فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا

( بابُُ سُؤالِ النَّاسِ الإمامَ الاسْتِسْقَاءَ إذَا قَحَطُوا)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان سُؤال النَّاس الإِمَام.
فَقَوله: ( سُؤال النَّاس) ، مصدر مُضَاف إِلَى فَاعله، وَقَوله: ( الإِمَام) ، بِالنّصب مَفْعُوله، و ( الاسْتِسْقَاء) بِالنّصب مفعول آخر.
فَإِن قلت: الْفِعْل من غير أَفعَال الْقُلُوب لَا يَجِيء لَهُ مفعولان صريحان، بل يَجِيء إِذا كَانَ أَحدهمَا غير صَرِيح، وَكَيف هُوَ هَهُنَا؟ قلت: الَّذِي قلته هُوَ الْأَكْثَر، وَقد يَجِيء مُطلقًا، أَو نقُول: انتصاب الاسْتِسْقَاء بِنَزْع الْخَافِض أَي: عَن الاستسثقاء، يُقَال: سَأَلته الشَّيْء وَسَأَلته عَن الشَّيْء.
قَوْله: ( إِذا قحطوا) ، على صِيغَة الْمَعْلُوم، بِفَتْح الْقَاف والحاء، وبلفظ الْمَجْهُول يُقَال: قحط الْمَطَر قحوطا إِذا احْتبسَ.
وَحكى الْفراء: قحط بِالْكَسْرِ، وَجَاء: قحط الْقَوْم، على صِيغَة الْمَجْهُول.
قحطا.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: مَا معنى الْمَعْرُوف إِذْ الْمَطَر هُوَ المحتبس لَا النَّاس؟ وَأجَاب: بِأَنَّهُ من بابُُ الْقلب، أَو إِذا كَانَ هُوَ محتبسا عَنْهُم فهم محتبسون عَنهُ.
قيل: لَو أَدخل البُخَارِيّ حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمَذْكُور فِي الْبابُُ الَّذِي قبله لَكَانَ أنسب وأوضح.
وَأجِيب: بِأَن الَّذِي سَأَلَ قد يكون مُشْركًا، وَقد يكون مُسلما، وَقد يكون من الْفَرِيقَيْنِ، والسائل فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود كَانَ مُشْركًا حِينَئِذٍ، فَنَاسَبَ أَن يذكر فِي الَّذِي بعده من يَشْمَل الْفَرِيقَيْنِ، فَلذَلِك ذكر فِي التَّرْجَمَة مَا يشملهما، وَهُوَ لفظ النَّاس.



[ قــ :977 ... غــ :1008 ]
- حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ قَالَ حدَّثنا أبُو قُتَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَبْدِ الله ابنِ دِينَارٍ عنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أبي طالِبٍ:
( وَأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ)

( الحَدِيث 8001 طرفه فِي: 9001) .
مُنَاسبَة هَذَا للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( يستسقى الْغَمَام) لِأَن فَاعله مَحْذُوف، لِأَن تَقْدِيره: يستسقى النَّاس بالغمام، وَاعْترض بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون النَّاس فَاعِلا ليستسقى أَن يَكُونُوا سَأَلُوا الإِمَام أَن يستسقى لَهُم، فَلَا يُطَابق التَّرْجَمَة، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن معنى قَول أبي طَالب هَذَا فِي الْحَقِيقَة توسل إِلَى الله عز وَجل بِنَبِيِّهِ، لِأَنَّهُ حضر استسقاء عبد الْمطلب وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه، فَيكون استسقاء النَّاس الْغَمَام فِي ذَلِك الْوَقْت ببركة وَجهه الْكَرِيم، وَإِن لم يكن فِي الظَّاهِر أَن أحدا سَأَلَهُ، وَكَانُوا مستشفعين بِهِ، وَهُوَ فِي معنى السُّؤَال عَنهُ.
على ان ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَا أَرَادَ مُجَرّد مَا دلّ عَلَيْهِ شعر أبي طَالب، وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى قصَّة وَقعت فِي الْإِسْلَام حضرها.

