فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم

( بابُُ إثْمِ مَنْ كَذَبَ علَى النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان إِثْم من كذب على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْكذب خلاف الصدْق.
قَالَ الصغاني: تركيب الْكَذِب يدل على خلاف الصدْق، وتلخيصه: أَنه لَا يبلغ نِهَايَة الْكَلَام فِي الصدْق.
وَالْكذب عِنْد الأشعرية: الْإِخْبَار عَن الْأَمر على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ عمدا أَو سَهوا، خلافًا للمعتزلة فِي اشتراطهم العمدية.
وَيُقَال فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب: الْمَذْهَب الْحق: أَن الْكَذِب عدم مُطَابقَة الْوَاقِع والصدق مطابقته.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا مُطَابقَة الِاعْتِقَاد أَو لَا مطابقته.
وَالثَّالِث: مطابقته الْوَاقِع مَعَ اعْتِقَاد الْمُطَابقَة، وَلَا مُطَابقَة مَعَ اعْتِقَاد لَا مطابقته.
وعَلى الْأَخيرينِ يكون بَينهمَا الْوَاسِطَة.

وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبابَُُيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبابُُ الأول وجوب تَبْلِيغ الْعلم إِلَى من لَا يعلم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبابُُ التحذير عَن الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ، وَذكر هَذَا الْبابُُ عقيب الْبابُُ الْمَذْكُور من أنسب الْأَشْيَاء.



[ قــ :105 ... غــ :106 ]
- حدّثنا علِيُّ بنُ الجَعْدِ قالَ: أخْبَرَنا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبرنِي مَنْصُورٌ قالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بنَ حِرَاش يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: قالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( لَا تَكْذِبُوا عليَّ فإنَّهُ مَنْ كَذَبَ عليَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ) .

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الحَدِيث فِي النَّهْي عَن الْكَذِب على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، المستلزم للإثم المستلزم لدُخُول النَّار، والترجمة فِي بَيَان إِثْم من كذب عَلَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَام.

بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة.
الأول: عَليّ بن الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالدال الْمُهْملَة، الْجَوْهَرِي الْبَغْدَادِيّ، وَقد تقدم.
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج.
الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر.
الرَّابِع: ربعي، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن حِرَاش، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وبالشين الْمُعْجَمَة: ابْن جحش، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وبالشين الْمُعْجَمَة: ابْن عَمْرو بن عبد الله بن مَالك بن غَالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مُضر الْغَطَفَانِي الْعَبْسِي، بِالْمُوَحَّدَةِ أَبُو مَرْيَم الْكُوفِي الْأَعْوَر العابد الْوَرع، يُقَال: إِنَّه لم يكذب قطّ، وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ عاصيان على الْحجَّاج، فَقيل للحجاج: إِن أباهما لم يكذب كذبة قطّ، لَو أرْسلت إِلَيْهِ فَسَأَلته عَنْهُمَا.
فَأرْسل إِلَيْهِ فَقَالَ: هما فِي الْبَيْت.
فَقَالَ: قد عَفَوْنَا عَنْهُمَا لصدقك وَحلف أَن لَا يضْحك حَتَّى يعلم أَيْن مصيره إِلَى الْجنَّة أَو إِلَى النَّار فَمَا ضحك إلاَّ بعد مَوته.
وَله أَخَوان: مَسْعُود، وَهُوَ الَّذِي تكلم بعد الْمَوْت.
وربيع، وَهُوَ أَيْضا حلف أَن لَا يضْحك حَتَّى يعرف أَفِي الْجنَّة أم لَا.
فَقَالَ غاسله: إِنَّه لم يزل مُبْتَسِمًا على سَرِيره حَتَّى فَرغْنَا.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمَدِينِيّ: لم يروَ عَن مَسْعُود شَيْء إلاَّ كَلَامه بعد الْمَوْت.
.

     وَقَالَ  الْكَلْبِيّ: كتب النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى حِرَاش بن جحش، فَحرق كِتَابه، وَلَيْسَ لربعي عقب، والعقب لِأَخِيهِ مَسْعُود.
.

     وَقَالَ  ابْن سعد: حدث عَن عَليّ وَلم يقل: سمع.
وَعَن أبي الْحسن الْقَابِسِيّ: أَنه لم يَصح لربعي سَماع من عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، غير هَذَا الحَدِيث.
وَقدم الشَّام وَسمع خطْبَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، بالجابية.
قَالَ الْعجلِيّ: تَابِعِيّ ثِقَة، توفّي فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: توفّي سنة أَربع وَمِائَة، وَلَيْسَ فِي ( الصَّحِيحَيْنِ) : حِرَاش بِالْمُهْمَلَةِ سواهُ.
والربعي: بِحَسب اللُّغَة نِسْبَة إِلَى الرّبع.
والحراش: جمع الحرش، وَهُوَ الْأَثر.
الْخَامِس: عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف الْهَاشِمِي الْمَكِّيّ الْمدنِي، أَمِير الْمُؤمنِينَ، ابْن عَم رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَخَتنه على بنته فَاطِمَة الزهراء.
وَاسم أبي طَالب: عبد منَاف، على الْمَشْهُور.
وَأم عَليّ: فَاطِمَة بنت أَسد بن هَاشم بن عبد منَاف وَهِي أول هاشمية ولدت هاشميا، أسلمت وَهَاجَرت إِلَى الْمَدِينَة وَتوفيت فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصلى عَلَيْهَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَنزل فِي قبرها.
وكنية عَليّ: أَبُو الْحسن، وكناه رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أَبَا تُرَاب، وَهُوَ أَخُو رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالمؤاخاة.
.

     وَقَالَ  لَهُ: أَنْت أخي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَهُوَ أَبُو السبطين وَأول هاشمي ولد بَين هاشميين، وَأول خَليفَة من بني هَاشم، وَأحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، وَاحِد السِّتَّة أَصْحَاب الشورى الَّذين توفّي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ عَنْهُم رَاض، وَأحد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَأحد الْعلمَاء الربانيين، وأوحد الشجعان الْمَشْهُورين، والزهاد الْمَذْكُورين، وَأحد السَّابِقين إِلَى الْإِسْلَام، شهد مَعَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْمشَاهد كلهَا إلاَّ تَبُوك، اسْتَخْلَفَهُ فِيهَا على الْمَدِينَة، وأصابته يَوْم أحد سِتّ عشرَة ضَرْبَة، وَأَعْطَاهُ الرَّايَة يَوْم خَيْبَر وَأخْبر أَن الْفَتْح يكون على يَدَيْهِ.
ومناقبه جمة، وأحواله فِي الشجَاعَة مَشْهُورَة وَأما علمه فَكَانَ من الْعُلُوم بِالْمحل الْأَعْلَى.
رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَمْسمِائَة حَدِيث وَسِتَّة وَثَمَانُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على عشْرين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِتِسْعَة، وَمُسلم بِخَمْسَة عشر.
ولي الْخلَافَة خمس سِنِين.
وَقيل: إلاَّ شهرا.
بُويِعَ لَهُ بعد عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، لكَونه أفضل الصَّحَابَة حِينَئِذٍ، ضربه عبد الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي، من حمير، بِسيف مَسْمُوم فأوصله دماغه فِي لَيْلَة الْجُمُعَة وَمَات بِالْكُوفَةِ لَيْلَة الْأَحَد تَاسِع عشر رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ عَن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة، وَكَانَ آدم اللَّوْن أصلع ربعَة، أَبيض الرَّأْس واللحية، وَرُبمَا خضب لحيته، وَكَانَت لَهُ لحية كثة طَوِيلَة، حسن الْوَجْه كَأَنَّهُ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر، ضحوك السن، وقبره بِالْكُوفَةِ، وَلكنه غيب خوفًا من الْخَوَارِج، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اسْمه: عَليّ بن أبي طَالب غَيره، وَفِي الروَاة: عَليّ بن أبي طَالب، ثَمَانِيَة سواهُ.

بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَن فِي إِسْنَاده التحديث والإخبار بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد وَالسَّمَاع.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء.
وَمِنْهَا: أَنهم مَا بَين بغدادي وواسطي وكوفي ومدني.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ صَغِير عَن تَابِعِيّ كَبِير.

بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي مُقَدّمَة كِتَابه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
وَابْن مثنى، وَابْن بشار ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعلم عَن إِسْمَاعِيل بن مُوسَى الْفَزارِيّ عَن شريك بن عبد الله عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَنهُ بِهِ،.

     وَقَالَ : حسن صَحِيح.
وَفِي المناقب عَن سُفْيَان بن وَكِيع عَن أَبِيه عَن شريك نَحوه.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود عَن خَالِد بن الْحَارِث وَعَن بنْدَار عَن يحيى كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عبد الله بن عَامر بن زُرَارَة وَإِسْمَاعِيل بن مُوسَى كِلَاهُمَا عَن شريك بِهِ.

بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: ( لَا تكذبوا عَليّ) نهي بِصِيغَة الْجمع، وَهُوَ عَام فِي كل كذب مُطلق فِي كل نوع مِنْهُ.
فَإِن قلت: هَل فرق بَين كذب عَلَيْهِ، وَكذب لَهُ.
أم الحكم فيهمَا سَوَاء؟ قلت: معنى كذب عَلَيْهِ، نِسْبَة الْكَلَام إِلَيْهِ كَاذِبًا، سَوَاء كَانَ عَلَيْهِ أَو لَهُ، وَالْكذب على الله دَاخل تَحت الْكَذِب على الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، إِذْ المُرَاد من الْكَذِب عَلَيْهِ الْكَذِب فِي أَحْكَام الدّين.
فَإِن قلت: الْكَذِب من حَيْثُ هُوَ مَعْصِيّة فَكل كَاذِب عاصٍ وكل عاصٍ يلج النَّار لقَوْله تَعَالَى: { وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعد حُدُوده يدْخلهُ نَارا خَالِدا فِيهَا} ( النِّسَاء: 4) فَمَا فَائِدَة لَفْظَة: عَليّ، فَإِن الحكم عَام فِي كل من كذب على أحد.
قلت: لَا شكّ أَن الْكَذِب على الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَشد من الْكَذِب على غَيره لكَونه مقتضيا شرعا عَاما بَاقِيا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَخص بِالذكر لذَلِك أَو الْكَذِب عَلَيْهِ كَبِيرَة، وعَلى غَيره صَغِيرَة، والصغائر مكفرة عِنْد الاجتناب عَن الْكَبَائِر، أَو المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: { وَمن يعْص الله} ( النِّسَاء: 4) الْكَبِيرَة.
فَإِن قلت: الشَّرْط سَبَب للجزاء، فَكيف يتَصَوَّر سَبَبِيَّة الْكَذِب لِلْأَمْرِ بالولوج.
نعم، إِنَّه سَبَب للولوج نَفسه.
قلت: هُوَ سَبَب للازمه، لِأَن لَازم الْأَمر الْإِلْزَام، وَكَون الْكَذِب سَببا لإلزام الولوج معنى صَحِيح.
قَوْله: ( فَإِنَّهُ من كذب عَليّ) جَوَاب النَّهْي، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء، وَالضَّمِير فِي: فَإِنَّهُ، للشأن.
وَهُوَ اسْم: إِن.
وَقَوله: ( من كذب عَليّ) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر: إِن.
وَكلمَة: من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط.
وَقَوله: ( فليلج النَّار) ، جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دَخلته: الْفَاء، أَي: فَلْيدْخلْ النَّار.
من ولج يلج، ولوجا ولجة إِذا دخل.
.

