فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب فضل الصوم في سبيل الله

(بابُُ فَضْلِ الصَّوْمِ فِي سَبِيلِ الله)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل الصَّوْم فِي سَبِيل الله، أَي: الْجِهَاد،.

     وَقَالَ  القررطبي: سَبِيل الله: طَاعَة الله، وَالْمرَاد بِهِ: الصَّوْم مبتغياً وَجه الله.

[ قــ :2712 ... غــ :2840 ]
- حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْر قَالَ حدَّثنا عبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أخبرَنِي يَحْيى بنُ سَعِيدٍ وسُهَيْلُ بنُ أبي صَالِحٍ أنَّهُما سَمِعَا النُّعْمَانَ بنَ أبِي عَيَّاشٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَنْ صَامَ يَوْمَاً فِي سَبيلِ الله بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عنِ النَّارِ سَبْعينَ خَرِيفاً.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْحَاق بن نصر هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ النجاري، وَكَانَ ينزل بِالْمَدِينَةِ بِبابُُ بني سعد، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوضِع من كِتَابه، مرّة يَقُول: إِسْحَاق بن نصر، فينسبه إِلَى جده، وَمرَّة يَقُول: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر، فينسبه إِلَى أَبِيه، وَعبد الرَّزَّاق بن همام، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَسُهيْل بن أبي صَالح لم يخرج لَهُ البُخَارِيّ مَوْصُولا إلاَّ هَذَا، وَلم يحْتَج بِهِ، وَلِهَذَا قرنه بِيَحْيَى بن سعيد، وَقد اخْتلف فِي إِسْنَاده على سُهَيْل، فَرَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ عَنهُ هَكَذَا، وَخَالفهُم شُعْبَة فَرَوَاهُ: عَنهُ عَن صَفْوَان بن يزِيد عَن أبي سعيد.
أخرجه النَّسَائِيّ والنعمان بن أبي عَيَّاش، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: واسْمه زيد بن الصَّلْت، وَقيل: زيد بن النُّعْمَان الزرقي الْأنْصَارِيّ، وَعَن يحيى: ثِقَة.
.

     وَقَالَ  ابْن حبَان، كَذَلِك، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ اسْمه سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ.

وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعبد الرَّحْمَن بن بشير وَعَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن رمح.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجِهَاد عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَعَن مَحْمُود بن غيلَان.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّوْم عَن مُؤَمل بن شهَاب وَعَن الْحسن بن قزعة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن عبد الله بن مُنِير وَعَن أَحْمد بن حَرْب وَعبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح.

قَوْله: (بعد الله وَجهه) ، وَأول النَّوَوِيّ وَغَيره المباعدة من النَّار على المعافاة مِنْهَا، دون أَن يكون المُرَاد الْبعد بِهَذِهِ الْمسَافَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث.
قلت: لَا مَانع من الْحَقِيقَة على مَا لَا يخفى، ثمَّ هَذَا يَقْتَضِي إبعاد النَّار عَن وَجه الصَّائِم، وَفِي أَكثر الطّرق إبعاد الصَّائِم نَفسه، فَإِذا كَانَ المُرَاد من الْوَجْه الذَّات، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { كل شَيْء هَالك إلاَّ وَجهه} (الْقَصَص: 88) .
يكون مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا، وَإِن كَانَ المُرَاد حَقِيقَة الْوَجْه يكون الإبعاد من الْوَجْه فَقَط، وَلَيْسَ فِيهِ أَن يبْقى الْجَسَد أَن يَنَالهُ النَّار، إلأ أَن الْوَجْه كَانَ أبعد من النَّار من سَائِر جسده، وَذَلِكَ لِأَن الصّيام يحصل مِنْهُ الظمإ وَمحله الْفَم، لِأَن الرّيّ يحصل بالشرب فِي الْفَم.
قَوْله: (سبعين خَرِيفًا) أَي: سنة، لِأَن السّنة تَسْتَلْزِم الخريف فَهُوَ من بابُُ الْكِنَايَة.

وَاخْتلفت الرِّوَايَات فِي مِقْدَار المباعدة من النَّار، فَفِي حَدِيث عقبَة بن عَامر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخرجه النَّسَائِيّ: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله باعد الله مِنْهُ جَهَنَّم مائَة عَام) .
وَفِي حَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) كَذَلِك مائَة عَام، وَكَذَا فِي حَدِيث عبد الله بن سُفْيَان أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا.
وَفِي حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخرجه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) : (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله تَبَاعَدت عَنهُ جَهَنَّم مسيرَة خَمْسمِائَة عَام) .
وَفِي حَدِيث أبي أُمَامَة، أخرجه التِّرْمِذِيّ وَتفرد بِهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله جعل الله بَينه وَبَين النَّار خَنْدَقًا كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) عَن أبي الدَّرْدَاء، وَكَذَا رَوَاهُ عَن جَابر، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: أبعده الله من النَّار مسيرَة مائَة سنة حضر الْجواد.
وَفِي حَدِيث عتبَة بن النّذر أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله فَرِيضَة باعد الله مِنْهُ جَهَنَّم كَمَا بَين السَّمَوَات وَالْأَرضين السَّبع، وَمن صَامَ يَوْمًا تَطَوّعا باعد الله مِنْهُ جَهَنَّم مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) وَفِي حَدِيث سَلامَة بن قَيْصر، أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْكَبِير) قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاء وَجه الله بعده الله من جَهَنَّم بعد غراب طَار، وَهُوَ فرخ حَتَّى مَاتَ هرماً.
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه التِّرْمِذِيّ أَنه قَالَ: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله زحزحه الله عَن النَّار سبعين خَرِيفًا، وَالْآخر يَقُول: أَرْبَعِينَ.
.

     وَقَالَ  التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب.
وَفِي حَدِيث سهل بن معَاذ عَن أَبِيه، أخرجه أَبُو يعلى الْموصِلِي: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله مُتَطَوعا فِي غير رَمَضَان بعد من النَّار مائَة عَام سير الْمُضمر الْمجِيد.
وَفِي حَدِيث ابْن عَسَاكِر عَن ابْن عمر: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله مُتَطَوعا فَهُوَ بسبعمائة يَوْم) .

فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: الأَصْل أَن يرجح مَا طَرِيقَته صَحِيحَة، وأصحها رِوَايَة: سبعين خَرِيفًا، فَإِنَّهَا مُتَّفق عَلَيْهَا من حَدِيث أبي سعيد.
وَجَوَاب آخر: أَن الله أعلم نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَولا بِأَقَلّ المسافاة فِي الأبعاد، ثمَّ أعلمهُ بعد ذَلِك بِالزِّيَادَةِ على التدريج فِي مَرَاتِب الزِّيَادَة، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك بِحَسب اخْتِلَاف أَحْوَال الصائمين فِي كَمَال الصَّوْم ونقصانه، وَالله أعلم.