فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب اعتكاف النساء

( بابُُ اعْتِكَافِ النِّساءِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم اعْتِكَاف النِّسَاء.



[ قــ :1949 ... غــ :2033 ]
- حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عنْ عَمْرَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضانَ فكُنْتُ أضرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ فاسْتَأذَنَتْ حَفْصَةُ عائِشَةَ أنْ تَضْربَ خباءً فأذِنَتْ لَهَا فَضَرَبَتْ خِبَاءً فلَمَّا رَأتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ ضرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ فَلَمَّا أصْبَحَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأى الأخْبِيَةَ فَقَالَ مَا هَذَا فأُخْبِرَ فقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آلْبِرُّ تُرَوْنَ بِهِنَّ فتَرَكَ الاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرا مِنْ شَوَّالٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي ضرب حَفْصَة وَزَيْنَب خباء فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للاعتكاف، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَعمرَة بنت عبد الرَّحْمَن الْأَنْصَارِيَّة، وَقد مرت غير مرّة.

والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّوْم عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك وَعَن مُحَمَّد بن سَلام عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله عَن الْأَوْزَاعِيّ على مَا سَيَأْتِي كُله، وَأخرجه مُسلم فِيهِ ن يحيى بن يحيى وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن سَلمَة بن شبيب وَعَن عَمْرو ابْن سَواد وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي.
وَفِي الِاعْتِكَاف عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّوْم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَفِي ألفاظهم اخْتِلَاف، وَالْمعْنَى مُتَقَارب.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( عَن عمْرَة) ، وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ الَّتِي تَأتي فِي أَوَاخِر الِاعْتِكَاف: ( عَن يحيى بن سعيد حَدَّثتنِي عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن) .
قَوْله: ( عَن عَائِشَة) وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من طَرِيق عَمْرو بن الْحَارِث: ( عَن يحيى ابْن سعيد عَن عمْرَة حَدَّثتنِي عَائِشَة) .
قَوْله: ( خباء) ، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالمد: هُوَ الْخَيْمَة من وبر أَو صُفُوف، وَلَا يكون من الشّعْر، وَهُوَ على عمودين أَو ثَلَاثَة، وَيجمع على الأخبية نَحْو: الْخمار والأخمرة.
قَوْله: ( فَيصَلي الصُّبْح ثمَّ يدْخلهُ) ، أَي: الخباء.
وَفِي رِوَايَة ابْن فُضَيْل عَن يحيى بن سعيد الَّتِي تَأتي فِي: بابُُ الِاعْتِكَاف فِي شَوَّال: ( كَانَ يعْتَكف فِي كل رَمَضَان، فَإِذا صلى الْغَدَاة دخل) .
وَاسْتدلَّ بِهِ على أَن مبدأ الِاعْتِكَاف من أول النَّهَار، وَفِيه خلاف يَأْتِي.
قَوْله: ( فاستأذنت حَفْصَة عَائِشَة أَن تضرب خباء) ، فحفصة هُوَ الْفَاعِل، وَعَائِشَة هُوَ الْمَفْعُول، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالْأَصْل: بِأَن تضرب، أَي: تضرب خباء، وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ على مَا يَأْتِي: ( فاستأذنته عَائِشَة فَأذن لَهَا، وَسَأَلت حَفْصَة عَائِشَة أَن تستأذن لَهَا فَفعلت) .
