فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

( بابُُ حُبُّ الرَّسولِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الإِيمَانِ)

يجوز فِي بابُُ الرّفْع مَعَ التَّنْوِين على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذَا بابُُ، وَيجوز بِالْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة الَّتِي بعده، لِأَن قَوْله: حب الرَّسُول، كَلَام إضافي مُبْتَدأ، أَو قَوْله: من الْإِيمَان خَبره، وَيجوز فِيهِ الْوَقْف.
لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بالتركيب.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على وجوب محبَّة كائنة من الْإِيمَان، وَاللَّام فِي: الرَّسُول، للْعهد، وَالْمرَاد بِهِ: سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا جنس الرَّسُول وَلَا الِاسْتِغْرَاق بِقَرِينَة.
قَوْله: ( حَتَّى أكون أحب) وَإِن كَانَت محبَّة الْكل وَاجِبَة.



[ قــ :14 ... غــ :14 ]
- حدّثنا أبُو اليَمانِ قالَ أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قالَ حَدثنَا أبُو الزِّنادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ أنَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى أكُونَ أحَبَّ إليهِ مِنْ والِدِهِ وَوَلَدِهِ.

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

( بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة.
الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَقد ذكر.
الثَّانِي: شُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَقد مر ذكره.
الثَّالِث: أَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وبالنون، وَهُوَ عبد الله بن ذكْوَان الْمدنِي الْقرشِي، وَكَانَ يغْضب من هَذِه الكنية لَكِن اشْتهر بهَا، ويكنى أَيْضا، بِأبي عبد الرَّحْمَن، وَقد اتّفق على إِمَامَته وجلالته، وَكَانَ الثَّوْريّ يُسَمِّيه: أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث.
.

     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم: هُوَ ثِقَة صَاحب سنة وَهُوَ مِمَّن تقوم بِهِ الْحجَّة إِذْ روى عَنهُ الثِّقَات، وَشهد مَعَ عبد الله بن جَعْفَر جَنَازَة فَهُوَ إِذن تَابِعِيّ صَغِير، وروى عَنهُ جماعات من التَّابِعين وَهَذَا من فضائله، لِأَنَّهُ لم يسمع من الصَّحَابَة، وروى عَنهُ التابعون، وولاه عمر بن عبد الْعَزِيز خراج الْعرَاق،.

     وَقَالَ  اللَّيْث بن سعد: رَأَيْت أَبَا الزِّنَاد وَخَلفه ثَلَاثمِائَة تَابع من طَالب علم وَفقه وَشعر وصنوف، ثمَّ لم يلبث أَن بَقِي وَحده، وَأَقْبلُوا على ربيعَة، وَكَانَ ربيعَة يَقُول: شبر من خطْوَة خير من ذِرَاع من علم،.

     وَقَالَ  أَحْمد: أَبُو الزِّنَاد افقه من ربيعَة.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ أَبُو الزِّنَاد فَجْأَة فِي مغتسله سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة وَهُوَ ابْن سِتّ وَسِتِّينَ سنة.
.

     وَقَالَ  البُخَارِيّ: أصح أَسَانِيد أبي هُرَيْرَة: أَبُو الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة.
روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الرَّابِع: الْأَعْرَج وَهُوَ أَبُو دَاوُد عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، تَابِعِيّ مدنِي قرشي، مولى ربيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب، روى عَن أبي سَلمَة وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَارِي، روى عَنهُ: الزُّهْرِيّ وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَيحيى بن أبي كثير وَآخَرُونَ وَاتَّفَقُوا على توثيقه، مَاتَ بالإسكندرية سنة سبع عشرَة وَمِائَة على الصَّحِيح، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
وَاعْلَم أَن مَالِكًا لم يرو عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز هَذَا إلاَّ بِوَاسِطَة، وَأما عبد الله بن يزِيد بن هُرْمُز فقد روى عَنهُ مَالك، وَأخذ عَنهُ الْفِقْه وَهُوَ عَالم من عُلَمَاء الْمَدِينَة قَلِيل الرِّوَايَة جدا، توفّي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة، فَحَيْثُ يذكر مَالك بن هُرْمُز ويحكى عَنهُ فَإِنَّمَا يُرِيد: عبد الله بن يزِيد هَذَا الْفَقِيه، لِأَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، صَاحب أبي الزِّنَاد الْمُحدث، هَذَا، إِنَّمَا يحدث عَنهُ بِوَاسِطَة ذَلِك، ووفاته سنة: سبع عشرَة وَمِائَة على مَا ذكرنَا، وَهَذَا وَفَاته سنة: ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة، وَهَذَا مَوضِع التباس على كثير من النَّاس ذكرته للْفرق بَينهمَا، فَافْهَم.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة وَقد مضى ذكره.

