فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب إثم من أشرك بالله، وعقوبته في الدنيا والآخرة

( كتاب اسْتِتابَةِ المُرْتِّدينَ والمُعانِدينَ وقِتالِهِمْ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين أَي: الجائرين عَن الْقَصْد الباغين الَّذين يردون الْحق مَعَ الْعلم بِهِ، كَذَا فِي رِوَايَة الْفربرِي، وَسقط لفظ: كتاب، فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: كتاب الْمُرْتَدين، ثمَّ ذكر التَّسْمِيَة، ثمَّ قَالَ: بَاب اسْتِتَابَة الْمُرْتَدين والمعاندين وإثم من أشرك ... الخ.
قَوْله: والمعاندين كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بالنُّون، وَفِي رِوَايَة الْجِرْجَانِيّ بِالْهَاءِ، بدل النُّون.


( بابُُ إثْمِ مَنْ أشْرَكَ بِالله وعُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي ذكر إِثْم من أشرك بِاللَّه ... الخ، وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ، حذف لفظ: بابُُ، وَقَوله: إِثْم من أشرك بِاللَّه بعد قَوْله: وقتالهم.

قَالَ الله تَعَالَى: { وَإِذ قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه يابني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلمٌ عَظِيم} .

ذكر الْآيَة الأولى لِأَنَّهُ لَا إِثْم أعظم من الشّرك.
وأصل الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، فالمشرك أصل من وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، لِأَنَّهُ جعل لمن أخرجه من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود مُسَاوِيا، فنسب النِّعْمَة إِلَى غير الْمُنعم بهَا.
وَأما الْآيَة الثَّانِيَة: فَإِنَّهُ خُوطِبَ بهَا النَّبِي وَلَكِن المُرَاد غَيره.
والإحباط الْمَذْكُور مُقَيّد بِالْمَوْتِ على الشّرك لقَوْله تَعَالَى: { يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ قل قتال فِيهِ كَبِير وصدعن سَبِيل الله وَكفر بِهِ وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَإِخْرَاج أَهله مِنْهُ أكبر عِنْد الله والفتنة أكبر من الْقَتْل وَلَا يزالون يقاتلونكم حَتَّى يردوكم عَن دينكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فأولائك حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا والأخرة وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} وَوَقع فِي بعض النّسخ: { وَلَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} بِالْوَاو فِيهِ لعطف هَذِه الْآيَة على الْآيَة الَّتِي قبلهَا تَقْدِيره:.

     وَقَالَ  الله تَعَالَى: { لَئِن أشركت}


[ قــ :6553 ... غــ :6918 ]
- حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ، حدّثنا جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ، عنْ إبْرَاهِيمَ عَن عَلْقَمَةَ، عنْ عَبْدِ الله، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ: { الَّذين ءامنوا وَلم بلبسوا إِيمَانهم بطلم أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم مهتدون} شَقَّ ذالِكَ عَلى أصْحابِ النبيِّ وقالُوا: أيُّنا لَمْ يَلْبِسْ إيمانَهُ بِظلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُول الله إنَّهُ لَيْسَ بِذاكَ أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمانَ: { وَإِذ قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه يَبْنِي لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم للعبيد} .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَجَرِير بِفَتْح الْجِيم هُوَ ابْن عبد الحميد الرَّازِيّ أَصله من الْكُوفَة.
وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان يروي عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عَلْقَمَة بن قيس عَن عبد الله بن مَسْعُود.

والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بابُُ ظلم دون ظلم، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: إِنَّه لَيْسَ بِذَاكَ ويروى: بذلك، أَي: بالظلم مُطلقًا، بل المُرَاد بِهِ ظلم عَظِيم يدل عَلَيْهِ التَّنْوِين وَهُوَ الشّرك.
فَإِن قلت: كَيفَ يجْتَمع الْإِيمَان والشرك؟ .
قلت: كَمَا اجْتمع فِي الَّذين قَالُوا: هَؤُلَاءِ الْآلهَة شفعاؤنا عِنْد الله الْكَبِير وآمنوا بِاللَّه وأشركوا بِهِ.





