فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلا

( بابٌُ يُسْتَحَبُّ لِلْكاتِبِ أنْ يَكُونَ أمِيناً عاقِلاً)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان مَا يسْتَحبّ لكاتب الحكم أَن يكون أَمينا فِي كِتَابَته بَعيدا من الطمع وَلَا يَأْخُذ أَكثر من أُجْرَة الْمثل فِي مَوضِع يجوز لَهُ الْأَخْذ وَلَا يَأْخُذ مثل مَا يَأْخُذ غَالب شُهُود مصر.
قَوْله: عَاقِلا يَعْنِي: لَا يكون مغفلاً مثل بعض قُضَاة مصر، لِأَن الْمُغَفَّل يخدع ويضيع حُقُوق النَّاس وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ لَا يخرج من كَلَام بعض خواصه من أكالين أَمْوَال النَّاس المفسدين، وَعَن الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يَنْبَغِي لكاتب القَاضِي أَن يكون عَاقِلا لِئَلَّا يخدع ويحرص على أَن يكون فَقِيها لِئَلَّا يُؤْتى من جَهله، وَيكون بَعيدا.



[ قــ :6806 ... غــ :7191 ]
- حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ الله أبُو ثابِتٍ، حدّثنا إبْراهِيمُ بنُ سَعْدٍ، عنِ ابنِ شِهابٍ، عنْ عُبيْدِ بن السَّبَّاقِ، عنْ زيْدِ بنِ ثابِتٍ قَالَ: بَعَثَ إلَيَّ أبُو بَكْرٍ لِمقْتَلِ أهْلِ اليَمامَةِ، وعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ: إنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمامةِ بقُرَّاءِ القُرْآنِ، وإنِّي أخْشَى أنْ يَسْتَحِرَّ القَتلُ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ فِي المَواطِنِ كُلِّها، فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِير، وإنِّي أرَى أنْ تأَمُرَ بِجَمْعِ القُرآنِ قُلْتُ: كَيْفَ أفْعَلُ شَيْئاً لَمْ يَفْعَلْهُ رسولُ الله فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَالله خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُراجِعُنِي فِي ذالِكَ حَتَّى شَرَحَ الله صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ، ورَأيْتُ فِي ذالِكَ الّذِي رَأى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أبُو بَكْرٍ: وإنَّكَ رَجُلٌ شابٌّ عاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ الله فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فاجْمَعْهُ قَالَ زَيْدٌ: فَوالله لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبالِ مَا كانَ بِأثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ.
قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلانِ شَيْئاً لَمْ يَفْعَلْهُ رسولُ الله قَالَ أبُو بَكْرٍ: هُوَ وَالله خيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُثُّ مُراجَعتِي حتَّى شَرَح الله صَدْرِي لِلّذي شَرَحَ الله لهُ صَدْرَ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ، ورَأيْتُ فِي ذالِكَ الّذِي رَأياً، فَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أجْمَعُهُ مِنَ العُسْبِ والرِّقاعِ واللِّخاف وصُدُورِ الرِّجالِ، فَوَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} إِلَى آخِرِها مَعَ خُزَيْمَةَ: أوْ أبي خُزَيْمَةَ فألْحَقْتُها فِي سُورَتِها، وكانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أبي بَكْرٍ حَياتَهُ حتَّى تَوَفَّاهُ الله عَزَّ وجَلَّ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَياتَهُ حتَّى تَوَفَّاهُ الله، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.

قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ الله: اللِّخافُ، يَعْنِي: الخَزَفَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: وَإنَّك رجل شَاب عَاقل لَا نتهمك
وَمُحَمّد بن عبيد الله بتصغير العَبْد أَبُو ثَابت مولى عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبيد مصغر عبد بن السباق، بِالسِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الثَّقَفِيّ.

والْحَدِيث مضى فِي تَفْسِير سُورَة بَرَاءَة وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: الْيَمَامَة بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف الْمِيم الأولى: جَارِيَة زرقاء كَانَت تبصر الرَّاكِب من مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام، وبلاد الجون منسوبة إِلَيْهَا وَهِي من الْيمن وفيهَا قتل مُسَيْلمَة الْكذَّاب، وَقتل من الْقُرَّاء سَبْعُونَ أَو سَبْعمِائة.
قَوْله: استحر أَي: اشْتَدَّ وَكثر.
قَوْله: خير يحْتَمل أَن يكون أفعل التَّفْضِيل، وَأَن لَا يكون.
قيل: كَيفَ يكون فعلهم خيرا مِمَّا كَانَ فِي زمن رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم؟ وَأجِيب: يَعْنِي هُوَ خير فِي زمانهم، وَكَذَا التّرْك كَانَ خيرا فِي زَمَانه لعدم تَمام النُّزُول وَاحْتِمَال النّسخ، فَلَو جمعت بَين الدفتين وسارت بِهِ الركْبَان إِلَى الْبلدَانِ ثمَّ نسخ لَأَدَّى ذَلِك إِلَى اخْتِلَاف عَظِيم.
قَوْله: من العسب بِضَم الْعين وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْنِ جمع عسيب، وَهُوَ جريد النّخل إِذا نزع مِنْهُ الخوص.
قَوْله: والرقاع جمع رقْعَة.
قَوْله: واللخاف بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة جمع اللخفة وَهُوَ الْحجر الْأَبْيَض، وَقيل: الخزف.
قَوْله: مَعَ خُزَيْمَة بن ثَابت الْأنْصَارِيّ قَوْله: أَو أبي خُزَيْمَة شكّ من الرَّاوِي، وَأَبُو خُزَيْمَة بن أَوْس بن يزِيد بن أَصْرَم شهد بَدْرًا وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد وَتُوفِّي فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قيل: قد مر فِي: بابُُ جمع الْقُرْآن أَن الْآيَة الَّتِي مَعَ خُزَيْمَة: { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} من سُورَة الْأَحْزَاب؟ أُجِيب: بِأَن آيَة التَّوْبَة كَانَت عِنْد النَّقْل من العسب إِلَى الصُّحُف، وَآيَة الْأَحْزَاب عِنْد النَّقْل من الصَّحِيفَة إِلَى الْمُصحف قيل: كَيفَ ألحقها بِالْقُرْآنِ وَشَرطه التَّوَاتُر؟ قيل لَهُ: مَعْنَاهُ لم أَجدهَا مَكْتُوبَة عِنْد غَيره، قيل: لما كَانَ متواتراً فَمَا هَذَا التتبع؟ أُجِيب: للاستظهار، لَا سِيمَا وَقد كتب بَين يَدي رَسُول الله وليعلم هَل فِيهَا قِرَاءَة أُخْرَى أم لَا.
قيل: مَا وَجه مَا اشْتهر أَن عُثْمَان هُوَ جَامع الْقُرْآن؟ أُجِيب: بِأَن الصُّحُف كَانَت مُشْتَمِلَة على جَمِيع أحرفه ووجوهه الَّتِي نزل بهَا، فَجرد عُثْمَان اللُّغَة القرشية مِنْهَا، أَو كَانَت صحفاً فَجَعلهَا مُصحفا وَاحِدًا جمع النَّاس عَلَيْهَا، وَأما الْجَامِع الْحَقِيقِيّ سوراً وآيات فَهُوَ رَسُول الله بِالْوَحْي.

قَوْله: قَالَ مُحَمَّد بن عبيد الله هُوَ شيخ البُخَارِيّ.
فَإِنَّهُ فسر اللخاف بالخزف.