فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب قصاص المظالم

( كِتابُ الْمَظَالِمُ والْغَضَبِ)

أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان تَحْرِيم الْمَظَالِم وَتَحْرِيم الْغَصْب، والمظالم جمع مظْلمَة مصدر ميمي من ظلم يظلم ظلما، وَأَصله: الْجور ومجاوزة الْحَد، وَمَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه الشَّرْعِيّ.
وَقيل: التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه.
والمظلمة أَيْضا اسْم مَا أَخذ مِنْك بِغَيْر حق، وَفِي الْمغرب الْمظْلمَة الظُّلم، وَاسم للمأخوذ فِي قَوْلهم: عِنْد فلَان مظلمتي وظلامتي أَي: حَقي الَّذِي أَخذ مني ظلما، وَالْغَصْب أَخذ مَال الْغَيْر ظلما وعدواناً.
يُقَال: غصبه يغصبه غصبا فَهُوَ غَاصِب، وَذَاكَ مَغْصُوب، وَقيل: الْغَصْب الِاسْتِيلَاء على مَال الْغَيْر ظلما.
وَقيل: أَخذ حق الْغَيْر بِغَيْر حق، وَهَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا هِيَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة غَيره سقط لفظ: كتاب هَكَذَا فِي الْمَظَالِم وَالْغَصْب، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: كتاب الْغَصْب: بابُُ فِي الْمَظَالِم.

وقَوْلِ الله تعَالى: {ولاَ تَحْسَبَنَّ الله غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الْظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} رَافِعِي رُؤُوسِهِمْ الْمُقْنِعُ والْمُقْمِحُ واحِدٌ ( إِبْرَاهِيم: 412، 24 و 34) .

وَقَول الله بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر من قَوْله: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
إِلَى قَوْله: {عَزِيز ذُو انتقام} ( ابراهيم: 64) .
وَهِي سِتّ آيَات فِي أَوَاخِر سُورَة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي رِوَايَة غَيره: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
وسَاق الْآيَة فَقَط.
قَوْله: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
إِن كَانَ الْخطاب للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَعْنَاه التثبيت على مَا كَانَ عَلَيْهِ من أَنه لَا يحسبه غافلاً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تكونن من الْمُشْركين} ( الْأَنْعَام: 41، يُونُس: 501، الْقَصَص: 78) .
وَإِن كَانَ الْخطاب لغيره مِمَّن يجوز أَنه يحسبه غافلاً لجهله بصفاته فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير شَيْء.
.

     وَقَالَ  الزَّمَخْشَرِيّ: وَيجوز أَن يُرَاد: وَلَا تحسبنه يعاملهم مُعَاملَة الغافل عَمَّا يعْملُونَ، وَلَكِن مُعَاملَة الرَّقِيب عَلَيْهِم المحاسب على النقير والقطمير.
قَوْله: {إِنَّمَا يؤخرهم ليَوْم تشخص فِيهِ الْأَبْصَار} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
أَي: أَبْصَارهم، لَا تقرّ فِي أماكنهم من هول مَا ترى.
قَوْله: {مهطعين} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
يَعْنِي: مُسْرِعين إِلَى الدَّاعِي، وَقيل: الإهطاع: أَن تقبل ببصرك على المرئي وتديم النّظر إِلَيْهِ لَا تطرف.
قَوْله: {مقنعي رؤوسهم} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
أَي: رافعي رُؤْسهمْ، كَذَا فسره مُجَاهِد: {وَلَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
أَي: لَا يطرفون، وَلَكِن عيونهم مَفْتُوحَة ممدودة من غير تَحْرِيك الأجفان {وأفئدتهم هَوَاء} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
أَي: خلاء، وَهُوَ الَّذِي لم تشغله الأجرام أَي: لَا فوة فِي قُلُوبهم وَلَا جَرَاءَة وَيُقَال للأحمق أَيْضا: قلبه هَوَاء، وَعَن ابْن جريج: هَوَاء أَي: صفر من الْخَيْر خَالِيَة عَنهُ.
قَوْله: ( الْمقنع والمقمح وَاحِد) ، كَذَا ذكره أَبُو عُبَيْدَة، أَي: هَذِه الْكَلِمَة بالنُّون وَالْعين وبالميم والحاء مَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَهُوَ: رفع الرَّأْس.
وَحكى ثَعْلَب أَن لَفْظَة: اقنع مُشْتَرك بَين مَعْنيين، يُقَال؛ أقنع إِذا رفع رَأسه، واقنع إِذا يطأطئه، وَيحْتَمل الْوَجْهَيْنِ هُنَا: أَن يرفع رَأسه ينظر ثمَّ يطاطئه ذلاً وخضوعاً.

وقالَ مُجَاهِدٌ مُهْطِعِينَ أيْ مُدِيمِي النَّظَرَ ويقالُ مُسْرِعِينَ {لَا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وأفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
يَعْنِي جُوفاً لاَ عُقُولَ لَهُمْ
تَفْسِير مُجَاهِد أخرجه الْفرْيَابِيّ عَنهُ، وَقد ذكرنَا معنى: {لَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم وأفئدتهم هَوَاء} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
قَوْله: ( جوفاً) بِضَم الْجِيم جمع: أجوف، قَوْله: ( يَعْنِي، لَا عقول لَهُم) كَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة فِي ( الْمجَاز) ، وَقيل: معنى: {وأفئدتهم هَوَاء} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
نزعت أفئدتهم من أَجْوَافهم.

وأنْذِرْ الناسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أخِّرْنَا إِلَى أجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِع الرُّسُلَ أوَ لَمْ تَكُونُو أقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مالَكُمْ مِنْ زوَالٍ وسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ وتبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وضَرَبْنَا لَكُمْ الأمْثَالَ وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ الله مَكْرُهُمْ وإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلفٌ وعْدِهِ رُسُلَهُ إِن الله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ( ابراهيم: 64) .

قد ذكرنَا أَن فِي رِوَايَة أبي ذَر سيق من قَوْله: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} ( ابراهيم: 412، 24 و 34) .
إِلَى قَوْله: {عَزِيز ذُو انتقام} ( ابراهيم: 64) .
سِتّ آيَات، وَفِي رِوَايَة غَيره آيَة وَاحِدَة فَقَط وَهِي الْآيَة الأولى.
قَوْله: {وانذر النَّاس} الْخطاب للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره بإنذار النَّاس وتخويفهم.
قَوْله: {يَوْم يَأْتِيهم الْعَذَاب} ( ابراهيم: 64) .
وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ مفعول ثَان: لأنذر.
قَوْله: {أخرنا إِلَى أجل قريب} ( ابراهيم: 64) .
يَعْنِي: ردنا إِلَى الدُّنْيَا وأمهلنا إل أجل وحد من الزَّمَان قريب نتدارك مَا فرطنا فِيهِ من إِجَابَة دعوتك وَاتِّبَاع رسلك.
قَوْله: {أَو لم تَكُونُوا أقسمتم} ( ابراهيم: 64) .
أَي: يُقَال لَهُم: أَو لم تَكُونُوا حلفتم أَنكُمْ باقون فِي الدُّنْيَا لَا تزالون بِالْمَوْتِ والفناء حَتَّى كَفرْتُمْ بِالْبَعْثِ وسكنتم فِي مسَاكِن الَّذين ظلمُوا من قبلكُمْ {وَتبين لكم} ( ابراهيم: 64) .
ظهر لكم مَا فعلنَا بهم من أَنْوَاع الزَّوَال بموتهم وخراب مساكنهم والانتقام مِنْهُم، بَعْضهَا بِالْمُشَاهَدَةِ وَبَعضهَا بالإخبار {وضربنا لكم الْأَمْثَال} ( ابراهيم: 64) .
أَي: صِفَات مَا فعلوا بالأمثال المضروبة لكل ظَالِم.
قَوْله: {وَقد مكروا مَكْرهمْ} ( ابراهيم: 64) .
يَعْنِي: بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين هموا بقتْله {وَعند الله مَكْرهمْ} ( ابراهيم: 64) .
أَي: عَالم بِهِ لَا يخفى عَلَيْهِ، فيجازيهم.
قَوْله: {وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال} ( ابراهيم: 64) .
يَعْنِي: وَإِن كَانَ مَكْرهمْ ليبلغ فِي الكيد إِلَى إِزَالَة الْجبَال، فَإِن الله ينصر دينه، وَالْمرَاد بالجبال هُنَا: الاسلام، وَقيل: جبال الأَرْض مُبَالغَة، وَالْأول اسْتِعَارَة، ثمَّ طمن قلب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: {وَلَا تحسبن الله مخلف وعده رسله إِن الله عَزِيز} ( ابراهيم: 64) .
أَي: منيع {ذُو انتقام} ( ابراهيم: 64) .
من الْكفَّار.


( بابُُ قِصَاص الْمَظَالِمِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان قصاص الْمَظَالِم يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقصاص اسْم بِمَعْنى الْمُقَاصَّة، وَهُوَ مقاصة ولي الْمَقْتُول الْقَاتِل، والمجروح الْجَارِح، وَهِي مساواته إِيَّاه فِي قتل أَو جرح، ثمَّ عَم فِي كل مُسَاوَاة، وَيُقَال: أقصه الْحَاكِم يقصه إِذا مكنه من أَخذ الْقصاص.



[ قــ :2335 ... غــ :2440 ]
- حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرنَا معاذُ بنُ هِشامٍ قَالَ حدَّثني أبي عَن قَتَادَةَ عنْ أبِي الْمُتَوَكِّل النَّاجي عنْ أبِي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا خلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ فيَتَقَاصُّونَ مَظالِمَ كانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيا حتَّى إِذا نُقُّوا وهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجنَّةِ فَوَالَّذِي نفْسُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ لأَحَدُهُم بِمَسْكَنِهِ فِي الجَنَّةِ أدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كانَ فِي الدُّنْيَا.
( الحَدِيث 0442 طرفه فِي: 5356) .


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( فيقاصون مظالم كَانَت بَينهم) وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، ومعاذ بن هِشَام الْبَصْرِيّ، سكن نَاحيَة الْيمن، يكنى أَبَا عبد الله، وَأَبوهُ هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي، ودستواء من نَاحيَة الأهواز، كَانَ يَبِيع الثِّيَاب الَّتِي تجلب مِنْهَا فنسب إِلَيْهَا مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة، وَأَبُو المتَوَكل عَليّ بن دؤاد، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة الأولى النَّاجِي، بالنُّون وبالجيم وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، سعيد بن مَالك.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق عَن الصَّلْت بن مُحَمَّد عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَقد ترْجم هُنَاكَ فِي: بابُُ الْقصاص يَوْم الْقِيَامَة.

قَوْله: ( إِذا خلص الْمُؤْمِنُونَ) ، بِفَتْح اللَّام أَي: إِذا سلمُوا ونجوا من النَّار، وَالْمرَاد بعض الْمُؤمنِينَ.
قَوْله: ( حبسوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: عرفُوا.
قَوْله: ( بقنطرة) ، قَالَ ابْن التِّين: القنطرة كل شَيْء ينصب على عين أَو وَاد،.

     وَقَالَ  الْهَرَوِيّ سمي الْبناء قنطرة لتكاثف بعض الْبناء على بعض، وسماها الْقُرْطُبِيّ: الصِّرَاط الثَّانِي وَالْأول لأهل الْمَحْشَر، كلهم إلاَّ من دخل الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب أَو يلتقطه عنق من النَّار، فَإِذا خلص من الْأَكْبَر وَلَا يخلص مِنْهُ إلاَّ الْمُؤْمِنُونَ، حبسوا على صِرَاط خَاص بهم، وَلَا يرجع إِلَى النَّار من هَذَا أحد، وَهُوَ معنى قَوْله إِذا خلص الْمُؤْمِنُونَ من النَّار أَي: من الصِّرَاط الْمَضْرُوب على النَّار،.

     وَقَالَ  مقَاتل: إِذا قطعُوا جسر جَهَنَّم حبسوا على قنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار، فَإِذا هذبوا قَالَ لَهُم رضوَان: {سَلام عَلَيْكُم طبتم فادخلوها خَالِدين} ( الزمر: 37) .
قَوْله: ( بَين الْجنَّة وَالنَّار) ، أَي: بقنظرة كائنة بَين الْجنَّة والصراط الَّذِي على متن النَّار، وَلِهَذَا سمي بالصراط الثَّانِي، وَبِهَذَا يرد على بَعضهم فِي قَوْله بقنطرة: الَّذِي يظْهر أَنَّهَا طرف الصِّرَاط مِمَّا يَلِي الْجنَّة، وَيحْتَمل أَن يكون من غَيره بَين الصِّرَاط وَالْجنَّة.
انْتهى.
قلت: سُبْحَانَ الله، مَا هَذَا التَّصَرُّف بالتعسف، فَإِن الحَدِيث مُصَرح بِأَن تِلْكَ القنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار، وَهُوَ يَقُول: إِنَّهَا طرف الصِّرَاط، وطرف الصِّرَاط من الصِّرَاط، وَقَوله بيه، يدل على أَنَّهَا قنطرة مُسْتَقلَّة غير مُتَّصِلَة بالصراط، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى قطعا.
وَجعل هَذَا الْقَائِل هَذَا الْمَعْنى بِالِاحْتِمَالِ وَمَا غر هَذَا الْقَائِل إلاَّ حِكَايَة ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ: أَن القنطرة هُنَا يحْتَمل أَن تكون طرف الصِّرَاط، والكرماني أَيْضا تصرف هُنَا قَرِيبا من كَلَام الدَّاودِيّ، حَيْثُ قَالَ: قَوْله: قنطرة.
فَإِن قلت: هَذَا يشْعر بِأَن فِي الْقِيَامَة جسرين، هَذَا وَالْآخر على متن جَهَنَّم الْمَشْهُور بالصراط.
قلت: لَا مَحْذُور فِيهِ، وَلَئِن ثَبت بِالدَّلِيلِ أَنه وَاحِد فَلَا بُد من تَأْوِيله: أَن هَذِه القنطرة من تَتِمَّة الصِّرَاط وذنابته، وَنَحْو ذَلِك، انْتهى.
قلت: سُبْحَانَ الله، فَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا السُّؤَال بقوله: يشْعر ... إِلَى آخِره لِأَنَّهُ يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن القنطرة الْمَذْكُورَة غير الصِّرَاط، وَلَا من تتمته كَمَا ذكرنَا، وَقَوله: وَلَئِن ثَبت، وَلم يثبت ذَلِك، فَلَا حَاجَة إِلَى التَّأْوِيل الَّذِي ذكره.
قَوْله: ( فيتقاصون) ، بتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة: من الْقصاص، يَعْنِي: يتبع بَعضهم بَعْضًا فِيمَا وَقع بَينهم من الْمَظَالِم الَّتِي كَانَت بَينهم فِي الدُّنْيَا فِي كل نوع من الْمَظَالِم الْمُتَعَلّقَة بالأبدان، وَالْأَمْوَال.
.

     وَقَالَ  ابْن بطال: الْمُقَاصَّة فِي هَذَا الحَدِيث هِيَ لقوم دون قوم، هم قوم لَا تستغرق مظالمهم جَمِيع حسناتهم، لِأَنَّهَا لَو استغرقت جَمِيع حسناتهم لكانوا مِمَّن وَجب لَهُم الْعَذَاب، وَلما جَازَ أَن يُقَال فيهم: خلصوا من النَّار، فَمَعْنَى الحَدِيث، وَالله أعلم، على الْخُصُوص لمن لم يكن لَهُم تبعات يسيرَة، إِذْ الْمُقَاصَّة أَصْلهَا فِي كَلَام الْعَرَب مقاصصة، وَهِي مفاعلة، وَلَا يكون أبدا إلاَّ بَين اثْنَيْنِ: كالمشاتمة والمقاتلة، فَكَانَ لكل وَاحِد مِنْهُم على أَخِيه مظْلمَة، وَعَلِيهِ لَهُ مظْلمَة، وَلم يكن فِي شَيْء مِنْهَا مَا يسْتَحق عَلَيْهِ النَّار فيتقاصون بِالْحَسَنَاتِ والسيئات، فَمن كَانَت مظلمته أَكثر من مظْلمَة أَخِيه أَخذ من حَسَنَاته، فَيدْخلُونَ الْجنَّة ويقتطعون فِيهَا الْمنَازل على قدر مَا بَقِي لكل وَاحِد مِنْهُم من الْحَسَنَات، فَلهَذَا يتقاصصون بعد خلاصهم من النَّار لِأَن أحدا لَا يدْخل الْجنَّة ولأحد عَلَيْهِ تباعة،.

     وَقَالَ  الْمُهلب: هَذِه الْمُقَاصَّة إِنَّمَا تكون فِي الْمَظَالِم فِي الْأَبدَان، من اللَّطْمَة وَشبههَا مِمَّا يُمكن فِيهِ أَدَاء الْقصاص بِحُضُور بدنه، فَيُقَال للمظلوم: إِن شِئْت أَن تنتصف وَإِن شِئْت أَن تَعْفُو.
.

     وَقَالَ  غَيره: لَا قصاص فِي الْآخِرَة فِي الْعرض وَالْمَال وَغَيره إلاَّ بِالْحَسَنَاتِ والسيئات.
قيل: فِيهِ نظر، لِأَن أَبَا الْفضل ذكر فِي كتاب ( التَّرْغِيب والترهيب) بِسَنَد صَالح عَن سعيد بن الْمسيب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا فرغ الله من الْقَضَاء أقبل على الْبَهَائِم حَتَّى إِنَّه ليجعل للجماء الَّتِي نطحتها القرناء قرنين فتنطح بهما الْأُخْرَى، وَيُقَال: معنى يتقاصون يتتاركون، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوضِع مقاصة وَلَا محاسبة، لَكِن يلقِي الله، عز وَجل، فِي قُلُوبهم الْعَفو لبَعْضهِم عَن بعض، أَو يعوض الله بَعضهم من بعض.
قَوْله: ( حَتَّى إِذا نقوا) ، بِضَم النُّون وَتَشْديد الْقَاف: من التنقية، وَهُوَ إِفْرَاد الْجيد من الرَّدِيء، وَوَقع للمستملي هُنَا: حَتَّى إِذا تقصوا، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة، أَي: أكملوا التَّقَاصّ.
قَوْله: ( وهذبوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّهْذِيب، وَهُوَ التَّلْخِيص من الآثام بمقاصصة بَعضهم بِبَعْض، وَيشْهد لهَذَا الحَدِيث قَوْله فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْآتِي ذكره فِي التَّوْحِيد: لَا يحل لأحد من أهل الْجنَّة أَن يدْخل الْجنَّة ولأحد قِبَلَهُ مظْلمَة.

فَإِن قلت: ذكر الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيثا فِيهِ: أَن الْجنَّة بعد الصِّرَاط، وَهَذَا يُعَارض حَدِيث القنطرة؟ قلت: لَا، لِأَن المُرَاد بعد الصِّرَاط الثَّانِي هُوَ القنطرة كَمَا ذكرنَا.
فَإِن قلت: صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: أَصْحَاب الْحَشْر محبوسون بَين الْجنَّة وَالنَّار، يسْأَلُون عَن فضول أَمْوَال كَانَت بِأَيْدِيهِم، وَهَذَا يُعَارض حَدِيث الْبابُُ.
قلت: لَا، لِأَن مَعْنَاهُمَا مُخْتَلف لاخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس، لِأَن من الْمُؤمنِينَ من لَا يحبسون بل إِذا خَرجُوا بثوا على أَنهَار الْجنَّة.
قَوْله: ( لأَحَدهم) ، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَهِي مَفْتُوحَة، وأحدهم مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، فخبره قَوْله: أدل بمنزله الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمُهلب: انماً، كَانَ أدل، لأَنهم عرفُوا مساكنهم، بتعريضها عَلَيْهِم بِالْغَدَاةِ والعشي.
فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا مَا رُوِيَ عَن عبد الله ابْن سَلام: أَن الْمَلَائِكَة تدلهم على طَرِيق الْجنَّة.
قلت: لَا تعَارض، فَإِن هَذَا يكون مِمَّن لم يحبس على القنطرة وَلم يدْخل النَّار أَو يخرج مِنْهَا فيطرح على بابُُ الْجنَّة، وَقد يحْتَمل أَن يكون ذَلِك فِي الْجَمِيع، فَإِذا وصلت بهم الْمَلَائِكَة، كَانَ كل أحد عرف بمنزله، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {ويدخلهم الْجنَّة عرفهَا لَهُم} ( مُحَمَّد: 6) .
.

     وَقَالَ  أَكثر أهل التَّفْسِير إِذا دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة يُقَال لَهُم: تفَرقُوا إِلَى مَنَازِلكُمْ، فهم أعرف بهَا من أهل الْجُمُعَة إِذا انصرفوا.
وَقيل: إِن هَذَا التَّعْرِيف إِلَى الْمنَازل بِدَلِيل، وَهُوَ الْملك الْمُوكل بِعَمَل العَبْد يمشي بَين يَدَيْهِ، وَحَدِيث الْبابُُ يردهُ، فَلْينْظر.

وقالَ يونُسُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا شَيْبانُ عنْ قَتَادَةَ قَالَ حدَّثنا أبُو الْمُتَوَكِّلِ
يُونُس بن مُحَمَّد: هُوَ أَبُو مُحَمَّد الْمُؤَدب الْبَغْدَادِيّ، وشيبان هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ يكنى أَبَا مُعَاوِيَة، سكن الْكُوفَة وَأَصله بَصرِي وَكَانَ مؤدباً لبني دَاوُد بن عَليّ، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَأَبُو المتَوَكل النَّاجِي قد مر عَن قريب، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله ابْن مَنْدَه فِي ( كتاب الْإِيمَان) وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِهِ بَيَان سَماع قَتَادَة لهَذَا الحَدِيث من أبي المتَوَكل بطرِيق التحديث وَفِي ( التَّلْوِيح) : رَوَاهُ أَيْضا أَبُو نعيم الْحَافِظ عَن أبي عَليّ مُحَمَّد بن أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن الْحُسَيْن بن مَيْمُون بن مُحَمَّد الْمروزِي حَدثنَا شَيبَان عَن قَتَادَة حَدثنَا أَبُو المتَوَكل، فَذكره.
قيل: أَبُو نعيم رَوَاهُ عَن إِسْحَاق بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد.