 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا بِشْرُ بنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ حدَّثنا الجُرَيْرِيُّ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبِي بَكْرَةَ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأكْبَرِ الكَبَائِرِ ثَلاثاً قَالُوا بلَى يَا رسُولَ الله قَالَ الإشْرَاكُ بِاللَّه وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ وجَلسَ وكانَ مُتَّكِئَاً فقالَ ألاَ وقَوْلِ الزُّورِ قَالَ فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَبشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة، والجريري، بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء الأولى: سعيد بن إِيَاس الْأَزْدِيّ، وَسَماهُ فِي رِوَايَة خَالِد الْحذاء عَنهُ فِي أَوَائِل الْأَدَب، وَقد أخرج البُخَارِيّ للْعَبَّاس بن فرور والجريري لكنه إِذا أخرج عَنهُ سَمَّاهُ، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة يروي عَن أَبِيه أبي بكرَة واسْمه: نفيع، بِضَم النُّون: الثَّقَفِيّ.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين عَن مُسَدّد أَيْضا وَفِي الاسْتِئْذَان عَن عَليّ بن عبد الله ومسدد، وَفِي الْأَدَب عَن إِسْحَاق ابْن شاهين، وَفِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين أَيْضا عَن قيس بن حَفْص، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عَمْرو النَّاقِد، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر وَفِي الشَّهَادَات، وَفِي التَّفْسِير عَن حميد بن مسْعدَة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( أَلا أنبئكم) أَي: أَلا أخْبركُم، وألاَ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام، للتّنْبِيه هُنَا ليدل على تحقق مَا بعْدهَا.
قَوْله: ( ثَلَاثًا) أَي: قَالَ لَهُم: ( ألاَ أنبئكم) ثَلَاث مَرَّات، وَإِنَّمَا كَرَّرَه تَأْكِيدًا ليتنبه السَّامع على إِحْضَار فهمه، وَكَانَت عَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِعَادَة حَدِيثه ثَلَاثًا ليفهم عَنهُ.
قَوْله: ( الْإِشْرَاك بِاللَّه) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: أكبر الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاللَّه، لِأَنَّهُ لَا ذَنْب أعظم من الْإِشْرَاك بِاللَّه.
قَوْله: ( وعقوق الْوَالِدين) ، إِنَّمَا ذكر هَذَا ( وَقَول الزُّور) مَعَ الْإِشْرَاك بِاللَّه، مَعَ أَن الشّرك أكبر الْكَبَائِر بِلَا شكّ لِأَنَّهُمَا يشابهانه من حَيْثُ إِن الْأَب سَبَب وجوده ظَاهرا وَهُوَ يرِيبهُ، وَمن حَيْثُ إِن المزور يثبت الْحق لغير مُسْتَحقّه، فَلهَذَا ذكرهمَا الله تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: { فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور} ( الْحَج: 03) .
قَوْله: ( وَجلسَ) أَي: للاهتمام بِهَذَا الْأَمر، وَهُوَ يفيدنا تَأْكِيد تَحْرِيمه وَعظم قبحه.
قَوْله: ( وَكَانَ مُتكئا) ، جملَة حَالية.
وَسبب الإهتمام بذلك كَون قَول الزُّور أَو شَهَادَة الزُّور أسهل وقوعاً على النَّاس، والتهاون بهَا أَكثر، لِأَن الْحَوَامِل عَلَيْهِ كَثِيرَة: كالعداوة والحقد والحسد ... وَغير ذَلِك، فاحتيج إِلَى الإهتمام بتعظيمه، والشرك مفسدته قَاصِرَة، ومفسدة الزُّور متعدية.
قَوْله: ( ألاَ وَقَول الزُّور) ، وَفِي رِوَايَة خَالِد عَن الْجريرِي: ( أَلا وَقَول الزُّور، وَشَهَادَة الزُّور) .
وَفِي رِوَايَة ابْن علية: ( شَهَادَة الزُّور أَو قَول الزُّور) .
وَقَول الزُّور أَعم من أَن يكون شَهَادَة زور أَو غير شَهَادَة، كالكذب، فلأجل ذَلِك بوب عَلَيْهِ التِّرْمِذِيّ بقوله: بابُُ مَا جَاءَ فِي التَّغْلِيظ فِي الْكَذِب والزور، وَنَحْوه.
ثمَّ روى حَدِيث أنس الْمَذْكُور قبل هَذَا، فالكذب فِي الْمُعَامَلَات دَاخل فِي مُسَمّى قَول الزُّور، لَكِن حَدِيث خريم بن فاتك الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من رِوَايَة حبيب بن النُّعْمَان الْأَسدي عَن خريم بن فاتك.
قَالَ: صلى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الصُّبْح، فَلَمَّا انْصَرف قَامَ قَائِما فَقَالَ: ( عدلت شَهَادَة الزُّور بالإشراك بِاللَّه، ثَلَاث مَرَّات) .
ثمَّ قَرَأَ: { فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور حنفَاء لله غير مُشْرِكين بِهِ} ( الْحَج: 03) .
يدل على أَن المُرَاد بقول الزُّور فِي آيَة الْحَج: شَهَادَة الزُّور، لِأَنَّهُ قَالَ: ( عدلت شَهَادَة الزُّور بالإشراك بِاللَّه) ثمَّ قَرَأَ: { فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور} ( الْحَج: 03) .
فَجعل فِي الحَدِيث قَول الزُّور المعادل للإشراك هُوَ شَهَادَة الزُّور، لَا مُطلق قَول الزُّور، وَإِذا عرف أَن قَول الزُّور هُوَ الْكَذِب.
فَلَا شكّ أَن دَرَجَات الْكَذِب تَتَفَاوَت بِحَسب المكذوب عَلَيْهِ، وبحسب الْمُتَرَتب على الْكَذِب من الْمَفَاسِد.
.