قَوْله: ( حَدثنِي عَمْرو بن عَليّ) وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا، بِصِيغَة الْجمع، وَعَمْرو بن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي، وَأَبُو قُتَيْبَة سلم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام: ابْن قُتَيْبَة الْخُرَاسَانِي الْبَصْرِيّ، مَاتَ بعد الْمِائَتَيْنِ، وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة قَالَهَا أَبُو طَالب، وَهِي قصيدة طنانة لامية من بَحر الطَّوِيل، وَهِي مائَة بَيت وَعشر أَبْيَات، أَولهَا قَوْله:
( خليلي مَا أُذُنِي لأوّل عاذل ... 70 بصفواء فِي حق وَلَا عِنْد بَاطِل)

وَآخِرهَا قَوْله:
( وَلَا شكّ أَن الله رَافع أمره ... ومعليه فِي الدُّنْيَا وَيَوْم التجادل)

( كَمَا قد رأى فِي الْيَوْم والأمس جده ... ووالده رؤياهم غير آفل)

يذكر فِيهَا أَشْيَاء كَثِيرَة من عَدَاوَة قُرَيْش إِيَّاه بِسَبَب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومدحه نَفسه وَنسبه وَذكر سيادته وحمايته للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والتعرض لبني أُميَّة، وَغير ذَلِك، يعرفهَا من يقف عَلَيْهَا.
وَقد تمثل عبد الله بن عمر بِالْبَيْتِ الْمَذْكُور، وَمعنى التمثل: إنشاد شعر غَيره.
قَوْله: ( وأبيض) ، بِفَتْح الضَّاد وَضمّهَا، وَجه الْفَتْح أَن يكون مَعْطُوفًا على قَوْله: ( سيدا) فِي الْبَيْت الَّذِي قبله، وَهُوَ قَوْله:
( وَمَا ترك قوم لَا أَبَا لَك سيدا ... 70 يحوط الذمار غير ذرب مؤاكل)

و: الذمار، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة: وَهُوَ مَا لزمك حفظه مِمَّا وَرَاءَك، وَتعلق بِهِ قَوْله: ( غير ذرب) أَرَادَ بِهِ: ذرب اللِّسَان بِالشَّرِّ، وَأَصله من: ذرب الْمعدة، وَهُوَ فَسَادهَا، والمؤاكل، بِضَم الْمِيم: الَّذِي يستأكل، وَيجوز أَن يكون مَفْتُوحًا فِي مَوضِع الْجَرّ بِرَبّ الْمقدرَة، وَالْوَجْه الأول أوجه، وَوجه الضَّم هُوَ الرّفْع إِن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: وَهُوَ أَبيض.
قَوْله: ( يَسْتَسْقِي الْغَمَام بِوَجْهِهِ) جملَة وَقعت صفة لأبيض، ومحلها من الْإِعْرَاب النصب أَو الرّفْع على التَّقْدِيرَيْنِ.
قَوْله: ( ثمال الْيَتَامَى) كَلَام إضافي يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب على التَّقْدِيرَيْنِ الْمَذْكُورين، والثمال، بِكَسْر الثَّاء الْمُثَلَّثَة: قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ مطعم لِلْيَتَامَى، يُقَال: ثملهم يثملهم إِذا كَانَ يُطعمهُمْ وَفِي ( مجمع الغرائب) : يُقَال: هُوَ ثمال قومه إِذا كَانَ يقوم بأمرهم، وَفِي ( الْمُحكم) : فلَان ثمال بني فلَان، أَي: عمادهم.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: أَي الْمطعم عِنْد الشدَّة.
قَوْله: ( عصمَة للأرامل) ، كَذَلِك بِالْوَجْهَيْنِ فِي الْإِعْرَاب، والأرامل جمع أرمل، وَهُوَ الَّذِي نفد زَاده،.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: رجل أرمل وَامْرَأَة أرملة وَهِي المحتاجة والأرامل والأراملة، كسروه تكسير الْأَسْمَاء لغلبته، وكل جمَاعَة من رجال وَنسَاء أَو رجال دون نسَاء أَو نسَاء دون رجال أرامل بعد أَن يَكُونُوا مُحْتَاجين.
وَفِي ( الْجَامِع) : قَالُوا: وَلَا يُقَال رجل أرمل لِأَنَّهُ لَا يكَاد يذهب زَاده بذهاب امْرَأَته، إِذْ لم تكن قيِّمة عَلَيْهِ بالمعيشة، بِخِلَاف الْمَرْأَة، وَقد زعم قوم أَنه يُقَال: رجل أرمل إِذا مَاتَت امْرَأَته، قَالَ الحطيئة:
( هذي الأرامل قد قضيت حَاجَتهَا ... 70 فَمن لحَاجَة هَذَا الأرمل الذّكر)