( بَيَان لطائف إِسْنَاده) : مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة، وَفِي بعض النّسخ: أخبرنَا شُعَيْب، فعلى هَذَا يكون فِيهِ: الْإِخْبَار أَيْضا، والتفريق بَين حَدثنَا وَأخْبرنَا لَا يَقُول بِهِ البُخَارِيّ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْعلم.
وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده مُشْتَمل على حمصيين ومدنيين.
وَمِنْهَا: أَنه قد وَقع فِي ( غرائب مَالك) للدارقطني إِدْخَال رجل، وَهُوَ أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، بَين الْأَعْرَج وَأبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الحَدِيث، وَهِي زِيَادَة شَاذَّة، فقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ بِدُونِهَا من حَدِيث مَالك وَمن حَدِيث إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، وروى ابْن مَنْدَه من طَرِيق أبي حَاتِم الرَّازِيّ عَن أبي الْيَمَان شيخ البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث مُصَرحًا فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيع الاسناد، وَكَذَا للنسائي من طَرِيق عَليّ بن عَيَّاش، عَن شُعَيْب.

( بَيَان من أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن أبي هُرَيْرَة وَأنس رَضِي الله عَنْهُمَا، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن ابْن الْمثنى، وَابْن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة، وَرَوَاهُ عَن زُهَيْر عَن ابْن علية، وَعَن شَيبَان بن فروخ عَن عبد الْوَارِث، كِلَاهُمَا عَن عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس، وَأخرجه النَّسَائِيّ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى للنسائي: ( حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من مَاله وَأَهله وَالنَّاس أَجْمَعِينَ) .

( بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله: ( وَالَّذِي) الْوَاو: فِيهِ للقسم، وَالَّذِي، صفة موصوفه مَحْذُوف تَقْدِيره: وَالله الَّذِي.
قَوْله: ( نَفسِي) مُبْتَدأ و ( بِيَدِهِ) خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول أَعنِي: الَّذِي.
قَوْله: ( لَا يُؤمن) نفي وَهُوَ جَوَاب الْقسم.
قَوْله: ( حَتَّى) للغاية هُنَا ( وأكون) مَنْصُوب بِتَقْدِير: حَتَّى أَن أكون، وَقد علم أَن الْفِعْل بعد حَتَّى لَا ينْتَصب إلاَّ إِذا كَانَ مُسْتَقْبلا، ثمَّ إِن كَانَ استقباله بِالنّظرِ إِلَى زمن الْمُتَكَلّم فالنصب وَاجِب نَحْو: { لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين حَتَّى يرجع إِلَيْنَا مُوسَى} ( طه: 91) وَإِن كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قبلهَا خَاصَّة فالوجهان نَحْو: { وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول} ( الْبَقَرَة: 214) الْآيَة، فَإِن قَوْلهم: إِنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبل بِالنّظرِ إِلَى الزلزال لَا بِالنّظرِ إِلَى زمن قصّ ذَلِك علينا.
قَوْله: ( أحب) نصب لِأَنَّهُ خبر أكون، وَلَفظه: أحب، أفعل التَّفْضِيل بِمَعْنى الْمَفْعُول، وَهُوَ على خلاف الْقيَاس، وَإِن كَانَ كثيرا إِذْ الْقيَاس أَن يكون بِمَعْنى الْفَاعِل،.