وَفِي رِوَايَة ابْن فُضَيْل على مَا يَأْتِي: ( فاستأذنته عَائِشَة أَن تعتكف فَأذن لَهَا فَضربت قبَّة، فَسمِعت بهَا حَفْصَة فَضربت قبَّة) .
وَزَاد فِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث ( لتعتكف مَعَه) .
وَهَذَا يشْعر بِأَنَّهَا فعلت ذَلِك بِغَيْر إِذن، وَلَكِن جَاءَ فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عِنْد النَّسَائِيّ: ( ثمَّ استأذنته حَفْصَة فَأذن لَهَا) .
قَوْله: ( فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَب بنت جحش ضربت خباء) .
وَفِي رِوَايَة ابْن فُضَيْل: وَسمعت بهَا زَيْنَب فَضربت قبَّة أُخْرَى، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث: ( فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَب ضربت مَعَهُنَّ، وَكَانَت امْرَأَة غيورا) .
قَوْله: ( فَلَمَّا أصبح النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأى الأخبية) ، وَفِي رِوَايَة مَالك الَّتِي بعد هَذِه: ( فَلَمَّا انْصَرف إِلَى الْمَكَان الَّذِي أَرَادَ أَن يعْتَكف فِيهِ، إِذا أخبية) .
وَفِي رِوَايَة ابْن فُضَيْل: ( فَلَمَّا انْصَرف من الْغَدَاة أبْصر أَربع قبابُ) ، يَعْنِي: قبه لَهُ وَثَلَاثًا للثلاث.
وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ: ( وَكَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا صلى انْصَرف إِلَى بنائِهِ) أَي: الَّذِي بنى لَهُ ليعتكف فِيهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة عِنْد مُسلم وَأبي دَاوُد: ( فَأمرت زَيْنَب بخبائها فَضرب، وَأمر غَيرهَا من أَزوَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بخبائها فَضرب) .
قَالَ بَعضهم: وَهَذَا يَقْتَضِي تَعْمِيم الْأزْوَاج بذلك، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَقد فسرت الْأزْوَاج فِي الرِّوَايَات الْأُخْرَى: بعائشة وَحَفْصَة وَزَيْنَب فَقَط، وَبَين ذَلِك قَوْله فِي هَذِه الرِّوَايَات: أَربع قبابُ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عِنْد النَّسَائِيّ: فَلَمَّا صلى الصُّبْح إِذا هُوَ أَرْبَعَة أبنية، قَالَ: لمن هَذِه؟ قَالُوا: لعَائِشَة وَحَفْصَة وَزَيْنَب، انْتهى.
قلت: هَذَا الْقَائِل كَأَنَّهُ نسي كلمة: من، هَهُنَا.
فَإِن، من، فِي قَوْله: من أَزوَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للتَّبْعِيض، فَمن أَيْن يَأْتِي التَّعْمِيم؟ وَمعنى قَوْله: ( وَأمر غَيرهَا) أَي: غير زَيْنَب وَهِي حَفْصَة.
قَوْله: ( آلبر ترَوْنَ بِهن؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار، وَالْبر هُوَ: الطَّاعَة وَالْخَيْر، وَهُوَ مَنْصُوب بِلَفْظ: ترَوْنَ، الْمَعْلُوم من الرَّأْي، وبلفظ الْمَجْهُول بِمَعْنى: تظنون، وَيجوز الرّفْع وإلغاء الْفِعْل لِأَنَّهُ توَسط بَين المفعولين قَالَه الْكرْمَانِي.
قلت: وَجه النصب على أَنه مفعول ترَوْنَ مقدما، وَوجه الرّفْع، وَفِي رِوَايَة مَالك: ( آلبر تَقولُونَ بِهن؟) أَي: تظنون، وَالْقَوْل يُطلق على الظَّن، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ: ( آلبر أردن بِهَذَا؟) وَفِي رِوَايَة ابْن فُضَيْل: ( مَا حَملهنَّ على هَذَا؟ آلبر؟ انزعوها فَلَا أَرَاهَا، فنزعت) .
وَكلمَة: مَا، استفهامية.
وَقَوله: ( آلبر؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام مَرْفُوع على الِابْتِدَاء وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: آلبر يردنه؟ قَوْله: ( فَلَا أَرَاهَا) الْفَاء يجوز أَن تكون زَائِدَة أَي: لَا أرى الأخبية الْمَذْكُورَة.
.

     وَقَالَ  ابْن التِّين: الصَّوَاب حذف الْألف من: أَرَاهَا، لِأَنَّهُ مجزوم.
قلت: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ نفي وَلَيْسَ بنهي.
قَوْله: ( فَترك الِاعْتِكَاف) ، وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة: ( فَأمر بخبائه فقوض) ، بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الْوَاو الْمَكْسُورَة وَفِي آخِره ضاد مُعْجمَة، أَي: نقض.
.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: إِنَّمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الْكَلَام إنكارا لفعلهن، لِأَنَّهُ خَافَ أَن يكن مخلصات فِي الِاعْتِكَاف، بل أردن الْقرب مِنْهُ المباهاة بِهِ، وَلِأَن الْمَسْجِد يجمع النَّاس ويحضره الْأَعْرَاب والمنافقون، وَهن محتاجات إِلَى الدُّخُول وَالْخُرُوج فيبتذلن بذلك، وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رآهن عِنْده فِي الْمَسْجِد فَصَارَ كَأَنَّهُ فِي منزله بِحُضُورِهِ مَعَ أَزوَاجه، وَذهب الْمَقْصُود من الِاعْتِكَاف، وَهُوَ التخلي عَن الْأزْوَاج ومتعلقات الدُّنْيَا، أَو لِأَنَّهُنَّ ضيقن الْمَسْجِد بأخبيتهن وَنَحْوهَا.
قَوْله: ( فَترك الِاعْتِكَاف.
.
)
إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة ابْن فُضَيْل: ( فَلم يعْتَكف فِي رَمَضَان حَتَّى اعْتكف فِي آخر الْعشْر من شَوَّال) .
وَفِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة: ( حَتَّى اعْتكف فِي الْعشْر الأول من شَوَّال) ، والتوفيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ هُوَ أَن المُرَاد بقوله: ( آخر الْعشْر من شَوَّال) انْتِهَاء اعْتِكَافه،.

     وَقَالَ  الْإِسْمَاعِيلِيّ: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الِاعْتِكَاف بِغَيْر صَوْم، لِأَن أول شَوَّال هُوَ يَوْم الْفطر، وصومه حرَام.
قلت: لَيْسَ فِيهِ دَلِيل لما قَالَه، لِأَن المُرَاد من قَوْله: ( اعْتكف فِي الْعشْر الأول) ، أَي: كَانَ ابتداؤه فِي الْعشْر الأول، فَإِذا اعْتكف من الْيَوْم الثَّانِي من شَوَّال يصدق عَلَيْهِ أَنه ابْتَدَأَ فِي الْعشْر الأول، وَالْيَوْم الأول مِنْهُ يَوْم أكل وَشرب، وَيُقَال، كَمَا ورد فِي الحَدِيث: وَالِاعْتِكَاف هُوَ التخلي لِلْعِبَادَةِ فَلَا يكون الْيَوْم الأول محلا لَهُ بِالْحَدِيثِ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فِي قَوْله: ( فَيصَلي الصُّبْح ثمَّ يدْخلهُ) احتجاج من يَقُول يبْدَأ بالاعتكاف من أول النَّهَار، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث فِي أحد قوليه، وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر، وَذَهَبت الْأَرْبَعَة وَالنَّخَعِيّ إِلَى جَوَاز دُخُوله قبيل الْغُرُوب إِذا أَرَادَ اعْتِكَاف عشر أَو شهر، وَأولُوا الحَدِيث على أَنه دخل الْمُعْتَكف وَانْقطع فِيهِ وتخلى بِنَفسِهِ بعد صَلَاة الصُّبْح، لِأَن ذَلِك فِي وَقت ابْتِدَاء الِاعْتِكَاف أول اللَّيْل، وَلم يدْخل الخباء إلاَّ بعد ذَلِك،.

     وَقَالَ  أَبُو ثَوْر: إِن أَرَادَ الِاعْتِكَاف عشر ليَالِي دخل قبل الْغُرُوب.
وَهل يبيت لَيْلَة الْفطر فِي مُعْتَكفه وَلَا يخرج مِنْهُ إلاَّ أذا خرج لصَلَاة الْعِيد فَيصَلي؟ وَحِينَئِذٍ يخرج إِلَى منزله، أَو يجوز لَهُ أَن يخرج عِنْد الْغُرُوب من آخر يَوْم من شهر رَمَضَان؟ قَولَانِ للْعُلَمَاء: الأول: قَول مَالك وَأحمد وَغَيرهمَا، وسبقهم أَبُو قلَابَة وَأَبُو مجلز.
وَاخْتلف أَصْحَاب مَالك إِذا لم يفصل هَل يبطل اعْتِكَافه أم لَا يبطل؟ قَولَانِ، وَذهب الشَّافِعِي وَاللَّيْث وَالزهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ فِي آخَرين: إِلَى أَنه يجوز خُرُوجه لَيْلَة الْفطر، وَلَا يلْزمه شَيْء.
وَفِيه: أَن الْمَسْجِد شَرط للاعتكاف، لِأَن النِّسَاء شرع لَهُنَّ الاحتجاب فِي الْبيُوت، فَلَو لم يكن الْمَسْجِد شرطا مَا وَقع مَا ذكر من الْإِذْن وَالْمَنْع،.

     وَقَالَ  إِبْرَاهِيم بن عبلة فِي قَوْله: ( آلبر يردن؟) دلَالَة على أَنه لَيْسَ لَهُنَّ الِاعْتِكَاف فِي الْمَسْجِد، إِذْ مَفْهُومه لَيْسَ ببر لَهُنَّ.
.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَلَيْسَ مَا قَالَه بواضح قلت: بلَى، هُوَ وَاضح لِأَنَّهُ إِذا لم يكن برا لَهُنَّ يكون فعله غير بر، أَي: غير طَاعَة، وارتكاب غير الطَّاعَة حرَام، وَيلْزم من ذَلِك عدم الْجَوَاز.
وَفِيه: جَوَاز ضرب الأخبية فِي الْمَسْجِد.
وَفِيه: شُؤْم الْغيرَة لِأَنَّهَا ناشئة عَن الْحَسَد المفضي إِلَى ترك الْأَفْضَل لأَجله.
وَفِيه: ترك الْأَفْضَل إِذا كَانَ فِيهِ مصلحَة، وَأَن من خشِي على عمله الرِّيَاء جَازَ لَهُ تَركه وقطعه.

وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: أَن الِاعْتِكَاف لَا يجب بِالنِّيَّةِ، وَأما قَضَاؤُهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ فعلى طَرِيق الِاسْتِحْبابُُ، لِأَنَّهُ كَانَ إِذا عمل عملا أثْبته، وَلِهَذَا لم ينْقل أَن نِسَاءَهُ اعتكفن مَعَه فِي شَوَّال.
انْتهى.
قلت: قَوْله: ( إِن الِاعْتِكَاف لَا يجب بِالنِّيَّةِ، لَيْسَ بمقتصر على الِاعْتِكَاف، بل كل عمل يَنْوِي الشَّخْص أَن يعمله لَا يلْزمه بِمُجَرَّد النِّيَّة: بل إِنَّمَا يلْزمه بِالشُّرُوعِ) .

وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: اخْتلف أهل الْعلم فِي الْمُعْتَكف إِذا قطع اعْتِكَافه قبل أَن يتمه على مَا نوى، فَقَالَ بعض أهل الْعلم: إِذا نقض اعْتِكَافه وَجب عَلَيْهِ الْقَضَاء، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَن أنس قَالَ: ( كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يعْتَكف فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان، فَلم يعْتَكف عَاما، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمقبل اعْتكف عشْرين) .
ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب، وَانْفَرَدَ بِهِ،.

     وَقَالَ : إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خرج من اعْتِكَافه، فاعتكف عشرا من شَوَّال، وَهُوَ قَول مَالك بن أنس.
قلت: مَا وَجه استدلالهم بِهَذَا الحَدِيث فِي وجوب الْقَضَاء؟ وَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور يَقُول صَرِيحًا: فَلم يعْتَكف عَاما، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمقبل اعْتكف عشْرين؟ فَإِذا لم يعْتَكف كَيفَ يسْتَدلّ بِهِ على وجوب الْقَضَاء؟ وَالظَّاهِر أَن اعْتِكَافه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يكن فِي الْعَام الْمقبل إِلَّا لِأَنَّهُ قد عزم عَلَيْهِ، وَلكنه لم يعْتَكف.
ثمَّ وفى لله، عز وَجل، بِمَا نَوَاه من فعل الْخَيْر وَاعْتَكف فِي شَوَّال، وَهُوَ اللَّائِق فِي حَقه.
.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: نَكِير أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى الِاعْتِكَاف من أجل أَنه نوى أَن يعمله، وَإِن لم يدْخل فِيهِ، لِأَنَّهُ كَانَ أوفى النَّاس لرَبه فِيمَا عاهده عَلَيْهِ.
.

     وَقَالَ  شَيخنَا، رَحمَه الله: وعَلى تَقْدِير شُرُوعه فَفِيهِ دَلِيل على جَوَاز خُرُوج الْمُعْتَكف المتطوع من اعْتِكَافه.

وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك، فَقَالَ مَالك فِي ( الْمُوَطَّأ) المتطوع فِي الِاعْتِكَاف، وَالَّذِي عَلَيْهِ الِاعْتِكَاف أَمرهمَا سَوَاء فِيمَا يحل لَهُم وَيحرم عَلَيْهِمَا، قَالَ: وَلم يبلغنِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ اعْتِكَافه إلاَّ تَطَوّعا.
.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: قَوْله هَذَا قَول جَمَاهِير الْعلمَاء، لِأَن الِاعْتِكَاف، وَإِن لم يكن وَاجِبا إلاَّ على من نَذره، فَإِنَّهُ يجب بِالدُّخُولِ فِيهِ كَالصَّلَاةِ النَّافِلَة وَالْحج وَالْعمْرَة.
.

     وَقَالَ  ابْن الْمُنْذر: وَفِي الحَدِيث أَن الْمَرْأَة لَا تعتكف حَتَّى تستأذن زَوجهَا، وَأَنَّهَا إِذا اعتكفت بِغَيْر إِذْنه كَانَ لَهُ أَن يُخرجهَا وَإِن كَانَ بِإِذْنِهِ فَلهُ أَن يرجع فيمنعها، وَعَن أهل الرَّأْي: إِذا أذن لَهَا الزَّوْج ثمَّ منعهَا أَثم بذلك، وامتنعت، وَعَن مَالك: لَيْسَ لَهُ ذَلِك، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم.
قلت: كَيفَ يكون الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم وَلَيْسَ فِيهِ مَا ذكره من ذَلِك صَرِيحًا، وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ مَا ذكر من اسْتِئْذَان حَفْصَة من عَائِشَة فِي ضرب الخباء، وَإِذن عَائِشَة لَهَا بذلك، وَضربت زَيْنَب خباء آخر من غير اسْتِئْذَان من أحد.
وَفِيه: إِنْكَاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِم بذلك، وَوجه إِنْكَاره مَا ذَكرْنَاهُ عَن القَاضِي عِيَاض عَن قريب، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على مَا ذكره ابْن الْمُنْذر على مَا لَا يخفى على المتأمل.

وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: جَوَاز الْخُرُوج من الِاعْتِكَاف بعد الدُّخُول فِيهِ، وَأَنه لَا يلْزم بِالنِّيَّةِ وَلَا بِالشُّرُوعِ فِيهِ، أَي: لَا يلْزم الِاعْتِكَاف بِالشُّرُوعِ فِيهِ، ويستنبط مِنْهُ سَائِر التطوعات خلافًا لمن قَالَ باللزوم.
انْتهى.
قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على مَا ذكره، لِأَن الحَدِيث لَا يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل فِي الِاعْتِكَاف ثمَّ خرج مِنْهُ، غَايَة مَا فِي الْبابُُ أَنه بَطل الِاعْتِكَاف فِي ذَلِك الشَّهْر، يدل عَلَيْهِ قَوْله: فَترك الِاعْتِكَاف ذَلِك الشَّهْر، وَقَوله: وَلَا بِالشُّرُوعِ فِيهِ، أَي: لَا يلْزم الِاعْتِكَاف بِالشُّرُوعِ فِيهِ دَعْوَى من الْخَارِج، والْحَدِيث لَا يدل عَلَيْهِ، وَكَيف لَا يلْزم بِالشُّرُوعِ فِي عبَادَة وَالْقَوْل بذلك يُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال الْعَمَل؟ وَقد قَالَ الله تَعَالَى: { وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} ( مُحَمَّد: 33) .
وَقَوله: ويستنبط مِنْهُ، غير مُسلم، لِأَن الَّذِي ذكره لَا يدل عَلَيْهِ الحَدِيث، وَكَيف يستنبط مِنْهُ عدم لُزُوم سَائِر التطوعات لِأَن الاستنباط لَا يكون إلاَّ من دَلِيل صَحِيح فَافْهَم.