فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب السحر

(بابُُ السِّحْرِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان السحر وَأَنه ثَابت مُحَقّق، وَلِهَذَا أَكثر البُخَارِيّ فِي الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ الدَّالَّة عَلَيْهِ.
والْحَدِيث الصَّحِيح وَأكْثر الْأُمَم من الْعَرَب وَالروم والهند والعجم بِأَنَّهُ ثَابت وَحَقِيقَته مَوْجُودَة وَله تَأْثِير، وَلَا إستحالة فِي الْعقل فِي أَن الله تَعَالَى يخرق الْعَادة عِنْد النُّطْق بِكَلَام ملفق أَو تركيب أجسام وَنَحْوه على وَجه لَا يعرفهُ كل أحد، وَأما تَعْرِيف السحر فَهُوَ أَمر خارق للْعَادَة صادر عَن نفس شريرة لَا يتَعَذَّر معارضته، وَأنكر قوم حَقِيقَته وأضافوا مَا يَقع مِنْهُ إِلَى خيالات بَاطِلَة لَا حَقِيقَة لَهَا، وَهُوَ اخْتِيَار أبي جَعْفَر الاستراباذي من الشَّافِعِيَّة وَأبي بكر الرَّازِيّ من الْحَنَفِيَّة وَابْن حزم الظَّاهِرِيّ، وَالصَّحِيح قَول كَافَّة الْعلمَاء يدل عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة.
فَإِن قلت: مَا وَجه إِيرَاد: بابُُ السحر، فِي كتاب الطِّبّ؟ قلت: لَا شكّ أَن السحر نوع من الْمَرَض وَهُوَ يمرض المسحور، وَلِهَذَا ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أما وَالله لقد شفاني) على مَا يَأْتِي عَن قريب فِي: بابُُ هَل يسْتَخْرج السحر، والشفاء يكون لمَرض مَوْجُود ثمَّ إِنَّه جمع بَين: بابُُ السحر، وَبابُُ الكهانة، لِأَن مرجع كل مِنْهُمَا الشَّيَاطِين، وكأنهما من وَاد وَاحِد، وَلَا يُقَال: لم قدم بابُُ الكهانة على بابُُ السحر؟ لِأَنَّهُ سُؤال دوري وَهُوَ غير وَارِد، فَافْهَم.

وقَوْلِ الله تَعَالَى: { وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر مَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبابُُِل هاروت وماروت وَمَا يعلمَانِ من أحد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفْر فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وَلَقَد على الْحق اشْتَرَاهُ مَاله فِي الْآخِرَة من خلاق} (الْبَقَرَة: 2) ، وقوْلهِ تَعَالَى: { وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) ، وقَوْلهِ: { أفتأتون السحر وَأَنْتُم تبصرون} (الْأَنْبِيَاء: 3) ، وقَوْلهِ: { يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} (طه: 66) ، وقَوْلهِ: { وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد} (الفلق: 4) ، والنَّفَّاثاتُ: السَّوَاحِرُ، تُسْحَرُونَ: تُعَمَّوْنَ.

وَقَول الله بِالْجَرِّ عطفا على السحر الْمُضَاف إِلَيْهِ لفظ: بابُُ، وَالتَّقْدِير: بابُُ فِي بَيَان السحر وَفِي بَيَان قَول الله عز وَجل، وَذكر هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة للاستدلال بهَا على تحقق وجود السحر وإثباته، وعَلى بَيَان حرمته أما الْآيَة الأولى وَهِي قَوْله تَعَالَى { وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا} فَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين { وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر} ... الْآيَة فَهَذَا الْمِقْدَار هُوَ الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة سَاقهَا إِلَى قَوْله { من خلاق} فَفِي هَذِه الْآيَة بَيَان أصل السحر الَّذِي تعْمل بِهِ الْيَهُود ثمَّ هُوَ مِمَّا وَضعته الشَّيَاطِين على سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام وَمِمَّا أنزل الله تَعَالَى على هاروت وماروت بِأَرْض بابُل وَهَذَا مُتَقَدم على الأول لِأَن قصَّة هاروت وماروت كَانَت من قبل زمن نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَكَانَ السحر أَيْضا فاشياً فِي زمن فِرْعَوْن، وَمُلَخَّص مَا ذكر فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة مَا قَالَه السّديّ فِي قَوْله تَعَالَى: { وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان} أَي: على عهد سُلَيْمَان، قَالَ: كَانَت الشَّيَاطِين تصعد إِلَى السَّمَاء فتقعد مِنْهَا مقاعد للسمع فيسمعون من كَلَام الْمَلَائِكَة مَا يكون فِي الأَرْض من موت أَو غيث أَو أَمر، فَيَأْتُونَ الكهنة فَيُخْبِرُونَهُمْ فَتحدث الكهنة النَّاس فيجدونه كَمَا قَالُوا، وَزَادُوا مَعَ كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب النَّاس ذَلِك الحَدِيث فِي الْكتب وَفَشَا فِي بني إِسْرَائِيل: أَن الْجِنّ تعلم الْغَيْب، فَبعث سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لجمع تِلْكَ الْكتب فَجَعلهَا فِي صندوق ثمَّ دَفنهَا تَحت كرسيه وَلم يكن أحد من النَّاس يَسْتَطِيع أَن يدنو من الْكُرْسِيّ إلاَّ احْتَرَقَ.
.