[ قــ :6554 ... غــ :6919 ]
- حدّثنا مُسَدَّدٌ، حدّثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ، حدّثنا الجُرَيْرِيُّ، وحدّثني قَيْسُ بنُ حَفْصٍ، حدّثنا إسْماعِيلُ بنُ إبْراهِيم، أخبرنَا سَعِيدٌ الجُرَيْرِيُّ، حدّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبي بَكْرَةَ، عنْ أبِيهِ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أكْبَرُ الكَبائِرِ الإشْراكُ بِالله، وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وشَهادَةُ الزُّوررِ وشَهادَةُ الزُّورِ ثَلاَثاً أوْ قَوْلُ الزُّورِ فَما زَالَ يُكَرِّرُها حتَّى قُلْنا: لَيْتَهُ سَكَتَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: الْإِشْرَاك بِاللَّه.

والجريري، بِضَم الْجِيم وَفتح الرَّاء مصغر الْجَرّ نِسْبَة إِلَى جرير بن عباد بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة واسْمه سعيد بن إِيَاس الْبَصْرِيّ، وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم هُوَ إِسْمَاعِيل بن علية، وَأَبُو بكرَة نفيع بن الْحَارِث الثَّقَفِيّ نزل الْبَصْرَة ثمَّ تحول إِلَى الْكُوفَة.

والْحَدِيث قد مضى فِي الشَّهَادَات وَفِي كتاب الْأَدَب فِي عقوق الْوَالِدين، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: أَو قَول الزُّور شكّ من الرَّاوِي.
قَوْله: ليته سكت قيل: تمنوا سُكُوته وَكَلَامه لَا يمل مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ .
وَأجِيب: بِأَنَّهُم أَرَادوا استراحته وَمَا ورد من قَوْله الْقَتْل من أكبر الْكَبَائِر وَكَذَا الزِّنَا وَنَحْوه، فوارد فِي كل مَكَان بِمُقْتَضى الْمقَام وَمَا يُنَاسب حَال الْحَاضِرين لذَلِك الْمقَام.



[ قــ :6555 ... غــ :690 ]
- حدّثني مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ بنِ إبْرَاهِيمَ، أخبرنَا عُبَيْدُ الله بنُ مُوساى، أخبرنَا شَيْبانُ، عنْ فِراسٍ، عنِ الشَّعْبِيِّ، عَن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍ و، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَ أعْرَابِيٌّ إِلَى النبيِّ فَقَالَ: يَا رسولَ الله مَا الكَبائِرُ؟ قَالَ: الإشْرَاكُ بِالله قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: اليَمِينُ الغَمُوسُ قُلْت: وَمَا اليَمِينُ الغَمُوسِ؟ قَالَ: الّذِي يَقْتَطِعُ مالَ امْرىءٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيها كاذِبٌ
انْظُر الحَدِيث 6675 وطرفه
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: الْإِشْرَاك بِاللَّه
وَعبيد الله هُوَ ابْن مُوسَى الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَهُوَ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، روى عَنهُ فِي الْإِيمَان بِلَا وَاسِطَة، وشيبان هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ، وفراس بِكَسْر الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء وبالسين الْمُهْملَة ابْن يحيى الْمكتب، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ.

