فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: علامة الإيمان حب الأنصار

( بابُُ عَلاَمَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الانْصَارِ)

أَي: هَذَا بابُُ، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة وَالتَّقْدِير: بابُُ فِيهِ عَلامَة الْإِيمَان حب الْأَنْصَار.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ أَن هَذَا الْبابُُ دَاخل فِي نفس الْأَمر فِي الْبابُُ الأول، لِأَن حب الْأَنْصَار دَاخل فِي قَوْله: ( وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إلاَّ لله) ، فَإِن قلت: فَمَا فَائِدَة التَّخْصِيص؟ قلت: الاهتمام بشأنهم والعناية بتخصيصهم فِي إفرادهم بِالذكر.



[ قــ :17 ... غــ :17 ]
- حدّثنا أبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ أخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَالَ جَبرٍ سَمْعتُ أنَساً عَن النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ وآيَةُ النِّفَاق بُغْضُ الأَنْصارِ.

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

( بَيَان رِجَاله) وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، هِشَام بن عبد الْملك الْبَصْرِيّ، مولى باهلة، سمع: مَالِكًا وَشعْبَة والحمادين وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَآخَرين، روى عَنهُ: أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَمُحَمّد بن يحيى وَمُحَمّد بن مُسلم بن وارة.
قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: متقن،.

     وَقَالَ  أَبُو زرْعَة: اِدَّرَكَ الْوَلِيد نصف الْإِسْلَام وَكَانَ إِمَامًا فِي زَمَانه جَلِيلًا عِنْد النَّاس،.

     وَقَالَ  أَحْمد بن عبد الله: هُوَ ثِقَة فِي الحَدِيث يروي عَن سبعين امْرَأَة، وَكَانَت الرحلة بعد أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ إِلَيْهِ، ولد سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَمَات سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، روى عَنهُ: البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد، وروى الْبَاقُونَ عَن رجل عَنهُ.
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج.
الثَّالِث: عبد الله بن عبد الله بن جبر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء، ابْن عتِيك الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، أهل الْمَدِينَة يَقُولُونَ: جَابر والعراقيون: جبر، سمع: عمر وأنساً، روى عَنهُ: مَالك ومسعر وَشعْبَة، روى لَهُ: البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ.
الرَّابِع: أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ.

( بَيَان الْأَنْسَاب) : الطَّيَالِسِيّ نِسْبَة إِلَى بيع الطيالسة، وَهُوَ جمع طيلسان، بِفَتْح اللَّام وَقيل بِكَسْرِهَا أَيْضا، وَالْفَتْح أَعلَى، وَالْهَاء فِي الْجمع للعجمة، لِأَنَّهُ فَارسي مُعرب قَالَ الْأَصْمَعِي: أَصله تالشان، والأنصاري، لَيْسَ بِنِسْبَة لأَب وَلَا لأم، بل الْأَنْصَار قبيل عَظِيم من الأزد سميت بذلك لنصرتهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالنِّسْبَة إِنَّمَا تكون إِلَى الْوَاحِد، وَوَاحِد الْأَنْصَار نَاصِر، مثل: أَصْحَاب وَصَاحب، وَكَانَ الْقيَاس فِي النِّسْبَة إِلَى الْأَنْصَار ناصري، فَقَالُوا: أَنْصَارِي، كَأَنَّهُمْ جعلُوا الْأَنْصَار اسْم الْمَعْنى.
وَالْمَدَنِي: نِسْبَة إِلَى مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَى ربيع: ربعي، وَفِي جذيمة: جذمي، وَقد تنْسب هَذِه النِّسْبَة إِلَى غَيرهَا من المدن.
قَالَ الرشاطي: قَالُوا فِي الرجل وَالثَّوْب إِذا نسب إِلَى الْمَدِينَة مدنِي، وَالطير وَنَحْوه: مديني؛ وَفِي ( مُخْتَصر الْعين) يُقَال: رجل مدنِي، وحمام مديني.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: إِذا نسبت إِلَى مَدِينَة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام، قلت: مدنِي، وَإِلَى مَدِينَة مَنْصُور قلت: مديني وَإِلَى مَدَائِن كسْرَى قلت: مدائني، للْفرق بَين النّسَب لِئَلَّا تختلط.

( بَيَان لطائف أسناده) : وَمِنْهَا: أَن هَذَا الْإِسْنَاد من رباعيات البُخَارِيّ، فَوَقع عَالِيا، وَوَقع لمُسلم خماسياً.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِالْجمعِ والإفراد وَالسَّمَاع وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رَاوِيا وَافق اسْمه اسْم أَبِيه.

( بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا، وَأخرجه أَيْضا فِي فَضَائِل الْأَنْصَار عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة بِهِ، وَأخرجه مُسلم، عَن ابْن الْمثنى، عَن عبد الرَّحْمَن ابْن مهْدي، عَن شُعْبَة بِهِ.
وَلَفظ مُسلم: ( آيَة الْمُنَافِق وَآيَة الْمُؤمن) .
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا.
( بَيَان اللُّغَات) قَوْله: ( آيَة الْإِيمَان) أَي: عَلامَة الْإِيمَان، واصلها: أوية، بِالتَّحْرِيكِ، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: مَوضِع الْعين من الْآيَة وَاو، لِأَن مَا كَانَ مَوضِع الْعين واواً وَمَوْضِع اللَّام يَاء أَكثر مِمَّا مَوضِع الْعين وَاللَّام ياآن، مثل: شويث أَكثر من: جبيت، وَتَكون النِّسْبَة إِلَيْهِ: أوي.
قَالَ الْفراء: هِيَ من الْفِعْل: فاعلة وَإِنَّمَا ذهبت مِنْهُ اللاَّم، وَلَو جَاءَت تَامَّة لجاءت: آيية، وَلكنهَا خففت، وَجمع الْآيَة: آي وأياي وآيات.
وَيُقَال فِي النِّسْبَة إِلَى آيَة: آيي، وَالْمَشْهُور أَن عينهَا يَاء، ووزنها فاعة.
لِأَن الأَصْل: آيية، فحذفوا الْيَاء الثَّانِيَة الَّتِي هِيَ لَام، ثمَّ فتحُوا الَّتِي هِيَ عين لأجل تَاء التَّأْنِيث.
قَوْله: ( الْأَنْصَار) جمع نَاصِر، كالأصحاب جمع صَاحب، وَيُقَال جمع نصير: كشريف وأشراف، وَالْأَنْصَار سموا بِهِ لنصرتهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ولد الْأَوْس والخزرج ابْنا حَارِثَة أَو ثَعْلَبَة العنقاء، لطول عُنُقه، ابْن عَمْرو بن مزيقيا بن عَامر بن مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف بن امرىء الْقَيْس البطريق بن ثَعْلَبَة البهلول بن مَازِن، وَهُوَ جماع غَسَّان بن الأزد، واسْمه دراء، على وزن فعال، ابْن الْغَوْث بن نبت يعرب بن يقطن وَهُوَ قحطان، وَإِلَى قحطان جماع الْيمن، وَهُوَ أَبُو الْيمن كلهَا.
وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى إِسْمَاعِيل فَيَقُول: قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إِسْمَاعِيل.
هَذَا قَول الْكَلْبِيّ، وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى غَيره، فَيَقُول: قحطان بن فالخ بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام، فعلى الأول الْعَرَب كلهَا من ولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وعَلى الثَّانِي من ولد إِسْمَاعِيل وقحطان،.

     وَقَالَ  حسان بن ثَابت.

( أما سَأَلت فَإنَّا معشرٌ نجبٌ الأزد نسبتنا، والماءُ غَسَّان)

وغسان: مَاء كَانَ شرباً لولد مَازِن بن الأزد، وَكَانَ الْأَنْصَار الَّذين هم الْأَوْس والخزرج يعْرفُونَ قبل ذَلِك: بإبنيْ قَيْلة، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهِي الام الَّتِي تجمع القبيلتين، فسماهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْأَنْصَار، فَصَارَ ذَلِك علما عَلَيْهِم، وَأطلق أَيْضا على أَوْلَادهم وحلفائهم ومواليهم.
وَيُقَال: سماهم الله تَعَالَى بذلك فَقَالَ: { وَالَّذين آووا ونصروا أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} ( الْأَنْفَال: 74) .
قَوْله: ( النِّفَاق) هُوَ إِظْهَار الْإِيمَان وإبطان الْكفْر،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَنْبَارِي: فِي الاعتلال فِي تَسْمِيَة الْمُنَافِق منافقاً ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه سمي بِهِ لِأَنَّهُ يستر كفره ويغيبه، فَشبه بِالَّذِي يدْخل النفق، وَهُوَ: السرب، يسْتَتر فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنه نَافق كاليربوع، فَشبه بِهِ لِأَنَّهُ يخرج من الْإِيمَان من غير الْوَجْه الَّذِي دخل فِيهِ.
وَالثَّالِث: أَنه إِنَّمَا سمي بِهِ لإظهاره غير مَا يضمر، تَشْبِيها باليربوع، فَكَذَلِك الْمُنَافِق ظَاهره إِيمَان وباطنه كفر.
ونافق اليربوع أَخذ فِي نافقائه، ونفق اليربوع أَي استخرجه، والنافقاء إِحْدَى حجرَة اليربوع، يكتمها وَيظْهر غَيره، وَهُوَ مَوضِع يرققه، فَإِذا أَتَى من قبل القاصعاء، ضرب النافقاء بِرَأْسِهِ فانتفق أَي: خرج.
ثمَّ أعلم أَن النِّفَاق هُوَ، بِكَسْر النُّون، وَأما النِّفَاق، بِالْفَتْح، فَهُوَ من: نفق البيع نفَاقًا إِي: راج، ونفقت الدَّابَّة نفوقاً أَي: مَاتَت، والنفاق بِالْكَسْرِ أَيْضا جمع النَّفَقَة من الدَّرَاهِم وَغَيرهَا، مِثَال ثَمَرَة وثمار، ونفِقت نِفاق الْقَوْم بِالْكَسْرِ ينْفق نفقاً بِالتَّحْرِيكِ، أَي: فنيت، وَأنْفق الرجل مَاله وانفق الْقَوْم نفقت سوقهم،.

     وَقَالَ  تَعَالَى: { خشيَة الانفاق} ( الْإِسْرَاء: 100) أَي: خشيَة الفناء والنفاد،.

     وَقَالَ  قَتَادَة: أَي خشيَة إِنْفَاقه.
.

     وَقَالَ  الصغاني: التَّرْكِيب يدل على انْقِطَاع الشَّيْء وذهابه، وعَلى إخفاء شَيْء وإغماضه.

( بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله: ( آيَة الْإِيمَان) كَلَام إضافي مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره قَوْله: ( حب الْأَنْصَار) ، وَمثل هَذِه تسمى قَضِيَّة ثنائية، وَأهل الْمَعْقُول يشترطون الرابطة وَيَقُولُونَ: التَّقْدِير فِي مثلهَا آيَة الْإِيمَان هِيَ حب الْأَنْصَار، كَمَا يقدرُونَ فِي نَحْو: زيد قَائِم زيد: هُوَ قَائِم، ويسمونها: قَضِيَّة ثلاثية، وَقد ضبط أَبُو الْبَقَاء العكبري: إِنَّه الْإِيمَان حب الْأَنْصَار، بِهَمْزَة مَكْسُورَة، وَنون مُشَدّدَة، وهاء الضَّمِير، وبرفع الْإِيمَان فاعربه، فَقَالَ: إِن للتَّأْكِيد، وَالْهَاء ضمير الشان، وَالْإِيمَان مُبْتَدأ، وَمَا بعده خَبره، وَالتَّقْدِير: إِن الشان الْإِيمَان حب الْأَنْصَار، وَهَذَا مُخَالف لجَمِيع الرِّوَايَات الَّتِي وَقعت فِي الصِّحَاح وَالسّنَن وَالْمَسَانِيد، وَمَا أقربه أَن يكون تصحيفاً قَوْله: ( وَآيَة النِّفَاق) أَيْضا: كَلَام إضافي مُبْتَدأ، وَقَوله: ( بغض الْأَنْصَار) خَبره.

( بَيَان الْمعَانِي) فِيهِ مَا قَالَ أهل الْمعَانِي من: إِن الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر إِذا كَانَا معرفتين تفِيد الْحصْر، وَلَكِن هَذَا لَيْسَ بحصر حَقِيقِيّ، بل هُوَ حصر ادعائي تَعْظِيمًا لحب الْأَنْصَار، كَانَ الدَّعْوَى أَنه؛ لَا عَلامَة لإيمان إلاَّ حبهم، وَلَيْسَ حبهم إلاَّ علامته، وَيُؤَيِّدهُ مَا قد جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم: ( آيَة الْمُؤمن من حب الْأَنْصَار) ، بِتَقْدِيم الْآيَة ( وَحب الْأَنْصَار آيَة الْإِيمَان) بِتَقْدِيم الْحبّ.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ حب الْأَنْصَار آيَة الْإِيمَان فبغضهم آيَة عَدمه، لِأَن حكم نقيض الشَّيْء نقيض حكم الشَّيْء، فَمَا الْفَائِدَة فِي ذكر ( آيَة النِّفَاق بغض الْأَنْصَار) ؟ قلت: هَذَا التَّقْرِير مَمْنُوع، وَلَئِن سلمنَا فالفائدة فِي ذكره التَّصْرِيح بِهِ والتأكيد عَلَيْهِ، وَالْمقَام يَقْتَضِي ذَلِك، لِأَن الْمَقْصُود من الحَدِيث الْحَث على حب الْأَنْصَار وَبَيَان فَضلهمْ لما كَانَ مِنْهُم من إعزاز الدّين وبذل الْأَمْوَال والأنفس، والإيثار على أنفسهم، والإيواء والنصر وَغير ذَلِك، قَالُوا: وَهَذَا جَار فِي أَعْيَان الصَّحَابَة: كالخلفاء وَبَقِيَّة الْعشْرَة والمهاجرين، بل فِي كل الصَّحَابَة، إِذْ كل وَاحِد مِنْهُم لَهُ سَابِقَة وسالفة وغناء فِي الدّين، وأثرحسن فِيهِ، فحبهم لذَلِك الْمَعْنى مَحْض الْإِيمَان وبغضهم مَحْض النِّفَاق، وَيدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ مَرْفُوعا فِي فضل أَصْحَابه كلهم: ( من أحبهم فبحبي أحبهم وَمن أبْغضهُم فببغضي أبْغضهُم) .
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: وَأما من أبْغض، وَالْعِيَاذ بِاللَّه، أحدا مِنْهُم، من غير تِلْكَ الْجِهَة، لأمر طَار من حدث وَقع لمُخَالفَة غَرَض، أَو لضَرَر وَنَحْوه، لم يصر بذلك منافقاً وَلَا كَافِرًا، فقد وَقع بَينهم حروب ومخالفات وَمَعَ ذَلِك لم يحكم بَعضهم على بعض بالنفاق، وَإِنَّمَا كَانَ حَالهم فِي ذَلِك حَال الْمُجْتَهدين فِي الْأَحْكَام، فإمَّا أَن يُقَال: كلهم مُصِيب، أَو الْمُصِيب وَاحِد والمخطىء مَعْذُور مَعَ أَنه مُخَاطب بِمَا يرَاهُ ويظنه، فَمن وَقع لَهُ بغض فِي أحدٍ مِنْهُم، وَالْعِيَاذ بِاللَّه، لشَيْء من ذَلِك، فَهُوَ عاصٍ تجب عَلَيْهِ التَّوْبَة ومجاهدة نَفسه بِذكر سوابقهم وفضائلهم وَمَا لَهُم على كل من بعدهمْ من الْحُقُوق، إِذْ لم يصل أحد من بعدهمْ لشَيْء من الدّين وَالدُّنْيَا إلاَّ بهم وبسببهم، قَالَ الله تَعَالَى: { وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ} ( الْحَشْر: 10) الْآيَة، وَقد أجَاب بَعضهم عَن الْحصْر الْمَذْكُور بِأَن الْعَلامَة كالخاصة تطرد وَلَا تنعكس، ثمَّ قَالَ: وَإِن أَخذ من طَرِيق الْمَفْهُوم، فَهُوَ مَفْهُوم لقب لَا عِبْرَة بِهِ.
قلت: هَذَا الْحصْر يُفِيد حصر الْمُبْتَدَأ على الْخَبَر، ويفيد حصر الْخَبَر على الْمُبْتَدَأ، وَهُوَ نَظِير قَوْلك: الضاحك الْكَاتِب، فَإِن مَعْنَاهُ حصر الضاحك على الْكَاتِب، وَحصر الْكَاتِب على الضاحك، وَكَيف يَدعِي فِيهِ الاطراد دون الانعكاس، فَإِن آيَة الْإِيمَان كَمَا هِيَ محصورة على حب الْأَنْصَار كَذَلِك حب الْأَنْصَار مَحْصُور على آيَة الْإِيمَان بِمُقْتَضى هَذَا الْحصْر، وَلَكِن قد قُلْنَا: إِن هَذَا حصر ادعائي، فَلَا يلْزم مِنْهُ الْمَحْذُور.

( الأسئلة والأجوبة) مِنْهَا مَا قيل: الْأَنْصَار جمع قلَّة، فَلَا يكون لما فَوق الْعشْرَة لكِنهمْ كَانُوا أَضْعَاف الآلاف؟ وَأجِيب: بِأَن الْقلَّة وَالْكَثْرَة إِنَّمَا تعتبران فِي نكرات الجموع، وَأما فِي المعارف فَلَا فرق بَينهمَا.
وَمِنْهَا مَا قيل: الْمُطَابقَة تَقْتَضِي أَن يُقَابل الْإِيمَان بالْكفْر، بِأَن يُقَال: آيَة الْكفْر كَذَا، فَلم عدل عَنهُ؟ وَأجِيب: بِأَن الْبَحْث فِي الَّذين ظَاهِرهمْ الْإِيمَان، وَهَذَا الْبَيَان مَا يتَمَيَّز بِهِ الْمُؤمن الظَّاهِرِيّ عَن الْمُؤمن الْحَقِيقِيّ، فَلَو قيل: آيَة الْكفْر بغضهم، لَا يَصح، إِذْ هُوَ لَيْسَ بِكَافِر ظَاهرا.
وَمِنْهَا مَا قيل: هَل يَقْتَضِي ظَاهر الحَدِيث أَن من لم يُحِبهُمْ لَا يكون مُؤمنا؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي إِذْ لَا يلْزم من عدم الْعَلامَة عدم مَا لَهُ الْعَلامَة، أَو المُرَاد: كَمَال الْإِيمَان.
وَمِنْهَا مَا قيل: هَل يلْزم مِنْهُ أَن من أبْغضهُم يكون منافقاً، وَإِن كَانَ مُصدقا بِقَلْبِه؟ وَأجِيب: بِأَن الْمَقْصُود بغضهم من جِهَة أَنهم أنصار لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يُمكن اجتماعه مَعَ التَّصْدِيق لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.




( بابُُ)

كَذَا وَقع: بابُُ، فِي كل النّسخ، وغالب الرِّوَايَات بِلَا تَرْجَمَة، وَسقط عِنْد الْأصيلِيّ بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْوَجْه على عَدمه هُوَ: أَن الحَدِيث الَّذِي فِيهِ من جملَة التَّرْجَمَة الَّتِي قبله؛ وعَلى وجوده هُوَ: أَنه لما ذكر الْأَنْصَار فِي الْبابُُ الَّذِي قبله أَشَارَ فِي هَذَا الْبابُُ إِلَى ابْتِدَاء السَّبَب فِي تلقيبهم بالأنصار، لِأَن أول ذَلِك كَانَ لَيْلَة الْعقبَة، لما توافقوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد عقبَة منى فِي الْمَوْسِم، وَلِأَن الْأَبْوَاب الْمَاضِيَة كلهَا فِي أُمُور الدّين، وَمن جُمْلَتهَا كَانَ حب الْأَنْصَار، والنقباء كَانُوا مِنْهُم، ولمبايعتهم أثر عَظِيم فِي إعلاء كلمة الدّين، فَلَا جرم ذكرهم عقيب الْأَنْصَار، وَلما لم يكن لَهُ تَرْجَمَة على الْخُصُوص، وَكَانَ فِيهِ تعلق بِمَا قبله، فصل بَينهمَا بقوله: بابُُ، كَمَا يفعل بِمثل هَذَا فِي مصنفات المصنفين بقَوْلهمْ: فصل كَذَا مُجَردا.
فَإِن قلت: أهوَ مُعرب أم لَا؟ قلت: كَيفَ يكون معرباً، وَالْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بالتركيب، وَإِنَّمَا حكمه حكم الْأَسَامِي الَّتِي تعد بِلَا تركيب بَعْضهَا بِبَعْض.
فَافْهَم.

[ قــ :18 ... غــ :18 ]
- حدّثنا أبُو اليَمَان قَالَ أخبْرَنَا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْرِيّ قَالَ أخْبَرَنِي أبُو إدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بِنُ عبدِ اللَّهِ أنْ عُبادَةَ بنَ الصَّامِتِ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْراً وهُو أحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وحَوْلَهُ عِصابَةٌ مِنْ أصْحَابِهِ بايِعُونِي على أَن لاَ تُشْرِكُوا باللَّهِ شَيْئاً ولاَ تَسْرِقوا لاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتلُوا أوْلاَدَكُمْ وَلاَ تَأتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْترُونَهُ بَيْنَ أيْدِيكُمْ وأرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فمنْ وَفَى مِنْكُمْ فأجْرُهُ على اللَّهِ وَمَنْ أَصابَ مِن ذلكَ شَيْئاً فَعُوقِبَ فِي الدُّنيْا فَهُوَ كفَّارَةٌ لَهُ وَمنْ أصابَ مِنْ ذلكَ شَيْئاً ثمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إِن شاءَ عَفَا عَنْه وَإِن شاءَ عَاقَبَهُ فَبَايَعْناهُ على ذلكَ..
وَجه تَخْصِيص الذّكر بِهَذَا الحَدِيث هُنَا، أَن الانصار هم المبتدئون بالبيعة على إعلاء تَوْحِيد الله وشريعته حَتَّى يموتوا على ذَلِك، فحبهم عَلامَة الْإِيمَان مجازاة لَهُم على حبهم من هَاجر إِلَيْهِم ومواساتهم لَهُم فِي أَمْوَالهم، كَمَا وَصفهم الله تَعَالَى، واتباعاً لحب الله لَهُم قَالَ الله تَعَالَى: { قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} ( آل عمرَان: 31) وَكَانَ الْأَنْصَار مِمَّن تبعه أَولا، فَوَجَبَ لَهُم محبَّة الله، وَمن أحب الله وَجب على الْعباد حبه.

( بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة.
الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي.
الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْقرشِي.
الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: أَبُو إِدْرِيس، عَائِذ الله بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بن عبد الله بن عمر الْخَولَانِيّ الدِّمَشْقِي، روى عَن: عبد الله بن مَسْعُود وَعَن معَاذ على الْأَصَح، وَسمع: عبَادَة بن الصَّامِت وَأَبا الدَّرْدَاء وخلقاً كثيرا، ولد يَوْم حنين،.

     وَقَالَ  ابْن مَيْمُونَة ولاه عبد الْملك الْقَضَاء بِدِمَشْق، وَكَانَ من عباد الشَّام وقرائهم، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الْخَامِس: عبَادَة، بِضَم الْعين، ابْن الصَّامِت بن قيس بن أحرم بن فهر بن ثَعْلَبَة بن غنم وَهُوَ قوقل بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن الْخَزْرَج الْوَلِيد الْأنْصَارِيّ الخزرجي، شهد الْعقبَة الأولى وَالثَّانيَِة وبدراً وأُحداً وبيعة الرضْوَان والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَأحد وَثَمَانُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على سِتَّة أَحَادِيث، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين، وَمُسلم بحديثين، وَهُوَ أول من ولي قَضَاء فلسطين، وَكَانَ طَويلا جسيماً جميلاً فَاضلا، توفّي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ، وَفِي ( الِاسْتِيعَاب) : وَجهه عمر رَضِي الله عَنهُ، إِلَى الشَّام قَاضِيا ومعلماً، فَأَقَامَ بحمص، ثمَّ انْتقل إِلَى فلسطين، وَمَات بهَا وَدفن بِبَيْت الْمُقَدّس، وقبره بهَا مَعْرُوف، وَقيل: توفّي بالرملة.
وَاعْلَم أَن عبَادَة بن الصَّامِت فَرد فِي الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم، وَفِيهِمْ عبَادَة بِدُونِ ابْن الصَّامِت اثْنَي عشر نفسا.

( بَيَان الْأَنْسَاب) الْخَولَانِيّ، فِي قبائل، حكى الْهَمدَانِي فِي كتاب ( الأكليل) قَالَ: خولان بن عَمْرو بن الحاف بن قضاعة، وخولان بن عَمْرو بن مَالك بن الْحَارِث بن مرّة بن ادد قَالَ: وخولان حُضُور، وخولان ردع هُوَ ابْن قحطان.
وَفِي كتاب ( المعارف) : خولان بن سعد بن مذْحج، وَأَبُو إِدْرِيس من خولان ابْن عَمْرو بن مَالك بن الْحَارِث بن مرّة بن ادد، وَكَذَلِكَ مِنْهُم أَبُو مُسلم الْخَولَانِيّ واسْمه عبد الرَّحْمَن بن مشْكم، وخولان فعلان من: خَال يخول، يُقَال مِنْهُ: فلَان خائل إِذا كَانَ حسن الْقيام على المَال والخزرجي نِسْبَة إِلَى الْخَزْرَج، وَهُوَ أَخ الْأَوْس،.

     وَقَالَ  ابْن دُرَيْد الْخَزْرَج الرّيح العاصف.

( بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا: أَن الأسناد كُله شَامِيُّونَ.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة، وَقد مر الْكَلَام بَين: حَدثنَا وَأخْبرنَا.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة القَاضِي عَن القَاضِي، وهما: أَبُو إِدْرِيس وَعبادَة بن الصَّامِت.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة من رأى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، عَمَّن رأى النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، وَذَلِكَ لِأَن أَبَا إِدْرِيس من حَيْثُ الرِّوَايَة تَابِعِيّ كَبِير، وَمَعَ هَذَا قد ذكر فِي الصَّحَابَة لِأَن لَهُ رِوَايَة، وَأَبوهُ عبد الله بن عَمْرو الْخَولَانِيّ صَحَابِيّ.

( بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ فِي خَمْسَة مَوَاضِع هُنَا، وَفِي الْمَغَازِي وَالْأَحْكَام عَن أبي الْيَمَان عَن شُعْبَة، وَفِي وُفُود الْأَنْصَار عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن يَعْقُوب عَن أبي أخي الزُّهْرِيّ، وَعَن عَليّ عَن ابْن عُيَيْنَة قَالَ البُخَارِيّ عَقِيبه: وَتَابعه عبد الرَّزَّاق عَن معمر، وَفِي الْحُدُود عَن ابْن يُوسُف عَن معمر، وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن يحيى بن يحيى وَابْن بكر النَّاقِد وَإِسْحَاق بن نمير عَن ابْن عُيَيْنَة وَعَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر كلهم عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ مثل إِحْدَى رِوَايَات البُخَارِيّ، وَمُسلم قَالَ: ( كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مجْلِس فَقَالَ: تُبَايِعُونِي على أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ) ، وَأخرجه النَّسَائِيّ، وَلَفظه قَالَ: ( بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة فِي رَهْط، فَقَالَ أُبَايِعكُم على أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا، وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تشْربُوا وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَان تفترونه بَين أَيْدِيكُم وأرجلكم، وَلَا تعصوني فِي مَعْرُوف، فَمن وفى مِنْكُم فَأَجره على الله، وَمن أصَاب من ذَلِك شَيْئا فَأخذ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ وطهور، وَمن ستره الله فَذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، إِن شَاءَ عذبه وَإِن شَاءَ غفر لَهُ) .
وَله فِي الْأُخْرَى نَحْو رِوَايَة التِّرْمِذِيّ.

( بَيَان اللُّغَات) قَوْله: ( وَكَانَ شهد) أَي: حضر، وأصل الشُّهُود الْحُضُور، يُقَال: شهده شُهُودًا، أَي: حَضَره وَهُوَ من بابُُ: علم يعلم، وَجَاء شهد بالشَّيْء، بِضَم الْهَاء، يشْهد بِهِ من الشَّهَادَة، قَالَ فِي ( الْعبابُ) هَذِه لُغَة فِي شهد يشْهد.
وَقَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ { وَمَا شَهِدنَا إلاَّ بِمَا علمنَا} ( يُوسُف: 81) بِضَم الْهَاء، وَقوم شُهُود أَي: حُضُور، وَهُوَ فِي الأَصْل مصدر كَمَا ذكرنَا.
وَشهد لَهُ بِكَذَا شَهَادَة.
أَي: أدّى مَا عِنْده من الشَّهَادَة، وَشهد الرجل على كَذَا شَهَادَة، وَهُوَ خبر قَاطع.
قَوْله: ( بَدْرًا) وَهُوَ مَوضِع الْغَزْوَة الْكُبْرَى الْعُظْمَى لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يذكر وَيُؤَنث، مَاء مَعْرُوف على نَحْو أَرْبَعَة مراحل من الْمَدِينَة، وَقد كَانَ لرجل يدعى بَدْرًا، فسميت باسمه.
قلت: بدر اسْم بِئْر حفرهَا رجل من بني النجار، اسْمه بدر، وَفِي ( الْعبابُ) : فَمن ذكَّر قَالَ: هُوَ اسْم قليب، وَمن أنثَّهُ قَالَ: هُوَ اسْم بِئْر،.

     وَقَالَ  الشّعبِيّ: بدر بِئْر كَانَت لرجل سمي بَدْرًا، أَو قَالَ أهل الْحجاز: هُوَ بدر بن قُرَيْش بن الْحَارِث بن يخلد بن النَّضر،.

