فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: صدقة الفطر على الحر والمملوك

( بابُُ صَدَقَةِ الفِطْرِ عَلَى الحُرِّ وَالمَمْلُوكِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان وجوب صَدَقَة الْفطر على الْحر والمملوك، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة أَن الْحر والمملوك يستويان فِي صَدَقَة الْفطر، لَكِن بَينهمَا فرق فِي جِهَة الْوُجُوب، لِأَن الْحر تجب على نَفسه والمملوك على سَيّده، وَلَكِن فِيهِ أَيْضا فرق وَهُوَ أَنه إِذا كَانَ للْخدمَة تجب على سَيّده، وَإِن كَانَ للتِّجَارَة فَلَا تجب خلافًا للشَّافِعِيّ.
.

     وَقَالَ  شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: إِذا كَانَ: قُلْنَا بقول الْجُمْهُور، أَن صَدَقَة الْفطر على سيد العَبْد لَا على العَبْد، فَهَل وَجَبت على السَّيِّد ابْتِدَاء أَو وَجَبت على العَبْد وتحملها السَّيِّد بالانتقال عَنهُ؟ قَالَ الرَّوْيَانِيّ: ظَاهر الْمَذْهَب هُوَ الأول.
قَالَ الإِمَام: وَذكر طَائِفَة من الْمُحَقِّقين أَن هَذَا الْخلاف فِي فطْرَة الزَّوْجَة، وَأما فطْرَة العَبْد فَتجب على السَّيِّد ابْتِدَاء بِلَا خلاف، وَتجب على السَّيِّد سَوَاء كَانَ العَبْد مَرْهُونا أَو مُسْتَأْجرًا أَو خائنا أَو ضَالًّا أَو مَغْصُوبًا أَو آبقا، لِأَن ملكه لَا يَنْقَطِع بذلك.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: أجمع من يحفظ عَنهُ من أهل الْعلم أَن لَا صَدَقَة على الذِّمِّيّ عَن عَبده الْمُسلم، وَكَذَا ذكر فِي ( الْمُحِيط) لِأَن الْفطْرَة زَكَاة فَلَا تجب على الْكَافِر زَكَاة،.

     وَقَالَ  أَبُو ثَوْر: تجب عَلَيْهِ إِن كَانَ لَهُ مَال، لِأَن العَبْد يملك عِنْده، وَإِن كَانَ عَبده آبقا أَو مأسورا أَو مَغْصُوبًا مجحودا لَا تجب هَكَذَا فِي ( الْبَدَائِع) و ( الْيَنَابِيع) وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْمُنْذر، وَعَن أبي حنيفَة: تجب فِي الْآبِق، وَبِه قَالَ عَطاء وَالثَّوْري،.

     وَقَالَ  الزُّهْرِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: تجب إِن كَانَ فِي دَار الْإِسْلَام، وَفِي الْمَرْهُون على الْمَشْهُور إِن فضل لَهُ بعد الدّين تجب، وَعَن أبي يُوسُف: لَا تجب حَتَّى يفتكه وَإِن هلك قبله، وَلَا صَدَقَة على الرَّاهِن بِخِلَاف عَبده الْمُسْتَغْرق بِالدّينِ، وَالَّذِي فِي رقبته جِنَايَة.
قَالَ أَبُو يُوسُف: ورقيق الأحباس ورقيق القوام الَّذين يقومُونَ على زَمْزَم ورقيق الْفَيْء وَالْغنيمَة والسبي والأسر قبل الْقِسْمَة لَا فطْرَة فيهم، وَالْعَبْد الْمُوصى بِرَقَبَتِهِ لإِنْسَان وبخدمته لآخر تجب على الْمُوصى لَهُ بِالرَّقَبَةِ دون الْخدمَة، كَالْعَبْدِ الْمُسْتَعَار.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمَاجشون: تجب على مَالك الْخدمَة، وَتجب عَن عبيد العبيد، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي.
.

     وَقَالَ  مَالك: لَا شَيْء فيهم.
وَفِي مُعتق الْبَعْض أَقْوَال سِتَّة.
الأول: لَا شَيْء فِيهِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة.
وَالثَّانِي: تجب على الْمُعْتق لِأَن لَهُ أَن يعتقهُ كُله إِن كَانَ لَهُ مَال، وَهُوَ قَوْلهمَا لِأَنَّهُ حر عِنْدهمَا، وَالثَّالِث: يُؤَدِّي الْمَالِك نصف صَدَقَة فطره، وَلَا شَيْء على العَبْد فِيمَا عتق.
وَالرَّابِع: تجب عَلَيْهِمَا صَدَقَة كَامِلَة إِذا ملكا فضلا عَن قوتهما، قَالَه أَبُو ثَوْر وَالشَّافِعِيّ.
وَالْخَامِس: يُؤَدِّي الَّذِي يملك نصِيبه صَدَقَة كَامِلَة، وَهُوَ قَول ابْن الْمَاجشون.
وَالسَّادِس: على سَيّده بِقدر مَا يملكهُ، وَفِي ذمَّة الْمُعْتق بِقدر حُرِّيَّته، فَإِن لم يكن لَهُ مَال يزكّى سَيّده كُله.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي المَمْلُوكِينَ لِلتِّجَارَةِ يُزَكَّى فِي التِّجَارَةِ ويُزَكَّى فِي الفِطْرِ

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، الزُّهْرِيّ وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَهَذَا التَّعْلِيق وصل بعضه أَبُو عبيد فِي ( كتاب الْأَمْوَال) وَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب قَالَ: لَيْسَ على الْمَمْلُوك زَكَاة، وَلَا يُزكي عَنهُ سَيّده إِلَّا زَكَاة الْفطر قَوْله: للتِّجَارَة، يجوز أَن يكون للْحَال، وَأَن يكون صفة أَي فِي المملوكين المعدين للتِّجَارَة، فعلى الأول مَحَله النصب وعَلى الثَّانِي الْجَرّ.
قَوْله: ( يزكّى) ، أَي: يُؤَدِّي الزَّكَاة فِي مماليك التِّجَارَة من جِهَتَيْنِ، فَفِي رَأس الْحول تجب زَكَاة قيمتهم، وَفِي صَدَقَة الْفطر زَكَاة بدنهم.



[ قــ :1451 ... غــ :1511 ]
- حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
قَالَ فرَضَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَقَةَ الفِطْرِ أوْ قَالَ رَمَضَان علَى الذَّكرِ وَالأنْثى وَالحُرِّ والمَمْلُوكِ صَاعا مِنْ تَمْرٍ أوْ صَاعا مِنْ شَعِيرٍ فعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صاعٍ مِنْ بُرٍّ فكانَ ابنُ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُعْطِي التَّمْرَ فأعْوَزَ أهْلُ المَدِينَةِ مِنَ التَّمْرِ فأعْطى شَعِيرا فكانَ ابنُ عُمَرَ يُعْطِي عَن الصَّغِيرِ والكَبِيرِ حَتَّى كانِ يُعْطي عنْ بَنِيَّ وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُعْطِيها الَّذِينَ يَقْبَلُونَهَا وكانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيومٍ أوْ يَوْمَيْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( والمملوك) ، وَرِجَاله ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، وَقد مضى الْكَلَام فِي صدر الحَدِيث فِيمَا مضى عَن قريب.

قَوْله: ( فَعدل النَّاس) أَي: مُعَاوِيَة وَمن كَانَ مَعَه،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: ( النَّاس) أَي: مُعَاوِيَة، ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: التَّخْصِيص بِهِ خلاف الظَّاهِر، فَيكون المُرَاد بِهِ الصَّحَابَة فَيصير إِجْمَاعًا سكوتيا.
ثمَّ قَالَ: قلت: الأَصْل فِي: اللَّام، أَن تكون للْجِنْس الصَّادِق على الْقَلِيل وَالْكثير والاستغراق مجَازًا.
انْتهى.
قلت: هَذَا تعسف، فَلَو قَالَ من الأول مثل مَا قُلْنَا مَا كَانَ يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّطْوِيل، مَعَ أَن قَوْله الأَصْل فِي: اللَّام، أَن تكون للْجِنْس لَيْسَ كَذَلِك، بل الأَصْل فِي اللَّام أَن تكون للْعهد كَمَا قَالَه الْمُحَقِّقُونَ.
قَوْله: ( فَكَانَ ابْن عمر يُعْطي التَّمْر) وَفِي رِوَايَة مَالك فِي ( الْمُوَطَّأ) عَن نَافِع: ( كَانَ ابْن عمر لَا يخرج إِلَّا التَّمْر فِي زَكَاة الْفطر إلاَّ مرّة وَاحِدَة فَإِنَّهُ أخرج شَعِيرًا) .
وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب: ( كَانَ ابْن عمر إِذا أعْطى أعْطى التَّمْر إلاَّ عَاما وَاحِدًا) .
قَوْله: ( فأعوز) ، بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالزَّاي: أَي: احْتَاجَ.
تَقول: أعوزني الشَّيْء إِذا احتجت إِلَيْهِ وَلم تقدر عَلَيْهِ.
قَالَ الْكرْمَانِي: فأعوز بِلَفْظ الْمَعْرُوف والمجهول: يُقَال: أعوزه الشَّيْء إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ فَلم يقدر عَلَيْهِ، وعوز الشَّيْء إِذا لم يُوجد، وأعوز أَي: افْتقر.
قَوْله: ( حَتَّى أَن كَانَ) قَالَ الْكرْمَانِي مَا محصله: إِنَّه روى: ان، بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا، وَشرط المخففة الْمَكْسُورَة، اللَّام، وَشرط الْمَفْتُوحَة: قد، وَنَحْوه وَقد يكون وَاحِد مِنْهُمَا مُقَدرا، أَو أَن: ان، مَصْدَرِيَّة و: كَانَ، زَائِدَة.
قلت: هَذَا تعسف، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: أَن، مُخَفّفَة من المثقلة، وَأَصله حَتَّى إِنَّه، كَانَ، أَي: حَتَّى أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ يُعْطي.
قَوْله: ( بني) أَصله بنُون لي، فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم صَار: بنيي، بياءين فأدغمت الْيَاء فِي الْيَاء فَصَارَ: بني، قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: بني هُوَ قَول نَافِع يَعْنِي: كَانَ ابْن عمر يُعْطي عَن أَوْلَادنَا وهم موَالِي عبد الله وَفِي نَفَقَته، فَكَانَ يُعْطي عَنْهُم الْفطْرَة.
قلت: قَوْله: ( بني) هُوَ قَول نَافِع، لَيْسَ قَول نَافِع لفظ بني فَقَط، وَإِنَّمَا قَوْله من قَوْله: ( فَكَانَ ابْن عمر.
.
)
إِلَى آخر الحَدِيث من كَلَام نَافِع، قَوْله: ( وَكَانَ ابْن عمر يُعْطِيهَا الَّذين يقبلونها) ، وهم الَّذين ينصبهم الإِمَام لقبض الزكوات، وَقيل: مَعْنَاهُ من قَالَ: أَنا فَقير،.

     وَقَالَ  بَعضهم: الأول أظهر.
قلت: بل الثَّانِي أظهر على مَا لَا يخفى.
قَوْله: ( وَكَانُوا) أَي: النَّاس، يعطونها أَي: صَدَقَة الْفطر، قبل الْفطر: أَي يَوْم الْفطر، بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: صَدَقَة الْفطر من التَّمْر وَالشعِير صَاع، وَفِيه: أَنهم عدلوا الصَّاع من التَّمْر بِنصْف صَاع من الْبر، فَأَعْطوهُ، وَهُوَ حجَّة للحنفية من أَن صَدَقَة الْفطر من الْبر نصف صَاع.
وَفِيه: أَن الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْحر وَالْعَبْد سَوَاء فِي الْفطْرَة.
وَفِيه: جَوَاز تَقْدِيم صَدَقَة الْفطر قبل يَوْم الْفطر بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ.
وَفِيه: قَالَ ابْن بطال: لَا يجوز إلاَّ أَن يُعْطي من قوته، لِأَن التَّمْر كَانَ بِهِ جلّ عيشهم، فحين لم يَجدوا كَانُوا أعْطوا الشّعير.
وَفِيه: أَن أَي من قَالَ: أَنا فَقير فأقبلها يُعْطِيهِ وَلَا يسْأَل عَن حَقِيقَة فقره.