     وَقَالَ  ابْن مَالك: إِنَّمَا يشذ بِنَاؤُه للْمَفْعُول إِذا خيف اللّبْس بالفاعل، فَإِن أَمن بِأَن لم يسْتَعْمل الْفِعْل للْفَاعِل، أَو قرن بِهِ مَا يشْعر بِأَنَّهُ للْمَفْعُول لَا يشذ كَقَوْلِهِم: هُوَ أشغل من ذَات النحيين وَهُوَ أكسر من البصل.
وَعبد الله بن أبي ألعن من لعن على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى، وَلَا أحرم مِمَّن عدم الْإِنْصَاف، وَلَا أظلم من قَتِيل كربلا، وَهُوَ أزهى من الديك، وأرجى، وأخوف، وأهيب وَلَا يقْتَصر على السماع لِكَثْرَة مَجِيئه.
فَإِن قلت: لَا يجوز الْفَصْل بَين الْفِعْل ومعموله لِأَنَّهُ كالمضاف والمضاف إِلَيْهِ، فَكيف وَقع لَفْظَة: إِلَيْهِ، هَهُنَا فصلا بَينهمَا؟ قلت: الْفَصْل بالأجنبي مَمْنُوع لَا مُطلقًا والظرف فِيهِ توسع فَلَا يمْنَع.