وَقد قسم ابْن الْعَرَبِيّ الْكَذِب على أَرْبَعَة أَقسَام: أَحدهَا: وَهُوَ أَشدّهَا: الْكَذِب على الله تَعَالَى: قَالَ الله تَعَالَى: { فَمن أظلم مِمَّن كذب على الله} ( الزمر: 93) .
وَالثَّانِي: الْكَذِب على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَهُوَ هُوَ، أَو نَحوه.
الثَّالِث: الْكَذِب على النَّاس، وَهِي شَهَادَة الزُّور فِي إِثْبَات مَا لَيْسَ بِثَابِت على أحد، أَو إِسْقَاط مَا هُوَ ثَابت.
الرَّابِع: الْكَذِب للنَّاس، قَالَ وَمن أشده الْكَذِب فِي الْمُعَامَلَات، وَهُوَ أحد أَرْكَان الْفساد الثَّلَاثَة فِيهَا، وَهِي: الْكَذِب وَالْعَيْب والغش، وَالْكذب، وَإِن كَانَ محرما، سَوَاء قُلْنَا كَبِيرَة أَو صَغِيرَة، فقد يُبَاح عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ، وَيجب فِي مَوَاضِع ذكرهَا الْعلمَاء.
قَوْله: ( حَتَّى قُلْنَا ليته سكت) إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك شَفَقَة على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَرَاهَة لما تزعجه.
فَإِن قلت: الحَدِيث لَا يتَعَلَّق بكتمان الشَّهَادَة، وَهُوَ مَذْكُور فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: علم مِنْهُ حكمه قِيَاسا عَلَيْهِ، لِأَن تَحْرِيم شَهَادَة الزُّور لإبطال الْحق والكتمان أَيْضا فِيهِ إبِْطَال لَهُ، وَالله أعلم.

وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا الجُرَيْريُّ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ

إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم هُوَ الْمَشْهُور بِابْن علية، وَعليَّة: بِضَم الْعين وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهُوَ اسْم أمه، مولاة لبني أَسد، والجريري مضى عَن قريب، وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن أبي بكرَة الْمَذْكُور.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين، على مَا يَجِيء بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
<"