فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب {واصطنعتك لنفسي} [طه: 41]

( بابٌ سورَةُ طهَ)
لَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب، أَي: هَذَا بَاب فِي تَفْسِير بعض سُورَة طه، قَالَ مقَاتل: مَكِّيَّة كلهَا، وَكَذَا ذكره ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُم، فِيمَا ذكره ابْن مرْدَوَيْه وَفِي ( مقامات التَّنْزِيل) مَكِّيَّة كلهَا لم يعرف فِيهَا اخْتِلَاف إلاّ مَا ذكر عَن الْكَلْبِيّ فِي رِوَايَة أبي بكر أَنه قَالَ: { وَمن آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار لَعَلَّك ترْضى} ( طه: 031) نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَهِي فِي أَوْقَات الصَّلَوَات.
وَهِي مائَة وَخمْس وَثَلَاثُونَ آيَة.
وَألف وثلاثمائة وَإِحْدَى وَأَرْبَعُونَ كلمة، وَخَمْسَة آلَاف ومائتان وإثنان وَأَرْبَعُونَ حرفا.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم قَالَ ابْن جُبَير: بالنبطية طاه يَا رجل.
أَي: قَالَ سعيد بن جُبَير: معنى طه بالنبطية: يَا رجل، والنبطية منسوبة إِلَى النبط، بِفَتْح النُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبالطاء الْمُهْملَة: قوم ينزلون البطائح بَين العراقين وَكَثِيرًا يسْتَعْمل وَيُرَاد بِهِ الزراعون، وَالْمَذْكُور هُوَ رِوَايَة: قوم، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، قَالَ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك بالنبطية طه، أَي: يَا رجل، وَتَعْلِيق عِكْرِمَة وَصله ابْن أبي حَاتِم من رِوَايَة حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن عَن عِكْرِمَة فِي قَوْله: طه، أَي: يَا طه يَا رجل، وَتَعْلِيق الضَّحَّاك وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق قُرَّة بن خَالِد عَن الضَّحَّاك بن مُزَاحم فِي قَوْله: طه، قَالَ: يار رجل بالنبطية.
انْتهى.
وتمثل قَول ابْن جُبَير، روى عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَعَطَاء وَأبي مَالك وَمُجاهد وَقَتَادَة وَمُحَمّد بن كَعْب وَالسُّديّ وعطبة وَابْن أَبْزَى، وَفِي: ( تَفْسِير مقَاتل) : طه يَا رجل بالسُّرْيَانيَّة،.

     وَقَالَ  الْكَلْبِيّ: عَن ابْن عَبَّاس، نزلت بلغَة على يَا رجل، وَعند ابْن مرْدَوَيْه بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس: يس بالحبشية يَا إِنْسَان، وطه بالنبطية يَا رجل، وَقيل: معنى طه يَا إِنْسَان، وَقيل: هِيَ حُرُوف مقطعَة لمعان، قَالَ الوَاسِطِيّ: أَرَادَ بهَا: يَا طَاهِر يَا هادي، وَعَن أبي حَاتِم: طه استفتاح سُورَة، وَقيل هُوَ قسم أقسم الله بِهِ وَهِي من أَسمَاء الله عز وَجل، وَقيل: هُوَ من الوطي وَالْهَاء كِنَايَة عَن الأَرْض أَي: اعْتمد على الأَرْض بقدمك وَلَا تتعصب نَفسك بالاعتماد على قدم وَاحِدَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: { مَا نزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لتشقى} ( طه: 2) نزلت الْآيَة فِيمَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتكلفه من السهر والتعب وَقيام اللَّيْل،.