     وَقَالَ  سِيبَوَيْهٍ: إِنَّمَا جَاءَ مصدره ولوجا، وَهُوَ من مصَادر غير الْمُتَعَدِّي على معنى: ولجت فِيهِ، وأصل فليلج: فليولج، حذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة، وبابُه من بابُُ: ضرب يضْرب، وَكَذَلِكَ لجة واصلها: ولجة، مثل: عدَّة، أَصْلهَا: وعد فَلَمَّا حذفت الْوَاو مِنْهَا تبعا لفعلها عوضت عَنْهَا الْهَاء.
قَوْله: ( النَّار) مَنْصُوب بِتَقْدِير فِي، لِأَن أَصله لَازم كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ من قبيل قَوْلك: دخلت الدَّار.
وَالتَّقْدِير: دخلت فِي الدَّار.
لِأَن دخل فعل لَازم، وَاللَّازِم لَا ينصب إلاَّ بالصلة.
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: معنى الحَدِيث: أَن هَذَا جَزَاؤُهُ وَقد يجازى بِهِ وَقد يعْفُو الله عَنهُ، وَلَا يقطع عَلَيْهِ بِدُخُول النَّار، وَهَكَذَا سَبِيل كل مَا جَاءَ من الْوَعيد بالنَّار لأَصْحَاب الْكَبَائِر غير الْكفْر، ثمَّ إِن جوزي وَأدْخل النَّار فَلَا يخلد فِيهَا بل لَا بُد من خُرُوجه مِنْهَا بِفضل الله تَعَالَى وَرَحمته.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه.

الأول: فِيهِ دَلِيل على تَعْظِيم حُرْمَة الْكَذِب على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وانه كَبِيرَة.
وَالْمَشْهُور: أَن فَاعله لَا يكفر إلاَّ أَن يستحله.
وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن أَبِيه أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي أَنه كَانَ يَقُول: من كذب على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مُتَعَمدا كفر وأريق دَمه.
وَضَعفه إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَجعله من هفوات وَالِده،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: لَو كذب فِي حَدِيث وَاحِد عمدا فسق وردَّت رواياته كلهَا.
.

     وَقَالَ  ابْن الصّلاح: وَلَا يقبل مِنْهُ رِوَايَة أبدا وَلَا تقبل تَوْبَته مِنْهُ، بل يتحتم جرحه دَائِما، على مَا ذكره جمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم: أَحْمد بن حَنْبَل، وَأَبُو بكر الْحميدِي شيخ البُخَارِيّ وَصَاحب الشَّافِعِي، وَأَبُو بكر الصَّيْرَفِي من الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة، حَتَّى قَالَ الصَّيْرَفِي: كل من أسقطنا خَبره بَين أهل النَّقْل بكذب وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لم نعد لقبوله بتوبة تظهر، وَمن ضعفنا نَقله لم نجعله قَوِيا بعد ذَلِك.
قَالَ: وَذَلِكَ فِيمَا افْتَرَقت فِيهِ الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة.
قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الَّذِي ذكره هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة مُخَالف للقواعد، وَالْمُخْتَار الْقطع بِصِحَّة تَوْبَته من ذَلِك وَقبُول رِوَايَته بعد صِحَة التَّوْبَة بشروطها، وَقد أَجمعُوا على قبُول رِوَايَة من كَانَ كَافِرًا ثمَّ أسلم، وَأكْثر الصَّحَابَة كَانُوا بِهَذِهِ الصّفة، وَأَجْمعُوا على قبُول شَهَادَته، وَلَا فرق بَين الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة.
قلت: قد قيل عَن مَالك فِي شَاهد الزُّور: إِذا ثبتَتْ عَلَيْهِ شَهَادَة الزُّور لَا تسمع لَهُ شَهَادَة بعْدهَا، تَابَ أم لَا.
وَقد قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، فِيمَن ردَّتْ شَهَادَته بِالْفِسْقِ ثمَّ تَابَ وَحسنت حَالَته: لَا تقبل مِنْهُ إِعَادَتهَا لما يلْحقهُ من التُّهْمَة فِي تَصْدِيق نَفسه.
.

     وَقَالَ  أَبُو حنيفَة: إِذا ردّت شَهَادَة أحد الزَّوْجَيْنِ للْآخر ثمَّ تَابَ لَا تسمع للتُّهمَةِ، فَلَا يبعد أَن يَجِيء مثله هَهُنَا لِأَن الرِّوَايَة كلهَا كنوع من الشَّهَادَة.

الثَّانِي: لَا فرق فِي تَحْرِيم الْكَذِب على النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَين مَا كَانَ فِي الْأَحْكَام وَغَيره: كالترغيب والترهيب.
فكله حرَام من أكبر الْكَبَائِر بِإِجْمَاع الْمُسلمين المعتد بهم، خلافًا اللكرامية فِي زعمهم الْبَاطِل أَنه يجوز الْوَضع فِي التَّرْغِيب والترهيب، وتابعهم كثير من الجهلة الَّذين ينسبون أنفسهم إِلَى الزّهْد.
وَمِنْهُم من زعم أَنه جَاءَ فِي رِوَايَة: من كذب عَليّ مُتَعَمدا ليضل بِهِ، وتمسكوا بِهَذِهِ الزِّيَادَة: أَنه كذب لَهُ لَا عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسد ومخالف لإِجْمَاع أهل الْحل وَالْعقد، وَجَهل لِسَان الْعَرَب، وخطاب الشَّرْع.
فَإِن كل ذَلِك كذب عِنْدهم.
وَأما تعلقهم بِهَذِهِ الزِّيَادَة فقد أُجِيب عَنْهَا بأجوبة: أَحدهَا: أَن الزِّيَادَة بَاطِلَة اتّفق الْحفاظ على بُطْلَانهَا.
وَالثَّانِي: قَالَ الإِمَام الطَّحَاوِيّ: وَلَو صحت لكَانَتْ للتَّأْكِيد، كَقَوْلِه تَعَالَى: { فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا ليضل النَّاس بِغَيْر علم} ( الْأَنْعَام: 144) .
وَالثَّالِث: أَن اللَّام فِي: ليضل، لَيست للتَّعْلِيل، بل لَام الصيرورة وَالْعَاقبَة، وَالْمعْنَى: على هَذَا يصير كذبه إِلَى الضلال بِهِ.

الثَّالِث: من روى حَدِيثا وَعلم أَو ظن أَنه مَوْضُوع فَهُوَ دَاخل فِي هَذَا الْوَعيد إِذا لم يبين حَال رُوَاته وضعفهم، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( من حدث عني بِحَدِيث يرى أَنه كذب فَهُوَ أحد الْكَاذِبين) .
قَالَ النَّوَوِيّ: الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة ضم الْيَاء فِي: يرى، و: الْكَاذِبين، بِكَسْر الْيَاء على الْجمع.

الرَّابِع: إِذا روى حَدِيثا ضَعِيفا لَا يذكرهُ بِصِيغَة الْجَزْم، نَحْو: قَالَ أَو فعل أَو أَمر، وَنَحْو ذَلِك، بل يَقُول: رُوِيَ عَنهُ كَذَا، وَجَاء عَنهُ كَذَا، أَو يذكر أَو يُروى أَو يُحكى، أَو يُقال أَو بلغنَا وَنَحْو ذَلِك، فَإِن كَانَ صَحِيحا أَو حسنا قَالَ فِيهِ: قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا، أَو فعله، وَنَحْو ذَلِك من صِيغ الْجَزْم.
.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: استجاز بعض فُقَهَاء الْعرَاق نِسْبَة الحكم الَّذِي يدل عَلَيْهِ الْقيَاس إِلَى رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نِسْبَة قولية، وحكاية فعلية، فَيَقُول فِي ذَلِك: قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا، وَكَذَا.
قَالَ: وَلذَلِك ترى كتبهمْ مشحونة بِأَحَادِيث مَوْضُوعَة تشهد متونها بِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لِأَنَّهَا تشبه فَتَاوَى الْفُقَهَاء، وَلَا يَلِيق بجزالة كَلَام سيد الْمُرْسلين، فَهَؤُلَاءِ شملهم النَّهْي والوعيد.

الْخَامِس: مِمَّا يظنّ دُخُوله فِي النَّهْي: اللّحن وَشبهه، وَلِهَذَا قَالَ الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم: يَنْبَغِي للراوي أَن يعرف من النَّحْو واللغة والأسماء مَا يسلم من قَول من لم يقل.
قَالَ الْأَصْمَعِي: أخوف مَا أَخَاف على طَالب الْعلم، إِذا لم يعرف النَّحْو، أَن يدْخل فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: ( من كذب عَليّ) الحَدِيث، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن يلحن، فمهما لحن الرَّاوِي فقد كذب عَلَيْهِ.
وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ يُعْطي كتبه، إِذا كَانَ فِيهَا لحن، لمن يصلحها، فَإِذا صَحَّ فِي رِوَايَته كلمة غير مفيدة فَلهُ أَن يسْأَل عَنْهَا أهل الْعلم ويرويها على مَا يجوز فِيهِ.
رُوِيَ ذَلِك عَن أَحْمد وَغَيره، قَالَ أَحْمد يجْتَنب إِعْرَاب اللّحن لأَنهم كَانُوا لَا يلحنون.
.

