فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب المسك

( بابُُُ: { المِسكِ} )

أَي: هَذَا بابُُ يذكر فِيهِ الْمسك، وَهُوَ بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ مَعْرُوف عِنْد كل أحد، وَهُوَ فَارسي مُعرب، وَأَصله بالشين الْمُعْجَمَة وَالْعرب إِذا استعملوا لفظا أعجميا غيروه بِزِيَادَة أَو نُقْصَان أَو بقلب حرف بِحرف غَيره.
.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: وَجه إِيرَاد هَذَا الْبابُُ فِي كتاب الصَّيْد لكَون الْمسك فضلَة الظبي، والظبي مِمَّا يصاد.
.

     وَقَالَ  الجاحظ: الْمسك هُوَ من دويبة تكون فِي الصين تصاد لتوافجها وسررها، فَإِذا صيدت شدت بعصائب وَهِي مدلية يجْتَمع فِيهَا دم فَإِذا ذبحت فورت السُّرَّة الَّتِي عصبت ودفنت فِي الشّعْر حَتَّى يَسْتَحِيل ذَلِك الدَّم المتخمر الجامد مسكا ذكيا بعدأن كَانَ لَا يرام من النتن وَنقل ابْن الصّلاح أَن النافجة فِي جَوف الظبية كالأنفحة فِي جَوف الجدي، وَقيل: غزال الْمسك كالظبأ إلاَّ أَن لَهُ نابين معتنقين خَارِجين من فَمه كالفيل وَالْخِنْزِير، وَيُؤْخَذ الْمسك من سرته وَله وَقت مَعْلُوم من السّنة يجْتَمع فِي سرته.
فَإِذا اجْتمع ورم الْموضع فَمَرض الغزال إِلَى أَن يسْقط مِنْهُ، وَيُقَال: إِن أهل تِلْكَ الْبِلَاد يجْعَلُونَ لَهَا أوتادا فِي الْبَريَّة تَحْتك بهَا فَتسقط.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: أَجمعُوا على أَن الْمسك طَاهِر يجوز اسْتِعْمَاله فِي الْبدن وَالثَّوْب وَيجوز بَيْعه، وَحكى ابْن التِّين عَن ابْن شعْبَان من الْمَالِكِيَّة أَن فَأْرَة الْمسك إِنَّمَا تُؤْخَذ فِي حَال الْحَيَاة أَو بِذَكَاة من لَا تصح ذَكَاته من الْكَفَرَة وَهِي مَعَ ذَلِك مَحْكُوم بطهارتها لَا يَسْتَحِيل عَن كَونهَا دَمًا حَتَّى تصير مسكان كَمَا يَسْتَحِيل فِي حَال الدَّم إِلَى اللَّحْم فيطهر وَيحل أكله، وَلَيْسَت بحيوان حَتَّى يُقَال: تنجست بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء يحدث بِالْحَيَوَانِ كالبيض.

وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على طَهَارَة الْمسك إِلَّا مَا حكى عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من كَرَاهَته، وَهَكَذَا حكى ابْن الْمُنْذر عَن جمَاعَة ثمَّ قَالَ: وَلَا يَصح الْمَنْع فِيهِ إلاَّ عَن عَطاء بِنَاء على أَنه جُزْء مُنْفَصِل،.

     وَقَالَ  أَصْحَابنَا: الْمسك حَلَال للرِّجَال وللنساء وَفِي ( التَّوْضِيح) قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَمِمَّنْ أجَاز الِانْتِفَاع بالمسك عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عمر وَأنس وسلمان الْفَارِسِي، وَمن التَّابِعين: سعيد بن الْمسيب وَابْن سِيرِين وَجَابِر بن زيد، وَمن الْفُقَهَاء مَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَخَالف ذَلِك آخَرُونَ، وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كره الْمسك،.

     وَقَالَ : لَا تحنطوني بِهِ وَكَرِهَهُ عمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَالْحسن وَمُجاهد وَالضَّحَّاك.

     وَقَالَ  أَكْثَرهم لَا يصلح للحي وَلَا للْمَيت، وَهُوَ عِنْدهم بِمَنْزِلَة مَا قطع من الْميتَة.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: لَا يَصح ذَلِك إلاَّ عَن عَطاء، وَهَذَا قِيَاس غير صَحِيح، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: أطيب طيبكم الْمسك، وَهَذَا نَص قَاطع للْخلاف.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: وَقد روينَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِإِسْنَاد جيد أَنه كَانَ لَهُ مسك يتطيب بِهِ.