     وَقَالَ  اللَّيْث: بلغنَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما سمع كَلَام الرب تَعَالَى استقرءه الْخَوْف حَتَّى قَامَ على أَصَابِع قَدَمَيْهِ خوفًا.
فَقَالَ عز وَجل: طه، أَي: اطمئن، قَالَ الْأَزْهَرِي: لَو كَانَ كَذَلِك لقَالَ: طَأْهَا، أَي: طأ الأَرْض بقدمك، وَهِي مَهْمُوزَة، وَفِي ( الْمعَانِي) للفراء: هُوَ حرف هجاء، وحَدثني قيس قَالَ: حَدثنِي عَاصِم عَن زر، قَالَ: قَرَأَ رجل على ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: طَأْهَا، فَقَالَ لَهُ عبد الله: طه، فَقَالَ الرجل: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن أَلَيْسَ إِنَّمَا أَمر أَن يطَأ قدمه؟ قَالَ: فَقَالَ عبد الله: طه، هَكَذَا أَقْرَأَنيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد فِي ( تَفْسِير ابْن مرْدَوَيْه) كَذَا نزل بهَا جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِكَسْر الطَّاء وَالْهَاء، قَالَ: وَكَانَ بعض الْقُرَّاء يقطعهَا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: طاه، قَالَ الزّجاج: يقْرَأ طه بِفَتْح الطَّاء وَالْهَاء، وطه بكسرهما، وطه بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون الْهَاء، وطه بِفَتْح الطَّاء وَكسر الْهَاء.
قَالَ ابنُ جُبَيْرٍ والضَّحَّاكُ بالنَّبَطِيَّةِ طهَ يَا رَجُلُ:.

     وَقَالَ  مُجاهِدٌ ألْقَى صَنَعَ أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: { يَا مُوسَى إِمَّا أَن تلقي وَأما أَن نَكُون أول من ألْقى} ( طه: 56) أَي: صنع، وَقد مر هَذَا فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وَكَذَلِكَ يَأْتِي لفظ: ألْقى، فِي قَوْله: { فَكَذَلِك ألْقى السامري} ( طه: 78) وَفسّر هُنَاكَ أَيْضا بقوله: صنع، والمفسرون فسروا كليهمَا فِي الْإِلْقَاء وَهُوَ الرَّمْي.
يُقالُ كلُّ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أوْ فيهِ تَمْتَمَةٌ أوْ فأفَاةٌ فَهْيَ عُقْدَةٌ أَشَارَ بذلك إِلَى تَفْسِير: عقدَة، فِي قَوْله تَعَالَى: { واحلل عقدَة من لساني} ( طه: 72) وَفسّر الْعقْدَة بِمَا ذكره،.

     وَقَالَ  ابْن عَبَّاس: يُرِيد مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أطلق عَن لساني الْعقْدَة الَّتِي فِيهِ حَتَّى يفهموا كَلَامي والتمتمة التَّرَدُّد بِالتَّاءِ فِي الْكَلَام، والفأفأة التَّرَدُّد بِالْفَاءِ.
أزْرِي ظَهْرِي أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { هَارُون أخي أشدد بِهِ أزري} ( طه: 03 13) فسر الأزر بِالظّهْرِ، وَفِي التَّفْسِير: ألازر الْقُوَّة وَالظّهْر، يُقَال: أزردت فلَانا على الْأَمر، قويته عَلَيْهِ، وَكنت لَهُ فِيهِ ظهرا.
فَيَسْحَتَكُمْ: يُهْلِكَكُمْ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { لَا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بِعَذَاب} ( طه: 16) الْآيَة.
وَفسّر: ( يسحتكم) بقوله: ( يهلككم) ، وَفِي التَّفْسِير: أَي يستأصلكم، يُقَال: سحته الله وأسحته أَي: استأصله وأهلكه، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَحَفْص عَن عَاصِم بِضَم الْيَاء وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْح لِأَن فِيهِ لغتين بِمَعْنى وَاحِد.
المُثْلَى تأنِيثُ الأمْثَلِ يَقُولُ بدِينكُمْ يُقال خُذِ المُثْلَى خُذِ الأمثَل أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { ويذهبا بطريقتكم المثلى} ( طه: 36) .