( بَيَان الْمعَانِي) فَائِدَة القَسَم، تَأْكِيد الْكَلَام بِهِ، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ جَوَاز الْقسم على الْأَمر الْمُبْهم توكيداً، وَإِن لم يكن هُنَاكَ من يَسْتَدْعِي الْحلف، وَلَفظ الْيَد من المتشابهات، فَفِي مثل هَذَا افترق الْعلمَاء على فرْقَتَيْن: إِحْدَاهمَا: مَا تسمى مفوضة: وهم الَّذين يفوضون الْأَمر فِيهَا إِلَى الله تَعَالَى قائلين: { وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} ( آل عمرَان: 7) وَالْأُخْرَى: تسمى مؤولة، وهم الَّذين يؤولون مثل هَذَا، كَمَا يُقَال: المُرَاد من الْيَد الْقُدْرَة، عاطفين { والراسخون فِي الْعلم} ( آل عمرَان: 7) على: الله وَالْأول أسلم، وَالثَّانِي أحكم.
قلت: ذكر أَبُو حنيفَة أَن تَأْوِيل الْيَد بِالْقُدْرَةِ، وَنَحْو ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى التعطيل، فَإِن الله تَعَالَى أثبت لنَفسِهِ يدا، فَإِذا أولت بِالْقُدْرَةِ يصير عين التعطيل، وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْبَغِي فِي مثل هَذَا أَن نؤمن بِمَا ذكره الله من ذَلِك على مَا أَرَادَهُ، وَلَا نشتغل بتأويله، فَنَقُول: لَهُ يَد على مَا أَرَادَهُ لَا كيد المخلوقين، وَكَذَلِكَ فِي نَظَائِر ذَلِك.
قَوْله: ( لَا يُؤمن) أَي: إِيمَانًا كَامِلا، وَيُقَال المُرَاد من الحَدِيث: بذل النَّفس دونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: { يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} ( الْأَنْفَال: 64) أَي: وحسبك من اتبعك من الْمُؤمنِينَ، ببذل أنفسهم دُونك.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: قَالَ أَبُو الزِّنَاد: هَذَا من جَوَامِع الْكَلم الَّذِي أوتيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذْ أَقسَام الْمحبَّة ثَلَاثَة: محبَّة إجلال وإعظام كمحبة الْوَالِد، ومحبة رَحْمَة وإشفاق كمحبة الْوَلَد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة النَّاس بَعضهم بَعْضًا، فَجمع عَلَيْهِ السَّلَام، ذَلِك كُله.
قَالَ القَاضِي: وَمن محبته: نصْرَة سنته، والذب عَن شَرِيعَته، وتمني حُضُور حَيَاته، فيبذل نَفسه وَمَاله دونه، وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن حَقِيقَة الْإِيمَان لَا تتمّ إلاَّ بِهِ، وَلَا يَصح الْإِيمَان إلاَّ بتحقيق إنافة قدر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومنزلته على كل وَالِد وَولد ومحسن ومتفضل، وَمن لم يعْتَقد ذَلِك واعتقد سواهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِن، وَاعْتَرضهُ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد الْقُرْطُبِيّ الْمَالِكِي، صَاحب ( الْمُفْهم) فَقَالَ: ظَاهر كَلَام القَاضِي عِيَاض صرف الْمحبَّة إِلَى اعْتِقَاد تَعْظِيمه وإجلاله، وَلَا شكّ فِي كفر من لَا يعْتَقد ذَلِك، غير أَنه لَيْسَ المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث اعْتِقَاد الأعظمية إِذْ اعْتِقَاد الأعظمية لَيْسَ بمحبة وَلَا مستلزماً لَهَا، إِذْ قد يحمد الْإِنْسَان إعظام شَيْء مَعَ خلوه عَن محبته، قَالَ: فعلى هَذَا من لم يجد من نَفسه ذَلِك لم يكمل إيمَانه على أَن كل من آمن إِيمَانًا صَحِيحا لَا يَخْلُو من تِلْكَ الْمحبَّة، وَقد قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ، رَضِي الله عَنهُ، وَمَا كَانَ أحد أحب إِلَيّ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أجل فِي عَيْني مِنْهُ، وَمَا كنت أُطِيق أَن أملأ عَيْني مِنْهُ إجلالاً لَهُ، وَأَن عمر رَضِي الله عَنهُ، لما سمع هَذَا الحَدِيث، قَالَ: يَا رَسُول الله أَنْت أحب إِلَيّ من كل شَيْء إلاَّ من نَفسِي، فَقَالَ: وَمن نَفسك يَا عمر، فَقَالَ: وَمن نَفسِي.
فَقَالَ: الْآن يَا عمر.
وَهَذِه الْمحبَّة لَيست باعتقاد تَعْظِيم بل ميل قلب، وَلَكِن النَّاس يتفاوتون فِي ذَلِك، قَالَ الله تَعَالَى: { فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ( الْمَائِدَة: 54) وَلَا شكّ أَن حَظّ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، من هَذَا الْمَعْنى أتم، لِأَن الْمحبَّة ثَمَرَة الْمعرفَة، وهم بِقَدرِهِ ومنزلته أعلم، وَالله أعلم.
وَيُقَال: الْمحبَّة إِمَّا اعْتِقَاد النَّفْع، أَو ميل يتبع ذَلِك، أَو صفة مخصصة لأحد الطَّرفَيْنِ بالوقوع، ثمَّ الْميل قد يكون بِمَا يستلذه بحواسه كحسن الصُّورَة، وَلما يستلذه بعقله كمحبة الْفضل وَالْجمال، وَقد يكون لإحسانه إِلَيْهِ وَدفع المضار عَنهُ، وَلَا يخفى أَن الْمعَانِي الثَّلَاثَة كلهَا مَوْجُودَة فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما جمع من جمال الظَّاهِر وَالْبَاطِن، وَكَمَال أَنْوَاع الْفَضَائِل، وإحسانه إِلَى جَمِيع الْمُسلمين بهدايتهم إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم ودوام النعم، وَلَا شكّ أَن الثَّلَاثَة فِيهِ أكمل مِمَّا فِي الْوَالِدين لَو كَانَت فيهمَا، فَيجب كَونه أحب مِنْهُمَا، لِأَن الْمحبَّة ثَابِتَة لذَلِك، حَاصِلَة بحسبها، كَامِلَة بكمالها.
وَأعلم أَن محبَّة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام، إِرَادَة فعل طَاعَته وَترك مُخَالفَته، وَهِي من وَاجِبَات الْإِسْلَام قَالَ الله تَعَالَى: { قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم} إِلَى قَوْله: { حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره} ( التَّوْبَة: 24) .