     وَقَالَ : لَا أسمع أحدا يذكر أَن الشَّيَاطِين يعلمُونَ الْغَيْب إلاَّ ضربت عُنُقه، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَان وَذهب الْعلمَاء الَّذين كَانُوا يعْرفُونَ أَمر سُلَيْمَان جَاءَ شَيْطَان فِي صُورَة إِنْسَان إِلَى نفر من بني إِسْرَائِيل فَقَالَ لَهُم: هَل أدلكم على كنز لَا تأكلونه أبدا؟ قَالُوا: نعم.
قَالَ: فاحفروا تَحت الْكُرْسِيّ، فَحَفَرُوا ووجدوا تِلْكَ الْكتب، فَلَمَّا أخرجوها قَالَ الشَّيْطَان: إِن سُلَيْمَان إِنَّمَا كَانَ يضْبط الْإِنْس وَالْجِنّ وَالطير بِهَذَا السحر، ثمَّ طَار وَذهب وَفَشَا فِي النَّاس أَن سُلَيْمَان كَانَ ساحراً، فاتخذت بَنو إِسْرَائِيل تِلْكَ الْكتب، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خاصموه بهَا فَذَلِك قَوْله: تَعَالَى: { وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر} فَقَوله: النَّاس: مفعول أول.
وَالسحر مفعول ثَان، وَالْجُمْلَة حَال من فَاعل كفرُوا، أَي: كفرُوا معلمين، وَقيل: هِيَ بدل من كفرُوا.
وَقَوله عز وَجل { وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ} كلمة: مَا، مَوْصُولَة ومحلها النصب عطفا على السحر، تَقْدِيره يعلمُونَ النَّاس السحر والمنزل على الْملكَيْنِ.
قَوْله: (بِبابُُِل) يتَعَلَّق: بأنزل، أَي: فِي بابُل وَهِي مَدِينَة بناها نمْرُود بن كنعان وينسب إِلَيْهَا السحر وَالْخمر، وَهِي الْيَوْم خراب، وَهِي أقدم أبنية الْعرَاق وَكَانَت مَدِينَة الكنعانيين وَغَيرهم.
وَقيل: إِن الضَّحَّاك أول من بنى بابُل،.

     وَقَالَ  مؤيد الدولة: وببابُل ألْقى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي النَّار.
قَوْله: (هاروت وماروت) بدل من الْملكَيْنِ أَو عطف بَيَان وَفِيهِمَا اخْتِلَاف كثير، وَالأَصَح أَنَّهُمَا كَانَا ملكَيْنِ أنزلا من السَّمَاء إِلَى الأَرْض فَكَانَ من أَمرهمَا مَا كَانَ، وقصتهما مَشْهُورَة.
قَوْله: (وَمَا يعلمَانِ) وقرىء: يعلمَانِ، من الْإِعْلَام.
قَوْله: (فتْنَة) أَي: محنة وابتلاء،.