     وَقَالَ  ابْن الْكَلْبِيّ: هُوَ رجل من جُهَيْنَة.
قَوْله: ( أحد النُّقَبَاء) جمع: نقيب، وَهُوَ النَّاظر على الْقَوْم وضمينهم وعريفهم، وَقد نقب على قومه ينقب نقابة، مِثَال: كتب يكْتب كِتَابَة، إِذا صَار نَقِيبًا وَهُوَ: العريف، قَالَ الْفراء: إِذا أردْت أَنه لم يكن نَقِيبًا بِفعل، قلت: نقب نقابة، بِالضَّمِّ؛ نقابة، بِالْفَتْح، ونقب، بِالْكَسْرِ لُغَة؛ قَالَ سِيبَوَيْهٍ: النقابة، بِالْكَسْرِ: اسْم، وبالفتح: الْمصدر، مثل الْولَايَة وَالْولَايَة.
قَوْله: ( لَيْلَة الْعقبَة) أَي: الْعقبَة الَّتِي تنْسب إِلَيْهَا جَمْرَة الْعقبَة الَّتِي بمنى، وَعقبَة الْجَبَل مَعْرُوفَة وَهُوَ الْموضع الْمُرْتَفع العالي مِنْهُ، وَفِي ( الْعبابُ) : التَّرْكِيب يدل على ارْتِفَاع وَشدَّة وصعوبة.
قَوْله: ( وَحَوله) يُقَال: حوله وحواله وحواليه وحوليه، بِفَتْح اللَّام فِي كلهَا، أَي: يحيطون بِهِ.
قَوْله: ( عِصَابَة) ، بِكَسْر الْعين، وَهِي الْجَمَاعَة من النَّاس لَا وَاحِد لَهَا، وَهُوَ مَا بَين الْعشْرَة إِلَى الْأَرْبَعين وأُخذ إِمَّا من العصب الَّذِي بِمَعْنى الشدَّة، كَأَنَّهُمْ يشد بَعضهم بَعْضًا، وَمِنْه الْعِصَابَة أَي الْخِرْقَة تشد على الْجَبْهَة، وَمِنْه العصب لِأَنَّهُ يشد الْأَعْضَاء بِمَعْنى الْإِحَاطَة، يُقَال: عصب فلَان بفلان إِذا أحَاط بِهِ.
قَوْله: ( بايعوني) من الْمُبَايعَة، والمبايعة على الْإِسْلَام عبارَة عَن المعاقدة والمعاهدة عَلَيْهِ، سميت بذلك تَشْبِيها بالمعاوضة الْمَالِيَّة.
كَأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يَبِيع مَا عِنْده من صَاحبه، فَمن طرف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعد الثَّوَاب وَمن طرفهم الْتِزَام الطَّاعَة؛ وَقد تعرف بِأَنَّهَا عقد الإِمَام الْعَهْد بِمَا يَأْمر النَّاس بِهِ، وَفِي بابُُ وُفُود الْأَنْصَار: تَعَالَوْا بايعوني.
قَوْله: ( لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا) أَي: وحدوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا هُوَ أصل الْإِيمَان وأساس الْإِسْلَام، فَلذَلِك قدمه على أخوته.
قَوْله: ( شَيْئا) عَام لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق النَّهْي لِأَنَّهُ كالنفي، قَوْله: ( بِبُهْتَان) الْبُهْتَان، بِالضَّمِّ: الْكَذِب الَّذِي يبهت سامعه، أَي يدهشه لفظاعته، يُقَال: بَهته بهتاناً إِذا كذب عَلَيْهِ بِمَا يبهته من شدَّة نكره، وَزعم الْبنانِيّ أَن أَبَا زيد قَالَ: بَهته يبهته بهتاناً: رَمَاه فِي وَجهه، أَو من وَرَائه بِمَا لم يكن، والبهَّات الَّذِي يعيب النَّاس بِمَا لم يَفْعَلُوا،.

     وَقَالَ  يَعْقُوب وَالْكسَائِيّ: هُوَ الْكَذِب.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( الْعين) : البهت استقبالك بِأَمْر تقذفه بِهِ وَهُوَ مِنْهُ بَرِيء لايعلمه، وَالِاسْم: الْبُهْتَان.
والبهت أَيْضا: الْحيرَة،.

     وَقَالَ  الزّجاج وقطرب: بهت الرجل انْقَطع وتحير.
وَبِهَذَا الْمَعْنى بهت وبهت.
قَالَ: والبهتان الْكَذِب الَّذِي يتحير من عظمه وشأنه، وَقد بَهته إِذا كذب عَلَيْهِ؛ زَاد قطرب: بهاتة وبهتا، وَفِي ( الْمُحكم) : باهته استقلبه بِأَمْر يقذفه بِهِ وَهُوَ مِنْهُ بَرِيء لَا يُعلمهُ، والبهيتة: الْبَاطِل الَّذِي يتحير من بُطْلَانه، والبهوت: المباهت، وَالْجمع: بهت وبهوت، وَعِنْدِي أَن بهوتاً جمع باهت لَا جمع بهوت، وَقِرَاءَة السَّبع { فبهت الَّذِي كفر} ( يُوسُف: 58) وَقِرَاءَة ابْن حَيْوَة: فبهت، بِضَم الْهَاء، لُغَة فِي بهت.
.

     وَقَالَ  ابْن جني: وَقد يجوز أَن يكون بهت بِالْفَتْح لُغَة فِي بهت،.

     وَقَالَ  الْأَخْفَش: قِرَاءَة بهت كدهش وحزن، قَالَ: وبهت، بِالضَّمِّ أَكثر من بهت بِالْكَسْرِ، يَعْنِي أَن الضمة تكون للْمُبَالَغَة.
وَفِي ( الْمُنْتَهى) لأبي الْمَعَالِي: بَهته يبهته بهتاً إِذا أَخذه بَغْتَة، وبهته بهتاً وبهتاناً وبهتا فَهُوَ بهاة إِذا قَالَ عَلَيْهِ مَا لم يَفْعَله مُوَاجهَة، وَهُوَ مبهوت، والبهت لَا يكون إلاَّ مُوَاجهَة بِالْكَذِبِ على الْإِنْسَان، وَأما قَول أبي النَّجْم:
( سبى الحماة وابهتوا عَلَيْهَا)

فإنَّ على، مقحمة، وَإِنَّمَا الْكَلَام بَهته، وَلَا يُقَال: بهت عَلَيْهِ؛ وَفِي ( الصِّحَاح) : بهت الرجل بِالْكَسْرِ إِذا دهش تحير، وبهت بِالضَّمِّ مثله، وأفصح مِنْهُمَا: بهت، لِأَنَّهُ يُقَال: رجل مبهوت، وَلَا يُقَال: باهت وَلَا بهيت، قَالَه الْكسَائي.
قلت: فِيهِ نظر لما مر، وَلقَوْل الْقَزاز: بهت يبهت، وَفِيه لُغَة أُخْرَى وَهِي: بهت يبهت بهتاً.
قَالَ هُوَ وَابْن دُرَيْد فِي ( الجمهرة) : هُوَ رجل باه وبهات؛.

     وَقَالَ  الْهَرَوِيّ: { وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان} ( الممتحنة: 1) أَي: لَا يَأْتِين بِولد عَن معارضته فتنسبه إِلَى الزَّوْج كَانَ ذَلِك بهتان وفرية، وَيُقَال كَانَت الْمَرْأَة تلْتَقط الْوَلَد فتتبناه.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ هَهُنَا قذف الْمُحْصنَات وَهُوَ من الْكَبَائِر، وَيدخل فِيهِ الاغتياب لَهُنَّ ورميهن بالمعصية.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: لَا تبهتوا النَّاس بالمعايب كفاحاً ومواجهة، وَهَذَا كَمَا يَقُول الرجل: فعلت هَذَا بَين يَديك، أَي: بحضرتك.
قَوْله: ( تفترونه) من الافتراء وَهُوَ الاختلاق، والفرية: الْكَذِب.
يُقَال: فرى فلَان كَذَا، إِذا أختلقه، وافتراه: اختلقه، وَالِاسْم: الْفِرْيَة، وَفُلَان يفري الفرى، إِذا كَانَ يَأْتِي بالعجب فِي عمله، قَالَ تَعَالَى: { لقد جِئْت شَيْئا فرياً} ( مَرْيَم: 7) أَي: مصنوعاً مختلقاً، وَيُقَال: عَظِيما.
قَوْله: ( وَلَا تعصوا) ، وَفِي بابُُ وُفُود الْأَنْصَار: وَلَا تعصوني، والعصيان خلاف الطَّاعَة، قَوْله: ( فِي مَعْرُوف) أَي: حسن، وَهُوَ مَا لم ينْه الشَّارِع فِيهِ، أَو مَعْنَاهُ مَشْهُور أَي: مَا عرف فعله من الشَّارِع واشتهر مِنْهُ، وَيُقَال: فِي مَعْرُوف، أَي: فِي طَاعَة الله تَعَالَى، وَيُقَال: فِي كل بر وتقوى.
.

     وَقَالَ  الْبَيْضَاوِيّ: الْمَعْرُوف مَا عرف من الشَّارِع حسنه،.

     وَقَالَ  الزّجاج: أَي الْمَأْمُور بِهِ، وَفِي ( النِّهَايَة) : هُوَ اسْم جَامع لكل مَا عرف من طَاعَة الله تَعَالَى وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس، وكل مَا ندب إِلَيْهِ الشَّرْع وَنهى عَنهُ من المحسنات والمقبحات.
قَوْله: ( فَمن وفى مِنْكُم) أَي: ثَبت على مَا بَايع عَلَيْهِ، يُقَال بتَخْفِيف الْفَاء وتشديدها، يُقَال: وفى بالعهد وأوفى ووفي ثلاثي ورباعي، ووفى بالشَّيْء ثلاثي، ووفت ذِمَّتك أَيْضا و: أوفى الشَّيْء ووفي، و: أوفي الْكَيْل ووفاه، وَلَا يُقَال فيهمَا وفى قَوْله: ( وَمن أصَاب من ذَلِك شَيْئا) : من، هِيَ التبعيضية، وشيئاً، عَام لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط، وَصرح ابْن الْحَاجِب بِأَنَّهُ كالنفي فِي إِفَادَة الْعُمُوم كنكرة وَقعت فِي سِيَاقه قَوْله: ( كَفَّارَة) الْكَفَّارَة: الفعلة الَّتِي من شَأْنهَا أَن تكفر الْخَطِيئَة، أَي: تسترها، يُقَال: كفرت الشَّيْء أكفر، بِالْكَسْرِ، كفرا أَي: سترته، ورماد مكفور إِذا سفت الرّيح التُّرَاب عَلَيْهِ حَتَّى غطته، وَمِنْه الْكَافِر لِأَنَّهُ ستر الْإِيمَان وغطاه.

( بَيَان الْإِعْرَاب) : قَوْله: ( عَائِذ الله) عطف بَيَان عَن قَوْله أَبُو إِدْرِيس، وَلِهَذَا ارْتَفع.
قَوْله: ( إِن عبَادَة) أَصله بِأَن عبَادَة، قَوْله: ( وَكَانَ شهد بَدْرًا) الْوَاو فِيهِ هِيَ الْوَاو الدَّاخِلَة على الْجُمْلَة الْمَوْصُوف بهَا لتأكيد لصوقها بموصوفها.
وإفادة أَن اتصافه بهَا أَمر ثَابت، وَكَذَلِكَ الْوَاو فِي قَوْله: ( وَهُوَ أحد النُّقَبَاء) وَلَا شكّ أَن كَون شُهُود عبَادَة بَدْرًا، وَكَونه من النُّقَبَاء صفتان من صِفَاته، وَلَا يجوز أَن تكون الواوان للْحَال وَلَا للْعَطْف على مَا لَا يخفى على من لَهُ ذوق سليم، قَوْله: ( بَدْرًا) مَنْصُوب بقوله: شهد، وَلَيْسَ هُوَ مفعول فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مفعول بِهِ، لِأَن تَقْدِيره شهد الْغَزْوَة الَّتِي كَانَت ببدر، قَوْله: ( وَهُوَ) مُبْتَدأ وَخَبره: أحد النُّقَبَاء، و ( لَيْلَة الْعقبَة) نصب على الظَّرْفِيَّة، قَوْله: ( أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَصله: بِأَن، فَإِن قلت: كَيفَ هَذَا التَّرْكِيب: أَن عبَادَة بن الصَّامِت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا شكّ أَن قَوْله: وَكَانَ شهد بَدْرًا إِلَى قَوْله: إِن، معترض؟ قلت: تَقْدِيره: أَن عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ أَو أخبر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ سَاقِط من أصل الرِّوَايَة، وَسُقُوط هَذَا غير جَائِز، وَإِنَّمَا جرت عَادَة أهل الحَدِيث بِحَذْف: قَالَ، إِذا كَانَ مكرراً نَحْو: قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَعَ هَذَا ينطقون بهَا عِنْد الْقِرَاءَة، وَأما هُنَا فَلَا وَجه لجَوَاز الْحَذف، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه ثَبت فِي رِوَايَة البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث بِإِسْنَادِهِ هَذَا فِي بابُُ: من شهد بَدْرًا، وَالظَّاهِر أَنَّهَا سَقَطت من النساخ من بعده، فاستمروا عَلَيْهِ، وَقد روى أَحْمد بن حَنْبَل عَن أبي الْيَمَان بِهَذَا الْإِسْنَاد: أَن عبَادَة حَدثهُ.
قَوْله: ( قَالَ) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن، قَوْله: ( وَحَوله عِصَابَة) جملَة اسمية وَقعت حَالا، وَقَوله: عِصَابَة، هِيَ الْمُبْتَدَأ، و: حوله، نصب على الظَّرْفِيَّة مقدما خَبره، قَوْله: ( من أَصْحَابه) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة للعصابة، أَي: عِصَابَة كائنة من أَصْحَابه، من، للتَّبْعِيض، وَيجوز أَن تكون للْبَيَان، قَوْله: ( بايعوني) : جملَة مقول القَوْل، قَوْله: ( على أَن) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: على ترك الْإِشْرَاك بِاللَّه شَيْئا، قَوْله: ( وَلَا تَسْرِقُوا) وَمَا بعده كلهَا عطف على: لَا تُشْرِكُوا، قَوْله: ( تفترونه) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ على أَنَّهَا صفة لبهتان، قَوْله: ( وَلَا تعصوا) أَيْضا عطف على الْمَنْفِيّ فِيمَا قبله، قَوْله: ( فَمن وفى) كلمة: من، شَرْطِيَّة مُبْتَدأ، ووفى جملَة صلتها، قَوْله: ( فَأَجره) مُبْتَدأ ثَان، وَقَوله: ( على الله) خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول، وَدخلت الْفَاء لتضمن الْمُبْتَدَأ الشَّرْط، قَوْله: ( وَمن) ، مُبْتَدأ مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، و ( أصَاب) ، جملَة صلتها، ( شَيْئا) مفعولة.
قَوْله: ( فَعُوقِبَ) على صِيغَة الْمَجْهُول عطف على قَوْله: أصَاب، قَوْله: ( فَهُوَ) مُبْتَدأ ثَان، وَقَوله: ( كَفَّارَة) خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول، وَالْفَاء لأجل الشَّرْط، قَوْله: ( وَمن أصَاب) الخ إعرابه مثل إِعْرَاب مَا قبله.
فَإِن قلت: فَلم قَالَ فِي قَوْله: فَعُوقِبَ، بِالْفَاءِ وَفِي قَوْله: ثمَّ ستره الله، بثم؟ قلت: الْفَاء هَهُنَا للتعقيب، ثمَّ التعقيب فِي كل شَيْء بِحَسبِهِ، فَيجوز هَهُنَا أَن يكون بَين الْإِصَابَة وَالْعِقَاب مُدَّة طَوِيلَة أَو قَصِيرَة وَذَلِكَ بِحَسب الْوُقُوع، وَيجوز أَن تكون الْفَاء للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة} ( الْحَج: 63) وَأما: ثمَّ، فَإِن وَضعهَا للتراخي، وَقد يتَخَلَّف، وَهَهُنَا: ثمَّ لَيست على بابُُهَا، لِأَن السّتْر عِنْد إِرَادَة الله تَعَالَى تكون عقيب الْإِصَابَة وَلَا يتراخى.
فَافْهَم.

( بَيَان الْمعَانِي) .
قَوْله: ( وَكَانَ شهد بَدْرًا) قد قُلْنَا إِنَّه صفة لعبادة، و: الْوَاو، لتأكيد لصوقها بالموصوف.
فَإِن قلت: هَذَا كَلَام من؟ قلت: يجوز أَن يكون من كَلَام أبي إِدْرِيس، فَيكون مُتَّصِلا إِذا حمل على أَنه سمع ذَلِك من عبَادَة، وَيجوز أَن يكون من كَلَام الزُّهْرِيّ، فَيكون مُنْقَطِعًا، وَكَذَا الْكَلَام فِي قَوْله: ( وَهُوَ أحد النُّقَبَاء) .
وَالْمرَاد من النُّقَبَاء: نقباء الْأَنْصَار، وهم الَّذين تقدمُوا لأخذ الْبيعَة لنصرة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة، وهم اثْنَي عشر رجلا، وهم الْعِصَابَة الْمَذْكُورَة: أسعد بن زُرَارَة.
وعَوْف بن الْحَارِث.
وَأَخُوهُ معَاذ وهما ابْنا عفراء.
وذكوان بن عبد قيس، وَذكر ابْن سعد فِي طبقاته أَنه مُهَاجِرِي أَنْصَارِي.
وَرَافِع بن مَالك الزرقيان.
وَعبادَة بن الصَّامِت.
وعباس بن عبَادَة بن نَضْلَة.
وَيزِيد بن ثَعْلَبَة من بلَى.
وَعقبَة بن عَامر.
وَقُطْبَة بن عَامر، فَهَؤُلَاءِ عشرَة من الْخَزْرَج.
وَمن الْأَوْس: أَبُو الْهَيْثَم بن التيهَان من بلي.
وعويم بن سَاعِدَة.
اعْلَم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعرض نَفسه على قبائل الْعَرَب فِي كل موسم، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْد الْعقبَة إِذا لَقِي رهطاً من الْخَزْرَج، فَقَالَ: أَلا تجلسون أكلمكم؟ قَالُوا: بلَى، فجلسوا فَدَعَاهُمْ إِلَى الله تَعَالَى وَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام، وتلى عَلَيْهِم الْقُرْآن، وَكَانُوا قد سمعُوا من الْيَهُود أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أظل زَمَانه.
فَقَالَ بَعضهم لبَعض: وَالله إِنَّه لذاك، فَلَا تسبقن الْيَهُود عَلَيْكُم، فَأَجَابُوهُ، فَلَمَّا انصرفوا إِلَى بِلَادهمْ وذكروه لقومهم فَشَا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم، فَأتى فِي الْعَام الْقَابِل اثْنَا عشر رجلا إِلَى الْمَوْسِم من الْأَنْصَار، أحدهم عبَادَة بن الصَّامِت، فَلَقوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعقبَةِ، وَهِي بيعَة الْعقبَة الأولى فَبَايعُوهُ بيعَة النِّسَاء يَعْنِي، مَا قَالَ الله تَعَالَى: { يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف فبايعهن} ( الممتحنة: 1) ثمَّ انصرفوا وَخرج فِي الْعَام الآخر سَبْعُونَ رجلا مِنْهُم إِلَى الْحَج، فواعدهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق، قَالَ كَعْب بن مَالك: لما كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي وعدنا فِيهَا بتنا أول اللَّيْل مَعَ قَومنَا، فَلَمَّا استثقل النَّاس من النّوم تسللنا من فرشنا حَتَّى اجْتَمَعنَا بِالْعقبَةِ، فَأَتَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ عَمه الْعَبَّاس لَا غير، فَقَالَ الْعَبَّاس: يَا معشر الْخَزْرَج إِن مُحَمَّدًا منا حَيْثُ علمْتُم، وَهُوَ فِي مَنْعَة ونصرة من قومه وعشيرته، وَقد أبي إلاَّ الِانْقِطَاع إِلَيْكُم، فَإِن كُنْتُم وافين بِمَا عاهدتموه فَأنْتم وَمَا تحملتم، وإلاَّ فاتركوه فِي قومه.
فَتكلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دَاعيا إِلَى الله مرغباً فِي الْإِسْلَام تالياً لِلْقُرْآنِ، فأجبناه بِالْإِيمَان، فَقَالَ: إِنِّي أُبَايِعكُم على أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا منعتم بِهِ أبناءكم، فَقُلْنَا: ابْسُطْ يدك نُبَايِعك عَلَيْهِ، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أخرجُوا إِلَيّ مِنْكُم اثْنَتَيْ عشر نَقِيبًا، فاخرجنا من كل فرقة نَقِيبًا، وَكَانَ عبَادَة نقيب بني عَوْف، فَبَايعُوهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذِه بيعَة الْعقبَة الثَّانِيَة: وَله بيعَة ثَالِثَة مَشْهُورَة وَهِي الْبيعَة الَّتِي وَقعت بِالْحُدَيْبِية تَحت الشَّجَرَة عِنْد توجهه من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة، تسمى: بيعَة الرضْوَان، وَهَذِه بعد الْهِجْرَة، بِخِلَاف الْأَوليين: وَعبادَة شَهِدَهَا أَيْضا فَهُوَ من الْمُبَايِعين فِي الثَّلَاث رَضِي الله عَنهُ، قَوْله: ( وَلَا تَسْرِقُوا) فِيهِ حذف الْمَفْعُول ليدل على الْعُمُوم، قَوْله: ( فَعُوقِبَ) فِيهِ حذف أَيْضا تَقْدِيره: فَعُوقِبَ بِهِ، وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أَحْمد.
قَوْله: ( فَهُوَ) أَي: الْعقَاب، وَهَذَا مثل هُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: { اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} ( الْمَائِدَة: 8) فَإِنَّهُ يرجع إِلَى الْعدْل الَّذِي دلّ عَلَيْهِ: اعدلوا، وَكَذَلِكَ قَوْله: فَعُوقِبَ، يدل على الْعقَاب، وَقَوله: هُوَ، يرجع إِلَيْهِ، قَوْله: ( كَفَّارَة) ، فِيهِ حذف أَيْضا تَقْدِيره: كَفَّارَة لَهُ، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة أَحْمد.
وَكَذَا فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي بابُُ الْمَشِيئَة من كتاب التَّوْحِيد، وَزَاد أَيْضا: ( وطهور) .
قَالَ النَّوَوِيّ: عُمُوم هَذَا الحَدِيث مَخْصُوص بقوله تَعَالَى: { إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} ( النِّسَاء: 48 و 116) فالمرتد إِذا قتل على الرِّدَّة لَا يكون الْقَتْل لَهُ كَفَّارَة.
قلت: أَو يكون مَخْصُوصًا بالاجماع.
أَو لفظ ذَلِك إِشَارَة إِلَى غير الشّرك بِقَرِينَة السّتْر، فَإِنَّهُ يَسْتَقِيم فِي الْأَفْعَال الَّتِي يُمكن إظهارها واخفاؤها.
وَأما الشّرك.
أَي: الْكفْر، فَهُوَ من الْأُمُور الْبَاطِنَة، فَإِنَّهُ ضد الْإِيمَان وَهُوَ التَّصْدِيق القلبي على الْأَصَح.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: قَالُوا: المُرَاد مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّة لِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَوْله: ( فَمن وفى) ، وَهُوَ خَاص بهم لقَوْله: ( مِنْكُم) .
تَقْدِيره: وَمن أصَاب مِنْكُم أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ من ذَلِك شَيْئا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا أَي أقيم الْحَد عَلَيْهِ، لم يكن لَهُ عُقُوبَة لأجل ذَلِك الْقيام، وَهُوَ ضَعِيف، لِأَن الْفَاء فِي: فَمن، لترتب مَا بعْدهَا على مَا قبلهَا، وَالضَّمِير فِي: مِنْكُم، للعصابة الْمَعْهُودَة، فَكيف يخصص الشّرك بِالْغَيْر؟ فَالصَّحِيح أَن المُرَاد بالشرك الرِّيَاء لِأَنَّهُ الشّرك الْخَفي قَالَ الله تَعَالَى: { وَلَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدا} ( الْكَهْف: 110) وَيدل عَلَيْهِ تنكير شَيْئا، أَي: شركا أياً مَا كَانَ، وَفِيه نظر، لِأَن عرف الشَّارِع يَقْتَضِي أَن لَفْظَة: الشّرك، عِنْد الْإِطْلَاق تحمل على مُقَابل التَّوْحِيد، سِيمَا فِي أَوَائِل الْبعْثَة وَكَثْرَة عَبدة الْأَصْنَام، وَأَيْضًا عقيب الْإِصَابَة بالعقوبة فِي الدُّنْيَا، والرياء لَا عُقُوبَة فِيهِ.
فَتبين أَن المُرَاد الشّرك، وَأَنه مَخْصُوص.

وَقَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه عبد الْوَاحِد السفاقسي فِي ( شَرحه للْبُخَارِيّ) فِي قَوْله: ( فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا) يُرِيد بِهِ الْقطع فِي السّرقَة، وَالْحَد فِي الزِّنَا.
وَأما قتل الْوَلَد فَلَيْسَ لَهُ عُقُوبَة مَعْلُومَة، إلاَّ أَن يُرِيد قتل النَّفس، فكنى بالأولاد عَنهُ، وعَلى هَذَا إِذا قتل الْقَاتِل كَانَ كَفَّارَة لَهُ.
وَحكي عَن القَاضِي إِسْمَاعِيل وَغَيره: أَن قتل الْقَاتِل حد وإرداع لغيره، وَأما فِي الْآخِرَة فالطلب للمقتول قَائِم لِأَنَّهُ لم يصل إِلَيْهِ حق، وَقيل: يبْقى لَهُ حق التشفي.
قلت: وَردت أَحَادِيث تدل صَرِيحًا أَن حق الْمَقْتُول يصل إِلَيْهِ بقتل الْقَاتِل.
مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن حبَان وَصَححهُ: ( أَن السَّيْف محاء للخطايا) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: ( إِذا جَاءَ الْقَتْل محى كل شَيْء) ، وَرُوِيَ عَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا، نَحوه.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبَزَّار عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، مَرْفُوعا: ( لَا يمر الْقَتْل بذنب إلاَّ محاه) ، وَقَوله: إِن قتل الْقَاتِل حد وإرداع.
الخ فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لم يجز الْعَفو عَن الْقَاتِل.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: ذهب أَكثر الْعلمَاء إِلَى الْحُدُود كَفَّارَة لهَذَا الحَدِيث، وَمِنْهُم من وقف لحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: ( لَا أَدْرِي الْحُدُود كَفَّارَة لأَهْلهَا أم لَا) لَكِن حَدِيث عبَادَة أصح، إِسْنَادًا، وَيُمكن، يَعْنِي على طَرِيق الْجمع بَينهمَا، أَن يكون حَدِيث أبي هُرَيْرَة ورد أَولا قبل أَن يعلم، ثمَّ أعلمهُ الله تَعَالَى آخرا.

وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: وَاحْتج من وفْق بقوله تَعَالَى: { ذَلِك لَهُم خزي فِي الدُّنْيَا وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} ( الْمَائِدَة: 33) لَكِن من قَالَ: إِن الْآيَة فِي الْكَفَّارَة فَلَا حجَّة فِيهَا.
وَأَيْضًا، يُمكن أَن يكون حَدِيث عبَادَة مُخَصّصا لعُمُوم الْآيَة، أَو مُبينًا أَو مُفَسرًا لَهَا.
فَإِن قيل: حَدِيث عبَادَة هَذَا كَانَ بِمَكَّة لَيْلَة الْعقبَة لما بَايع الْأَنْصَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبيعَة الأولى بمنى، وَأَبُو هُرَيْرَة إِنَّمَا أسلم بعد ذَلِك بِسبع سِنِين عَام خَيْبَر، فَكيف يكون حَدِيثه مُتَقَدما؟ قيل: يُمكن أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة مَا سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا سَمعه من صَحَابِيّ آخر كَانَ سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدِيما وَلم يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد ذَلِك: إِن الْحُدُود كَفَّارَة، كَمَا سَمعه عبَادَة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: فِيهِ تعسف ويبطله أَن أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، صرح بِسَمَاعِهِ، وَأَن الْحُدُود لم تكن نزلت إِذْ ذَاك، وَالْحق عِنْدِي أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيح، وَهُوَ سَابق على حَدِيث عبَادَة والمبايعة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث عبَادَة على الصّفة الْمَذْكُورَة، لم تقع لَيْلَة الْعقبَة، وَإِنَّمَا نَص بيعَة الْعقبَة مَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره من أهل الْمَغَازِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لمن حضر من الْأَنْصَار أُبَايِعكُم على أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ نساءكم وأبناءكم، فَبَايعُوهُ على ذَلِك، وعَلى أَن يرحل إِلَيْهِم هُوَ وَأَصْحَابه، ثمَّ صدرت مبايعات أُخْرَى: مِنْهَا هَذِه الْبيعَة، وَإِنَّمَا وَقعت بعد فتح مَكَّة بعد أَن نزلت الْآيَة الَّتِي فِي الممتحنة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: { يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك} ( الممتحنة: 1) ونزول هَذِه الْآيَة مُتَأَخّر بعد قصَّة الْحُدَيْبِيَة بِلَا خلاف، وَالدَّلِيل على ذَلِك عِنْد البُخَارِيّ، فِي كتاب الْحُدُود، من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ فِي حَدِيث عبَادَة هَذَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بايعهم قَرَأَ الْآيَة كلهَا، وَعِنْده فِي تَفْسِير الممتحنة من هَذَا الْوَجْه قَالَ: قَرَأَ آيَة النِّسَاء.
وَلمُسلم من طَرِيق معمر عَن الزُّهْرِيّ: قَالَ فَتلا علينا آيَة النِّسَاء أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا، وللنسائي، من طَرِيق الْحَارِث بن فُضَيْل عَن الزُّهْرِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( أَلا تبايعونني على مَا بَايع عَلَيْهِ النِّسَاء: أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا) ؟ الحَدِيث.
وللطبراني من وَجه آخر عَن الزُّهْرِيّ بِهَذَا السَّنَد: ( بَايعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا بَايع عَلَيْهِ النِّسَاء يَوْم فتح مَكَّة) ، وَلمُسلم من طَرِيق أبي الْأَشْعَث عَن عبَادَة فِي هَذَا الحَدِيث: ( أَخذ علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا أَخذ على النِّسَاء) ، فَهَذِهِ أَدِلَّة صَرِيحَة فِي أَن هَذِه الْبيعَة إِنَّمَا صدرت بعد نزُول الْآيَة، بل بعد فتح مَكَّة، وَذَلِكَ بعد إِسْلَام أبي هُرَيْرَة وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن أبي خَيْثَمَة، عَن أَبِيه، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الطفَاوِي، عَن أَيُّوب، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( أُبَايِعكُم على أَن لَا تُشْرِكُوا بِاللَّه شَيْئا) .
فَذكر مثل حَدِيث عبَادَة، وَرِجَاله ثِقَات.
وَقد قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: إِذا صَحَّ الْإِسْنَاد إِلَى عَمْرو بن شُعَيْب فَهُوَ كأيوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر انْتهى.

وَإِذا كَانَ عبد الله بن عمر وَاحِد من حضر هَذِه الْبيعَة وَلَيْسَ هُوَ من الْأَنْصَار، وَلَا مِمَّن حضر بيعتهم بمنى، صَحَّ تغاير البيعتين: بيعَة الْأَنْصَار لَيْلَة الْعقبَة وَهِي قبل الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة، وبيعة أُخْرَى وَقعت بعد فتح مَكَّة وشهدها عبد الله بن عمر وَكَانَ إِسْلَامه بعد الْهِجْرَة، وَإِنَّمَا حصل الالتباس من جِهَة أَن عبَادَة بن الصَّامِت حضر البيعتين مَعًا، وَكَانَت بيعَة الْعقبَة من أجل مَا يتمدح بِهِ، فَكَانَ يذكرهَا إِذا حدث تنويهاً بسابقته، فَلَمَّا ذكر هَذِه الْبيعَة الَّتِي صدرت على مثل بيعَة النِّسَاء عقب ذَلِك، توهم من لم يقف على حَقِيقَة الْحَال أَن الْبيعَة الأولى وَقعت على ذَلِك.
انْتهى كَلَامه.

قلت: فِيهِ نظر من وُجُوه.
الأول: أَن قَوْله: ويبطله، أَن أَبَا هُرَيْرَة صرح بِسَمَاعِهِ غير مُسلم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا، أَنه يحْتَمل أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، سمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَمَا سَمعه من صَحَابِيّ آخر، فَلذَلِك صرح بِالسَّمَاعِ، وَهَذَا غير مَمْنُوع وَلَا محَال؛ وَالْآخر: أَنه يحْتَمل أَنه صرح بِالسَّمَاعِ لتوثقه بِالسَّمَاعِ من صَحَابِيّ آخر، فَإِن الصَّحَابَة كلهم عدُول لَا يتَوَهَّم فيهم الْكَذِب.
الثَّانِي: أَن قَوْله: وَإِن الْحُدُود لم تكن نزلت إِذْ ذَاك، لَا يلْزم من عدم نزُول الْحُدُود فِي تِلْكَ الْحَالة انْتِفَاء كَون الْحُدُود كَفَّارَات فِي الْمُسْتَقْبل، غَايَة مَا فِي الْبابُُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر فِي حَدِيث عبَادَة أَن من أصَاب مِمَّا يجب فِيهِ الْحُدُود الَّتِي تنزل عَلَيْهَا بعد هَذَا، ثمَّ عُوقِبَ بِسَبَب ذَلِك بِأَن أَخذ مِنْهُ الْحَد، فَإِن ذَلِك الْحَد يكون كَفَّارَة لَهُ، وَلَا شكّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعلم قبل نزُول الْحُدُود أَن حَال أمته لَا تستقيم إلاَّ بالحدود، فَأخْبر فِي حَدِيث عبَادَة بِنَاء على مَا كَانَ على مَا كَانَ علمه قبل الْوُقُوع.
الثَّالِث: أَن قَوْله: وَالْحق عِنْدِي أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة صَحِيح، غير مُسلم، لِأَن الحَدِيث أخرجه الْحَاكِم فِي ( مُسْتَدْركه) وَالْبَزَّار فِي ( مُسْنده) من رِوَايَة معمر عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة،.

     وَقَالَ  الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَقد علم مساهلة الْحَاكِم فِي بابُُ التَّصْحِيح، على أَن الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ: إِن عبد الرَّزَّاق تفرد بوصله، وَإِن هِشَام بن يُوسُف رَوَاهُ عَن معمر فَأرْسلهُ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَمَتَى يُسَاوِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت حَتَّى يَقع بَينهمَا تعَارض فَيحْتَاج إِلَى الْجمع والتوفيق؟ فَإِن قلت: قد وَصله آدم بن أبي إِيَاس، عَن ابْن أبي ذِئْب أخرجه الْحَاكِم أَيْضا.
قلت: وَلَو وَصله، هُوَ أَو غَيره، فَإِن قطع غَيره مِمَّا يُورث عدم التَّسَاوِي بِحَدِيث عبَادَة، وَصِحَّة حَدِيث عبَادَة مُتَّفق عَلَيْهَا بِخِلَاف حَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا نَص عَلَيْهِ القَاضِي عِيَاض وَغَيره، فَلَا تَسَاوِي، فَلَا تعَارض، فَلَا احْتِيَاج إِلَى التَّكَلُّف بِالْجمعِ والتوفيق.
الرَّابِع: أَن قَوْله: والمبايعة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث عبَادَة على الصّفة الْمَذْكُورَة لم تقع لَيْلَة الْعقبَة، غير مُسلم، لِأَن القَاضِي عِيَاض وَجَمَاعَة من الْأَئِمَّة الأجلاء قد جزموا بِأَن حَدِيث عبَادَة هَذَا كَانَ بِمَكَّة لَيْلَة الْعقبَة لما بَايع الْأَنْصَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبيعَة الأولى بمنى.

وَنُقِيم بِصِحَّة مَا قَالُوا دَلَائِل.
مِنْهَا: أَنه ذكر فِي هَذَا الحَدِيث: ( وَحَوله عِصَابَة) .
وفسروا أَن الْعِصَابَة هم النُّقَبَاء الأثني عشر، وَلم يكن غَيرهم هُنَاكَ، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا مَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ فِي حَدِيث عبَادَة هَذَا: ( قَالَ: بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة فِي رَهْط) ، الحَدِيث: وَقد قَالَ أهل اللُّغَة: إِن الرَّهْط: مَا دون الْعشْرَة من الرِّجَال لَا يكون فيهم امْرَأَة.
قَالَ الله تَعَالَى: { وَكَانَ فِي الْمَدِينَة تِسْعَة رَهْط} ( النَّمْل: 48) قَالَ ابْن دُرَيْد رُبمَا جَاوز ذَلِك قَلِيلا، قَالَه فِي ( الْعبابُ) والقليل ضد الْكثير، وَأَقل الْكثير ثَلَاثَة، وَأكْثر الْقَلِيل اثْنَان، فَإِذا أضفنا الْإِثْنَيْنِ إِلَى التِّسْعَة يكون أحد عشر، وَكَانَ المُرَاد من الرَّهْط هُنَا أحد عشر نَقِيبًا، وَمَعَ عبَادَة يكونُونَ اثْنَي عشر نَقِيبًا، فَإِذا ثَبت هَذَا فقد دلّ قطعا أَن هَذِه الْمُبَايعَة كَانَت بِمَكَّة لَيْلَة الْعقبَة الْبيعَة الأولى، لِأَن الْبيعَة الَّتِي وَقعت بعد فتح مَكَّة على زعم هَذَا الْقَائِل كَانَ فِيهَا الرِّجَال وَالنِّسَاء وَكَانُوا بعد كثير.
وَالثَّانِي: أَن قَوْله لَيْلَة الْعقبَة دَلِيل على أَن هَذِه الْبيعَة كَانَت هِيَ الأولى، لِأَنَّهُ لم يذكر فِي بَقِيَّة الْأَحَادِيث لَيْلَة الْعقبَة، وَإِنَّمَا ذكر فِي حَدِيث الطَّبَرَانِيّ يَوْم فتح مَكَّة، وَلَا يلْزم من كَون الْبيعَة يَوْم فتح مَكَّة أَن تكون الْبيعَة الْمَذْكُورَة هِيَ إِيَّاهَا غَايَة الْأَمر أَن عبَادَة قد أخبر أَنه وَقعت بيعَة أُخْرَى يَوْم فتح مَكَّة، وَكَانَ هُوَ فِيمَن بَايعُوهُ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَالثَّالِث: أَن مَا وَقع فِي الصَّحِيحَيْنِ من طَرِيق الصنَابحِي عَن عبَادَة، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: ( إِنِّي من النُّقَبَاء الَّذين بَايعُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ : بَايَعْنَاهُ على أَن لَا نشْرك بِاللَّه شَيْئا)
.
الحَدِيث يدل على أَن الْمُبَايعَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث الْمَذْكُور كَانَت لَيْلَة الْعقبَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أخبر فِيهِ أَنه كَانَ من النُّقَبَاء الَّذين بَايعُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْعقبَة، وَأخْبر أَنهم بَايعُوهُ، وَلم يثبت لنا أَن أحدا بَايعه عَلَيْهِ السَّلَام، قبلهم، فَدلَّ على أَن بيعتهم أول المبايعات، وَأَن الحَدِيث الْمَذْكُور كَانَ لَيْلَة الْعقبَة.
وَأما احتجاج هَذَا الْقَائِل فِي دَعْوَاهُ بِمَا وَقع فِي الْأَحَادِيث الَّتِي ذكرهَا من قِرَاءَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَة على مَا ذكره فَلَا يتم لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن عبَادَة لما حضر البيعات مَعَ النَّبِي زسمع مِنْهُ قِرَاءَة الْآيَات الْمَذْكُورَة فِي البيعات الَّتِي وَقعت بعد الْحُدَيْبِيَة أَو بعد فتح مَكَّة، ذكرهَا فِي حَدِيثه، بِخِلَاف حَدِيث الْبيعَة الأولى فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قِرَاءَة شَيْء من الْآيَات.
وَتمسك هَذَا الْقَائِل أَيْضا بِمَا زَاد فِي رِوَايَة الصنَابحِي فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَلَا ننتهب على أَن هَذِه الْبيعَة مُتَأَخِّرَة، لِأَن الْجِهَاد عِنْد بيعَة الْعقبَة لم يكن فرضا، وَالْمرَاد بالانتهاب: مَا يَقع بعد الْقِتَال فِي الْمَغَانِم، وَهَذَا اسْتِدْلَال فَاسد، لِأَن الانتهاب أَعم من أَن يكون فِي الْمَغَانِم وَغَيرهَا، وتخصيصه بالمغانم تحكم ومخالف للغة.

( استنباط الْأَحْكَام) : وَهُوَ على وُجُوه.
الأول: أَن آخر الحَدِيث يدل على أَن الله لَا يجب عَلَيْهِ عِقَاب عاصٍ، وَإِذا لم يجب عَلَيْهِ هَذَا لَا يجب عَلَيْهِ ثَوَاب مُطِيع أصلا، إِذْ لَا قَائِل بِالْفَصْلِ.
الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: ( فَهُوَ إِلَى الله) أَي: حكمه من الْأجر وَالْعِقَاب مفوض إِلَى الله تَعَالَى، وَهَذَا يدل على أَن من مَاتَ من أهل الْكَبَائِر قبل التَّوْبَة، إِن شَاءَ الله عَفا عَنهُ وَأدْخلهُ الْجنَّة أول مرّة، وَإِن شَاءَ عذبه فِي النَّار ثمَّ يدْخلهُ الْجنَّة وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة،.

     وَقَالَ ت الْمُعْتَزلَة: صَاحب الْكَبِيرَة إِذا مَاتَ بِغَيْر التَّوْبَة لَا يُعْفَى عَنهُ فيخلد فِي النَّار، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم، لأَنهم يوجبون الْعقَاب على الْكَبَائِر قبل التَّوْبَة وَبعدهَا الْعَفو عَنْهَا.
الثَّالِث: قَالَ الْمَازرِيّ: فِيهِ رد على الْخَوَارِج الَّذين يكفرون بِالذنُوبِ.
الرَّابِع: قَالَ الطَّيِّبِيّ: فِيهِ إِشَارَة إِلَى الْكَفّ عَن الشَّهَادَة بالنَّار على أحد وبالجنة لأحد إلاَّ من ورد النَّص فِيهِ بِعَيْنِه.
الْخَامِس: فِيهِ أَن الْحُدُود كَفَّارَات، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ من الصَّحَابَة غير وَاحِد مِنْهُم: عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، أخرج حَدِيثه التِّرْمِذِيّ، وَصَححهُ الْحَاكِم وَفِيه: ( وَمن أصَاب ذَنبا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَالله أكْرم أَن يثني بالعقوبة على عَبده فِي الْآخِرَة) ، وَمِنْهُم: أَبُو تَمِيمَة الْجُهَنِيّ أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور، وَمِنْهُم: خُزَيْمَة بن ثَابت، أخرج حَدِيثه أَحْمد بِإِسْنَاد حسن وَلَفظه: ( من أصَاب ذَنبا أقيم الْحَد على ذَلِك الذَّنب فَهُوَ كَفَّارَته) .
وَمِنْهُم: ابْن عمر، أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا: ( مَا عُوقِبَ رجل على ذَنْب إِلَّا جعله الله كَفَّارَة لما أصَاب من ذَلِك الذَّنب) .

( الأسئلة والأجوبة) : مِنْهَا مَا قيل: قتل غير الْأَوْلَاد أَيْضا مَنْهِيّ إِذا كَانَ بِغَيْر حق، فتخصيصه بِالذكر يشْعر بِأَن غَيره لَيْسَ مَنْهِيّا.
وَأجِيب: بِأَن هَذَا مَفْهُوم اللقب وَهُوَ مَرْدُود على أَنه لَو كَانَ من بابُُ المفهومات الْمُعْتَبرَة المقبولة فَلَا حكم لَهُ هَهُنَا، لِأَن اعْتِبَار جَمِيع المفاهيم، إِنَّمَا هُوَ إِذا لم يكن خرج مخرج الْأَغْلَب، وَهَهُنَا هُوَ كَذَلِك، لأَنهم كَانُوا يقتلُون الْأَوْلَاد غَالِبا خشيَة الإملاق، فخصص الْأَوْلَاد بِالذكر لِأَن الْغَالِب كَانَ كَذَلِك.
قَالَ التَّيْمِيّ: خص الْقَتْل بالأولاد لمعنيين: أَحدهمَا: أَن قَتلهمْ هُوَ أكبر من قتل غَيرهم، وَهُوَ الوأد، وَهُوَ أشنع الْقَتْل.
وَثَانِيهمَا: أَنه قتل وَقَطِيعَة رحم، فصرف الْعِنَايَة إِلَيْهِ أَكثر.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا معنى الإطناب فِي قَوْله: وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَان تفترونه بَين أَيْدِيكُم وأرجلكم، حَيْثُ قيل: تَأْتُوا وَوصف الْبُهْتَان بالافتراء، والافتراء والبهتان من وَاد واحدٍ وَزيد عَلَيْهِ: بَين أَيْدِيكُم وأرجلكم، وهلا اقْتصر على: وَلَا تبهتوا النَّاس؟ وَأجِيب: بِأَن مَعْنَاهُ مزِيد التَّقْرِير وتصوير بشاعة هَذَا الْفِعْل.
وَمِنْهَا مَا قيل: فَمَا معنى إِضَافَته إِلَى الْأَيْدِي والأرجل؟ وَأجِيب: بِأَن مَعْنَاهُ: وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَان من قبل أَنفسكُم، وَالْيَد وَالرجل كنايتان عَن الذَّات، لِأَن مُعظم الْأَفْعَال يَقع بهما، وَقد يُعَاقب الرجل بِجِنَايَة قولية فَيُقَال لَهُ: هَذَا بِمَا كسبت يداك، أَو مَعْنَاهُ: وَلَا تغشوه من ضمائركم، لِأَن المفتري إِذا أَرَادَ اخْتِلَاق قَول فَإِنَّهُ يقدره ويقرره أَولا فِي ضَمِيره، ومنشأ ذَلِك مَا بَين الْأَيْدِي والأرجل من الْإِنْسَان وَهُوَ الْقلب، وَالْأول: كِنَايَة عَن إِلْقَاء الْبُهْتَان من تِلْقَاء أنفسهم، وَالثَّانِي: عَن إنْشَاء الْبُهْتَان من دخيلة قُلُوبهم مَبْنِيا على الْغِشّ المبطن.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: لَا تبهتوا النَّاس بالمعايب كفاحاً مُوَاجهَة، وَهَذَا كَمَا يَقُول الرجل: فعلت هَذَا بَين يَديك، أَي: بحضرتك.
.

     وَقَالَ  التَّيْمِيّ: هَذَا غير صَوَاب من حَيْثُ إِن الْعَرَب، وَإِن قَالَت: فعلته بَين أَيدي الْقَوْم، أَي: بحضرتهم لم تقل: فعلته بَين أَرجُلهم، وَلم ينْقل عَنْهُم هَذَا أَلْبَتَّة.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: هُوَ صَوَاب، إِذْ لَيْسَ الْمَذْكُور الأرجل فَقَط، بل المُرَاد الْأَيْدِي، وَذكر الأرجل تَأْكِيدًا لَهُ وتابعاً لذَلِك، فالمخطىء مخطىء وَيُقَال: يحْتَمل أَن يُرَاد بِمَا بَين الْأَيْدِي والأرجل الْقلب، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يترجم اللِّسَان عَنهُ، فَلذَلِك نسب إِلَيْهِ الافتراء،، فَإِن الْمَعْنى: لَا ترموا أحدا بكذب تزوِّرونه فِي أَنفسكُم ثمَّ تبهتون صَاحبكُم بألسنتكم.
.

     وَقَالَ  أَبُو مُحَمَّد بن أبي جَمْرَة: يحْتَمل أَن يكون قَوْله: بَين أَيْدِيكُم، أَي: فِي الْحَال، قَوْله: وأرجلكم أَي: فِي الْمُسْتَقْبل، لِأَن السَّعْي من أَفعَال الأرجل.
.

     وَقَالَ  غَيره: أصل هَذَا كَانَ فِي بيعَة النِّسَاء، وكنى بذلك كَمَا قَالَ الْهَرَوِيّ فِي ( الغريبين) عَن نِسْبَة الْمَرْأَة الْوَلَد الَّذِي تَزني بِهِ أَو تلتقطه إِلَى زَوجهَا، ثمَّ لما اسْتعْمل هَذَا اللَّفْظ فِي بيعَة الرِّجَال احْتِيجَ إِلَى حمله على غير مَا ورد فِيهِ أَولا.
قلت: وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة لمُسلم: وَلَا نقْتل أَوْلَادنَا، وَلَا يعضه بَعْضنَا بَعْضًا، أَي: لَا يسخر.
وَقيل: لَا يَأْتِي بِبُهْتَان، يُقَال: عضهت الرجل رميته بالعضيهة؛ قَالَ الْجَوْهَرِي: العضيهة البهيتة، وَهُوَ الْإِفْك والبهتان، تَقول يَا للعضيهة.
بِكَسْر اللَّام، وَهِي استغاثة، وَأَصله من: عضهه عضهاً بِالْفَتْح،.

     وَقَالَ  الْكسَائي: العضه الْكَذِب، وَجَمعهَا عضون، مثل: عزة وعزون، وَيُقَال نقصانه الْهَاء وَأَصله عضهة.
وَمِنْهَا مَا قيل: لم قيد قَوْله: ( وَلَا تعصوا) ، بقوله: ( فِي مَعْرُوف) ؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ قَيده بذلك تطييباً لنفوسهم، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام، لَا يَأْمر إلاَّ بِالْمَعْرُوفِ.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: يحْتَمل فِي معنى الحَدِيث: وَلما تعصوني، وَلَا أجد عَلَيْكُم أولى من اتباعي إِذا أَمرتكُم بِالْمَعْرُوفِ، فَيكون التَّقْيِيد بِالْمَعْرُوفِ عَائِدًا إِلَى الِاتِّبَاع، وَلِهَذَا قَالَ: لَا تعصوا وَلم يقل وَلَا تعصوني.
قلت: فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ، فِي بابُُ وُفُود الْأَنْصَار: وَلَا تعصوني، فحينئذٍ الْأَحْسَن هُوَ الْجَواب الأول.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: فِي آيَة المبايعات: فَإِن قلت: لَو اقْتصر على قَوْله: لَا يَعْصِينَك، فقد علم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يَأْمر إلاَّ بِالْمَعْرُوفِ.
قلت: نبه بذلك على أَن طَاعَة الْمَخْلُوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق جديرة بغاية التوقي والاجتناب.
وَمِنْهَا مَا قيل: قد ذكر فِي الاعتقاديات والعمليات كلتيهما، فلِمَ اكْتفى فِي الاعتقاديات بِالتَّوْحِيدِ؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ هُوَ الأَصْل والأساس.
وَمِنْهَا مَا قيل: فلِمَ مَا ذكر الْإِتْيَان بالواجبات وَاقْتصر على ترك المنهيات؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يقْتَصر حَيْثُ قَالَ: وَلَا تعصوا فِي مَعْرُوف، إِذْ الْعِصْيَان مُخَالفَة الْأَمر، أَو اقْتصر لِأَن هَذِه الْمُبَايعَة كَانَت فِي أَوَائِل الْبعْثَة وَلم تشرع الْأَفْعَال بعد.
وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ قدم ترك المنهيات على فعل المأمورات؟ وَأجِيب: بِأَن التخلي عَن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل.
وَمِنْهَا مَا قيل: فلِمَ ترك سَائِر المنهيات وَلم يقل مثلا { وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم} ( الْأَنْعَام: 15، والإسراء: 34) وَغير ذَلِك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت حرَام آخر، أَو اكْتفى بِالْبَعْضِ ليقاس الْبَاقِي عَلَيْهِ، أَو لزِيَادَة الاهتمام بالمذكورات.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله: ( فَأَجره على الله) يشْعر بِالْوُجُوب على الله لكلمة: على وَأجِيب: بِأَن هَذَا وَارِد على سَبِيل التفخيم نَحْو قَوْله تَعَالَى: { فقد وَقع أجره على الله} ( النِّسَاء: 100) وَيتَعَيَّن حمله على غير ظَاهره للأدلة القاطعة على أَنه لَا يجب على الله شَيْء.
وَمِنْهَا مَا قيل: لفظ الْأجر مشْعر بِأَن الثَّوَاب إِنَّمَا هُوَ مُسْتَحقّ كَمَا هُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة لَا مُجَرّد فضل كَمَا هُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا أطلق الْأجر لِأَنَّهُ مشابه لِلْأجرِ، صُورَة لترتبه عَلَيْهِ.