والْحَدِيث مضى فِي النذور عَن مُحَمَّد بن مقَاتل وَفِي الدِّيات عَن ابْن بشار عَن غنْدر، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: الْإِشْرَاك بِاللَّه قيل: هُوَ مُفْرد كَيفَ طابق السُّؤَال بِلَفْظ الْجمع؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لما قَالَ: ثمَّ مَاذَا علم أَنه سَائل عَن أَكثر من الْوَاحِد، وَقيل: فِيهِ مُضَاف مُقَدّر تَقْدِيره: مَا أكبر الْكَبَائِر؟ قيل: قد تقدم فِي أول كتاب الدِّيات قَرِيبا أَنه قَالَ: ثمَّ أَن تقتل ولدك خشيَة أَن يطعم مَعَك.
وَأجِيب: لَعَلَّ حَال ذَلِك السَّائِل يَقْتَضِي تَغْلِيظ أَمر الْقَتْل والزجر عَنهُ، وَحَال هَذَا تَغْلِيظ أَمر العقوق.
قَوْله: الْغمُوس أَي: يغمس صَاحبهَا فِي الْإِثْم أَو النَّار.
قَوْله: يقتطع أَي: يَأْخُذ قِطْعَة من مَاله لنَفسِهِ، وَهُوَ على سَبِيل الْمِثَال، وَأما حَقِيقَتهَا فَهِيَ الْيَمين الكاذبة الَّتِي يتعمدها صَاحبهَا عَالما أَن الْأَمر بِخِلَافِهِ.
قَوْله: قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: إِمَّا لعبد الله وَإِمَّا لبَعض الروَاة عَنهُ.





[ قــ :6556 ... غــ :691 ]
- حدّثنا خَلّادُ بنُ يَحْياى، حَدثنَا سُفْيَانُ، عنْ مَنْصُورٍ والأعْمَشِ، عنْ أبي وائِلٍ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رجُلٌ: يَا رسولَ الله أنُؤَاخَذُ بِما عَمِلْنا فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَالَ: مَنْ أحْسَنَ فِي الإسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِما عَمِلَ فِي الجاهِليّةِ، ومَنْ أساءَ فِي الإسْلاَمِ أُخِذَ بالأوَّلِ والآخِرِ
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: وَمن أَسَاءَ فِي الْإِسْلَام أَخذ بِالْأولِ وَالْآخر لِأَن مِنْهُم من قَالَ: المُرَاد بالإساءة فِي الْإِسْلَام الارتداد من الدّين، فَيدْخل فِي قَوْله: فِي إِثْم من أشرك بِاللَّه.

وخلاد بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام ابْن يحيى بن صَفْوَان أَبُو مُحَمَّد السّلمِيّ الْكُوفِي سكن مَكَّة، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عُثْمَان عَن جرير.

قَوْله: أؤاخذ؟ الْهمزَة فِيهِ للاستفهام.
ونؤاخذ على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُؤَاخَذَة، يُقَال: فلَان أَخذ بِذَنبِهِ أَي: حبس وجوزي عَلَيْهِ وعوقب بِهِ.
قَوْله: من أحسن فِي الْإِسْلَام الْإِحْسَان فِي الْإِسْلَام الِاسْتِمْرَار على دينه وَترك الْمعاصِي.
قَوْله: وَمن أَسَاءَ الْإِسَاءَة فِي الْإِسْلَام الارتداد عَن دينه.
قَوْله: أَخذ بِالْأولِ أَي: بِمَا عمل فِي الْكفْر.
قَوْله: وَالْآخر أَي: بِمَا عمل فِي الْإِسْلَام.
.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ: ظَاهره خلاف مَا أجمع عَلَيْهِ الْأمة من أَن الْإِسْلَام يجب مَا قبله.
.

     وَقَالَ  تَعَالَى: { قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف وَإِن يعودوا فقد نضت سنت الْأَوَّلين}
وتأويله: أَن يعير بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْكفْر ويبكت بِهِ، كَأَنَّهُ يُقَال لَهُ: أَلَيْسَ قد فعلت كَذَا وَكَذَا وَأَنت كَافِر؟ فَهَلا مَنعك إسلامك من معاودة مثله إِذا أسلمت، ثمَّ يُعَاقب على الْمعْصِيَة الَّتِي اكتسبها أَي: فِي الْإِسْلَام.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون معنى أَسَاءَ فِي الْإِسْلَام ألاَّ يكون صَحِيح الْإِسْلَام، أَو لَا يكون إيمَانه خَالِصا بِأَن يكون منافقاً وَنَحْوه.