     وَقَالَ  سنيد عَن حجاج عَن ابْن جريج فِي هَذِه الْآيَة: لَا يجترىء على السحر إلاَّ كَافِر،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: عمل السحر حرَام، وَهُوَ من الْكَبَائِر بِالْإِجْمَاع، وَقد عده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الموبقات وَمِنْه مَا يكون كفرا، وَمِنْه مَا لَا يكون كفرا، بل مَعْصِيّة كَبِيرَة فَإِن كَانَ فِيهِ قَول أَو فعل يَقْتَضِي الْكفْر فَهُوَ كفر وإلاَّ فَلَا وَأما تعلمه وتعليمه فَحَرَام، فَإِن كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكفْر كفر واستتيب مِنْهُ وَلَا يقتل، فَإِن تَابَ قبلت تَوْبَته وَإِن لم يكن فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْكفْر عزّر، وَعَن مَالك: السَّاحر كَافِر يقتل بِالسحرِ وَلَا يُسْتَتَاب بل يتحتم قَتله كالزنديق، قَالَ عِيَاض: وَيَقُول مَالك: قَالَ أَحْمد وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَفِي (الْفَتَاوَى الصُّغْرَى) : السَّاحر لَا يُسْتَتَاب فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد خلافًا لأبي يُوسُف، والزنديق يُسْتَتَاب عِنْدهمَا، وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ وَعَن أبي حنيفَة: إِذا أتيت بزنديق استتبته، فَإِن تَابَ قبلت تَوْبَته،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: وَاخْتلف السّلف هَل يسْأَل السَّاحر عَن حل من سحره فَأَجَازَهُ سعيد بن الْمسيب وَكَرِهَهُ الْحسن الْبَصْرِيّ،.

     وَقَالَ : لَا يعلم ذَلِك إلاَّ سَاحر، وَلَا يجوز إتْيَان السَّاحر لما روى سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن هُبَيْرَة عَن ابْن مَسْعُود: من مشي إِلَى سَاحر أَو كَاهِن فَصدقهُ بِمَا يَقُول فقد كفر بِمَا أنزل الله على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

     وَقَالَ  الطَّبَرِيّ: نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن إتْيَان السَّاحر إِنَّمَا هُوَ على التَّصْدِيق لَهُ فِيمَا يَقُول: فَأَما إِذا أَتَاهُ لغير ذَلِك، وَهُوَ عَالم بِهِ وبحاله، فَلَيْسَ بمنهي عَنهُ وَلَا عَن إِتْيَانه، وَقد أجَاز بعض الْعلمَاء تعلم السحر لأحد أَمريْن: إِمَّا لتمييز مَا فِيهِ كفر من غَيره، وَإِمَّا لإزالته عَمَّن.
وَقع فِيهِ.
قَوْله: { وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) فِيهِ نفي الْفَلاح وَهُوَ الْفَوْز عَن السَّاحر وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على كفره.
قَوْله: { أفتأتون السحر وَأَنْتُم تبصرون} (الْأَنْبِيَاء: 3) هَذَا خطاب لكفار قُرَيْش يستبعدون كَون مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَسُولا لكَونه بشرا فَقَالَ قَائِلهمْ مُنْكرا على من اتبعهُ: { أفتأتون السحر} أَي: أفتتبعونه حَتَّى تصيروا كمن اتبع السحر، وَهُوَ يعلم أَنه سحر.
قَوْله: { يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} (طه: 66) أَوله { فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} يَعْنِي: يخيل إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهَا حيات تسْعَى، وَذَلِكَ لأَنهم لطخوا حبالهم بالزيبق، فَلَمَّا حميت الشَّمْس اهتزت وتحركت فَظن مُوسَى أَنَّهَا تقصده احْتج بِهَذَا من زعم أَن السحر إِنَّمَا هُوَ تخييل وَلَا حجَّة لَهُم فِي هَذَا، لِأَن هَذِه وَردت فِي قصَّة سحرة فِرْعَوْن، وَكَانَ سحرهم كَذَلِك وَلَا يلْزم أَن جَمِيع أَنْوَاع السحر كَذَلِك تخييل.
قَوْله: { وَمن شَرّ النفاثات} (الفلق: 4) قد فسر النفاثات: بالسواحر، وَهُوَ تَفْسِير الْحسن الْبَصْرِيّ، وَأُرِيد بِهِ السواحر ينفثن فِي عقد الخيوط للسحر قَوْله: (تسحرون) أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: { سيقولون الله قل فَأنى تسحرون} (الْبَقَرَة: 102) أَي: كَيفَ تعمون عَن هَذَا وتصدون عَنهُ.
قَوْله: (تعمون) بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم الْمَفْتُوحَة، وَقيل بِسُكُون الْعين،.

     وَقَالَ  ابْن عَطِيَّة.
السحر هُنَا مستعار لما وَقع مِنْهُم من التَّخْلِيط، وَوضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه كَمَا يَقع من المسحور.

فَإِن قلت: هَذَا لَا يقوم بِهِ الِاحْتِجَاج على مَا ذكر البُخَارِيّ فِي هَذِه الْآيَات للإحتجاج على تَحْرِيم السحر.
قلت: السحر على أَنْوَاع: مِنْهَا: أَنه بِمَعْنى لطف ودق، وَمِنْه: سحرت الصَّبِي خدعته واستملته، فَكل من استمال شَيْئا فقد سحره، وَفِي هَذِه الْآيَة إِشَارَة إِلَى هَذَا النَّوْع.
الثَّانِي: مَا يَقع بخداع أَو تخييلات لَا حَقِيقَة لَهَا، نَحْو مَا يَفْعَله المشعوذ من صرف الْأَبْصَار عَمَّا يتعاطاه بخفة يَده، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقوله: { يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} (طه: 66) .
الثَّالِث: مَا يحصل بمعاونة الشَّيَاطِين بِضَرْب من التَّقَرُّب إِلَيْهِم وَإِلَى ذَلِك الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى: { وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر} (الْبَقَرَة: 102) الرَّابِع: مَا يحصل بمخاطبة الْكَوَاكِب واستنزال روحانياتها.
الْخَامِس: مَا يُوجد من الطلسمات.



[ قــ :5454 ... غــ :5763 ]
- حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخبرنَا عيسَى بنُ يُونُسَ عنْ هِشامٍ عنْ أبيهِ عنْ عائِشةَ رَضِي الله عَنْهَا قالَتْ: سَحَرَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجُلٌ مِنْ بَني زُرَيْقٌ يُقالُ لهُ: لَبيدُ بنُ الأعْصَمِ حتَّى كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّهُ كانَ يَفْعَلُ الشَّيءَ وَمَا فَعَلهُ، حَتَّى إذَا كانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَو ذَاتَ لَيْلةٍ وهْوَ عِنْدي لاكِنَّهُ دَعَا ودعا، ثُمَّ قَالَ: يَا عائِشَةُ أشَعَرْتِ أنَّ الله أفْتأني فِيمَا اسْتَفْتَيْتَهُ فيهِ؟ أتانِي رَجُلانِ فَقَعَدَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأسِي والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: مَا وجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ مَطْبُوبٌ.
قَالَ: مَنْ طَبهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ.
قَالَ: فِي أيِّ شَي؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ ومُشاطةٍ وجُفِّ طَلْعِ نخْلَةٍ ذكَرٍ.
قَالَ: وأيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوانَ، فَأَتَاهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي ناسِ مِنْ أصْحابِهِ فَجاءَ فَقَالَ: يَا عائِشةُ! كأنَّ ماءَها نُقاعَةُ الحِنَّاءِ أوْ: كأنَّ رُؤُوسَ نَخْلِها رُؤُوسُ الشَّياطِينِ قُلْتُ: يَا رسولَ الله أفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ عافانِي الله فَكَرِهْتُ أنْ أُثَوِّرَ عَلى النَّاسِ فيهِ شرّاً، فأمَرَ بِها فَدُفِنَتْ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (سحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل) وَعِيسَى بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.

والْحَدِيث مضى فِي صفة إِبْلِيس، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد.

قَوْله: (حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنِي بِالْإِفْرَادِ.
قَوْله: (عَن أَبِيه) وَقع فِي رِوَايَة يحيى الْقطَّان عَن هِشَام: حَدثنِي أبي، وَسَيَأْتِي فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن جريج: حَدثنِي آل عُرْوَة عَن عُرْوَة، وَفِي رِوَايَة الْحميدِي: عَن سُفْيَان عَن ابْن جريج حَدثنِي بعض آل عُرْوَة عَن عُرْوَة.
قَوْله: (من بني زُرَيْق) بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالقاف وهم بطن من الْأَنْصَار مَشْهُور من الْخَزْرَج، وَكَانَ بَين كثير من الْأَنْصَار وَبَين كثير من الْيَهُود قبل الْإِسْلَام حلف وود، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَدخل الْأَنْصَار فِيهِ تبرؤا مِنْهُم، وَالسّنة الَّتِي وَقع فِيهَا السحر سنة سبع، قَالَه الْوَاقِدِيّ، وَعَن الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَقَامَ فِيهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة، وَعند أَحْمد: سِتَّة أشهر، وَعَن السُّهيْلي: أَنه لبث سنة، ذكره فِي (جَامع معمر) عَن الزُّهْرِيّ.
قَوْله: (حَتَّى كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخيل إِلَيْهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول من التخييل وَبَعض المبتدعة أَنْكَرُوا هَذَا الحَدِيث وَزَعَمُوا أَنه يحط منصب النُّبُوَّة ويشكك فِيهَا لِأَن كل مَا أدّى إِلَى ذَلِك فَهُوَ بَاطِل، وتجويز هَذَا يعْدم الثِّقَة بِمَا شرعوه من الشَّرَائِع، ورد عَلَيْهِم ذَلِك بِقِيَام الدَّلِيل على صدقه فِيمَا بلغه من الله تَعَالَى وعَلى عصمته فِي التَّبْلِيغ، وَأما مَا يتَعَلَّق بِبَعْض أُمُور الدُّنْيَا الَّتِي لم يبْعَث لأَجلهَا فَهُوَ فِي ذَلِك عرضة لما يعْتَرض الْبشر: كالأمراض، وَقيل: لَا يلْزم من أَنه كَانَ يظنّ أَنه فعل الشَّيْء وَلم يكن فعله أَن يجْزم بِفِعْلِهِ ذَلِك،.

     وَقَالَ  عِيَاض: السحر تسلط على جسده وظواهر جوارحه لَا على تَمْيِيزه ومعتقده، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا روى فِي مُرْسل سعيد بن الْمسيب: حَتَّى كَاد يُنكر بَصَره.
قَوْله: (حَتَّى إِذا كَانَ ذَات يَوْم) لفظ: ذَات، مقحم للتَّأْكِيد.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ من إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى اسْمه،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: ذَات يَوْم، بِالرَّفْع، ويروى بِالنّصب.
قَوْله: (أَو ذَات لَيْلَة) شكّ من الرَّاوِي،.

     وَقَالَ  بَعضهم: الشَّك من البُخَارِيّ لِأَنَّهُ أخرجه فِي صفة إِبْلِيس: حَتَّى كَانَ ذَات يَوْم، وَلم يشك.
قلت: الشَّك من عِيسَى بن يُونُس فَإِن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أخرجه فِي (مُسْنده) عَنهُ على الشَّك.
قَوْله: (لكنه دَعَا ودعا) قَالَ الْكرْمَانِي: لكنه، للاستدراك فَمَا الْمُسْتَدْرك مِنْهُ؟ فَأجَاب بقوله: إِمَّا هُوَ عِنْدِي أَي: كَانَ عِنْدِي، لَكِن لم يشْتَغل بِي بل بِالدُّعَاءِ، وَإِمَّا كَانَ يخيل إِلَيْهِ أَنه يَفْعَله أَي: كَانَ المتخيل فِي الْفِعْل لَا فِي القَوْل، وَالْعلم إِذْ كَانَ دعاؤه على الصَّحِيح والقانون الْمُسْتَقيم، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن نمير عِنْد مُسلم: فَدَعَا ثمَّ دَعَا ثمَّ دَعَا، وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُود مِنْهُ أَنه كَانَ يُكَرر الدُّعَاء ثَلَاثًا.
قَوْله: (أشعرت؟) أَي: أعلمت.
قَوْله: (أفتاني فِيمَا استفتيته) أَي: أجابني فِيمَا دَعوته، وَفِي رِوَايَة الْحميدِي: (أفتاني فِي أَمر استفتيته فِيهِ) ، وَوَقع فِي رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة: (إِن الله أنبأني بمرضي) .
قَوْله: (أَتَانِي رجلَانِ) وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ كِلَاهُمَا عَن هِشَام: (أَتَانِي ملكان) ، وسماهما ابْن سعد فِي رِوَايَة مُنْقَطِعَة: (جِبْرَائِيل وَمِيكَائِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام.
قَوْله: (فَقعدَ أَحدهمَا عِنْد رَأْسِي) ، الظَّاهِر أَن الَّذِي قعد عِنْد رَأسه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لخصوصيته بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه مَا وجع الرجل؟) روى النَّسَائِيّ من حَدِيث زيد بن أَرقم: (سحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل من الْيَهُود فاشتكى لذَلِك أَيَّامًا، فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: إِن رجلا من الْيَهُود سحرك.
عقد لَك عقدا فِي بِئْر كَذَا) .
فَدلَّ هَذَا على أَن المسؤول هُوَ جِبْرِيل والسائل مِيكَائِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام.
قَوْله: (مَا وجع الرجل؟) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (مَا بَال الرجل؟) وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الْبَيْهَقِيّ: مَا نرى فِيهِ.
فَإِن قلت: هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب: هَل كَانَا وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَائِم أَو فِي الْيَقَظَة؟ قلت: قيل كَانَ ذَلِك فِي الْمَنَام: إِذْ لَو جَاءَ إِلَيْهِ وَهُوَ يقظان كَانَا يخاطبانه، وَهُوَ يسمع، وَأطلق فِي رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة أَنه كَانَ نَائِما، وَوَقع عِنْد ابْن سعد من حَدِيث ابْن عَبَّاس بِسَنَد ضَعِيف جدا، فهبط عَلَيْهِ ملكان وَهُوَ بَين النَّائِم وَالْيَقظَان، وعَلى كل حَال رُؤْيا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وَحي.
قَوْله: (مطبوب) أَي: مسحور، يُقَال: طب الرجل بِالضَّمِّ إِذا سحر، فَقَالَ: كنوا عَن السحر بالطب تفاؤلاً، كَمَا قَالُوا للديغ: سليم،.

     وَقَالَ  ابْن الْأَنْبَارِي الطِّبّ من الأضداد، يُقَال لعلاج الدَّاء: طب، وَالسحر من الدَّاء، فَيُقَال لَهُ: طب.
قَوْله: (فِي مشط ومشاطة) الْمشْط بِضَم الْمِيم وَسُكُون الشين وَبِضَمِّهَا وبكسر الْمِيم وَإِسْكَان الشين، وَأنكر أَبُو زيد كسر الْمِيم وأثبته أَبُو عبيد، وَهُوَ الْآلَة الْمَعْرُوفَة الَّتِي يسرح بهَا الرَّأْس واللحية، والمشط الْعظم العريض فِي الْكَتف وسلاميات الْقدَم وَنبت صَغِير يُقَال لَهُ مشط الذِّئْب،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن يكون الَّذِي سحر فِيهِ النَّبِي أحد هَذِه الْأَرْبَعَة.
قلت: الْمَشْهُور هُوَ الأول والمشاطة بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف الشين الْمُعْجَمَة مَا يخرج من الشّعْر عِنْد التسريح، وَفِيه خلاف يَأْتِي فِي آخر الْبابُُ.
قَوْله: (وجف طلع نَخْلَة ذكر) بِإِضَافَة جف إِلَى طلع، وَإِضَافَة طلع إِلَى نَخْلَة، ويروى: طلعة نَخْلَة،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: التَّاء فِي طلعة ونخلة للْفرق بَين الْجِنْس ومفرده، كتمر وَتَمْرَة،.

     وَقَالَ  عِيَاض: وَقع للجرجاني فِي البُخَارِيّ، وللعذري فِي مُسلم: جف، بِالْفَاءِ ولغيرهما بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس هُنَا بِالْفَاءِ، وللكشميهني وَلغيره بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي رِوَايَته فِي بَدْء الْخلق بِالْفَاءِ للْجَمِيع، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة للمستملي بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وللكشميهني بِالْفَاءِ، وَفِي رِوَايَة أبي ضَمرَة فِي الدَّعْوَات بِالْفَاءِ للْجَمِيع، وَهُوَ بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْفَاء وعَاء طلع النّخل: وَهُوَ الغشاء الَّذِي يكون عَلَيْهِ.
وَذكر الْقُرْطُبِيّ: الَّذِي هُوَ بِالْفَاءِ وعَاء الطّلع مثل مَا ذكرنَا، وبالباء الْمُوَحدَة دَاخل الطلعة إِذا خرج مِنْهَا الكفري، قَالَه شمر، وَيُطلق الجف على الذّكر وَالْأُنْثَى فَلذَلِك وَصفه بقوله (ذكر) و (الطّلع) مَا يطلع من النّخل وَهُوَ الكمء قبل أَن ينشق، وَيُقَال: مَا يَبْدُو من الكمء طلع أَيْضا وَهُوَ شَيْء أَبيض يشبه بلونه الْإِنْسَان وبرائحته الْمَنِيّ.
قَالَه فِي (الْمغرب) قَوْله: (ذروان) بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء، وَحكى ابْن التِّين فتحهَا وَأَنه قَرَأَهُ كَذَلِك، قَالَ: وَلكنه بِالسُّكُونِ أشبه،.

     وَقَالَ  صَاحب (التَّوْضِيح) وَفِي بعض نسخه: ذِي أروان، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وبالواو وَالنُّون، وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فِي بني زُرَيْق، وَوَقع فِي (كتاب الدَّعْوَات) : مِنْهُ ذروان فِي بني زُرَيْق وَعند الْأصيلِيّ عَن أبي زيد: ذِي أَوَان، بواو من غير رَاء، قَالَ ابْن قرقول: هُوَ وهم إِنَّمَا: ذُو أَوَان، مَوضِع آخر على سَاعَة من الْمَدِينَة وَبِه بنى مَسْجِد الضرار.
وَفِي كتاب الْبكْرِيّ: قَالَ القتبي: هِيَ بِئْر أروان، بِالْهَمْزَةِ مَكَان الذَّال،.

     وَقَالَ  الْأَصْمَعِي: وَبَعْضهمْ يخطىء وَيَقُول: ذروان قَوْله: (فَأَتَاهَا) أَي: فَأتى الْبِئْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (فجَاء) أَي: لما أَتَاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشاهدها، ثمَّ رَجَعَ فجَاء إِلَى عَائِشَة وأخبرها، وَفِي رِوَايَة وهيب: فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: يَا عَائِشَة، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: فَذهب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْبِئْر فَنظر إِلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَة.
قَوْله: (نقاعة الْحِنَّاء) بِضَم النُّون وَتَخْفِيف الْقَاف، أَرَادَ أَن مَاء هَذَا الْبِئْر لَونه كلون المَاء الَّذِي ينقع فِيهِ الْحِنَّاء، يَعْنِي: أَحْمَر، والحناء بِالْمدِّ مَعْرُوف.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: كَانَ مَاء الْبِئْر تغير إِمَّا لرداءته وَطول إِقَامَته، وَإِمَّا لما خالطه من الْأَشْيَاء الَّتِي ألقيت فِي الْبِئْر.
قَوْله: (وَكَانَ رُؤُوس نخلها رُؤُوس الشَّيَاطِين) وَفِي رِوَايَة بَدْء الْخلق كَأَنَّهُ رُؤُوس الشَّيَاطِين بِدُونِ ذكر النّخل، شبهها برؤوس الشَّيَاطِين فِي وحاشة منظرها وسماجة شكلها، وَهُوَ مثل فِي استقباح الصُّورَة، قَالَ الْفراء: فِيهِ ثَلَاثَة أوجه.
أَحدهَا: أَن يشبه طلعها فِي قبحه برؤوس الشَّيَاطِين لأنهاموصوفة بالقبح.
الثَّانِي: أَن الْعَرَب تسمى بعض الْحَيَّات شَيْطَانا الثَّالِث: نبت قَبِيح يُسَمِّي رُؤُوس الشَّيَاطِين، قيل إِنَّه يُوجد بِالْيَمِينِ فَإِن قلت: كَيفَ شبهه بهَا وَنحن لم نرها؟ قلت: على قَول من قَالَ: هِيَ نبت أَو حيات، ظَاهر.
وعَلى القَوْل الثَّالِث: إِن الْمَقْصُود مَا وَقع عَلَيْهِ التعارف من الْمعَانِي، فَإِذا قيل: فلَان شَيْطَان، فقد علم أَن الْمَعْنى خَبِيث قَبِيح، وَالْعرب إِذا قبحت مذكراً شبهته بالشيطان، وَإِذا قبحت مؤنثاً شبهته بالغول، وَلم تَرَهَا.
والشيطان نونه أَصْلِيَّة وَيُقَال: زَائِدَة.
قَوْله: (قلت: يَا رَسُول الله) القائلة هِيَ عَائِشَة، ويروى: أَفلا استخرجته.
قَوْله: (قد عافاني الله) يحْتَمل مَعْنيين: أَحدهمَا: لما عافاني الله من مرض السحر فَلَا حَاجَة إِلَى استخراجه، وَالْآخر: عافاني الله من الِاشْتِغَال باستخراج ذَلِك، لِأَن فِيهِ تهييج الشَّرّ، وَمَا أَنا بفاعل لذَلِك.
قَوْله: (أَن أثور) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْوَاو، ويروى: أَن أثير، من الإثارة، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد.
قَوْله: (شرا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: أثور، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني سوء وَهُوَ تَعْلِيم الْمُنَافِقين السحر من ذَلِك ويؤذون الْمُسلمين بِهِ، وَهَذَا من بابُُ ترك مفْسدَة لخوف مفْسدَة أعظم مِنْهَا، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة أَنه استخرجه، وَأَن سُؤال عَائِشَة إِنَّمَا وَقع عَن النشر فأجابها بِلَا، وَفِي رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة: فَنزل رجل فاستخرجه، وَفِيه من الزِّيَادَة أَنه وجد فِي الطلعة تمثالاً من شمع، تِمْثَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِذا فِيهِ إبر مغروزة وَإِذا وترفيه إِحْدَى عشرَة عقدَة، فَنزل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بالمعوذتين، فَكلما قَرَأَ آيَة انْحَلَّت عقدَة، وَكلما نزع إبرة وجد لَهَا ألماً، ثمَّ يجد بعْدهَا رَاحَة.
وَقَوله: (على النَّاس) فِيهِ تَعْمِيم وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن نمير: على أمتِي، وَهُوَ أَيْضا قَابل للتعميم، لِأَن الْأمة تطلق على أمة الْإِجَابَة، وَأمة الدعْوَة، وعَلى مَا هُوَ أَعم، وَهُوَ يرد على من زعم: أَن المُرَاد بِالنَّاسِ هُنَا لبيد بن الأعصم، لِأَنَّهُ كَانَ منافقاً فَأَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا يثير عَلَيْهِ شرا، لِأَنَّهُ كَانَ يُؤثر الإغضاء عَمَّن يظْهر الْإِسْلَام وَلَو صدر مِنْهُ مَا صدر، وَوَقع فِي حَدِيث عمْرَة عَن عَائِشَة: فَقيل: يَا رَسُول الله! لَو قتلته.
قَالَ: مَا وَرَاءه من عَذَاب الله أَشد، وَفِي رِوَايَة عمْرَة: فَأَخذه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاعترف فَعَفَا عَنهُ، وَقد تقدم فِي كتاب الْجِزْيَة قَول ابْن شهَاب: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقْتله.
وَأخرج ابْن سعد من مُرْسل عِكْرِمَة: أَنه لم يقْتله، وَنقل عَن الْوَاقِدِيّ أَن ذَلِك أصح من رِوَايَة من قَالَ: إِنَّه قَتله.
قَوْله: (فَأمر بهَا) أَي: بالبئر (فدفنت) .

تابَعَهُ أبُو أُسامَةَ وأبُو ضَمرَةَ وابنُ أبي الزِّناد عنْ هِشامٍ.

أَي: تَابع عِيسَى يُونُس هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة فِي روايتهم عَن هِشَام بن عُرْوَة.
الأول: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة وَيَأْتِي مَوْصُولا بعد بابَُُيْنِ، وَهُوَ: بابُُ السحر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل عَن هِشَام إِلَى آخِره.
الثَّانِي: أَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الْمِيم وبالراء: أنس بن عِيَاض اللَّيْثِيّ الْمدنِي، وَسَيَأْتِي مَوْصُولا فِي كتاب الدَّعْوَات إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّالِث: ابْن أبي الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن ذكْوَان مفتي بَغْدَاد.

وَقَالَ اللَّيْثُ وابنُ عُيَيْنَةَ عنْ هِشامٍ: فِي مُشْطٍ ومُشاقَةٍ.

أَي: قَالَ اللَّيْث بن سعد وسُفْيَان بن عُيَيْنَة فِي روايتهما عَن هِشَام بن عُرْوَة: فِي مشط ومشاقة، بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف الشين الْمُعْجَمَة وبالقاف، قَالَ الْكرْمَانِي: مَا يغزل من الْكَتَّان.
قلت: المشاقة مَا يتقطع من الْكَتَّان عِنْد تخليصه وتسريحه، وَقيل: المشاقة هِيَ المشاطة بِعَينهَا، وَالْقَاف بدل من الطَّاء لقرب الْمخْرج، وَفِيه نظر.

ويُقالُ: المُشاطَةُ مَا يخْرُجُ مِنَ الشَّعَرِ إِذا مُشِطَ، والمُشاقَةُ مِنْ مُشاقَةِ الكَتّانِ.

وَهِي رِوَايَة أبي ذَر قَوْله: (مشط) على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: (والمشاقة من مشاقة الْكَتَّان) ، وَالصَّوَاب: المشاقة من الْكَتَّان، إلاَّ إِذا فتح الْمِيم من مشاقة الْكَتَّان، وَيكون معنى المشاقة من: مشق الْكَتَّان، وَهُوَ تَخْلِيص الْكَتَّان مِنْهُ.