فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب: العزلة راحة من خلاط السوء

(بابٌُ العُزْلَةُ راحَةٌ مِنْ خُلاَّطِ السُّوءِ)

أَي: هَذَا بابُُ مترجم بترجمة هِيَ الْعُزْلَة أَي: الاعتزال والانفراد رَاحَة من خلاط السوء بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام جمع خليط وَهُوَ جمع غَرِيب وخليط الرجل الَّذِي يخالطه ويعاشره يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالْجمع وَيجمع الخليط أَيْضا على خالط بِضَمَّتَيْنِ، ذكره الصغاني فِي اللّبابُُ،.

     وَقَالَ  بَعضهم: ذكره الْكرْمَانِي بِلَفْظ: خلط بِغَيْر ألف، يَعْنِي مثل مَا ذكره الصغاني.

قلت: لم يذكر الْكرْمَانِي هَكَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ: خلاط بِضَم الْخَاء وَتَشْديد اللَّام جمع خليط وبكسرها وَالتَّخْفِيف مصدر أَي: المخالطة، هَذَا الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي وَلم يرد بقوله: وبكسرها ... إِلَى آخِره أَنه التَّرْجَمَة، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا لزِيَادَة الْفَائِدَة، على أَنه يجوز أَن يكون أَشَارَ بِهِ إِلَى جَوَاز الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْله: من خلاط السوء.
أَحدهمَا: أَن يكون جمعا وَالْآخر: إِن يكون مصدرا من خالط يخالط مُخَالطَة وخلاطاً.
قَوْله: (رَاحَة، أَصله رَوْحَة قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، قَالَ الْجَوْهَرِي: الرّوح والراحة من الاسْتِرَاحَة وَهُوَ سُكُون النَّفس مَعَ سَعَة من غير تنكد بِشَيْء، وَهَذِه مَادَّة وَاسِعَة تسْتَعْمل لمعان كَثِيرَة.

وَفِي الْعُزْلَة عَن النَّاس فَوَائِد كَثِيرَة وأقلها الْبعد من شرِّهم وَقد قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: وجدت النَّاس أكبر ثقلة، وروى ابْن الْمُبَارك: أخبرنَا شُعْبَة عَن حبيب بن عبد الرَّحْمَن عَن حَفْص بن عَاصِم: أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: خُذُوا حظكم من الْعُزْلَة، وَفِي رِوَايَة قَالَ عمر: الْعُزْلَة رَاحَة من خليط السوء، وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: أَلا أخْبركُم بِخَير النَّاس منزلا؟ قُلْنَا: بلَى يَا رَسُول الله { قَالَ: رجل أَخذ بعنان فرسه فِي سَبِيل الله} وأخبركم بِالَّذِي يَلِيهِ؟ رجل معتزل فِي شعب يُقيم الصَّلَاة ويؤتي الزَّكَاة، ثمَّ قَالَ: فَإِن قَالَ قَائِل: أَيْن مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من قَوْله: الْمُسلم الَّذِي يخالط النَّاس ويصبر على أذاهم خير من الْمُسلم الَّذِي لَا يخالط النَّاس وَلَا يصبر على أذاهم؟ وَيُجَاب بِأَنَّهُ لَا تضَاد بَينهمَا لِأَن قَوْله: رجل أَخذ بعنان فرسه، خرج مخرج الْعُمُوم، وَالْمرَاد بِهِ الْخُصُوص فَالْمَعْنى فِيهِ أَنه من خير النَّاس، كَمَا ذكره غَيره بِمثل ذَلِك، فَقَالَ: خير النَّاس من طَال عمره وَحسن عمله، أَو يكون المُرَاد بتفضيله فِي وَقت من الْأَوْقَات لَا فِي كل الْأَوْقَات.



[ قــ :6156 ... غــ :6494 ]
- حدّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدثنِي عَطاءُ بنُ يَزِيدَ أنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رسولَ الله.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ: حَدثنَا الأوْزاعِيُّ حَدثنَا الزُّهْرِيُّ عنْ عَطاءٍ ابنِ يَزِيدَ اللّيْثِيِّ عنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: جاءَ أعْرابِيٌّ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رسولَ الله! أيُّ الناسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (رَجلٌ جاهَدَ بِنَفْسِهِ ومالِهِ، ورَجْلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشّعابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ ويَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ) .
(انْظُر الحَدِيث 6872) .


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَرجل فِي شعب)
إِلَى آخِره.

وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَعَطَاء بن يزِيد من الزِّيَادَة وَاسم أبي سعيد سعد بن مَالك، وَالْأَوْزَاعِيّ عبد الرَّحْمَن.

والْحَدِيث مضى فِي أَوَائِل الْجِهَاد فِي: بابُُ أفضل النَّاس مُؤمن مُجَاهِد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان ... إِلَى آخِره.

قَوْله: (وَقَالَ مُحَمَّد بن يُوسُف) هُوَ الْفرْيَابِيّ قرنه هُنَا بِرِوَايَة أبي الْيَمَان وأفرد أَبَا الْيَمَان فِي الْجِهَاد، وَرَوَاهُ مُسلم عَن عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن مُحَمَّد بن يُوسُف.
قَوْله: (أَعْرَابِي) لم يدر اسْمه.
قَوْله: (أَي النَّاس خير؟) وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة بِلَفْظ: أفضل.
قَوْله: (رجل جَاهد) أَي: خير النَّاس رجل جَاهد، وَلَا يُعَارضهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه) ، وَمثل ذَلِك، لِأَن اخْتِلَاف هَذَا بِحَسب اخْتِلَاف الْأَوْقَات والأقوام وَالْأَحْوَال.
قَوْله: (فِي شعب) ، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة: الطَّرِيق فِي الْجَبَل ومسيل المَاء وَمَا انفرج بَين الجبلين.
قَوْله: (ويدع) أَي: يتْرك.

تابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وسُلَيْمانُ بنُ كَثِيرٍ والنُّعْمانُ عنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع شعيباً فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ الزبيدِيّ، وَكَذَا تَابع الْأَوْزَاعِيّ فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ، والزبيدي هُوَ مُحَمَّد بن الْوَلِيد السَّامِي نِسْبَة إِلَى زبيد بِضَم الزاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ مُنَبّه بن صَعب وَهُوَ زبيد الْأَكْبَر، وَإِلَيْهِ يرجع قبائل زبيد، وروى مُتَابَعَته مُسلم عَن مَنْصُور بن أبي مُزَاحم: حَدثنَا يحيى بن حَمْزَة عَن الزبيدِيّ.
قَوْله: وَسليمَان، بِالرَّفْع عطف على: الزبيدِيّ، وروى مُتَابَعَته أَبُو دَاوُد عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ عَن سُلَيْمَان بِهِ.
قَوْله: والنعمان هُوَ ابْن رَاشد الْجَزرِي وروى مُتَابَعَته أَحْمد عَن وهب بن جرير: حَدثنَا أبي سَمِعت النُّعْمَان بن رَاشد بِهِ.

وَقَالَ مَعْمَرٌ: عَن الزُّهْريِّ عنْ عَطاءِ أوْ عُبَيْدِ الله عنْ أبي سَعِيدٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

أَي قَالَ معمر بن رَاشد: عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد أَو عبيد الله بِالشَّكِّ، وَهُوَ عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود الْهُذلِيّ، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَحْمد عَن عبد الرَّزَّاق،.

     وَقَالَ  فِي سِيَاقه: معمر، يشك، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي حميد: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن مُحَمَّد عَن عَطاء، بِغَيْر شكّ.
وَقَالَ يُونُسُ وابنُ مُسافِرِ ويَحْيَاى بنُ سَعِيدٍ: عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عَطاءٍ عنْ بَعْضِ أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

يُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن مُسَافر أَبُو خَالِد، وَيُقَال: أَبُو الْوَلِيد التَّمِيمِي الْمصْرِيّ وَالِي مصر لهشام سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة، وعزل عَنْهَا سنة تسع عشرَة وَمِائَة، وَهُوَ مولى اللَّيْث بن سعد، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ النجاري الْمَدِينِيّ قَاضِي الْمَدِينَة، رأى أنس بن مَالك.
وَتَعْلِيق يُونُس أخرجه عبد الله بن وهب فِي (جَامعه) ، وَتَعْلِيق ابْن مُسَافر أخرجه الذهلي فِي (الزهريات) : من طَرِيق اللَّيْث ابْن سعد عَنهُ.
وَتَعْلِيق يحيى أخرجه الذهلي الْمَذْكُور من طَرِيق سُلَيْمَان بن بِلَال عَنهُ.
قَوْله: عَن بعض أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّه أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ.





[ قــ :6157 ... غــ :6495 ]
- حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ حَدثنَا المَاجشُونُ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي صَعْصَعَة عنْ أبِيهِ عنْ أبي سَعِيدٍ أنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: ( يَأْتِي عَلى النَّاس زَمانٌ خَيْرُ مالِ الرَّجُلِ المُسْلِمِ الغَنَمُ يَتْبَعُ بهَا شَعَفَ الجِبالِ ومَواقِعَ القَطْرِ يَفِرُّ بِدِينهِ منَ الفِتْنَ) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ.
وَأَبُو نعيم هُوَ الْفضل بن دُكَيْن وَهُوَ الْفضل بن عَمْرو بن حَمَّاد الْأَحول التَّيْمِيّ الْكُوفِي.
ودكين لقب.
عَمْرو مَاتَ سنة ثَمَان أَو تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ، والماجشون بِكَسْر الْجِيم وَضم الشين الْمُعْجَمَة هُوَ عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن أبي سَلمَة، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي صعصعة، يروي عَن أَبِيه، وَفِي رِوَايَة يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن عبد الرَّحْمَن هَذَا: أَنه سمع أَبَاهُ أخرجه أَحْمد والإسماعيلي وَأَخُوهُ عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن عبد الله انْفَرد البُخَارِيّ بهما وبأبيهما.

والْحَدِيث مضى فِي الْإِيمَان فِي: بابُُ من الدّين الْفِرَار من الْفِتَن، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

قَوْله: ( شعف الْجبَال) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالْعين الْمُهْملَة جمع شعفة، وَهِي رَأس الْجَبَل.
قَوْله: ( ومواقع الْقطر) يَعْنِي: بطُون الأودية.

وَفِيه: أَن اعتزال النَّاس عِنْد ظُهُور الْفِتَن والهرب عَنْهُم أسلم للدّين من مخالطتهم.