[ قــ :5237 ... غــ :5533 ]
- حدَّثنا مُسَدَّدٌ عَنْ عَبْدِ الوَاحِدِ حدَّثنا عُمارَةُ بنُ القَعْقَاعِ عَنْ أبِي زُرْعَةَ بنِ عَمْروٍ بنِ جَرِيرٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكَلَمُ فِي الله إلاَّ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَلَّمُهُ يَدْمَى.
اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( ريح مسك) وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد الْبَصْرِيّ، وَعمارَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم ابْن الْقَعْقَاع بِفَتْح القافين وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة الأولى، وَأَبُو زرْعَة بِضَم الزَّاي وَسُكُون الرَّاء وبالعين الْمُهْملَة واسْمه هرم بن عَمْرو بن جرير بِفَتْح الْجِيم وَكسر الرَّاء الأولى البَجلِيّ.

والْحَدِيث مضى فِي الْجِهَاد فِي: بابُُ من يخرج فِي سَبِيل الله، وَلَكِن بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد قيل: وَجه اسْتِدْلَال البُخَارِيّ بِهَذَا الحَدِيث على طَهَارَة الْمسك، وَكَذَا بِالَّذِي بعده وُقُوع تَشْبِيه دم الشَّهِيد بِهِ لِأَنَّهُ فِي سِيَاق التكريم والتعظيم، فَلَو كَانَ نجسا لَكَانَ من الْخَبَائِث، وَلم يحسن التَّمْثِيل بِهِ فِي هَذَا الْمقَام.

قَوْله: ( يكلم) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: يجرح، من الْكَلم بِالْفَتْح وَهُوَ الْجرْح.
قَوْله: ( فِي الله) أَي: فِي سَبِيل الله، وَهَكَذَا فِي بعض الرِّوَايَات.
قَوْله: ( وَكَلمه) بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون اللَّام أَي: جرحه.
قَوْله: ( يدمي) بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الدَّال وَفتح الْمِيم من دمى يدمى من بابُُ علم يعلم أَي: يسيل مِنْهُ الدَّم.
قَوْله: ( اللَّوْن لون دم) تَشْبِيه بليغ بِحَذْف أَدَاة التَّشْبِيه، وَكَذَلِكَ ( الرّيح ريح مسك) .





[ قــ :538 ... غــ :5534 ]
- حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاءِ حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ عَنْ يَزِيدِ عَنْ أبِي بُرْدَةَ عَنْ أبِي مُوسَى، رَضِيَ الله عَنْهُ، عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَثَلُ الْجَلِيسَ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إمَّا أنْ يُحْذِيكَ وَإمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِير: إمَّا أنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإمَّا أنْ تَجِدَ رِيحا خَبِيثَةً.


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وبُرَيد بِضَم الْبَاء وَفتح الرَّاء مصغر برد ابْن عبد الله بن أبي بردة بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَاسم أبي بردة عَامر، وَقيل: الْحَارِث، وَاسم أبي مُوسَى عبد الله بن قيس، وبريد بن عبد الله يكنى أَبَا بردة يروي عَن جده أبي بردة عَن أبي مُوسَى.

والْحَدِيث مضى فِي الْبيُوع فِي: بابُُ الْعَطَّار وَبيع الْمسك فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد عَن أبي بردة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.

قَوْله: ( مثل الجليس الصَّالح) ، ويروى: مثل جليس الصَّالح، بِإِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى صفته.
قَوْله: ( الْكِير) ، بِكَسْر الْكَاف وَهُوَ زق غليظ ينْفخ فِيهِ.
قَوْله: ( يحذيك) ، بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْحَاء وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة بِمَعْنى: يعطيك وزنا وَمعنى من الإحذاء وَهُوَ الْإِعْطَاء يُقَال: أحذيت الرجل إِذا أَعْطيته الشَّيْء واتحفته بِهِ.

وَفِيه: مدح الْمسك المستلزم لطهارته ومدح الصَّحَابَة حَيْثُ كَانَ جليسهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى قيل: لَيْسَ للصحابي فَضِيلَة أفضل من فَضِيلَة الصُّحْبَة، وَلِهَذَا سموا بالصحابة مَعَ أَنهم عُلَمَاء كرماء شجعاء إِلَى تَمام فضائلهم.