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: فِيهِ تلميح إِلَى قَضِيَّة النَّفس الأمَّارة بالسوء والمطمئنة، فَإِن من رجح جَانب المطمئنة كَانَ حب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، راجحاً، وَمن رجح جَانب الْإِمَارَة، كَانَ حكمه بِالْعَكْسِ.

( بَيَان الأسئلة والأجوبة) .
مِنْهَا: مَا قيل: لِمَ مَا ذكر نفس الرجل أَيْضا وَإِنَّمَا يجب أَن يكون الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب إِلَيْهِ من نَفسه قَالَ تَعَالَى: { النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم} ( الْأَحْزَاب: 33) وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا خصص الْوَالِد وَالْولد بِالذكر لِكَوْنِهِمَا أعز خلق الله تَعَالَى على الرجل غَالِبا، وَرُبمَا يكونَانِ أعز من نفس الرجل على الرجل، فذكرهما إِنَّمَا هُوَ على سَبِيل التَّمْثِيل، فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من أعزته، وَيعلم مِنْهُ حكم غير الأعزة، لِأَنَّهُ يلْزم فِي غَيرهم بِالطَّرِيقِ الأولى، أَو اكْتفى بِمَا ذكر فِي سَائِر النُّصُوص الدَّالَّة على وجوب كَونه أحب من نَفسه أَيْضا، كالرواية الَّتِي بعده.
وَمِنْهَا مَا قيل: هَل يتَنَاوَل لفظ الْوَالِد الْأُم كَمَا أَن لفظ الْوَلَد يتَنَاوَل الذّكر وَالْأُنْثَى؟ وَأجِيب: بِأَن الْوَالِد إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ ذَات لَهُ ولد، وَإِمَّا أَن يكون بِمَعْنى ذُو ولد نَحْو لِابْنِ وتامر، فيتناولهما، وَإِمَّا أَن يكْتَفى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر كَمَا يكْتَفى بِأحد الضدين عَن الآخر.
قَالَ تَعَالَى: { سرابيل تقيكم الْحر} ( النَّحْل: 81) وَإِمَّا أَن يكون حكمه حكم النَّفس فِي كَونه مَعْلُوما من النُّصُوص الْأُخَر.
وَمِنْهَا مَا قيل: الْمحبَّة أَمر طبيعي غريزي لَا يدْخل تَحت الِاخْتِيَار، فَكيف يكون مُكَلّفا بِمَا لَا يُطَاق عَادَة؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يرد بِهِ حب الطَّبْع بل حب الِاخْتِيَار الْمُسْتَند إِلَى الْإِيمَان؟ فَمَعْنَاه: لَا يُؤمن حَتَّى يُؤثر رضاي على هوى الْوَالِدين، وَإِن كَانَ فِيهِ هلاكهما.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه تَقْدِيم الْوَالِد على الْوَلَد؟ وَأجِيب: بِأَن ذَلِك للأكثرية، لِأَن كل أحد لَهُ وَالِد من غير عكس.
قلت: الأولى أَن يُقَال: إِنَّمَا قدم هَهُنَا الْوَالِد نظرا إِلَى جَانب التَّعْظِيم، وَقدم الْوَلَد على الْوَالِد فِي حَدِيث أنس فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ نظرا إِلَى جَانب الشَّفَقَة والترحم.





[ قــ :15 ... غــ :15 ]
- حدّثنا يعَقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حَدثنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أنَسٍ عَن النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ح وَحدثنَا آدَمُ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنِسٍ قالَ قالَ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ.

