فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب التسليم

( بابُُ التَّسْلِيمِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان التَّسْلِيم فِي آخر الصَّلَاة، وَإِنَّمَا لم يشر إِلَى حكمه: هَل هُوَ وَاجِب أم سنة؟ لوُقُوع الِاخْتِلَاف فِيهِ، لتعارض الْأَدِلَّة.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَيُمكن إِن يُؤْخَذ الْوُجُوب من حَدِيث الْبابُُ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: كَانَ إِذا سلم، لِأَنَّهُ يشْعر بتحقيق مواظبته على ذَلِك.
قلت: قَامَ الدَّلِيل على أَن التَّسْلِيم فِي آخر الصَّلَاة غير وَاجِب، وَأَن تَركه غير مفْسدَة للصَّلَاة، وَهُوَ ( أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الظّهْر خمْسا، فَلَمَّا سلم أخبر بصنيعه، فَثنى رجله فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ) ، رَوَاهُ عبد الله بن مَسْعُود، وَأخرجه الْجَمَاعَة بطرق مُتعَدِّدَة، وألفاظ مُخْتَلفَة.
قَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: فَفِي هَذَا الحَدِيث أَنه أَدخل فِي الصَّلَاة رَكْعَة من غَيرهَا قبل التَّسْلِيم، وَلم ير ذَلِك مُفْسِدا للصَّلَاة، فَدلَّ ذَلِك أَن السَّلَام لَيْسَ من صلبها، وَلَو كَانَ وَاجِبا كوجوب السَّجْدَة فِي الصَّلَاة لَكَانَ حكمه أَيْضا كَذَلِك، وَلكنه بِخِلَافِهِ، فَهُوَ سنة.
انْتهى.
قلت: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم: إِذا انْصَرف الْمُصَلِّي من صلَاته بِغَيْر لفظ التَّسْلِيم فَصلَاته بَاطِلَة، حَتَّى قَالَ النَّوَوِيّ: وَلَو اخْتَلَّ بِحرف من حُرُوف: السَّلَام عَلَيْكُم، لم تصح صلَاته، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( تحليلها التَّسْلِيم) .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن ابْن عقيل عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ( مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور، وتحريمها التَّكْبِير، وتحليلها التَّسْلِيم) .
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا.
وَأخرجه الْحَاكِم فِي ( مُسْتَدْركه) .

     وَقَالَ : صَحِيح على شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث أصح شَيْء فِي هَذَا الْبابُُ وَأحسن.
قلت: اخْتلفُوا فِي صِحَّته بِسَبَب ابْن عقيل، وَهُوَ: عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، فَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: هُوَ من الطَّبَقَة الرَّابِعَة من أهل الْمَدِينَة وَكَانَ مُنكر الحَدِيث لَا يحتجون بحَديثه، وَكَانَ كثير الْعلم،.

     وَقَالَ  ابْن الْمَدِينِيّ، عَن بشر بن عمر الزهْرَانِي: كَانَ مَالك لَا يروي عَنهُ، وَكَانَ يحيى بن سعيد لَا يروي عَنهُ، وَعَن يحيى بن معِين: لَيْسَ حَدِيثه بِحجَّة، وَعنهُ: ضَعِيف الحَدِيث، وَعنهُ.
لَيْسَ بذلك.
.

     وَقَالَ  الْعجلِيّ: تَابِعِيّ مدنِي جَائِز الحَدِيث.
.

     وَقَالَ  النَّسَائِيّ: ضَعِيف.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: صَدُوق، وَقد تكلم فِيهِ بعض أهل الْعلم من قبل حفظه، وعَلى تَقْدِير صِحَّته أجَاب الطَّحَاوِيّ عَنهُ بِمَا محصله أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: ( من رابه إِذا رفع رَأسه من آخر سَجْدَة فقد تمت صلَاته) ، فَدلَّ على أَن معنى الحَدِيث الْمَذْكُور لم يكن على أَن الصَّلَاة لَا تتمّ إلاّ بِالتَّسْلِيمِ، إِذا كَانَت تتمّ عِنْده بِمَا هُوَ قبل التَّسْلِيم، فَكَانَ معنى: تحليلها التَّسْلِيم، التَّحْلِيل الَّذِي يَنْبَغِي أَن تحل بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، وَجَوَاب آخر: إِن الحَدِيث الْمَذْكُور من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يثبت بِهِ الْفَرْض.
فَإِن قلت: كَيفَ أثبت فَرضِيَّة التَّكْبِير بِهِ وَلم يثبت فَرضِيَّة التَّسْلِيم؟ قلت: أصل فَرضِيَّة التَّكْبِير فِي أول الصَّلَاة بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: { وَذكر اسْم ربه فصلى} ( الْأَعْلَى: 15) .
وَقَوله: { وَرَبك فَكبر} ( المدثر: 3) .
غَايَة مَا فِي الْبابُُ: يكون الحَدِيث بَيَانا لما يُرَاد بِهِ من النَّص، وَالْبَيَان بِهِ يَصح كَمَا فِي مسح الراس، وَذهب عَطاء ابْن أبي رَبَاح وَسَعِيد بن الْمسيب وَإِبْرَاهِيم وَقَتَادَة وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ بِهَذَا إِلَى: أَن التَّسْلِيم لَيْسَ بِفَرْض حَتَّى لَو تَركه لَا تبطل صلَاته.



[ قــ :814 ... غــ :837 ]
- حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنِ هِنْدَ بِنْتَ الحَارِثِ أنَّ أُمَّ سلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كَانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا سلَّمَ قامَ النِّساءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ ومَكَثَ يَسِيرا قَبْلَ أنْ يَقُومَ قَالَ ابنُ شِهَابٍ فَأُرَي.
وَالله أعْلَمُ أنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ ينْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ القَوْمِ.
.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سلم) .

ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَإِبْرَاهِيم ابْن عبد الرَّحْمَن بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عَوْف، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَهِنْد بنت الْحَارِث، تقدّمت فِي: بابُُ الْعلم والعظة بِاللَّيْلِ، وَأم سَلمَة هِنْد بنت أبي أُميَّة، زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ فَإِنَّهُ بَصرِي.
وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تابعية عَن صحابية.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي الْوَلِيد وَيحيى بن قزعة وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى وَمُحَمّد بن رَافع، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن مسلمة عَن ابْن وهب، وَأخرجه فِيهِ عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( حَتَّى يقْضِي تَسْلِيمه) ، ويروى: ( حِين يقْضِي تَسْلِيمه) ، أَي: حِين يتم تَسْلِيمه ويفرغ مِنْهُ.
قَوْله: ( فَأرى) بِضَم الْهمزَة أَي: اظن أَن مكث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَسِيرا لأجل نَفاذ النِّسَاء وذهابهن قبل تفرق الرِّجَال لِئَلَّا يدركهن بعض المتفرقين من الصَّلَاة.
قَوْله: ( وَالله أعلم) جملَة مُعْتَرضَة.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: خُرُوج النِّسَاء إِلَى الْمَسَاجِد وسبقهن بالانصراف، والاختلاط بِهن مَظَنَّة الْفساد، وَيمْكث الإِمَام فِي مُصَلَّاهُ وَالْحَالة هَذِه، فَإِن لم يكن هُنَاكَ نسَاء فالمستحب للْإِمَام أَن يقوم من مُصَلَّاهُ عقيب صلَاته، كَذَا قَالَه الشَّافِعِي فِي ( الْمُخْتَصر) وَفِي ( الْأَحْيَاء) للغزالي: إِن ذَلِك فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَصَححهُ ابْن حبَان فِي غير ( صَحِيحه) .
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: وعللوا قَول الشَّافِعِي بعلتين: إِحْدَاهمَا: لِئَلَّا يشك من خَلفه هَل سلم أم لَا.
الثَّانِيَة: لِئَلَّا يدْخل غَرِيب فيظنه بعد فِي الصَّلَاة فيقتدى بِهِ.
.

     وَقَالَ  صَاحب ( التَّوْضِيح) : لَكِن ظَاهر حَدِيث الْبَراء بن عَازِب: ( رمقت صَلَاة لنَبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدت قِيَامه فركعته فاعتداله بعد رُكُوعه فسجدته فجلسته بَين السَّجْدَتَيْنِ فسجدته فجلسته مَا بَين التَّسْلِيم والانصراف قَرِيبا من السوَاء) .
رَوَاهُ مُسلم، يَعْنِي: أَنه لم يكن يثبت سَاعَة مَا يسلم، بل كَانَ يجلس بعد السَّلَام جلْسَة قريبَة من السُّجُود.
.

     وَقَالَ  الشَّافِعِي فِي ( الْأُم) : وللمأموم أَن ينْصَرف إِذا قضى الإِمَام السَّلَام قبل قيام الإِمَام، وَإِن أخر ذَلِك حَتَّى ينْصَرف بعد الإِمَام أَو مَعَه كَانَ ذَلِك أحب إِلَيّ.
وَفِي ( الذَّخِيرَة) : إِذا فرغ من صلَاته أَجمعُوا أَنه لَا يمْكث فِي مَكَانَهُ مُسْتَقْبل الْقبْلَة، وَجَمِيع الصَّلَوَات فِي ذَلِك سَوَاء، فَإِن لم يكن بعْدهَا تطوع إِن شَاءَ انحرف عَن يَمِينه أَو يسَاره وَإِن شَاءَ اسْتقْبل النَّاس بِوَجْهِهِ، لَا إِذا لم يكن أَمَامه من يُصَلِّي، وَإِن كَانَ بعد الصَّلَاة سنَن يقوم إِلَيْهَا، وَبِه نقُول.
وَيكرهُ تَأْخِيرهَا عَن أَدَاء الْفَرِيضَة فيتقدم أَو يتَأَخَّر أَو ينحرف يَمِينا أَو شمالاً.
وَعَن الْحلْوانِي من الْحَنَفِيَّة: جَوَاز تَأْخِير السّنَن بعد الْمَكْتُوبَة، وَالنَّص: أَن التَّأْخِير مَكْرُوه، وَيَدْعُو فِي الْفجْر وَالْعصر لِأَنَّهُ لَا صَلَاة بعدهمَا، فَيجْعَل الدُّعَاء بدل الصَّلَاة، وَيسْتَحب أَن يَدْعُو بعد السَّلَام،.

     وَقَالَ  فِي ( التَّوْضِيح) أَيْضا إِذا أَرَادَ الإِمَام أَن ينْتَقل فِي الْمِحْرَاب وَيقبل على النَّاس للذّكر وَالدُّعَاء جَازَ أَن ينْتَقل كَيفَ شَاءَ، وَأما الْأَفْضَل فَأن يَجْعَل يَمِينه إِلَيْهِم ويساره إِلَى الْمِحْرَاب.
وَقيل: عَكسه، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة.

وَمن فَوَائِد الحَدِيث: وجوب غض الْبَصَر، وَمكث الإِمَام فِي مَوْضِعه.
وَمكث الْقَوْم فِي أماكنهم.