قَالَ السُّهيْلي، رَحمَه الله تَعَالَى.
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ أَبُو طَالب: يستسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ، وَلم يره قطّ استسقى، إِنَّمَا كَانَ ذَاك من بعد الْهِجْرَة؟ وَأجَاب: بِمَا حَاصله: أَن أَبَا طَالب أَشَارَ إِلَى مَا وَقع فِي زمن عبد الْمطلب، حَيْثُ استسقى لقريش وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه وَهُوَ غُلَام، قيل: يحْتَمل أَن يكون أَو طَالب مدحه بذلك لما رأى من مخائل ذَلِك فِيهِ، وَإِن لم يُشَاهد وُقُوعه،.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: إِن فِي شعر أبي طَالب هَذَا دلَالَة على أَنه كَانَ يعرف نبوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يبْعَث، لما أخبرهُ بِهِ بحيراء وَغَيره من شَأْنه.
قيل: فِيهِ نظر، لِأَن ابْن إِسْحَاق زعم أَن أَبَا طَالب أنشأ هَذَا الشّعْر بعد الْبَعْث.
قلت: فِي هَذَا النّظر نظر، لِأَنَّهُ لما علم أَنه نَبِي بأخبار بحيراء وَغَيره أنْشد هَذَا الشّعْر بِنَاء على مَا علمه من ذَلِك قبل أَن يبْعَث صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.



[ قــ :977 ... غــ :1009 ]
- وقَالَ عُمَرُ بنُ حَمْزَةَ حدَّثنا سالِمٌ عنْ أبِيهِ رُبَّمَا ذكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ وأنَا أنْظُرُ إلَى وَجْهِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كلُّ مِيزَابٍ
( وأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ)

وَهُوَ قولُ أبِي طالِبٍ.

( أنظر الحَدِيث 8001) .

مُنَاسبَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: ( يستسقى) لِأَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يخبر عَن استسقاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ينظر إِلَى وَجهه الْكَرِيم، وَلم يكن استسقاؤه فِي ذَلِك إلاّ عَن سُؤال عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ البيهي فِي ( الدَّلَائِل) قَالَ: أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا بن أبي إِسْحَاق أخبرنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن دُحَيْم حَدثنَا جَعْفَر بن عَنْبَسَة حَدثنَا عبَادَة ابْن زِيَاد الْأَزْدِيّ عَن سعيد بن خَيْثَم عَن مُسلم الْملَائي عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: ( جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَالله لقد أَتَيْنَاك وَمَا لنا بعير يئط، وَلَا صبي يغط، ثمَّ أنْشد:
( أَتَيْنَاك والعذراء يدمى لبانها ... وَقد شغلت أم الصَّبِي عَن الطِّفْل)

( وَألقى بكفيه الصَّبِي استكانة ... من الْجُوع ضعفا مَا يمر وَمَا يحلى)

( وَلَا شَيْء مِمَّا يَأْكُل النَّاس عندنَا ... سوى الحنظل العاهي وَالْعِلْهِز الفسل)

( وَلَيْسَ لنا إلاّ إِلَيْك فرارنا ... وَأَيْنَ فرار النَّاس إلاّ إِلَى الرُّسُل؟)

فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجر رِدَاءَهُ حَتَّى صعد الْمِنْبَر، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسقنا.
.
)
الحَدِيث، وَفِيه: ( فجَاء أهل البطانة يصيحون: الْغَرق الْغَرق، فَضَحِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه، ثمَّ قَالَ: لله در أبي طَالب لَو كَانَ حَاضرا لقرت عَيناهُ، من ينشدنا شعره؟ فَقَالَ عَليّ: يَا رَسُول الله كَأَنَّك أردْت قَوْله:
( وأبيض يَسْتَسْقِي الْغَمَام بِوَجْهِهِ)

فَذكر أبياتا مِنْهَا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أجل، فَقَامَ رجل من بني كنَانَة فَأَنْشد أبياتا:
( لَك الْحَمد وَالْحَمْد مِمَّن شكر ... سقينا بِوَجْه النَّبِي الْمَطَر)

( دَعَا الله خالقه دَعْوَة ... 70 وأشخص مَعهَا إِلَيْهِ الْبَصَر)

( فَلم يَك إِلَّا كالف الردا ... 70 وأسرع حَتَّى رَأينَا الدُّرَر)

فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن يكن شَاعِر أحسن فقد أَحْسَنت)
.
ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق الَّذِي أوردهُ البُخَارِيّ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَوَاهُ ابْن مَاجَه مَوْصُولا فِي ( سنَنه) : حَدثنَا أَحْمد بن الْأَزْهَر عَن ابْن النَّضر هَاشم بن الْقَاسِم عَن أبي عقيل، يَعْنِي عبيد الله بن عقيل الثَّقَفِيّ، حَدثنَا عمر بن حَمْزَة حَدثنَا سَالم عَن أَبِيه، قَالَ: رُبمَا ذكرت قَول الشَّاعِر وَأَنا أنظر إِلَى وَجه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْمِنْبَر، فَمَا نزل حَتَّى جَيش كل ميزاب بِالْمَدِينَةِ، فَذكر قَول الشَّاعِر:
وأبيض يَسْتَسْقِي الْغَمَام بِوَجْهِهِ
إِلَى آخِره، وَعمر بن حَمْزَة هُوَ ابْن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، ابْن أخي سَالم بن عبد الله ابْن عمر، أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي ( الْأَدَب) أَيْضا، وَتكلم فِيهِ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ، وَوَثَّقَهُ ابْن حبَان،.

     وَقَالَ : كَانَ يخطىء.
.

     وَقَالَ  ابْن عدي: وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه، وروى لَهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه.
فَإِن قلت: عمر بن حَمْزَة هَذَا مُتَكَلم فِيهِ، وَكَذَلِكَ عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن دِينَار مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ، الْمَذْكُور فِي الطَّرِيق الموصولة، فَكيف أوردهما البُخَارِيّ فِي ( صَحِيحه) ؟ قلت: أُجِيب بِأَن إِحْدَى الطَّرِيقَيْنِ اعتضدت بِالْأُخْرَى، وَهُوَ من أَمْثِلَة أحد قسمي ( الصَّحِيح) كَمَا تقرر فِي مَوْضِعه، وَفِيه نظر، لَا يخفى.
قَوْله: ( وَأَنا أنظر) جملَة إسمية وَقعت حَالا.
قَوْله: ( يستسقى) ، جملَة فعلية وَقعت حَالا، كَذَلِك.
قَوْله: ( حَتَّى يَجِيش) بِالْجِيم والشين الْمُعْجَمَة، من: جاش الْبَحْر إِذا هاج، وجاش الْقدر جيشانا إِذا غلت، وجاش الْوَادي إِذا زهر وامتد جدا، وجاش الشَّيْء إِذا تحرّك، وَهُوَ هُنَا كِنَايَة عَن كَثْرَة الْمَطَر، و ( الْمِيزَاب) بِكَسْر الْمِيم وبالزاي مَعْرُوف، وَهُوَ مَا يسيل مِنْهُ المَاء من مَوضِع عَال، وَوَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: ( حَتَّى يَجِيش لَك) ، بِتَقْدِيم اللَّام على الْكَاف، وَهُوَ تَصْحِيف.

قَوْله: ( يئط) أَي: يحن، ويصيح، يُرِيد: مَا لنا بعير أصلا، لِأَن الْبَعِير لَا بُد أَن يئط.
قَوْله: ( وَلَا صبي يغط) ، من الغطيط، يُقَال: غط يغط غطا وغطيطا إِذا صَاح.
قَوْله: ( والعذراء) وَهِي الْجَارِيَة الَّتِي لم يَمَسهَا رجل، وَهِي الْبكر.
قَوْله: ( يدمي لبانها) ، بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ الصَّدْر، وأصل اللبان فِي الْفرس مَوضِع اللَّبن ثمَّ استعير للنَّاس، وَمعنى: يدمي لبانها يَعْنِي يدمي صدرها لامتهانها نَفسهَا فِي الْخدمَة حَيْثُ لَا تَجِد مَا تغطيه من تخدمها من الجدب وَشدَّة الزَّمَان.
وَقَوله: ( استكانة) أَي: خضوعا، وذلة.
قَوْله: ( مَا يمر) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء.
قَوْله: ( وَلَا يحلى) ، بِضَم الْيَاء أَيْضا.
وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر اللَّام، وَالْمعْنَى: مَا ينْطق بِخَير وَلَا شَرّ من الْجُوع والضعف، واشتقاق الأول: من المرارة، وَالثَّانِي: من الْحَلَاوَة، فَالْأول كِنَايَة عَن الشَّرّ، وَالثَّانِي: عَن الْخَيْر.
قَوْله: ( سوى الحنظل العاهي) ، الحنظل: مَعْرُوف، والعاهي: فَاعل من العاهة وَهِي: الآفة.
قَوْله: ( وَالْعِلْهِز) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَكسر الْهَاء وَفِي آخِره زَاي: وَهُوَ شَيْء يتخذونه فِي سني المجاعة يخلطون الدَّم بأوبار الْإِبِل ثمَّ يشوونه بالنَّار، ويأكلونه، وَقيل: كَانُوا يخلطون فِيهِ القردان، وَيُقَال: القراد الضخم العلهز، وَقيل: العلهز شَيْء ينْبت بِبِلَاد بني سليم لَهُ أصل كأصل البرذي، قَالَ ابْن الْأَثِير: وَمِنْه حَدِيث الاسْتِسْقَاء، وَأنْشد الأبيات الْمَذْكُورَة.
قَوْله: ( الفسل) ، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، وَهُوَ الشَّيْء الرَّدِيء الرذل، يُقَال: فسله وأفسله.
قَالَه ابْن الْأَثِير، ويروى بالشين الْمُعْجَمَة،.