هَذَانِ الإسنادان عطف أَحدهمَا على الآخر قبل أَن يَسُوق الْمَتْن فِي الأول، وَذَلِكَ يُوهم استواءهما وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن لفظ قَتَادَة مثل لفظ حَدِيث أبي هُرَيْرَة، غير أَن فِيهِ زِيَادَة وَهِي قَوْله: ( وَالنَّاس أَجْمَعِينَ) ، وَلَفظ عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب مثله إلاَّ أَنه قَالَ: كَمَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي ( صَحِيحه) عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم شيخ البُخَارِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد: ( من أَهله وَمَاله) ، بدل: ( من وَالِده وَولده) وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن علية، وَكَذَا الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبد الْوَارِث بن سعيد عَن عبد الْعَزِيز، وَلَفظه: ( لَا يُؤمن الرجل) ، وَهُوَ اشمل من جِهَة، وَلَفظ: ( أحدكُم) أشمل من جِهَة، وأشمل مِنْهُمَا رِوَايَة الْأصيلِيّ: ( لَا يُؤمن أحد) ، فَإِن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي نعم.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ لفظ عبد الْعَزِيز مغايراً للفظ قَتَادَة، فلِمَ سَاق البُخَارِيّ كَلَامه بِمَا يُوهم اتحادهما فِي الْمَعْنى؟ قلت: البُخَارِيّ كثيرا مَا يصنع ذَلِك نظرا إِلَى أصل الحَدِيث لَا إِلَى خُصُوص أَلْفَاظه، فَإِن قلت: لم اقْتصر على لفظ قَتَادَة، وَمَا الْمُرَجح فِي ذَلِك؟ قلت: لِأَن لفظ قَتَادَة مُوَافق للفظ أبي هُرَيْرَة فِي الحَدِيث السَّابِق.
فَإِن قلت: قَتَادَة مُدَلّس وَلم يُصَرح بِالسَّمَاعِ؟ قلت: رِوَايَة شُعْبَة عَنهُ دَلِيل على السماع لِأَنَّهُ لم يكن يسمع مِنْهُ إلاَّ مَا سَمعه، على أَنه قد وَقع التَّصْرِيح بِهِ فِي هَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ.

( بَيَان رجالهما) وهم سَبْعَة: الأول: أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير بن زيد بن أَفْلح الدَّوْرَقِي الْعَبْدي، أَخُو أَحْمد بن إِبْرَاهِيم، وَكَانَ الْأَكْبَر صنف الْمسند، وَكَانَ ثِقَة حَافِظًا متقناً، رأى اللَّيْث، وَسمع: ابْن عُيَيْنَة وَالْقطَّان وَيحيى بن أبي كثير وخلقاً.
روى عَنهُ: أَخُوهُ وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَالْجَمَاعَة.
مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: ابْن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ إِسْمَاعِيل، وَعليَّة أمه، وَأَبوهُ إِبْرَاهِيم بن سهل بن مقسم الْبَصْرِيّ الْأَسدي، أَسد خُزَاعَة، مَوْلَاهُم، أَصله من الْكُوفَة، قَالَ شُعْبَة فِيهِ سيد الْمُحدثين، سمع عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب، وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، وَسمع من مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر أَرْبَعَة أَحَادِيث، وَسمع خلقا غَيرهم.
.

     وَقَالَ  أَحْمد: إِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي التثبت بِالْبَصْرَةِ، اتّفق على جلالته وتوثيقه، ولي صدقَات الْبَصْرَة والمظالم بِبَغْدَاد فِي آخر خلَافَة هَارُون، توفّي بِبَغْدَاد، وَدفن فِي مَقَابِر عبد الله بن مَالك، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه إِبْرَاهِيم فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة، وَكَانَت أمه علية نبيلة عَاقِلَة، وَكَانَ صَالح الْمزي وَغَيره من وُجُوه أهل الْبَصْرَة وفقهائها يدْخلُونَ فَتبرز لَهُم وتحادثهم وتسائلهم، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: عبد الْعَزِيز الْبنانِيّ، مَوْلَاهُم، تَابِعِيّ، سمع أنسا، روى عَنهُ شُعْبَة،.

     وَقَالَ : هُوَ عِنْدِي فِي أنس أحب إِلَيّ من قَتَادَة، اتّفق على توثيقه، روى لَهُ الْجَمَاعَة، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ وَأَبوهُ كَانَا مملوكين، وَأَجَازَ إِيَاس بن مُعَاوِيَة شَهَادَة عبد الْعَزِيز وَحده.
الرَّابِع: آدم بن أبي إِيَاس، وَقد مر ذكره.
الْخَامِس: شُعْبَة بن الْحجَّاج.
السَّادِس: قَتَادَة بن دعامة.
السَّابِع: أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ، وَقد ذكرُوا فِيمَا مضى.

( بَيَان الْأَنْسَاب) الدَّوْرَقِي: نِسْبَة إِلَى دورق، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الرَّاء وَفِي آخِره قَاف، وَهِي قلانس كَانُوا يلبسونها فنسبوا إِلَيْهَا، وَفِي ( الْمطَالع) : دورق أرَاهُ فِي بِلَاد فَارس، وَقيل: بل لصنعة قلانس تعرف بالدورقة نسبت إِلَى ذَلِك الْموضع،.

     وَقَالَ  الرشاطي: دورق من كور الأهواز.
.

     وَقَالَ  ابْن خرداذبه: كور الأهواز رام هُرْمُز، وَمِنْهَا: ايزح وعسكر مكرم وتستر وسوس وسرق، وَهِي دورق، وَذكر غير ذَلِك.
قَالَ: وَمن سرق الأهواز إِلَى دورق فِي المَاء ثَمَانِيَة عشر فرسخاً، وعَلى الظَّاهِر أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ.
والعبدي: فِي قبائل، فَفِي قُرَيْش: عبد بن قصي بن كلاب بن مرّة، وَفِي ربيعَة ابْن نزار: عبد الْقَيْس بن قصي بن دعمي، ينْسب إِلَيْهِ، عَبدِي، على الْقيَاس، وعبقسي، على غير الْقيَاس؛ وَفِي تَمِيم ينْسب إِلَى عبد الله بن دارم، وَقد يُقَال: عبدلي، على غير قِيَاس؛ وَفِي خولان ينْسب إِلَى عبد الله بن الْخِيَار، وَفِي هَمدَان ينْسب إِلَى عبد بن عليان بن أرحب.
والبناني: بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنونين، نِسْبَة إِلَى: بنانة، بطن من قُرَيْش، وبنانة كَانَت زَوْجَة سعد بن لؤَي بن غَالب، نسب إِلَيْهَا بنوها، وَقيل: كَانَت أمة لَهُ حضنت بنيه، وَقيل: كَانَت حاضنة لِبَنِيهِ فَقَط، وَيُقَال: نِسْبَة إِلَى سكَّة بنانة بِالْبَصْرَةِ، فَافْهَم.

( بَيَان الْمعَانِي) .
قَوْله: ( وَالنَّاس أَجْمَعِينَ) من بابُُ عطف الْعَام على الْخَاص، كَقَوْلِه تَعَالَى: { وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم} ( الْحجر: 87) وَهُوَ عكس قَوْله تَعَالَى: { وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال} ( الْبَقَرَة: 98) فَإِنَّهُ تَخْصِيص بعد تَعْمِيم، فَإِن قيل: هَل يدْخل فِي لفظ النَّاس نفس الرجل أَو يكون إِضَافَة الْمحبَّة إِلَيْهِ تَقْتَضِي خُرُوجه مِنْهُم، فَإنَّك إِذا قلت: جَمِيع النَّاس أحب إِلَى زيد من غُلَامه، يفهم مِنْهُ خُرُوج زيد مِنْهُم؟ قلت: لَا يخرج لِأَن اللَّفْظ عَام، وَمَا ذكر ثمَّ لَيْسَ من المخصصات.
وَاعْلَم أَنه قد يُوجد فِي بعض النّسخ قبل حَدثنَا آدم لَفْظَة: ( ح) إِشَارَة إِلَى الْحول من الْإِسْنَاد الأول إِلَى إِسْنَاد آخر، وَفِي بَعْضهَا لَا يُوجد، وعَلى النسختين فَفِيهِ تحول من إِسْنَاد إِلَى آخر قبل ذكر الحَدِيث، وَقَوله: أخبرنَا يَعْقُوب، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنَا.