فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب استعمال فضل وضوء الناس

( بابُُ اسْتِعْمالِ فَضْل وَضُوءِ الناسِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس فِي التطهر وَغَيره.
وَالْوُضُوء، بِفَتْح الْوَاو؛ وَالْمرَاد من فضل الْوضُوء يحْتَمل أَن يكون مَا يبْقى فِي الظّرْف بعد الْفَرَاغ من الْوضُوء، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ المَاء الَّذِي يتقاطر عَن أَعْضَاء المتوضىء، وَهُوَ المَاء الَّذِي يَقُول لَهُ الْفُقَهَاء: المَاء الْمُسْتَعْمل.
وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِيهِ؛ فَعَن ابي حنيفَة ثَلَاث رِوَايَات: فروى عَنهُ أَبُو يُوسُف أَنه نجس مخفف، وروى الْحسن بن زِيَاد أَنه نجس مغلظ، وروى مُحَمَّد بن الْحسن وَزفر وعافية القَاضِي أَنه طَاهِر غير طهُور، وَهُوَ اخْتِيَار الْمُحَقِّقين من مَشَايِخ مَا وَرَاء النَّهر.
وَفِي ( الْمُحِيط) : وَهُوَ الْأَشْهر الأقيس.
.

     وَقَالَ  فِي ( الْمُفِيد) : وَهُوَ الصَّحِيح.
.

     وَقَالَ  الأسبيجابي: وَعَلِيهِ الْفَتْوَى.
.

     وَقَالَ  قاضيخان: وَرِوَايَة التَّغْلِيظ رِوَايَة شَاذَّة غير مَأْخُوذ بهَا، وَبِه يرد على ابْن حزم قَوْله: الصَّحِيح عَن ابي حنيفَة نَجَاسَته.
.

     وَقَالَ  عبد الحميد القَاضِي: أَرْجُو أَن لَا تثبت رِوَايَة النَّجَاسَة فِيهِ عَن ابي حنيفَة.
وَعند مَالك طَاهِر وطهور، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَأبي ثَوْر.
وَعند الشَّافِعِي طَاهِر غير طهُور وَهُوَ قَوْله الْجَدِيد.
وَعند زفر إِن كَانَ مستعمله طَاهِرا فَهُوَ طَاهِر وطهور، وَإِن مُحدثا فَهُوَ طَاهِر غير طهُور.
وَقَوله: اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس أَعم من أَن يسْتَعْمل للشُّرْب أَو لإِزَالَة الْحَدث أَو الْخبث أَو للاختلاط بِالْمَاءِ الْمُطلق، فعلى قَول النَّجَاسَة لَا يجوز اسْتِعْمَاله أصلا، وعَلى قَول الطّهُورِيَّة يجوز اسْتِعْمَاله فِي كل شَيْء، وعَلى قَول الطاهرية فَقَط يجوز اسْتِعْمَاله للشُّرْب والعجين والطبخ وَإِزَالَة الْخبث، وَالْفَتْوَى عندنَا على أَنه طَاهِر غير طهُور، كَمَا ذهب إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحسن.

والمناسبة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن الْبابُُ السَّابِق فِي صفة الْوضُوء، وَهَذَا الْبابُُ فِي بَيَان المَاء الَّذِي يفضل من الْوضُوء.

وأمَرَ جَرِيرُ بنُ عبْدِ اللَّهِ أهْلهُ أنْ يَتَوَضَّؤُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ

هَذَا الْأَثر غير مُطَابق للتَّرْجَمَة أصلا، فَإِن التَّرْجَمَة فِي اسْتِعْمَال فضل المَاء الَّذِي يفضل من المتوضىء، والأثر هُوَ الْوضُوء بِفضل السِّوَاك، ثمَّ فضل السِّوَاك إِن كَانَ مَا ذكره ابْن التِّين وَغَيره أَنه هُوَ المَاء الَّذِي ينتقع بِهِ السِّوَاك، فَلَا مُنَاسبَة لَهُ للتَّرْجَمَة أصلا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفضل الْوضُوء، وَإِن كَانَ المُرَاد أَنه المَاء الَّذِي يغمس فِيهِ المتوضىء سواكه بعد الاستياك، فَكَذَلِك لَا يُنَاسب التَّرْجَمَة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن هَذَا الصَّنِيع لَا يُغير المَاء فَلَا يمْنَع التطهر بِهِ.
قلت: من لَهُ أدنى ذوق من الْكَلَام لَا يَقُول هَذَا الْوَجْه فِي تطابق الْأَثر للتَّرْجَمَة.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنِير: إِن قيل: ترْجم على اسْتِعْمَال فضل الْوضُوء، ثمَّ ذكر حَدِيث السِّوَاك والمجة فَمَا وَجهه؟ قلت: مَقْصُوده الرَّد على من زعم أَن المَاء الْمُسْتَعْمل فِي الْوضُوء لَا يتَطَهَّر بِهِ.
قلت: هَذَا الْكَلَام أبعد من كَلَام ذَلِك الْقَائِل، فَأَي دَلِيل دلّ على ان المَاء فِي خبر السِّوَاك والمجة فضل الْوضُوء؟ وَلَيْسَ فضل الْوضُوء إِلَّا المَاء الَّذِي يفضل من وضوء المتوضي.
فَإِن كَانَ لفظ: فضل الْوضُوء، عَرَبيا فَهَذَا مَعْنَاهُ، وَإِن كَانَ غير عَرَبِيّ فَلَا تعلق لَهُ هَهُنَا.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فضل السِّوَاك هُوَ المَاء الَّذِي ينتقع فِيهِ السِّوَاك ليترطب، وسواكهم الْأَرَاك، وَهُوَ لَا يُغير المَاء.
قلت: بيّنت لَك أَن هَذَا كَلَام واهٍ، وَأَن فضل السِّوَاك لَا يُقَال لَهُ: فضل الْوضُوء، وَهَذَا لَا يُنكره إلاَّ معاند، وَيُمكن أَن يُقَال بِالْجَرِّ الثقيل: إِن المُرَاد من فضل السِّوَاك هُوَ المَاء الَّذِي فِي الظّرْف والمتوضىء يتَوَضَّأ مِنْهُ، وَبعد فَرَاغه من تسوكه عقيب فَرَاغه من الْمَضْمَضَة يرْمى السِّوَاك الملوث بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمل فِيهِ.
ثمَّ أثر جرير الْمَذْكُور وَصله ابْن أبي شيبَة فِي ( مُصَنفه) وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي ( سنَنه) وَغَيرهمَا من طَرِيق قيس بن أبي حَازِم عَنهُ، وَفِي بعض طرقه: كَانَ جرير يستاك ويغمس رَأس سواكه فِي المَاء، ثمَّ يَقُول لأَهله: توضأوا بفضله، لَا يُرى بِهِ بَأْس.



[ قــ :184 ... غــ :187 ]
- حدّثنا آدَمُ قَالَ حدّثنا شْعْبَةُ قَالَ حدّثنا الحَكَمُ قالَ سَمِعْتُ أبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ خَرَجَ عَلَيْنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْهَاجِرَةِ فَأُتَيِ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ فَصَلَّى النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ والعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ..
هَذَا الحَدِيث يُطَابق التَّرْجَمَة إِذا كَانَ المُرَاد من قَوْله: يَأْخُذُونَ من فضل وضوئِهِ مَا سَالَ من أَعْضَاء النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَإِن كَانَ المُرَاد مِنْهُ المَاء الَّذِي فضل عَنهُ فِي الْوِعَاء فَلَا مُنَاسبَة أصلا.

بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة.
الأول: آدم بن أبي اياس تقدم.
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج كَذَلِك.
وَالثَّالِث: الحكم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف: ابْن عتيبة، بِضَم الْعين وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، تقدم فِي بابُُ السمر بِالْعلمِ.
وَالرَّابِع: أَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء، واسْمه وهب بن عبد الله الثَّقَفِيّ الْكُوفِي، تقدم فِي بابُُ كِتَابَة الْعلم، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالسَّمَاع.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين عسقلاني وكوفي وواسطي.
وَمِنْهَا: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ.
وَمِنْهَا: أَن الحكم بن عتيبة لَيْسَ لَهُ سَماع من أحد من الصَّحَابَة إلاَّ أَبَا جُحَيْفَة، وَقيل: روى عَن أبي أوفى أَيْضا.

بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن الْحسن بن مَنْصُور.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة مُحَمَّد بن المثني عَن مُحَمَّد بن بشار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم كِلَاهُمَا عَن ابْن مهْدي، خمستهم عَن شُعْبَة عَنهُ بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَمُحَمّد بن بشار بِهِ.

بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: ( بالهاجرة) ، قَالَ ابْن سَيّده: الهجيرة والهجيرة والهجر والهاجر: نصف النَّهَار عِنْد زَوَال الشَّمْس مَعَ الظهيرة، وَقيل: عِنْد زَوَال إِلَى الْعَصْر، وَقيل فِي ذَلِك: إِنَّه شدَّة الْحر.
وهجر الْقَوْم وأهجروا وتهجروا: سَارُوا فِي الهجيرة.
وَفِي كتاب ( الأنواء الْكَبِير) لأبي حنيفَة: الهاجرة بالصيف قبل الظهيرة بِقَلِيل أَو بعْدهَا بِقَلِيل، يُقَال: أَتَيْته بالهجر الْأَعْلَى وبالهاجرة الْعليا، يُرِيد فِي آخر الهاجرة، والهو يجرة: قبل الْعَصْر بِقَلِيل، والهجر مثله.
وَسميت الهاجرة لهرب كل شَيْء مِنْهَا، وَلم أسمع بالهاجرة فِي غير الصَّيف إلاَّ فِي قَول العجاج فِي ثَوْر وَحش طرده الْكلاب فِي صميم الْبر:
( ولى كمصباح الدجى المزهورة ... كَانَ من آخر الهجيرة)

قوم هجان هم بالمقدورة.


وَفِي ( الموعب) : أَتَيْته بالهاجرة وَعند الهاجرة وبالهجير وَعند الهجير، وَفِي ( المغيث) : الهاجرة بِمَعْنى المهجورة، لِأَن السّير يهجر فِيهَا، كَمَاء دافق بِمَعْنى مدفوق، قَالَه الْهَرَوِيّ.
وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( والمهجر كالمهدي بدنه) ، فَالْمُرَاد التبكير إِلَى كل صَلَاة.
وَعَن الْخَلِيل: التهجير إِلَى الْجُمُعَة.
التبكير، وَهِي لُغَة حجازية.
قَوْله: ( فأُتي بِوضُوء) ، بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ.
قَوْله: ( فيتمسَّحون بِهِ) ، من بابُُ التفعل، وَهُوَ يَأْتِي لمعانٍ، وَمَعْنَاهُ هَهُنَا: الْعَمَل، ليدل على أَن أصل الْفِعْل حصل مرّة بعد مرّة، نَحْو تجرَّعه أَي: شربه جرعة بعد جرعة، وَالْمعْنَى هَهُنَا كَذَلِك، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم يمسح بِهِ وَجهه وَيَديه مرّة بعد أُخْرَى، وَيجوز أَن يكون للتكلف، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم لشدَّة الازدحام على فضل وضوئِهِ كَانَ يتعانى لتحصيله كتشجع وتصبر.
قَوْله: ( عنزة) ، بِالتَّحْرِيكِ: أقصر من الرمْح وأطول من العصار، وَفِيه زج كزج الرمْح.

وَأما الْإِعْرَاب فَقَوله: ( يَقُول) فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان: لسمعت، على قَول من يَقُول: إِن السماع يَسْتَدْعِي مفعولين، وَالْأَظْهَر أَنه: حَال.
قَوْله: ( بالهاجر) : الْبَاء، فِيهِ ظرفية بِمَعْنى: فِي الهاجرة.
قَوْله: ( يأخذونه) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر جعل الَّذِي هُوَ من أَفعَال المقاربة.
قَوْله: ( عنزة) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره مقدما، قَوْله: ( بَين يَدَيْهِ) ، وَالْجُمْلَة حَالية.

بَيَان إستنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ الدّلَالَة الظَّاهِرَة على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل إِذا كَانَ المُرَاد أَنهم كَانُوا يَأْخُذُونَ مَا سَالَ من أَعْضَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ المُرَاد أَنهم كَانُوا يَأْخُذُونَ مَا فضل من وضوئِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْإِنَاء فَيكون المُرَاد مِنْهُ التَّبَرُّك بذلك، وَالْمَاء طَاهِر فازداد طَهَارَة ببركة وضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَده الْمُبَارَكَة فِيهِ.
الثَّانِي: فِيهِ الدّلَالَة على جَوَاز التَّبَرُّك بآثار الصَّالِحين.
الثَّالِث: فِيهِ قصر الرباعة فِي السّفر، لِأَن الْوَاقِع كَانَ فِي السّفر، وَصرح فِي رِوَايَة أُخْرَى أَن خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا كَانَ من قبَّة حَمْرَاء من أَدَم بِالْأَبْطح بِمَكَّة.
الرَّابِع: فِيهِ نصب العنزة وَنَحْوهَا بَين يَدي الْمُصَلِّي إِذا كَانَ فِي الصَّحرَاء.

وَقَالَ أبُو مُوسَى دَعا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَدَحٍ فِيهِ ماءٌ فَغَسل يَدَيْهِ وَوجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا اشْرَبَا مِنْهُ وأَفْرِغَا علَى وُجُوهِكُمَا ونُحُورِكُمَا.

قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ هَذَا من الْوضُوء فِي شَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ مثل من استشفى بِالْغسْلِ لَهُ فَغسل.
قلت: أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَام أَنه لَا مُطَابقَة لَهُ للتَّرْجَمَة، وَلَكِن فِيهِ مُطَابقَة من حَيْثُ إِنَّه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما غسل يَدَيْهِ وَوَجهه فِي الْقدح صَار المَاء مُسْتَعْملا وَلكنه طَاهِر، إِذْ لَو لم يكن طَاهِرا لما أَمر بشربه وإفراغه على الْوَجْه والنحر، وَهَذَا المَاء طَاهِر وطهور أَيْضا بِلَا خلاف، وَلكنه إِذا وَقع مثل هَذَا من غير النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يكون المَاء على حَاله طَاهِرا، وَلَكِن لَا يكون مطهراً على مَا عرف.

بَيَان مَا فِيهِ من الْأَشْيَاء الأول: أَن أَبَا مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس، تقدم فِي بابُُ: أَي الْإِسْلَام أفضل.

الثَّانِي: أَن أَن هَذَا تَعْلِيق وَهُوَ طرف من حَدِيث مطول أخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي.
وأوله عَن أبي مُوسَى، قَالَ: ( كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالجعرانة وَمَعَهُ بِلَال، رَضِي الله عَنهُ، فَأَتَاهُ أَعْرَابِي قَالَ: أَلا تنجز لي مَا وَعَدتنِي؟ قَالَ: إبشر) الحَدِيث، وَفِيه: ( دَعَا بقدح فِيهِ مَاء فَغسل يَدَيْهِ) الحَدِيث.
وَأخرج أَيْضا قِطْعَة مِنْهُ فِي بابُُ الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب.
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي فَضَائِل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

الثَّالِث: الْقدح، بفتحين: هُوَ الَّذِي يُؤْكَل فِيهِ.
قَالَه ابْن الْأَثِير.
قلت: الْقدح فِي اسْتِعْمَال النَّاس الْيَوْم الَّذِي يشرب فِيهِ.
قَوْله: ( وَمَج فِيهِ) اي: صب مَا تنَاوله من المَاء بِفِيهِ فِي الْإِنَاء.
.

     وَقَالَ  ابْن الاثير.
مج لعابه إِذا قذفه.
وَقيل: لَا يكون مجاً حَتَّى تبَاعد بِهِ.
قَوْله: ( قَالَ لَهما) أَي: لأبي مُوسَى وبلال، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَكَانَ بِلَال مَعَ أبي مُوسَى حَاضرا عِنْد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَوْله: ( وأفرغا) من: الإفراغ.
قَوْله: ( وَنَحْو ركما) بالنُّون جمع نحر، وَهُوَ: الصَّدْر.

الرَّابِع: فِيهِ الدّلَالَة على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَفِيه جَوَاز مج الرِّيق فِي المَاء، قَالَه الْكرْمَانِي.
قلت: هَذَا فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن لعابه أطيب من الْمسك وَمن غَيره يستقذر، وَلِهَذَا كره الْعلمَاء.
وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مقَامه أعظم، وَكَانُوا يتدافعون على نخامته ويدلكون بهَا وُجُوههم لبركتها وطيبها، وخلوفه مَا كَانَ يشابه خلوف غَيره، وَذَلِكَ لمناجاته الْمَلَائِكَة فطيب الله نكهته وخلوف فَمه وَجَمِيع رَائِحَته.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل على أَن لعاب الْبشر لَيْسَ بِنَجس وَلَا بَقِيَّة شربه، وَذَلِكَ يدل على أَن نَهْيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن النفخ فِي الطَّعَام وَالشرَاب لَيْسَ على سَبِيل أَن مَا تطاير فِيهِ من اللعاب نجس، وَإِنَّمَا هُوَ خشيَة أَن يتقذرة الْآكِل مِنْهُ، فَأمر بالتأدب فِي ذَلِك.
.

     وَقَالَ  أَيْضا: وَحَدِيث ابي مُوسَى يحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالشرب من الَّذِي مج فِيهِ، والإفراغ على الْوُجُوه والنحور من أجل مرض أَو شَيْء أصابهما.
قَالَ الْكرْمَانِي: لم يكن ذَلِك من أجل مَا ذكره، بل كَانَ لمُجَرّد التَّيَمُّن والتبرك بِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر.
قلت: فعلى هَذَا لَا تطابق بَينه وَبَين تَرْجَمَة الْبابُُ، وَالْعجب من ابْن بطال حَيْثُ يَقُول بِالِاحْتِمَالِ فِي الَّذِي يدل على هَذَا الحَدِيث على التَّبَرُّك والتيمن ظَاهرا، وَيَقُول بِالْجَزْمِ فِي الَّذِي يحْتَمل غَيره.