     وَقَالَ  النَّسَائِيّ، فِيمَا حَكَاهُ الْقَابِسِيّ: إِذا كَانَ اللّحن شَيْئا تَقوله الْعَرَب، وَإِن كَانَ فِي لُغَة قُرَيْش، فَلَا يُغير لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ يكلم النَّاس بلسانهم، وَإِن كَانَ لَا يُوجد فِي كَلَامهم فالشارع لَا يلحن.
.

     وَقَالَ  الْأَوْزَاعِيّ: كَانُوا يعربون وَإِنَّمَا اللّحن من حَملَة الحَدِيث فأعربوا الحَدِيث.
وَقيل لِلشَّعْبِيِّ: أسمع الحَدِيث لَيْسَ بإعراب أفأعربه؟ قَالَ: نعم.
فَإِن قلت: لَو صَحَّ فِي رِوَايَة مَا هُوَ خطأ مَا حكمه؟ قلت: الْجُمْهُور على رِوَايَته على الصَّوَاب، وَلَا يُغَيِّرهُ فِي الْكتاب، بل يكْتب فِي الْحَاشِيَة كَذَا وَقع وَصَوَابه كَذَا.
وَهُوَ الصَّوَاب.
وَقيل: يُغَيِّرهُ ويصلحه.
وَرُوِيَ ذَلِك عَن الْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارك وَغَيرهمَا وَعَن عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل.
قَالَ: كَانَ أبي إِذا مر بِهِ لحن فَاحش غَيره.
وَإِن كَانَ سهلاً تَركه.
وَعَن أبي زرْعَة أَنه كَانَ يَقُول: أَنا أصلح كتابي من أَصْحَاب الحَدِيث إِلَى الْيَوْم.

السَّادِس: مِمَّا يتَعَلَّق بِهَذَا الْبابُُ بَيَان أَصْنَاف الواضعين: الأول: قوم زنادقة كالمغيرة بن سعيد الْكُوفِي، وَمُحَمّد بن سعيد المصلوب، أَرَادوا إِيقَاع الشَّك فِي قُلُوب النَّاس، فرووا: أَنا خَاتم النَّبِيين لَا نَبِي بعدِي إلاَّ أَن يَشَاء الله.
الثَّانِي: قوم متعصبون، وَمِنْهُم من تعصب لعَلي بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ، فوضعوا فِيهِ أَحَادِيث، وَقوم تعصبوا لمعاوية وَرووا لَهُ أَشْيَاء، وَقوم تعصبوا لأبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ،.

     وَقَالَ  ابْن حبَان: وضع الْحسن بن عَليّ بن زَكَرِيَّا الْعَدوي الرَّازِيّ حَدِيث: النّظر إِلَى وَجه عَليّ عبَادَة.
وَحدث عَن الثِّقَات لَعَلَّه بِمَا يزِيد على ألف حَدِيث سوى المقلوبات.
.

     وَقَالَ  الْخَطِيب فِي ( الْكِفَايَة) بِسَنَدِهِ إِلَى الْمهْدي، قَالَ: اقر عِنْدِي رجل من الزَّنَادِقَة أَنه وضع أَربع مائَة حَدِيث فَهِيَ تجول بَين النَّاس.
وَقوم وضعُوا أَحَادِيث فِي التَّرْغِيب والترهيب.
وَعَن ابْن الصّلاح قَالَ: رويت عَن أبي عصمَة، نوح بن أبي مَرْيَم، أَنه قيل لَهُ: من أَيْن لَك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي فَضَائِل الْقُرْآن سُورَة سُورَة.
فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت النَّاس قد أَعرضُوا عَن الْقُرْآن وَاشْتَغلُوا بِفقه أبي حنيفَة ومعاذ بن أبي إِسْحَاق، فَوضعت هَذَا الحَدِيث.
.

     وَقَالَ  يحيى: نوح هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لَا يكْتب حَدِيثه.
.

     وَقَالَ  مُسلم وَأَبُو حَاتِم وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك.

السَّابِع: يعرف الْمَوْضُوع بِإِقْرَار وَاضعه أَو مَا يتنزل منزلَة إِقْرَاره أَو قرينَة فِي حَال الرَّاوِي أَو الْمَرْوِيّ أَو ركاكة لَفظه أَو لروايته عَمَّن لم يُدْرِكهُ، وَلَا يخفى ذَلِك على أهل هَذَا الشَّأْن.
وَقيل لعبد الله بن الْمُبَارك: هَذِه الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة: قَالَ: يعِيش لَهَا الجهابذة.

وَأما جِهَات الْوَضع فَرُبمَا يكون من كَلَام نَفسه، أَو يَأْخُذ كلَاما من مقالات بعض الْحُكَمَاء أَو كَلَام بعض الصَّحَابَة فيرفعه كَمَا رُوِيَ عَن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل السَّهْمِي عَن مَالك عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( كل صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِفَاتِحَة الْكتاب فَهِيَ خداج إلاَّ الإِمَام) .
وَهُوَ فِي ( الْمُوَطَّأ) عَن وهب عَن جَابر من قَوْله.
وَرُبمَا أخذُوا كلَاما للتابعين فزادوا فِيهِ رجلا فَرَفَعُوهُ.
وَقوم من المجرحين عَمدُوا إِلَى أَحَادِيث مَشْهُورَة عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بأسانيد مَعْلُومَة مَعْرُوفَة وضعُوا لَهَا غير تِلْكَ الْأَسَانِيد.
وَقوم عِنْدهم غَفلَة إِذا لقنوا تلقنوا.
وَقوم ضَاعَت كتبهمْ فَحَدثُوا من حفظهم على التخمين.
وَقوم سمعُوا مصنفات وَلَيْسَت عِنْدهم فحملهم الشره إِلَى أَن حدثوا عَن كتب مشتراة لَيْسَ فِيهَا سَماع وَلَا مُقَابلَة، وَقوم كَثِيرَة لَيْسُوا من أهل هَذَا الشَّأْن، سُئِلَ يحيى بن سعيد عَن مَالك بن دِينَار وَمُحَمّد بن وَاسع وَحسان بن أبي سِنَان، قَالَ: مَا رَأَيْت الصَّالِحين فِي شَيْء أكذب مِنْهُم فِي الحَدِيث، لأَنهم يَكْتُبُونَ عَن كل من يلقون، لَا تَمْيِيز لَهُم.
وروى الْخَطِيب، بِسَنَدِهِ عَن ربيعَة الرَّاعِي، قَالَ: من إِخْوَاننَا من نرجو بركَة دُعَائِهِ، وَلَو شهد عندنَا بِشَهَادَة مَا قبلناها.
وَعَن مَالك: أدْركْت سبعين عِنْد هَذِه الأساطين، وَأَشَارَ إِلَى مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُونَ: قَالَ: رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَمَا أخذت عَنْهُم شَيْئا، وَإِن أحدهم يُؤمن على بَيت المَال، لأَنهم لم يَكُونُوا من أهل هَذَا الشَّأْن، ونزدحم على بابُُ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.

غ



[ قــ :106 ... غــ :107 ]
- حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قالَ: حَدثنَا شعْبَةُ عنْ جامِعِ بنِ شَدَّادٍ عنْ عامِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ عنْ أبِيهِ قَالَ:.

قُلْتُ للزُّبَيْرِ: إنِّي لاَ أسْمَعُكَ تُحَدّثُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ! قَالَ: أمَا إنِّي لَمْ أفارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ( مَنْ كَذَبَ عليَّ فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) .

هَذَا هُوَ الحَدِيث الثَّانِي مِمَّا فِيهِ الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة.

بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم.
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج.
الثَّالِث: جَامع بن شَدَّاد الْمحَاربي، أَبُو صَخْرَة، وَقيل: أَبُو صَخْرَة الْكُوفِي الثِّقَة، وَهُوَ قَلِيل الحَدِيث، لَهُ نَحْو عشْرين حَدِيثا، مَاتَ سِتَّة ثَمَان عشرَة وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الرَّابِع: عَامر بن عبد الله بن الزبير بن الْعَوام الْأَسدي الْقرشِي، أَبُو حَارِث الْمدنِي، أَخُو عباد وَحَمْزَة وثابت وخبيب ومُوسَى وَعمر، كَانَ عابدا فَاضلا ثِقَة مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة.
الْخَامِس: أَبوهُ وَهُوَ: عبد الله بن الزبير بن الْعَوام أَبُو بكر، وَيُقَال: أَبُو خبيب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بَينهمَا، الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَهُوَ أول من ولد فِي الْإِسْلَام للمهاجرين بِالْمَدِينَةِ، وَلدته أمه أَسمَاء بنت الصّديق بقباء، وَأَتَتْ بِهِ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فَوَضَعته فِي حجره ودعى بتمرة فمضعها ثمَّ تفل فِي فِيهِ وحنكه، فَكَانَ أول شَيْء دخل فِي جَوْفه ريق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ دَعَا لَهُ، وَكَانَ أطلس لَا لحية لَهُ، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا سِتَّة، وَكَانَ صواما قواما وَلَيْلَة رَاكِعا وَلَيْلَة سَاجِدا حَتَّى الصَّباح بُويِعَ لَهُ بالخلافة بعد موت يزِيد بن مُعَاوِيَة سنة أَربع وَسِتِّينَ وَاجْتمعَ على طَاعَته أهل الْحجاز واليمن وَالْعراق وخراسان مَا عدا الشَّام، وجدد عمَارَة الْكَعْبَة، وَحج بِالنَّاسِ ثَمَان حجج، وَبَقِي فِي الْخلَافَة إِلَى أَن حصره الْحجَّاج بِمَكَّة أول لَيْلَة من ذِي الْحجَّة سنة ثِنْتَيْنِ وَسبعين، وَلم يزل يحاصره إِلَى أَن أَصَابَته رمية الْحجر فَمَاتَ، وصلب جثته وَحمل رَأسه إِلَى خُرَاسَان.
السَّادِس: أَبوهُ الزبير بن الْعَوام، بتَشْديد الْوَاو، الْقرشِي، أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، وَأحد سِتَّة أَصْحَاب الشورى، وَاحِد الْمُهَاجِرين بالهجرتين وحواري النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأمه صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أسلمت وَأسلم هُوَ رَابِع أَرْبَعَة أَو خَامِس خَمْسَة على يَد الصّديق وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة، وَشهد الْمشَاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على حديثين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بسبعة، وَهُوَ أول من سل السَّيْف فِي سَبِيل الله، وَكَانَ يَوْم الْجمل قد ترك الْقِتَال وَانْصَرف عَنهُ، فَلحقه جمَاعَة من الْغُزَاة فَقَتَلُوهُ بوادي السبَاع بِنَاحِيَة الْبَصْرَة، وَدفن ثمَّة، ثمَّ حول إِلَى الْبَصْرَة وقبره مَشْهُور بهَا، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَكَانَ لَهُ أَربع نسْوَة، وَدفع الثُّلُث فَأصَاب كل امْرَأَة مِنْهُنَّ ألف ألف وَمِائَتَا ألف فَجَمِيع مَاله خَمْسُونَ ألف ألف وَمِائَة ألف.