     وَقَالَ  فِي بابُُ الشين: الفشل والفزع وَالْخَوْف والضعف، وَمِنْه حَدِيث الاسْتِسْقَاء:
سوى الحنظل العاهي وَالْعِلْهِز الفشل
أَي: الضَّعِيف يَعْنِي الفشل مدخره، وَأكله فصرف الْوَصْف إِلَى العلهز، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة لآكله.
قَوْله: ( الدُّرَر) ، بِكَسْر الدَّال وَفتح الرَّاء الأولى، جمع درة، بِكَسْر الدَّال وَتَشْديد الرَّاء، يُقَال: للسحاب درة، أَي: صب واندفاق.





[ قــ :978 ... غــ :1010 ]
- حدَّثنا الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله الأنْصَارِيُّ قَالَ حدَّثني أبي عَبْدُ الله بنُ المُثَنَّى عنْ ثَمامَةَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أنَسٍ عنْ أنَسٍ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كانَ إذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وإنَّا نتَوَسَّلُ إلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فاسْقِنَا قَالَ فيُسْقَوْنَ.

(الحَدِيث 0101 طرفه فِي: 0173) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَول عمر: (إِنَّا كُنَّا نتوسل إِلَيْك بنبينا.
.
) إِلَى آخِره، بَيَانه أَنهم كَانُوا إِذا استسقوا كَانُوا يستسقون بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي حَيَاته، وَبعده استسقى عمر بِمن مَعَه بِالْعَبَّاسِ عَم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فجعلوه كَالْإِمَامِ الَّذِي يسْأَل فِيهِ، لِأَنَّهُ كَانَ أمس النَّاس بِالنَّبِيِّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأقربهم إِلَيْهِ رحما فَأَرَادَ عمر أَن يصلها ليتصل بهَا إِلَى من كَانَ يَأْمر بصلَة الْأَرْحَام، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار أَن بني إِسْرَائِيل كَانُوا إِذا قحطوا استسقوا بِأَهْل بَيت نَبِيّهم، وَزعم ابْن قدامَة أَن ذَلِك كَانَ عَام الرَّمَادَة، وَذكر ابْن سعد وَغَيره أَن عَام الرَّمَادَة كَانَ سنة ثَمَانِي عشرَة، وَكَانَ ابتداؤه مصدر الْحَاج مِنْهَا ودام تِسْعَة أشهر، والرمادة، بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْمِيم: سمي الْعَام بهَا لما حصل من شدَّة الجدب، فاغبرت الأَرْض من عدم الْمَطَر، وَذكر سيف فِي (كتاب الرِّدَّة) : (عَن أبي سَلمَة: كَانَ أَبُو بكر الصّديق إِذا بعث جندا إِلَى أهل الرِّدَّة خرج ليشيعهم، وَخرج بِالْعَبَّاسِ مَعَه، قَالَ: يَا عَبَّاس استنصر وَأَنا أُؤْمِن، فَإِنِّي أَرْجُو أَن لَا يخيب دعوتك لِمَكَانِك من نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر الإِمَام أَبُو الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر فِي (كتاب الاسْتِسْقَاء) من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن حُسَيْن بن عبد الله عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْعَبَّاس قَالَ ذَلِك الْيَوْم: اللَّهُمَّ إِن عنْدك سحابا وَإِن عنْدك مَاء فانشر السَّحَاب ثمَّ أنزل مِنْهُ المَاء، ثمَّ أنزلهُ علينا وَاشْدُدْ بِهِ الأَصْل وأطل بِهِ الْفَرْع وأدر بِهِ الضَّرع، اللَّهُمَّ شفعنا إِلَيْك عَمَّن لَا منطق لَهُ من بهايمنا وأنعامنا.
اللَّهُمَّ إسقنا سقيا وَادعَة بَالِغَة طبقًا مجيبا، اللَّهُمَّ لَا نرغب إلاّ إِلَيْك وَحدك، لَا شريك لَك، اللَّهُمَّ إِنَّا نشكوا أُليك سغب كل ساغب وَعدم كل عادم وجوع كل جَائِع وعري كل عَار وَخَوف كل خَائِف.
.
) وَفِي حَدِيث أبي صَالح: (فَلَمَّا صعد عمر وَمَعَهُ الْعَبَّاس الْمِنْبَر، قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: اللَّهُمَّ إِنَّا توجهنا إِلَيْك بعم نبيك وصنو أَبِيه فاسقنا الْغَيْث وَلَا تجعلنا من القانطين، ثمَّ قَالَ: قل يَا أَبَا الْفضل، فَقَالَ الْعَبَّاس: اللَّهُمَّ لم ينزل بلَاء إلاّ بذنب، وَلم يكْشف إلاّ بتوبة وَقد توجه بِي الْقَوْم إِلَيْك لمكاني من نبيك، وَهَذِه أَيْدِينَا إِلَيْك بِالذنُوبِ، ونواصينا بِالتَّوْبَةِ، فاسقنا الْغَيْث.
قَالَ: فَأَرختْ السَّمَاء شآبيب مثل الْجبَال حَتَّى أخصبت الأَرْض وعاش النَّاس.

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح الزَّعْفَرَانِي.
الثَّانِي: مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمثنى بن عبد الله ابْن أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ، قَاضِي الْبَصْرَة، مَاتَ سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ.
الثَّالِث: أَبوهُ عبد الله بن الْمثنى الْمَذْكُور.
الرَّابِع: ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم: تقدم فِي: بابُُ من أعَاد.
.
الحَدِيث.
الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: رِوَايَة البُخَارِيّ عَن شَيْخه بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالْآخر بِصِيغَة الْإِفْرَاد.
وَفِيه: التحديث أَيْضا بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ شيخ البُخَارِيّ أَيْضا يروي عَنهُ أَيْضا كثيرا بِلَا وَاسِطَة، وَهَهُنَا روى عَنهُ بِوَاسِطَة.
وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن الْأَب وَهِي: رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الله عَن أَبِيه عبد الله بن الْمثنى، وَيَنْبَغِي أَن يقْرَأ عبد الله بِالرَّفْع فِي قَوْله: (حَدثنَا أبي عبد الله) لِأَنَّهُ يشْتَبه بالكنية، وَهُوَ عطف بَيَان، وَمحل تيقظ.
وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه، وَهِي: رِوَايَة عبد الله بن الْمثنى عَن عَمه ثُمَامَة بن عبد الله.
وَفِيه: أَن عبد الله بن الْمثنى من أَفْرَاده.
وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن جده، وَهِي: رِوَايَة ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس عَن أنس جده.

وَهَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ البُخَارِيّ عَن السِّتَّة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا قحطوا) ، بِضَم الْقَاف وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة أَي: أَصَابَهُم الْقَحْط.
قَوْله: (استسقى بِالْعَبَّاسِ) أَي: متوسلاً بِهِ حَيْثُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا.
.
) إِلَى آخِره، وَصفَة مَا دَعَا بِهِ الْعَبَّاس قد ذَكرنَاهَا عَن قريب.

وَفِيه من الْفَوَائِد: اسْتِحْبابُُ الاستشفاع بِأَهْل الْخَيْر وَالصَّلَاح وَأهل بَيت النُّبُوَّة.
وَفِيه: فضل الْعَبَّاس وَفضل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لتواضعه للْعَبَّاس ومعرفته بِحقِّهِ.
قَالَ ابْن بطال: وَفِيه: أَن الْخُرُوج إِلَى الاسْتِسْقَاء والاجتماع لَا يكون إلاّ بِإِذن الإِمَام لما فِي الْخُرُوج والاجتماع من الْآفَات الدَّاخِلَة على السُّلْطَان، وَهَذِه سنَن الْأُمَم السالفة قَالَ تَعَالَى: { وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه} (الْأَعْرَاف: 061) .