     وَقَالَ : ( المثلى تَأْنِيث الأمثل) يَعْنِي: يذهب بدينكم.
وَقد أخبر الله تَعَالَى عَن فِرْعَوْن أَنه قَالَ: إِن مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام، يُريدَان أَن يخرجاكم من أَرْضكُم بسحرهما وَفسّر قَوْله ( وَيذْهب بطريقتكم المثلى) ذَهَبا بطريقتكم المثلى يَعْنِي: بدينكم، وَهَكَذَا فسره الْكسَائي أَيْضا قَوْله: يُقَال: خُذ المثلى، أَي: خُذ الطَّرِيقَة المثلى، أَي: الفضلى، وَخذ الأمثل، أَي: الْأَفْضَل، يُقَال: فلَان أمثل قومه أَي: أفضلهم.
ثُمَّ ائْتُوا صَفاً يُقالُ: هَلْ أتَيْتَ الصَّفَّ اليَوْمَ يعْني المُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: { فَأَجْمعُوا كيدكم ثمَّ ائْتُوا صفا} ( طه: 46) وَأَشَارَ بقوله يُقَال إِلَى آخِره، أَن معنى صفا مصلى ومجتمعاً.
وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة، وَعَن مقَاتل الْكَلْبِيّ: مَعْنَاهُ جمعا، حَاصِل الْمَعْنى أَن فِرْعَوْن يَقُول لِقَوْمِهِ: أَجمعُوا كيدكم أَي: مكركم وسحركم، ثمَّ ائْتُوا صفا يَعْنِي مصلى وَهُوَ مجمع النَّاس، وَحكي عَن بعض الْعَرَب الفصحاء: مَا اسْتَطَعْت أَن آتِي الصَّفّ أمس، أَي: الْمصلى.
فأوْجَسَ أضْمَرَ خَوْفاً فَذَهَبَتِ الوَاوُ منْ خِيفَةً لِكَسْرَةِ الخاءِ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { فأوجس فِي نَفسه خيفة مُوسَى} ( طه: 76) وَفسّر أوجس بقوله: أضمر.
قَوْله: ( خوفًا) أَي: لأجل الْخَوْف،.

     وَقَالَ  مقَاتل: إِنَّمَا خَافَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن صنع الْقَوْم مثل صنعه أَن يشكوا فِيهِ فَلَا يتبعوه ويشك من تَابعه فِيهِ.
قَوْله: ( فَذَهَبت الْوَاو) إِلَى آخِره، قَالَ الْكرْمَانِي: وَمثل هَذَا لَا يَلِيق بِحَال هَذَا الْكتاب أَن يذكر فِيهِ.
قلت: إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْكَلَام لِأَنَّهُ مُخَالف لما قَالَه أهل الصّرْف على مَا لَا يخفى.
فِي جُذُوعِ أيْ عَلَى جُذُوعِ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} ( طه: 17) وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن كلمة: فِي، بِمَعْنى: على، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { أم لَهُم سلّم يَسْتَمِعُون فِيهِ} ( الطّور: 83) أَي: عَلَيْهِ.
خطْبُكَ بالُكَ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَقَالَ فَمَا خَطبك يَا سامري} ( طه: 59) وَفَسرهُ بقوله: ( بالك) .
وَفِي التَّفْسِير، قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام للسامري: فَمَا خَطبك؟ أَي: فَمَا أَمرك وشأنك الَّذِي دعَاك وحملك على مَا صنعت؟ مِساسَ مَصْدَرُ ماسَّهُ مِساساً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: { فَاذْهَبْ فَإِن لَك فِي الْحَيَاة أَن تَقول لَا مساس} ( طه: 79) الْآيَة وَلم يذكر مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: مساس، مصدر ماسه يماسه مماسة ومساساً، وَالْمعْنَى: أَن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ للسامري: إذهب من بَيْننَا فَإِن لَك فِي الْحَيَاة، أَي: مَا دمت حَيا أَن تَقول: لَا مساس.
أَي: لَا أمس وَلَا أمس، فعاقبه الله فِي الدُّنْيَا بعقوبة لَا شَيْء أَشد وأوحش مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ منع من مُخَالطَة النَّاس منعا كلياً حرم عَلَيْهِم ملاقاته ومكالمته.
لَنَنْسِفَنَّهُ لَنَذْرِيَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { لنحرقنه ثمَّ لننسفنه فِي اليم نسفاً} ( طه: 79) وَفسّر: ( لننسفنه) بقوله: ( لنذرينه) من التذرية، وَفِي التَّفْسِير: أَن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَخذ الْعجل فذبحه فَسَالَ مِنْهُ الدَّم لِأَنَّهُ كَانَ قد صَار لَحْمًا ودماً ثمَّ أحرقه ثمَّ ذراه فِي اليم أَي: فِي الْبَحْر.
قاعاً يَعْلُوهُ الماءُ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { فيذرها قاعاً صفصفاً} ( طه: 601) وَفسّر القاع بِأَنَّهُ يعلوه المَاء، وَهُوَ كَذَلِك لِأَن القاع مَا يعلوه المَاء، والصفصف المستوي،.

     وَقَالَ  عبد الرَّزَّاق: عَن معمر عَن قَتَادَة: القاع الصفصف الأَرْض المستوية،.

     وَقَالَ  الْفراء: القاع مَا انبسط من الأَرْض وَيكون فِيهِ السراب نصف النَّهَار، والصفصف الأملس الَّذِي لَا نَبَات فِيهِ.
والصَّفْصَفُ المُسْتَوِي منَ الأرْضِ قد مر الْكَلَام فِيهِ، وَفِي التَّفْسِير: الصفصف المستوي كَأَنَّهَا من استوائها على صفة وَاحِدَة، وَقيل: هِيَ الَّتِي لَا أثر للجبال فِيهَا.
وَقَالَ مُجاهِدٌ أوْزاراً أثقالاً أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: { وَلَكنَّا حملنَا أوزاراً من زِينَة الْقَوْم} ( طه: 78) أَي: أثقالاً، وَهُوَ جمع وزر وَيُرَاد بِهِ الْعقُوبَة الثَّقِيلَة، سَمَّاهَا وزراً تَشْبِيها فِي ثقلهَا على المعاقب وصعوبة احتمالها بِالْحملِ الَّذِي يقْدَح الْحَامِل ويفضض ظَهره، أَو لِأَنَّهَا جَزَاء الْوزر.
وَهُوَ الْإِثْم.
منْ زِينَةِ القَوْمِ الحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَلَكنَّا حملنَا أوزاراً من زِينَة الْقَوْم} ( طه: 78) وَفسّر زِينَة الْقَوْم بقوله: الْحلِيّ الَّذِي استعاروا، أَي: اسْتعَار بَنو إِسْرَائِيل من الْحلِيّ الَّذِي هُوَ من آل فِرْعَوْن، يَعْنِي: من قومه، وأسنده أَبُو مُحَمَّد الرَّازِيّ من حَدِيث ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَفِي بعض النّسخ:.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: من زِينَة الْقَوْم إِلَى آخِره.
فَقَذَفناها فألْقَيْناها أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { فقذفناها فَكَذَلِك ألْقى السامري} ( طه: 78) وَفسّر قَوْله: ( فقذفناها) بقوله: ( فألقيناها) .

     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ: أَي: فجمعناها ودفعناها إِلَى السامري فألقاها فِي النَّار لترجع أَنْت فترى فِيهِ رَأْيك، وَفِي بعض النّسخ: فقذفتها فألقيتها.
ألْقَى صَنَعَ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { فَكَذَلِك ألْقى السامري} وَفسّر: ( ألْقى) بقوله: ( صنع) وَفِي التَّفْسِير: { فَكَذَلِك ألْقى السامري} أَي: ألْقى مَا مَعَه، مَعْنَاهُ: كَمَا ألقينا.
فَنَسِيَ مُوسى هُمْ يَقُولونَهُ أخْطَأ الرَّبَّ.
لَا يَرْجَعُ إلَيْهِمْ قَوْلاً العِجْلُ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { هَذَا إل هكم إل هـ مُوسَى فنسي أَفلا يرَوْنَ ألاَّ يرجع إِلَيْهِم قولا} ( طه: 98) قَوْله: ( هم يَقُولُونَهُ) ، أَي: السامري وَمن تبعه يَقُولُونَ: فنسي مُوسَى ربه، أَي: أَخطَأ حَيْثُ لم يُخْبِركُمْ أَن هَذَا إلهه، وَقيل: قَالُوا: فنسي مُوسَى الطَّرِيق إِلَى ربه، وَقيل: نسي مُوسَى إل هه عنْدكُمْ وَخَالفهُ فِي طَرِيق آخر.
قَوْله: ( لَا يرجع إِلَيْهِم قولا) ، يَعْنِي: لَا يكلمهم الْعجل وَلَا يُجِيبهُمْ.
هَمْساً حِسُّ الأقْدَامِ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وخشعت الْأَصْوَات للرحمن فَلَا تسمع إلاَّ همساً} ( طه: 801) وَفَسرهُ بقوله: ( حس الْأَقْدَام) ، وَكَذَا فسره الثَّعْلَبِيّ، أَي: وَطْء الْأَقْدَام ونقلها إِلَى الْمَحْشَر، وَكَذَا فسر قَتَادَة وَعِكْرِمَة، وَأَصله: الصَّوْت الْخَفي، يُقَال: هَمس فلَان لحديثه إِذا أسره وأخفاه.
حَشَرْتَني أعْماى عنْ حُجَّتي.
وقَدْ كُنْتُ بَصيراً فِي الدُّنْيا أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { قَالَ رب لم حشرتني أعمى وَقد كنت بَصيرًا} ( طه: 521) وَفَسرهُ بقوله: أَي: ( عَن حجتي) إِلَى آخِره، وَفِي التَّفْسِير، قَوْله: أعمى، قَالَ ابْن عَبَّاس: أعمى الْبَصَر،.

     وَقَالَ  مُجَاهِد: أعمى عَن الْحجَّة.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ أمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: أعْضَلُهُمْ أَي قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي معنى قَوْله تَعَالَى: { إِذْ يَقُول أمثلهم طَريقَة} ( طه: 401) أَي: أفضلهم، وَفَسرهُ الطَّبَرِيّ بقوله: أوفاهم عقلا، رَوَاهُ عَن سعيد بن جُبَير.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ هَضْماً لَا يُظْلَمُ فيُهْضَمُ مِنْ حَسَناتِهِ أَي قَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي معنى قَوْله تَعَالَى: { فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضماً} ( طه: 211) يظلم فيهضم أَي: فينقص من حَسَنَاته وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وأصل الهضم النَّقْص وَالْكَسْر، يُقَال: هضمت لَك من حَقك أَي حططت، وهضم الطَّعَام.
عِوَجاً: وادِياً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { لَا ترى فِيهَا عوجا} ( طه: 701) وَفَسرهُ بقوله: ( وَاديا) ، وَعَن ابْن عَبَّاس: العوج الأودية، وَعَن مُجَاهِد: العوج الانخفاض.
ولاَ أمْتاً رَابِيَةً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتاً} وَفسّر الأمت بالرابية، وَعَن ابْن عَبَّاس: الأمت الروابي، وَعَن مُجَاهِد: الِارْتفَاع، وَعَن ابْن زيد: الأمت التَّفَاوُت، وَعَن يمَان: الأمت الشقوق فِي الأَرْض.
سِيرَتَها حالَتَها الأولَى أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { سنعيدها سيرتها الأولى} وَفَسرهُ بقوله: ( حالتها الأولى) أَي: هيئتها الأولى، وَهِي كَمَا كَانَ عَصا، وَذَلِكَ أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، لما أَمر بإلقاء عَصَاهُ فألقاها فَصَارَت حَيَّة تسْعَى قَالَ الله تَعَالَى: { خُذْهَا وَلَا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} ( طه: 12) .
النُّهَى التُّقَى أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { إِن فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى} ( طه: 45) وَفسّر: ( النهى) بقوله: ( التقى) .
وَعَن ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ ذَوُو التقى، وَعَن الضَّحَّاك: هم الَّذين ينتهون عَمَّا حرم الله عَلَيْهِم، وَعَن قَتَادَة: هم ذَوُو الْوَرع،.

     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ: ذَوُو الْعُقُول وَاحِدهَا نهيا، سميت بذلك لِأَنَّهَا تنهي صَاحبهَا عَن القبائح والفضائح وارتكاب الْمَحْظُورَات والمحرمات.
ضَنْكاً الشَّقاءُ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَمن أعرض عَن ذكري فَإِن لَهُ معيشة ضنكاً} وَفسّر: الضنك بالشقاء، وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ الثَّعْلَبِيّ، ضنكاً ضيقا، يُقَال: منزل ضنك وعيش ضنك يَسْتَوِي فِيهِ الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْوَاحد والاثنان وَالْجمع، وَعَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الضنك عَذَاب الْقَبْر، وَعَن الْحسن: الزقوم والغسلين والضريع، وَعَن عِكْرِمَة: الْحَرَام، وَعَن الضَّحَّاك: الْكسْب الْخَبيث، وَيُقَال: الضنك مُعرب وَأَصله، التنك، وَهُوَ فِي اللُّغَة الفارسية: الضّيق.
هَوَى شَقِيَ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَمن يحلل عَلَيْهِ غَضَبي فقد هوى} ( طه: 18) وَفَسرهُ بقوله: ( شقي) ، وَقيل: هلك وتردي فِي النَّار.
المُقَدَّسِ المُبارَكِ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس طوى} ( طه: 21) ، وَفَسرهُ بقوله ( الْمُبَارك) .
طُوًى: إسْمُ الوادِي أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { الْمُقَدّس طوى} وَفَسرهُ بالوادي، وَعَن الضَّحَّاك: وَاد عميق مستدير مثل المطوى فِي استدارته، وَقيل: هُوَ اللَّيْل، يُقَال: أَتَيْتُك طوى من اللَّيْل، وَقيل: طويت عَلَيْهِ الْبركَة طياً.
بِمِلْكِنا بأمْرِنا أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { قَالُوا مَا أخلفنا موعدك بملكنا} ( طه: 78) وَفَسرهُ بقوله: ( بأمرنا) هَذَا على كسر الْمِيم وَعَلَيْهَا أَكثر الْقُرَّاء، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح فَهُوَ الْمصدر الْحَقِيقِيّ، وَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاه: بقدرتنا وسلطاننا، وَسقط هَذَا لأبي ذَر.
مَكاناً سِوًى مَنْصَفٌ بَيْنَهُمْ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { لَا نخلفه نَحن وَلَا أَنْت مَكَانا سوى} ( طه: 85) قَوْله: ( منصف بَينهم) أَي: مَكَانا بَينهم تستوي فِيهِ مسافته على الْفَرِيقَيْنِ، وقرىء بِضَم السِّين وَهَذَا أَيْضا سقط لأبي ذَر.
يَبَساً يابِساً أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { فَاضْرب لَهُم طَرِيقا فِي الْبَحْر يبساً} ( طه: 77) وَفَسرهُ بقوله: ( يَابسا) ، وَفِي التَّفْسِير: أَي يَابسا لَيْسَ فِيهِ مَاء وَلَا طين.
عَلَى قَدَرٍ عَلَى مَوْعَدٍ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { ثمَّ جِئْت على قدر يَا مُوسَى} ( طه: 04) وَفَسرهُ بقوله: على موعد على الْقدر الَّذِي قدر لَك أَنَّك تَجِيء، وَعَن عبد الرَّحْمَن ابْن كيسَان: على رَأس أَرْبَعِينَ سنة، وَهُوَ الْقدر الَّذِي يُوحى فِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاء.
لَا تَنِيا: لَا تَضْعُفَا أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وَلَا تنيا فِي ذكري إذهبا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} ( طه: 24 34) وَفَسرهُ بقوله: ( لَا تضعفا) وَهَكَذَا فسره ابْن عَبَّاس، وَعَن السّديّ: لَا تفتروا، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب: لَا تقصرا، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: لَا تهنا، وَأَصله من ونى يني ونياً، قَالَ الْجَوْهَرِي: الونى الضعْف والفتور والكلال والإعياء، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.


(بابُُ قَوْلِهِ: { واصْطَنَعَتْكَ لِنَفْسِي} (طه: 14)

أَي هَذَا بابُُ فِي قَوْله عز وَجل: { واصطنعتك لنَفْسي} أَي: اخْتَرْتُك واصطفيتك واختصصتك بالرسالة والنبوة.

[ قــ :448 ... غــ :4736 ]
- حدَّثنا الصَّلْتُ بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا مَهْدِيُّ بنُ مَيْمُونٍ حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عنْ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْتَقَى آدَمُ ومُوسَى فَقَالَ مُوسَى لآدَمَ أنْتَ الَّذِي أشْقَيْتَ النّاسَ وأخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ قَالَ لَهُ آدَمُ أنْتَ الَّذِي اصْطَفاكَ الله بِرِسالَتِهِ واصْطَفاكَ لِنَفْسِهِ وأنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَوَجَدْتَها كُتِبَ عَليَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَنِي قَالَ نَعَمْ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى: واليَمُّ البَحْرُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَنْت الَّذِي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنَفسِهِ) تفهم بِالتَّأَمُّلِ، والصلت، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الخاركي، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء: الْبَصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده.

والْحَدِيث من أَفْرَاده أَيْضا من هَذَا الْوَجْه،.

     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ أَبُو هِلَال الرَّاسِبِي عَن أبي هُرَيْرَة فَوَقفهُ، وَكَانَ كثيرا مَا يتوقى رَفعه، وَلما رَوَاهُ هدبة عَن مهْدي رَفعه مرّة ثمَّ رَجَعَ عَن رَفعه فَوَقفهُ، وَمضى هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي: بابُُ وَفَاة مُوسَى، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة ... إِلَى آخِره، وَسَيَأْتِي أَيْضا من حَدِيث أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد.
وَأخرجه مُسلم بِأَلْفَاظ: مِنْهَا: فَقَالَ مُوسَى يَا آدم أَنْت أَبونَا، أخرجتنا من الْجنَّة، مِنْهَا: قبل أَن يخلقني بِأَرْبَعِينَ سنة.
وَمِنْهَا: أَنْت الَّذِي أغويت النَّاس وأخرجتهم من الْجنَّة.
وَمِنْهَا: هَل وجدت فِيهَا؟ يَعْنِي: فِي التَّوْرَاة وَعصى آدم ربه فغوى؟ قَالَ: نعم.

قَوْله: (التقى آدم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام) ، وَفِي لفظ ابْن مرْدَوَيْه: فَلَقِيَهُ مُوسَى فَقَالَ لَهُ، وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: احْتج آدم ومُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَفِي حَدِيث عمر بن الْخطاب، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن مُوسَى قَالَ: يَا رب أرنا أَبَانَا الَّذِي أخرجنَا وَنَفسه من الْجنَّة! فَأرَاهُ آدم عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: أَنْت أَبونَا؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: أَنْت الَّذِي نفخ الله فِيك من روحه وأسجد لَك مَلَائكَته؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: فَمَا حملك على أَن أخرجتنا من الْجنَّة؟ فَقَالَ لَهُ آدم: من أَنْت؟ قَالَ: مُوسَى، قَالَ: نَبِي بني إِسْرَائِيل الَّذِي كلمك الله من غير رَسُول من خلقه؟ قَالَ: نعم، قَالَ أما وجدت أَن ذَلِك كَانَ فِي كتاب الله قبل أَن أخلق؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَفِيمَ تلومني فِي شَيْء سبق من الله فِيهِ الْقَضَاء؟ قيل: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد ذَلِك: فحج آدم مُوسَى.
فَإِن قلت: التقاؤهما فِي أَيْن كَانَ؟ أَكَانَ بالأرواح فَقَط أَو بالأرواح والأجسام؟ قلت: قَالَ الْقَابِسِيّ: الْتَقت أرواحهما فِي السَّمَاء، وَقيل: يجوز أَن يكون ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة،.

     وَقَالَ  عِيَاض: يجوز أَن يحمل على ظَاهره وأنهما اجْتمعَا بأشخاصهما، وَقد ثَبت فِي حَدِيث الْإِسْرَاء أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْتمع بالأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي السَّمَوَات وَفِي بَيت الْمُقَدّس وَصلى بهم، فَلَا يبعدان الله عز وَجل، أحياهم كَمَا أحيى الشُّهَدَاء، وَيحْتَمل أَن يكون جرى ذَلِك فِي حَيَاة مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لحَدِيث عمر: أرنا أَبَانَا ... وَقد مر الْآن.
.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: يجوز أَن يكون المُرَاد شرح حَال بِضَرْب مثل: لَو اجْتمعَا لقالا فَإِن قلت: مَا وَجه اخْتِصَاص مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِهَذَا دون غَيره من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قلت: لِأَنَّهُ أول من جَاءَ بالتكاليف.
قَوْله: (أَنْت الَّذِي أشقيت النَّاس) ؟ من الشقاوة، وَهِي ضد السَّعَادَة، وَفِي لفظ لمُسلم: يَا آدم أَنْت أَبونَا خيبتنا أَي: أوقعتنا فِي الخيبة وَهِي الحرمان والخسران، وَقد خَابَ يخيب ويخوب مَعْنَاهُ: كنت سَبَب خيبتنا، وَفِيه جَوَاز إِطْلَاق نِسْبَة الشَّيْء عَليّ من تسبب فِيهِ.
قَوْله: (من الْجنَّة) ، المُرَاد بِالْجنَّةِ الَّتِي أخرج مِنْهَا آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، جنَّة الْخلد وجنة الفردوس الَّتِي هِيَ دَار الْجَزَاء فِي الْآخِرَة، وجنة الفردوس وَغَيرهَا الَّتِي هِيَ دَار الْبَقَاء، وَهِي كَانَت مَوْجُودَة قبل آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ مَذْهَب أهل الْحق.
قَوْله: (اصطفاك الله) أَي: أخصك الله بذلك، وَيُقَال: جعلك خَالِصا صافياً عَن شَائِبَة مَا لَا يَلِيق بك، وَفِيه تلميح إِلَى قَوْله تَعَالَى: { وكلم الله مُوسَى تكليماً} (النِّسَاء: 461) قَوْله: (وَأنزل عَلَيْك التَّوْرَاة) فِيهَا تبيان كل شَيْء من الْإِخْبَار بالغيوب والقصص والحلال وَالْحرَام والمواعظ وَغير ذَلِك.
قَوْله: (فَوَجَدتهَا) ويروى: فَوَجَدته، الضَّمِير بالتأنيث والتذكير يرجع إِلَى التَّوْرَاة بالتأنيث بِاعْتِبَار اللَّفْظ، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَعْنى، وَهُوَ الْكتاب.
قَوْله: (كتب عَليّ) لَيْسَ المُرَاد أَنه ألزمهُ إِيَّاه وأوجبه عَلَيْهِ، فَلم يكن لَهُ فِي تنَاول الشَّجَرَة كسب وَاخْتِيَار، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: أَن الله أثْبته فِي أم الْكتاب قبل كَونه، وَحكم بِأَن ذَلِك كَائِن لَا محَالة لعلمه السَّابِق، فَهَل يجوز أَن يصدر عني خلاف علم الله؟ فَكيف تغفل عَن الْعلم السَّابِق وتذكر الْكسْب الَّذِي هُوَ السَّبَب وتنسى الأَصْل الَّذِي هُوَ الْقدر؟ قَوْله: (فحج آدم مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام) ، هَكَذَا الرِّوَايَة بِرَفْع آدم على الفاعلية فِي جَمِيع كتب الحَدِيث بِاتِّفَاق الناقلين والرواة والشراح، أَي: غَلبه بِالْحجَّةِ وَظهر عَلَيْهِ بهَا، ومُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَال فِي لومه إِلَى الْكسْب وآدَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَال إِلَى الْقدر، وَكِلَاهُمَا حق لَا يبطل أَحدهمَا صَاحبه وَمَتى قضي للقدر على الْكسْب أخرج إِلَى مَذْهَب الْقَدَرِيَّة، أَو للكسب على الْقدر أخرج إِلَى مَذْهَب الجبرية، وَإِنَّمَا وَقعت الْغَلَبَة لآدَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لَيْسَ لمخلوق أَن يلوم مخلوقاً فِيمَا قضى عَلَيْهِ إلاَّ أَن يَأْذَن الشَّرْع بلومه فَيكون الشَّرْع هُوَ اللائم.
الثَّانِي: أَن الْفِعْل اجْتمع فِيهِ الْقدر وَالْكَسْب، وَالتَّوْبَة تمحو أثر الْكسْب، فَلَمَّا تيب عَلَيْهِ لم يبْق إلاَّ الْقدر، وَالْقدر لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ لوم.
قَوْله: (واليم الْبَحْر) ، إِنَّمَا أورد هَذَا فِي آخر الحَدِيث إِشَارَة إِلَى تَفْسِير مَا وَقع فِي كتاب الله تَعَالَى من قَوْله: { فاقذفيه فِي اليم} (طه: 93) وَفسّر بِأَن المُرَاد من اليم هُوَ الْبَحْر،.

     وَقَالَ  الثَّعْلَبِيّ: اليم نهر النّيل، قيل: وَمَوْضِع ذكر هَذَا فِي الْبابُُ الْآتِي وَذكره هُنَا لَيْسَ بموجه.
قلت: المُرَاد باليم فِي الْبابُُ الْآتِي هُوَ بَحر القلزم وَالَّذِي ذكره هُنَا هُوَ النّيل أطلق عَلَيْهِ الْبَحْر لتبحره أَيَّام الزِّيَادَة، وَالله أعلم.