بَيَان لطائف إِسْنَاده.
مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ النَّوْع من رِوَايَة الْأَبْنَاء عَن الْآبَاء، وَرِوَايَة الابْن عَن الْأَب عَن الْجد.

بَيَان من أخرجه غَيره: لم يُخرجهُ مُسلم.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعلم عَن عَمْرو بن عون ومسدد، كِلَاهُمَا عَن خَالِد الطَّحَّان عَن بَيَان بن بشر عَن وبرة بن عبد الرَّحْمَن عَن عَامر بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي ( السّنة) عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن بشار كِلَاهُمَا عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ.

بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: ( فَليَتَبَوَّأ) بِكَسْر اللَّام هُوَ الأَصْل، وبالسكون هُوَ الْمَشْهُور، وَهُوَ أَمر من التبوء، وَهُوَ اتِّخَاذ المباءة أَي: الْمنزل يُقَال: تبوأ الرجل الْمَكَان إِذا اتَّخذهُ موضعا لمقامه.
.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي: تبوأت منزلا أَي: نزلته.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: تبوأ بِالْمَكَانِ، أَصله من مباءة الْإِبِل وَهِي: أعطانها.
قَوْله: ( إِنِّي لَا أسمعك تحدث) مَعْنَاهُ: لَا أسمع تحديثك، وَحذف مَفْعُوله.
وَفِي بعض النّسخ، لَيْسَ فِيهِ: إِنِّي.
قَوْله: ( كَمَا يحدث) ، الْكَاف للتشبيه، وَمَا مَصْدَرِيَّة أَي: كتحديث فلَان وَفُلَان، وَحذف مَفْعُوله أَيْضا إِرَادَة الْعُمُوم.
قَوْله: ( أما) ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم من حُرُوف التَّنْبِيه.
قَوْله: ( إِنِّي) ، بِكَسْر الْهمزَة.
قَوْله: ( لم أفارقه) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب يرجع إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: ( لكني) ، فِي بعض النّسخ ( لكنني) وَيجوز فِي: إِن وَأَخَوَاتهَا إِلْحَاق نون الْوِقَايَة بهَا وَعدم الْإِلْحَاق.
قَوْله: ( من) ، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، و ( كذب عليَّ) صلتها.
وَقَوله: ( فَليَتَبَوَّأ) ، جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء.
قَوْله: ( مَقْعَده) مفعول: ( ليتبوأ) .
وَكلمَة: ( من) فِي: من النَّار، بَيَانِيَّة وابتدائية، قَالَه الْكرْمَانِي.
قلت: الأولى أَن يكون بِمَعْنى: فِي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} ( الْجُمُعَة: 9) .

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: ( كَمَا يحدث فلَان وَفُلَان) ، سمى مِنْهُمَا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: ( لم أفارقه) ، أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: ( مُنْذُ أسلمت) .
وَأَرَادَ بِهِ عدم الْمُفَارقَة الْعُرْفِيَّة، أَي: مَا فارقته سفرا وحضرا على عَادَة من يلازم الْمُلُوك.
فَإِن قلت: قد هَاجر إِلَى الْحَبَشَة.
قلت: ذَاك قبل ظُهُور شَوْكَة الْإِسْلَام، أَي: مَا فارقته عِنْد ظُهُوره.
وَالْمرَاد: فِي أَكثر الْأَحْوَال.
قَوْله: ( لَكِن) للاستدراك.
فَإِن قلت: شَرط: لَكِن، أَن تتوسط بَين كلامين متغايرين، فَمَا هما هَهُنَا؟ قلت: لَازم عدم الْمُفَارقَة السماع، ولازم السماع التحديث عَادَة، ولازم التحديث الَّذِي ذكره فِي الْجَواب عدم التحديث، فَبين الْكَلَامَيْنِ مُنَافَاة، فضلا عَن الْمُغَايرَة.
فَإِن قلت: الْمُنَاسب: لسمعت قَالَ ليتوافقا مَاضِيا فَمَا الْفَائِدَة فِي الْعُدُول إِلَى الْمُضَارع؟ قلت: استحضار صُورَة القَوْل للحاضرين، والحكاية عَنْهَا كَأَنَّهُ يُرِيهم أَنه قَالَ بِهِ الْآن.
قَوْله: ( فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) ، قَالَ الْخطابِيّ: ظَاهره أَمر، وَمَعْنَاهُ خبر؛ يُرِيد أَن الله تَعَالَى يبوؤه مَقْعَده من النَّار.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: الْأَمر بالتبوء تهكم وتغليظ، إِذْ لَو قيل: كَانَ مَقْعَده فِي النَّار لم يكن كَذَلِك، وَأَيْضًا فِيهِ إِشَارَة إِلَى معنى الْقَصْد فِي الذَّنب وجزائه، أَي: كَمَا أَنه قصد فِي الْكَذِب التعمد فليقصد فِي جَزَائِهِ التبوء.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: يجوز أَن يكون الْأَمر على حَقِيقَته، وَالْمعْنَى: من كذب فليأمر نَفسه بالتبوء.
قلت: والأَوْلى أَن يكون أَمر تهديد، أَو يكون دُعَاء على معنى: بوأه الله.

الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: التبوء إِن كَانَ إِلَى الْكَاذِب فَلَا شكّ أَنه لَا يبوء نَفسه وَله إِلَى تَركه سَبِيل، وَإِن كَانَ إِلَى الله فَأمر العَبْد بِمَا لَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهِ غير جَائِز.
أُجِيب: بِأَنَّهُ بِمَعْنى الدُّعَاء أَي: بوأه الله كَمَا ذكرنَا.
وَمِنْهَا مَا قيل: ذَلِك عَام فِي كل كذب أم خَاص؟ أُجِيب بِأَنَّهُ اخْتلف فِيهِ، فَقيل: مَعْنَاهُ الْخُصُوص أَي: الْكَذِب فِي الدّين كَمَا ينْسب إِلَيْهِ تَحْرِيم حَلَال أَو تَحْلِيل حرَام، وَقيل: كَانَ ذَلِك فِي رجل بِعَيْنِه كذب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَادّعى عِنْد قوم أَنه بَعثه إِلَيْهِم ليحكم فيهم، واحتجاج الزبير، رَضِي الله عَنهُ، يَنْفِي التَّخْصِيص، فَهُوَ عَام فِي كل كذب ديني ودنيوي.
وَمِنْهَا مَا قيل: من قصد الْكَذِب على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن فِي الْوَاقِع كذب هَل يَأْثَم؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ يَأْثَم، لَكِن لَا بِسَبَب الْكَذِب بل بِسَبَب قصد الْكَذِب، لِأَن قصد الْمعْصِيَة مَعْصِيّة إِذا تجَاوز عَن دَرَجَة الوسوسة، فَلَا يدْخل تَحت الحَدِيث.
وَمِنْهَا مَا قيل: لم توقف الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الرِّوَايَة والإكثار مِنْهَا؟ أُجِيب: لأجل خوف الْغَلَط وَالنِّسْيَان، والغالط وَالنَّاسِي، وَإِن كَانَ لَا إِثْم عَلَيْهِ، فقد ينْسب إِلَى التَّفْرِيط لتساهله أَو نَحوه وَقد يتَعَلَّق بالناسي حكم الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة: كغرامات الْمُتْلفَات، وانتفاض الطهارات.
قلت: وَأما من أَكثر مِنْهُم فَمَحْمُول على أَنهم كَانُوا واثقين من أنفسهم بالتثبت، أَو طَالَتْ أعمارهم فاحتيج إِلَى مَا عِنْدهم، فسئلوا، فَلم يُمكنهُم الكتمان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله ( من كذب عَليّ) هَل يتَنَاوَل غير الْعَامِد أَو المُرَاد مِنْهُ الْعَامِد؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ أَعم من الْعَامِد وَغَيره، وَلم يَقع فِيهِ الْعمد فِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَفِي طَرِيق ابْن مَاجَه: ( من كذب عَليّ مُتَعَمدا) ، وَكَذَا وَقع للإسماعيلي من طَرِيق غنْدر عَن شُعْبَة نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ وَالِاخْتِلَاف فِيهِ على شُعْبَة، وَقد أخرجه الدَّارمِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن عبد الله بن الزبير بِلَفْظ: ( من حدث عني كذبا) ، وَلم يذكر الْعمد، فَدلَّ ذَلِك أَن المُرَاد مِنْهُ الْعُمُوم.

     وَقَالَ  بعض الْحفاظ: الْمَحْفُوظ فِي حَدِيث الزبير حذف لَفْظَة: مُتَعَمدا، وَلذَلِك جَاءَ فِي بعض طرقه فَقَالَ: مَا لي لَا أَرَاك تحدث وَقد حدث فلَان وَفُلَان وَابْن مَسْعُود؟ فَقَالَ: وَالله يَا بني مَا فارقته مُنْذُ أسلمت، وَلَكِن سمعته يَقُول: ( من كذب عَليّ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) ، وَالله مَا قَالَ مُتَعَمدا وَأَنْتُم تَقولُونَ.
مُتَعَمدا.
قَالَ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: لم يذكر فِي حَدِيث عَليّ وَالزُّبَيْر: مُتَعَمدا، فَمن أجل ذَلِك هاب بعض من سمع الحَدِيث أَن يحدث النَّاس بِمَا سمع.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ عَاما يَنْبَغِي أَن يدْخل فِيهِ النَّاسِي أَيْضا.
قلت: الحَدِيث بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل الْعَامِد والساهي وَالنَّاسِي فِي إِطْلَاق اسْم الْكَذِب عَلَيْهِم، غير أَن الْإِجْمَاع انْعَقَد على أَن النَّاسِي لَا إِثْم عَلَيْهِ، وَالله أعلم.





[ قــ :107 ... غــ :108 ]
- حدّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ الوَارث عَنْ عَبْدِ العَزِيز قالَ، أنَسٌ: إنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أنْ أُحَدِّثَكُمْ حَديثا كَثِيرا، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ( مَنْ تَعَمَّدَ عَليَّ كَذِبا فلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) .


هَذَا هُوَ الحَدِيث الثَّالِث مِمَّا فِيهِ الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة.

بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو الْمَشْهُور: بالمقعد، الْمنْقري الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم.
الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم.
الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب الْأَعْمَى الْبَصْرِيّ، وَقد مر.
الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله عَنهُ.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
وَمِنْهَا: أَنه من الرباعيات.

بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن زُهَيْر عَن أبي علية عَن عبد الْعَزِيز بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم أَيْضا عَن عمرَان بن مُوسَى عَن عبد الْعَزِيز عَنهُ بِهِ.
وَقَول الْحميدِي صَاحب ( الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ) : إِن حَدِيث أنس هَذَا مِمَّا انْفَرد بِهِ مُسلم غير صَوَاب.

بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: ( إِنَّه) أَي: الشان.
قَوْله: ( ليمنعني) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر: إِن وَاللَّام، فِيهِ للتَّأْكِيد.
قَوْله: ( أَن أحدثكُم) كلمة: أَن، بِفَتْح الْهمزَة مَعَ التَّخْفِيف، وَهِي مَعَ معمولها فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول أَو لقَوْله: ليمنعني لِأَن: منع، يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، و: أَن مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره ليمنعني تحديثكم.
وَقَوله: ( أَن النَّبِي) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ، هَذِه الْمُشَدّدَة مَعَ اسْمهَا وخبرها فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا فَاعل: ليمنعني.
قَوْله: ( حَدِيثا) نصب على أَنه مفعول مُطلق، وَالْمرَاد بِهِ جنس الحَدِيث، وَلِهَذَا جَازَ وُقُوع الْكثير صفة لَهُ، لَا حَدِيث وَاحِد، وإلاَّ يلْزم اجْتِمَاع الْوحدَة وَالْكَثْرَة فِيهِ.
قَوْله: ( من تعمد) الخ، مقول القَوْل.
قَوْله: ( كذبا) عَام فِي جَمِيع أَنْوَاع الْكَذِب، لِأَن النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط كالنكرة فِي سِيَاق النَّفْي فِي إِفَادَة الْعُمُوم.
فَإِن قلت: مَا المُرَاد من قَوْله: ( أحدثكُم حَدِيثا) ؟ قلت: حَدِيث الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ هُوَ المُرَاد فِي عرف الشَّرْع عِنْد الْإِطْلَاق.
وَقَوله: ( قَالَ: من تعمد) الخ أَيْضا قرينَة على هَذَا.
فَإِن قلت: الحَدِيث لَا يمْنَع كَثْرَة الحَدِيث الصَّادِق بل يجب التَّبْلِيغ والتكثير إِذا كَانَ صَادِقا، فَكيف جعله مَانِعا؟ .
قلت: كَثْرَة الحَدِيث، وَإِن كَانَ صَادِقا، ينجر إِلَى الْكَذِب غَالِبا عَادَة، وَمن حام حول الْحمى أوشك أَن يَقع فِيهِ، فالتعليل للِاحْتِرَاز عَن الانجرار إِلَيْهِ، وَلَو كَانَ وُقُوعه على سَبِيل الندرة.





[ قــ :108 ... غــ :109 ]
- حدّثنا مَكِّيُّ بنُ إبْراهِيمَ قالَ: حدّثنا يَزِيدُ بنُ أبي عُبيْدٍ عنْ سَلَمَةَ قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: ( مَنْ يَقلْ عَليَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) .

هَذَا هُوَ الحَدِيث الرَّابِع مِمَّا فِيهِ الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة.

بَيَان رِجَاله: وهم ثَلَاثَة.
الأول: الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم الْبَلْخِي، وَقد تقدم.
الثَّانِي: يزِيد بن أبي عبيد أَبُو خَالِد الْأَسْلَمِيّ، مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع، توفّي سنة سِتّ أَو سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: سَلمَة بِفَتْح السِّين وَاللَّام: ابْن الْأَكْوَع، وَاسم الْأَكْوَع: سِنَان بن عبد الله الْأَسْلَمِيّ الْمَدِينِيّ، يكنى سَلمَة بِأبي مُسلم، وَقيل: بِأبي إِيَاس، وَقيل: بِأبي عَامر.
وَقيل: هُوَ عَمْرو بن الْأَكْوَع، شهد بيعَة الرضْوَان وَبَايع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ ثَلَاث مَرَّات: فِي أول النَّاس وأوسطهم وَآخرهمْ.
رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على سِتَّة عشر، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِخَمْسَة وَمُسلم بِتِسْعَة، توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَسبعين وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَكَانَ شجاعا راميا محسنا يسْبق الْخَيل، فَاضلا خيّرا، وَيُقَال: إِنَّه كَلمه الذِّئْب، قَالَ سَلمَة: رَأَيْت الذِّئْب قد أَخذ ظَبْيًا، فطلبته حَتَّى نَزَعته مِنْهُ، فَقَالَ: وَيحك مَالِي وَلَك، عَمَدت إِلَى رزق رزقنيه الله تَعَالَى لَيْسَ من مَالك تنزعه مني؟ قَالَ: قلت: أيا عباد الله إِن هَذَا لعجب، ذِئْب يتَكَلَّم! فَقَالَ الذِّئْب: أعجب مِنْهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أصُول النّخل يدعوكم إِلَى عبَادَة الله وتأبون إلاَّ عبَادَة الْأَوْثَان.
قَالَ: فلحقت برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأسْلمت.

بَيَان لطائف إِسْنَاده: وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَنه من ثلاثيات البُخَارِيّ، وَهُوَ أول ثلاثي وَقع فِي البُخَارِيّ وَلَيْسَ فِيهِ أَعلَى من الثلاثيات، ويبلغ جَمِيعهَا أَكثر من عشْرين حَدِيثا، وَبِه فضل البُخَارِيّ على غَيره.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ من كبار شُيُوخ البُخَارِيّ، سمع من سَبْعَة عشر نَفرا من التَّابِعين مِنْهُم يزِيد بن أبي عبيد الْمَذْكُور.

بَيَان الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى: قَوْله: ( يَقُول) ، جملَة وَقعت حَالا.
قَوْله: ( من يقل عليَّ) كلمة: من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، وأصل: يقل، يَقُول.
حذفت الْوَاو للجزم لأجل الشَّرْط، وَجَوَاب الشَّرْط هُوَ قَوْله: ( فلتيبوأ) .
فَلذَلِك دَخلته الْفَاء.
قَوْله: ( مَا لم أقل) كلمة: مَا، مَوْصُولَة و: أقل، جملَة صلتها، والعائد مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا لم أَقَله.
فَإِن قلت: أَهَذا مُخْتَصّ بالْقَوْل أم يتَنَاوَل نِسْبَة فعل إِلَيْهِ لم يَفْعَله؟ قلت: اللَّفْظ خَاص بالْقَوْل، لَكِن لَا شكّ أَن الْفِعْل فِي مَعْنَاهُ لاشْتِرَاكهمَا فِي عِلّة الِامْتِنَاع، وَهُوَ الجسارة على الشَّرِيعَة ومشرعها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد احْتج بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث الَّذِي منع من رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى.
وَأجِيب: من جِهَة المجوزين بِأَن المُرَاد النَّهْي عَن الْإِتْيَان بِلَفْظ يُوجب تَغْيِير الحكم، على أَن الْإِتْيَان بِاللَّفْظِ أولى بِلَا شكّ.




[ قــ :109 ... غــ :110 ]
- ( حَدثنَا مُوسَى قَالَ حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي حبصن عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تسموا باسمي وَلَا تكتنوا بكنيتي وَمن رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي فغن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل فِي صُورَتي وَمن كذب على مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) هَذَا هُوَ الحَدِيث الْخَامِس مِمَّا فِيهِ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ( بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة.
الأول مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري الْبَصْرِيّ التَّبُوذَكِي.
الثَّانِي أَبُو عوَانَة الوضاح الْيَشْكُرِي الثَّالِث أَبُو حُصَيْن بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ واسْمه عمان بن عَاصِم بن حُصَيْن الْكُوفِي سمع ابْن عَبَّاس وَأبي صَالح وَغَيرهمَا وَعنهُ شُعْبَة والسفيانان وَخلق وَكَانَ ثِقَة ثبتا صَاحب سنة من حفاظ الْكُوفَة وَكَانَ عِنْده أَربع مائَة حَدِيث وَكَانَ عثمانيا مَاتَ سنة سبع أَو ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من اسْمه عُثْمَان وكنيته أَبُو حُصَيْن بِفَتْح الْحَاء إِلَّا هَذَا أَبُو حُصَيْن عُثْمَان وَمن عداهُ حُصَيْن بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَكله بالصَّاد الْمُهْملَة إِلَّا حضين بن الْمُنْذر فَإِنَّهُ بالضاد الْمُعْجَمَة الرَّابِع أَبُو صَالح ذكْوَان السمان الزيات الْمدنِي وَقد مرء الْخَامِس أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ( بَيَان لطائف إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا أَن رُوَاته مَا بَين بصرى وواسطى وكوفي ومدني.
وَمِنْهَا أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ ( بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن إِخْرَاجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَأخرجه مُسلم فِي مُقَدّمَة كِتَابه عَن مُحَمَّد بن عبيد بن حِسَاب الغبرى مُقْتَصرا على الْجُمْلَة الأخيره ( بَيَان اللُّغَات) وَله " تسموا " أَمر بِصِيغَة الْجمع من بابُُ التفعل تَقول سميت فلَانا زيدا وسميته بزيد بِمَعْنى واسميته مثله فتسمى بِهِ وَالِاسْم مُشْتَقّ من سموت لِأَنَّهُ تنويه ورفعة ووزنه افع والذاهب مِنْهُ الْوَاو لآن جمعه أَسمَاء وتصغيره سمى وَفِيه أَربع لُغَات اسْم وَاسم بِالضَّمِّ وسم سم قَوْله " وَلَا تكتنوا " فِيهِ أوجه ثَلَاثَة الأول من بابُُ التفعيل من تكنى يتكنى تكنياً فعلى هَذَا بِفَتْح الْكَاف وَالنُّون أَيْضا مَعَ التَّشْدِيد واصله لَا تنكلوا بالتائين فحذفت احداهما كَمَا فِي ( نَارا تلظى) اصله تتلظى الثَّالِث من بابُُ الافتعال من اكتنى يكتني اكتناء فعلى هَذَا بِفَتْح التَّاء وَسُكُون الْكَاف وَفتح التَّاء وَضم النُّون وَالْكل من الْكِنَايَة وَهِي فِي الأَصْل أَن يتَكَلَّم بِشَيْء وَيُرِيد بِهِ غَيره وَقد كنت بِكَذَا وَكَذَا وكنوت بِهِ والكنية بِالضَّمِّ والكنية أَيْضا بِالْكَسْرِ وَاحِدَة الكنى وَهُوَ اسْم مصدر بأب أَو أم واكتنى فلَان بِكَذَا وكنيته تكتنيه.
وَاعْلَم أَن الِاسْم الْعلم إِمَّا أَن يكون مشعراً بمدح أَو ذمّ وَهُوَ اللقب وَإِمَّا أَن لَا يكون فَأَما يصدر بِنَحْوِ الْأَب أَو الْأُم وَهُوَ الكنية أَولا وَهُوَ الِاسْم فالاسم النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُحَمَّد وكنيته أَبُو الْقَاسِم ولقبه رَسُول الله وَسيد الْمُرْسلين مثلا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله " الشَّيْطَان " إِمَّا مُشْتَقّ من شاط أَي هلك فَهُوَ فعلان وَأما من شطن أَي بعد فَهُوَ فيعال والشيطان مَعْرُوف وكل عَاتٍ متمر دمن الْجِنّ وَالْإِنْس وَالدَّوَاب شَيْطَان وَالْعرب تسمى الْحَيَّة شَيْطَانا.

     وَقَالَ  الْجَوْهَرِي الشَّيْطَان نونه أَصْلِيَّة وَيُقَال زَائِدَة فان جعلته فيعالا من قَوْلهم تشيطن الرجل صرفته وان جعلته من تشيط لم تصرفه لِأَنَّهُ فعلان قَوْله " لَا يتَمَثَّل " أَي لَا يتَصَوَّر يُقَال مثلت لَهُ كَذَا تمثيلا فتمثل أَي صورت لَهُ بِالْكِتَابَةِ وَغَيرهَا فتصور قَالَ الله تَعَالَى ( فتمثل لَهَا بشرا سويا) والتركيب يدل على من لظرة الشَّيْء للشَّيْء وَالصُّورَة الْهَيْئَة ( بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله " تسموا " جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وباسمى صلَة لَهُ وَكَذَا قَوْله " وَلَا تكنوا بكنيتي " وَهُوَ من قبيل عطف المنفى على الْمُثبت قَوْله " وَمن رَآنِي " كلمة من مَوْصُولَة متضمنة معنى الشَّرْط وَلِهَذَا دخلت الْفَاء فِي الْجَواب وَهُوَ قَوْله " فقد رَآنِي " فان قلت الشَّرْط يَنْبَغِي أَن يكون غير الْجَزَاء سَببا لَهُ مُتَقَدما عَلَيْهِ وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك قلت لَيْسَ هُوَ الْجَزَاء حَقِيقَة بل لَازِمَة تَقْدِيره فليستبشر فانه قد رَآنِي وَهِي رُؤْيا بعْدهَا شَيْء فَإِن الشَّرْط وَالْجَزَاء إِذا اتحدا صُورَة دلّ على الْكَمَال والغاية نَحْو " من كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله " وَنَحْو من أدْرك الضَّمَان فقد أدْرك المرعى أَي أدْرك مرعى متناهياً قَوْله " فان الشَّيْطَان " الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل والشيطان اسْم أَن وخبرها قَوْله " لَا يتَمَثَّل فِي صُورَتي " وإعراب الْجُمْلَة الْأَخِيرَة قد مر بَيَانه ( بَيَان الْمعَانِي) فِي أَرْبَعَة أَحْكَام عطف بَعْضهَا على بعض الأول التَّسْمِيَة باسمه وَالثَّانِي التكنية بكنيته وَالثَّالِث رُؤْيَته فِي الْمَنَام وَالرَّابِع الْكَذِب عَلَيْهِ فَوجه ذكر الحكم الثَّانِي عقيب الحكم الأول ظَاهر وَذَلِكَ لِأَن التَّسْمِيَة والتكنية من وَاد وَاحِد من أَقسَام الْأَعْلَام وَكَذَلِكَ وَجه الحكم الرَّابِع عقيب الحكم الثَّالِث ظَاهر وَهُوَ انه إِذا كذب عَلَيْهِ بِأَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَنَام فَهُوَ أَيْضا دَاخل تَحت الْوَعيد الْمَذْكُور وَأما وَجه ذكر الحكم الثَّالِث عقيب الحكم الثَّانِي وَالْأول فَهُوَ قَوْله " وَمن رَآنِي فِي الْمَنَام " إِلَى آخِره جَاءَ فِي الحَدِيث أَرْبَعَة أَلْفَاظ صِحَاح مَا ذكر و " من رَآنِي فقد رأى الْحق " وَجَاء " فسيراني فِي الْيَقَظَة " وَجَاء " فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَة " وَفِي رِوَايَة " فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي للشَّيْطَان أَن يتشبه بِي " وَهَذَا الثَّانِي تَفْسِير للْأولِ فَإِنَّهُ قَوْله " فقد رَآنِي فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي " مَعْنَاهُ فقد رأى الْحق قَالَ الإِمَام الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره اخْتلف فِي تَأْوِيله فَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر بن
هَامِش - - - - - _ كَذَا بَيَاض فِي جَمِيع الْأُصُول الخطية الطّيب معنى قَوْله " فقد رَآنِي " أَي رأى الْحق ورؤياه لَيست بأضغاث أَحْلَام وَلَا من تَشْبِيه الشَّيْطَان وَقَوله " فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي " إِشَارَة إِلَيْهِ إِلَى أَنَّهَا لَا تكون أضغاث أَحْلَام بل حَقًا ورؤيا صَحِيحَة قَالَ وَقد يرَاهُ الرَّائِي على غير صفته المنقولة إِلَيْنَا كإبياض اللِّحْيَة أَو خلاف لَونه أَو يرَاهُ اثْنَان فِي زمن وَاحِد أَحدهمَا بالمشرق وَالْآخر بالمغرب يرَاهُ كل وَاحِد فِي مَكَانَهُ.

     وَقَالَ  آخَرُونَ بل الْحَدث على ظَاهره وَالْمرَاد أَن من رَآهُ فقد أدْركهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا مَانع يمْنَع مِنْهُ وَالْعقل لَا يحيله وَمَا يذكر من الاعتلال بِأَنَّهُ قد يرَاهُ على خلاف صفته الْمَعْرُوفَة أوفى مكانين مَعًا فَذَلِك غلط من الرائيفي صِفَاته وتخيل لَهَا على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهِ وَقد نظر بعض الخيالات مرئيات والإدراك لَا يشْتَرط فِيهِ تحديق الْأَبْصَار ولأقرب الْمسَافَة وَلَا كَون المرئي مَدْفُونا فِي الأَرْض وَلَا ظَاهرا عَلَيْهَا إِنَّمَا يشْتَرط كَونه مَوْجُودا وَجَاء مَا يدل على بَقَاء جِسْمه عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن الْأَنْبِيَاء لَا تغيرهم الأَرْض وَتَكون الصِّفَات المخيلة اثرها وثمرتها اخْتِلَاف الدلالات فقد ذكر أَنه إِذا رَآهُ شَيخا فَهُوَ عَام سلم وَإِذا رَآهُ شَابًّا فَهُوَ عَام جَدب وان رَآهُ حسن الْهَيْئَة حسن الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال مُقبلا على الرَّائِي كَانَ خيرا لَهُ وان رَآهُ على خلاف ذَلِك كَانَ شرا لَهُ وَلَا يلْحق النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَمن ذَلِك شَيْء وَلَو رَآهُ أَمر بقتل من لَا يحل قَتله فَهَذَا من الصِّفَات المتخيلة لَا المرئية وَفِيه قَول ثَالِث قَالَه لقَاضِي عِيَاض وَأَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ أَن رَآهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِصفتِهِ الْمَعْلُومَة فَهُوَ إِدْرَاك الْحَقِيقَة وَإِن رَآهُ على غير صفته فَهُوَ إِدْرَاك الْمِثَال وَتَكون رُؤْيا تَأْوِيل فان من الرُّؤْيَا مَا يخرج على وَجههَا وَمِنْهَا مَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل قَالَ النَّوَوِيّ القَوْل الثَّالِث ضَعِيف بل الصَّحِيح القَوْل الثَّانِي وَيُقَال معنى قَوْله " فقد رَآنِي " أَي فقد رأى مثالي بِالْحَقِيقَةِ لِأَن المرئي فِي الْمَنَام مِثَال قَوْله " فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي " يدل على ذَلِك وَيقرب مِنْهُ مَا قَالَه الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ قَالَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه رأى جسمي وبدني بل رأى مِثَالا صَار ذَلِك الْمِثَال آلَة يتَأَدَّى بهَا الْمَعْنى الَّذِي فِي نَفسِي إِلَيْهِ بل الْبدن الْيَقَظَة أَيْضا لَيْسَ إِلَّا آلَة النَّفس فَالْحق أَن مَا يرَاهُ مِثَال حَقِيقَة روحه المقدسة الَّتِي هِيَ مَحل النُّبُوَّة فَمَا رَآهُ من الشكل لَيْسَ هُوَ روح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا شخصه بل هُوَ مِثَال لَهُ على التَّحْقِيق.
فَإِن قلت الْمَنَام ثَلَاثَة أَقسَام رُؤْيا من الله ورؤيا من الشَّيْطَان ورؤيا مِمَّا حدث بِهِ الْمَرْء نَفسه وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبابُُ نفت الْقسم الثَّانِي مِنْهَا وَهُوَ مَا يكون من الشَّيْطَان فَهَل يجوز أَن تكون رُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام من الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا يحدث بِهِ الْمَرْء نَفسه أَولا قلت لَا يجوز وَبَيَان ذَلِك مَوْقُوف على تَقْدِيم مُقَدّمَة وَهِي أَن الِاجْتِمَاع بَين الشخصين يقظة ومناما لحُصُول مَا بِهِ الِاتِّحَاد.
وَله خَمْسَة أصُول كُلية الِاشْتِرَاك فِي الذَّات أَو فِي صفة فَصَاعِدا أَو فِي حَال فَصَاعِدا أَو فِي حَال أَو فِي حَال الْأَفْعَال وَفِي الْمَرَاتِب وكل مَا يتعقل من الْمُنَاسبَة بَين شَيْئَيْنِ أَو أَشْيَاء لَا يخرج عَن هَذِه الْخَمْسَة وبحسب قوته على مَا بِهِ الِاخْتِلَاف وَضَعفه يكثر الِاجْتِمَاع ويقل وَقد يقوى على ضِدّه فتقوى الْمحبَّة بِحَيْثُ يكَاد الشخصان لَا يفترقان وَقد يكون بِالْعَكْسِ وَمن حصل لَهُ الْأُصُول الْخَمْسَة وَثبتت الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين أَرْوَاح الماضين اجْتمع بهم مَتى شَاءَ وَإِذا عرف هَذَا ظهر أَن حَدِيث الْمَرْء نَفسه لَيْسَ مِمَّا يقدر أَن يحصل مُنَاسبَة بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليَكُون سَبَب الِاجْتِمَاع بِخِلَاف الْملك الْمُوكل بالرؤيا فَإِنَّهُ يمثل بالوجود مَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ من الْمُنَاسبَة وَقَوله فِي بعض الرِّوَايَات " فسيراني فِي الْيَقَظَة ".
" وكأنما رَآنِي فِي الْيَقَظَة قبل مَعْنَاهُ سيرى تَفْسِير مَا رأى لِأَنَّهُ حق وَقيل سيراه فِي الْقِيَامَة وَقيل المُرَاد بقوله " سيراني " أهل عصره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُمل لم يُهَاجر فَتكون الرُّؤْيَة فِي الْمَنَام علما لَهُ على رُؤْيَته فِي الْيَقَظَة قَوْله " فَأن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل فِي صُورَتي " أَي لَا يتَصَوَّر بِصُورَتي وَاخْتلف فِي معنى الصُّورَة فَقيل أَي فِي صِفَتي وَهُوَ صفة الْهِدَايَة وَقيل هِيَ على حَقِيقَته وَهِي التخطيط الْمَعْلُوم الْمشَاهد لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا ظَاهر وَعَن هَذَا وضعوه لرُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ميزاناً وَقَالُوا رُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ أَن يرَاهُ الرَّائِي بِصُورَة شَبيهَة لصورته الثَّابِتَة حليتها بِالنَّقْلِ الصَّحِيح حَتَّى لَو رَآهُ فِي صُورَة مُخَالفَة لصورته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي الْحس لم يكن رَآهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل أَن يرَاهُ طَويلا أَو قَصِيرا جدا أَو يرَاهُ أشعر أَو شَيخا أَو شَدِيد السمرَة وَنَحْو ذَلِك وَيُقَال خص الله تَعَالَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن رُؤْيَة النَّاس إِيَّاه صَحِيحَة وَكلهَا صدق وَمنع الشَّيْطَان أَن يتَصَوَّر فِي خلقته لِئَلَّا يكذب على لِسَانه فِي النّوم كَمَا خرق الله تَعَالَى الْعَادة للأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام بالمعجزة وكما اسْتَحَالَ أَن يتَصَوَّر الشَّيْطَان فِي صورته فِي الْيَقَظَة.

     وَقَالَ  مُحي السّنة رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام حق وَلَا يتَمَثَّل الشَّيْطَان بِهِ وَكَذَلِكَ جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا يتَمَثَّل بهم ( بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول احْتج أهل الظَّاهِر بقوله " ولاتكنوا " على منع التكنى بكنية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُطلقًا وَبِه قَالَ الشَّافِعِي.

     وَقَالَ  الرّبيع قَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ لأحد أَن يكتنى بِأبي الْقَاسِم سَوَاء كَانَ اسْمه مُحَمَّد أم لم يكن.

     وَقَالَ  القَاضِي وَمنع قوم تَسْمِيَته الْوَلَد بالقاسم كَيْلا يكون سَببا للتكنية وَيُؤَيّد هَذَا قَوْله فِيهِ " إِنَّمَا أَنا قَاسم " وَاخْبَرْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَعْنَى الَّذِي اقْتضى اخْتِصَاصه بِهَذِهِ الكنية.

     وَقَالَ  قوم يجوز التكنى بِأبي الْقَاسِم لغير اسْمه مُحَمَّد وَأحمد وَيجوز التَّسْمِيَة بِأَحْمَد وَمُحَمّد مَا لم يكن لَهُ كنيته بِأبي الْقَاسِم وَقد روى جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من تسمى باسمي فَلَا يتكنى بكنيتي وَمن تكنى بكنيتي فَلَا يتسمى بإسمي " وَأخرج التِّرْمِذِيّ عَن أبي هُرَيْرَة " نهى النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم أَن يجمع بَين اسْمه وكنيته " وَذهب قوم إِلَى أَن النَّهْي مَنْسُوخ الْإِبَاحَة فِي حَدِيث عَليّ وَطَلْحَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَهُوَ قَول الْجُمْهُور من السّلف وَالْعُلَمَاء وسمت جمَاعَة أَبْنَاءَهُم مُحَمَّدًا وكنوهم أَبَا الْقَاسِم قَالَ المازرى قَالَ بَعضهم النَّهْي مَقْصُور بحياة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ ذكر أَن سَبَب الحَدِيث أَن رجلا نَادَى يَا أَبَا الْقَاسِم فَالْتَفت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لم أعنك وَإِنَّمَا دَعَوْت فلَانا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " تسموا باسمى وَلَا تكتنوا بكنيتي " وَبِه قَالَ مَالك وجوزان يُسمى بِمُحَمد ويكنى بِأبي الْقَاسِم مُطلقًا قلت أما الحَدِيث الأول فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَأما الثَّانِي فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَقيل أَن سَبَب النَّهْي أَن الْيَهُود تكنوا بِهِ وَكَانُوا ينادون يَا أَبَا الْقَاسِم فَإِذا الْتفت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا لم نعنك اظهاراً للايذاء وَقد زَالَ ذَلِك الْمَعْنى وَأما الثَّالِث فَهُوَ حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قَالَ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ " قلت يَا رَسُول الله أَن ولد لي من بعْدك أنسميه بِاسْمِك ونكنيه بكنيتك قَالَ نعم ".

     وَقَالَ  أَحْمد بن عبد الله ثَلَاثَة تكنوا بِأبي الْقَاسِم رخص لَهُم مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَمُحَمّد بن أبي بكر وَمُحَمّد بن طَلْحَة بن عبد الله.

     وَقَالَ  ابْن جرير النَّهْي فِي الحَدِيث للتنزيه وَالْأَدب لَا للتَّحْرِيم.
الثَّانِي فِيهِ التَّصْرِيح بِجَوَاز التسمي باسمه.
الثَّالِث فِيهِ أَن رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حق.
الرَّابِع أَن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بصورته الْخَامِس الْكَاذِب عَلَيْهِ معد لنَفسِهِ النَّار ( الأسئلة والأجوبة) مِنْهَا مَا قيل أَن رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَت حَقًا فَهَل يُطلق عَلَيْهِ الصَّحَابِيّ أم لَا أُجِيب بِلَا إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ حد الصَّحَابِيّ وَهُوَ مُسلم رأى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا المُرَاد مِنْهُ لَا رُؤْيَة الْمَعْهُودَة الْجَارِيَة على الْعَادة أَو الرُّؤْيَة فِي حَيَاته فِي الدُّنْيَا لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْمخبر عَن الله وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ مخبرا عَنهُ للنَّاس فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْقَبْر.
وَمِنْهَا مَا قيل الحَدِيث المسموع عَنهُ فِي الْمَنَام هَل هُوَ حجَّة يسْتَدلّ بهَا أم لَا أُجِيب بِلَا إِذْ يشْتَرط فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن يكون الرَّاوِي ضابطاً عِنْد السماع من النّوم لَيْسَ حَال الضَّبْط.
وَمِنْهَا مَا قيل حُصُول الْجَزْم فِي نفس الرَّائِي أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل هُوَ حجَّة أَو أم لَا أُجِيب بِلَا بل ذَلِك المرئي هُوَ صُورَة الشَّارِع بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَاد الرَّائِي أَو حَاله أَو بِالنِّسْبَةِ إِلَى صفته أَو حكم من أَحْكَام الْإِسْلَام أَو بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْموضع الَّذِي رأى فِيهِ ذَلِك الرَّائِي تِلْكَ الصُّورَة الَّتِي ظن أَنَّهَا صُورَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَمِنْهَا مَا قيل مَا حَقِيقَة الرُّؤْيَا أُجِيب بِأَنَّهَا ادراكات يخلقها الله تَعَالَى فِي قلب العَبْد على يَد الْملك والشيطان وَنَظِيره فِي الْيَقَظَة الخواطر فَإِنَّهَا قد تَأتي على نسق وَقد تَأتي مسترسلة غير محصلة فَإِذا خلقهَا الله تَعَالَى على يَد الْملك كَانَ وَحيا وبرهاناً مفهوماً نقل هَذَا عَن الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَعَن القَاضِي أبي بكر أَنَّهَا اعتقادات قَالَ الإِمَام أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ منشأ الْخلاف بَينهمَا نه قد يرى نَفسه بَهِيمَة أَو ملكا أَو طائراً وَهَذَا لَيْسَ إدراكاً لِأَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَة فَصَارَ القَاضِي إِلَى أَنَّهَا اعتقادات لَان الِاعْتِقَاد قد يَأْتِي على خلاف المعتقد قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ ذهل القَاضِي عَن أَن هَذَا المرئي مثل فالإدراك إِنَّمَا يتَعَلَّق بِالْمثلِ.

     وَقَالَ  أَن الله يخلق فِي قلب النَّائِم اعتقادات كَمَا يخلقها فِي قلب الْيَقظَان فَهُوَ تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء فَلَا يمنعهُ من فعله نوم وَلَا يقظة فَإِذا خلق هَذِه الاعتقادات فَكَأَنَّهُ جعلهَا علما على أُمُور أخر يخلقها فِي ثَانِي الْحَال أَو كَانَ قد خلقهَا فَإِذا خلق فِي قلب النَّائِم اعْتِقَاد الطيران وَلَيْسَ بطائر فقصارى أمره أَنه أعتقد أمرا على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ فَيكون ذَلِك الِاعْتِقَاد علما على غَيره كَمَا يخلق الله الْغَيْم علما على الْمَطَر وَيُقَال حَقِيقَة الرُّؤْيَا مَا يَنْزعهُ الْملك الْمُوكل عَلَيْهَا فَإِن الله تَعَالَى قدر كل بالرؤيا ملكا يضْرب من الْحِكْمَة الْأَمْثَال وَقد اطلعه الله تَعَالَى على قصَص ولد آدم من اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَهُوَ ينْسَخ مِنْهَا وَيضْرب لكل على قصَّته مثلا فَإِذا نَام تمثل لَهُ تِلْكَ الْأَشْيَاء على طَرِيق الْحِكْمَة ليَكُون لَهُ بِشَارَة أَو نذارة أَو معاتبة ليكونوا على بَصِيرَة من أَمرهم ( فَائِدَة) أعلم أَن البُخَارِيّ رَضِي الله عَنهُ أخرج حَدِيث " من كذب عَليّ " هَهُنَا عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة وهم عَليّ بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَأنس بن مَالك وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَأَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُم فَقدم حَدِيث عَليّ لَان فِيهِ النَّهْي عَن الْكَذِب عَلَيْهِ صَرِيحًا والوعيد للكاذب وَالْمرَاد من عقد الْبابُُ التَّنْبِيه عَلَيْهِ ثمَّ عقبه بِحَدِيث الزبير لزِيَادَة فِيهِ وَهِي التَّنْبِيه على توقي الصَّحَابَة وتحرزهم من كَثْرَة الرِّوَايَة عَنهُ المؤدية إِلَى انجرار الْكَذِب الْخَطَأ ثمَّ عقب ذَلِك بِحَدِيث أنس للتّنْبِيه على نُكْتَة وَهِي أَن توقيهم لم يكن بالامتناع عَن اصل الحَدِيث لأَنهم مأمورون بالتبليغ وَإِنَّمَا كَانَ لخوفهم من الْإِكْثَار المفضى إِلَى الْخَطَأ ثمَّ عقب ذَلِك بِحَدِيث سَلمَة لما فِيهِ من التَّصْرِيح بالْقَوْل لِأَن الْأَحَادِيث الَّتِي قبله أَعم من نِسْبَة القَوْل وَالْفِعْل إِلَيْهِ ثمَّ ختم الْأَرْبَعَة بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة لما فِيهِ من الْإِشَارَة إِلَى اسْتِوَاء تَحْرِيم الْكَذِب عَلَيْهِ فِي حَال سَوَاء كَانَ فِي الْيَقَظَة أَو فِي النّوم ( فَائِدَة أُخْرَى) اعْلَم أَن حَدِيث " من كذب عَليّ " فِي غَايَة الصِّحَّة وَنِهَايَة الْقُوَّة حَتَّى أطلق عَلَيْهِ جمَاعَة أَنه متواتر ونوزع بِأَن شَرط التَّوَاتُر اسْتِوَاء طَرفَيْهِ وَمَا بَينهمَا فِي الثرة وَلَيْسَت مَوْجُودَة فِي كل طَرِيق بمفردها أُجِيب بِأَن المُرَاد من إِطْلَاق كَونه متواترا رِوَايَة الْمَجْمُوع عَن الْمَجْمُوع من ابْتِدَائه إِلَى انتهائه فِي كل عصر وَهَذَا كَاف فِي إِفَادَة الْعلم وَحَدِيث أنس قد روى عَن الْعدَد الْكثير وتواترت عَنْهُم الطّرق وَحَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ رَوَاهُ عَن سِتَّة من مشاهير التَّابِعين وثقاتهم وَالْعدَد الْمعِين لَا يشْتَرط فِي التَّوَاتُر بل مَا أَفَادَ الْعلم كَاف وَالصِّفَات الْعليا فِي الروَاة تقوم مقَام الْعدَد أَو تزيد عَلَيْهِ وَلَا سِيمَا قد روى هَذَا الحَدِيث عَن جمَاعَة كثير من الصَّحَابَة فَحكى الإِمَام أَبُو بكر الصَّيْرَفِي فِي شَرحه لرسالة الشَّافِعِي أَنه روى عَن أَكثر من سِتِّينَ صحابياً مَرْفُوعا.

     وَقَالَ  بعض الْحفاظ أَنه روى عَن اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ صحابياً وَفِيهِمْ الْعشْرَة المبشرة.

     وَقَالَ  وَلَا يعرف حَدِيث اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة المبشرة إِلَّا هَذَا وَلَا حَدِيث يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا.

     وَقَالَ  بَعضهم انه رَوَاهُ مِائَتَان من الصَّحَابَة وَقد اعتنى جمَاعَة من الْحفاظ بِجمع طرقه فَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ أَنه ورد من حَدِيث أَرْبَعِينَ من الصَّحَابَة وَكَذَا قَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار وَجمع طرقه أَبُو مُحَمَّد يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد فَزَاد قَلِيلا وَجَمعهَا الطَّبَرَانِيّ فَزَاد قَلِيلا.

     وَقَالَ  أَبُو الْقَاسِم بن مَنْدَه رَوَاهُ اكثر من ثَمَانِينَ نفسا وَجمع طرقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي مُقَدّمَة كتاب الموضوعات فجاوز التسعين وَبِذَلِك حرم بن دحْيَة ثمَّ جمعهَا الحافظان يُوسُف بن خَلِيل الدِّمَشْقِي وَأَبُو بكر وهما متعاصران فَوَقع لكل مِنْهُمَا مَا لَيْسَ عِنْد الآخر وَتحصل من مَجْمُوع ذَلِك كُله رِوَايَة مائَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم.

     وَقَالَ  ابْن الصّلاح لم يزل عدده فِي ازدياد وهلم جرا على التوالي والاستمرار وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيث مَا فِي مرتبته من التَّوَاتُر وَقيل لم يُوجد فِي الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا.

     وَقَالَ  ابْن دحْيَة قد أخرج من نَحْو أَرْبَعمِائَة طَرِيق قلت قَول من قَالَ لَا يعرف حَدِيث اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة إِلَّا هَذَا غير مُسلم فَإِن حَدِيث رفع الْيَدَيْنِ اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة كَذَلِك حَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَكَذَا قَوْله وَلَا حَدِيث يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا فَإِن حَدِيث السِّوَاك رَوَاهُ أثر من سِتِّينَ صحابياً بيّنت ذَلِك فِي شرح مَعَاني الْآثَار للطحاوي رَحمَه الله وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ لم يُوجد من الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا فَإِن حَدِيث " من بنى لله مَسْجِدا " وَحَدِيث الشَّفَاعَة والحوض ورؤية الله فِي الْآخِرَة وَالْأَئِمَّة من قُرَيْش كلهَا تصلح مِثَالا للمتواتر فَافْهَم ( فَائِدَة أُخْرَى) تَفْصِيل طرق الْأَحَادِيث الْمِائَة من الصَّحَابَة الَّتِي تحصلت من جَمِيع الْحفاظ الْمَذْكُورين هُوَ أَن أَرْبَعَة عشر حَدِيثا مِنْهَا قد صحت فَعِنْدَ البُخَارِيّ وَمُسلم عَن عَليّ بن أبي طَالب وَأنس بن مَالك وَأبي هُرَيْرَة والمغيرة أخرج البُخَارِيّ حَدِيثه فِي الْجَنَائِز وَعند البُخَارِيّ أَيْضا عَن الزبير بن الْعَوام وَسَلَمَة ابْن الْأَكْوَع وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أخرجه حَدِيثه فِي أَخْبَار بني إِسْرَائِيل وَعند مُسلم أَيْضا عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعند غَيرهمَا من الصِّحَاح أَيْضا عَن عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَأبي قَتَادَة وَجَابِر وَزيد بن أَرقم وَمِنْهَا سِتَّة عشر حَدِيثا فِي الحسان وَهِي عَن طَلْحَة بن عبيد الله وَسَعِيد بن زيد وَأبي عُبَيْدَة بن الْجراح ومعاذ بن جبل وَعقبَة بن عَامر وَعمْرَان بن حُصَيْن وسلمان الْفَارِسِي وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَرَافِع بن خديج وطارق الْأَشْجَعِيّ والسائب بن يزِيد وخَالِد بن عرفطة وَأبي أُمَامَة وَأبي قرصافة وَأبي مُوسَى الغافقي وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثُونَ نفسا وَمِنْهَا سَبْعُونَ حَدِيثا مَا بَين ضَعِيف وساقط عَن سبعين نفسا مِنْهُم وهم أَبُو بكر بن عمر بن الْخطاب وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص وعمار بن يَاسر وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَزيد بن ثَابت وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَجَابِر بن عبد الله وَأُسَامَة بن زيد بن وَقيس بن سعد بن عبَادَة وواثلة بن الاسقع وَكَعب بن قُطْبَة وَسمرَة بن جُنْدُب والبراء ابْن عَازِب وَأَبُو مُوسَى الغاففقي وَمَالك بن عبد الله بن زعب وصهيب والنواس بن سمْعَان ويعلى بن مرّة وَحُذَيْفَة ابْن الْيَمَان والسائب بن يزِيد وَبُرَيْدَة بن الْحصيب وَسليمَان بن خَالِد الْخُزَاعِيّ وَعبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء بن عَمْرو ابْن عبسة السّلمِيّ وطارق بن أَشْيَم وَأَبُو رَافع إِبْرَاهِيم وَيُقَال اسْلَمْ مولى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَعتبَة بن غَزوَان وَمُعَاوِيَة بن حيدة ومعاذ بن جبل وَسعد بن المدحاس وَأَبُو كَبْشَة الانماري والعرس بن عميرَة والمنقع التَّمِيمِي وَابْن أبي العشراء الدَّارمِيّ ونبيط بن شريط وَأَبُو ذَر الْغِفَارِيّ وَيزِيد بن أَسد وَأَبُو مَيْمُون الْكرْدِي وَرجل من أَصْحَاب النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَرجل آخر