فهرس الكتاب

عمدة القاري - باب من رغب عن المدينة

( بابُُ مَنْ رَغِبَ عنِ المَدِينَةِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حَال من رغب أَي أعرض عَن الْمَدِينَة، وَجَوَاب: من، مَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ مَذْمُوم، وَنَحْوه.



[ قــ :1788 ... غــ :1874 ]
- حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله يَقولُ تَتْرُكُونَ المَدِينَةَ عَلَى خيْرِ مَا كانَتْ لاَ يَغْشَاهَا إلاَّ العَوَاف يُريدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ والطَّيْرِ وآخِرُ منْ يْحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ المَدِينَةِ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِما فيَجِدَانِهَا وحْشا حَتَّى إذَا بَلَغا ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجِوهِهِمَا.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ( تتركون الْمَدِينَة) ، فَإِن تَركهم رَغْبَة عَنْهَا.

وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن حَمْزَة الْحِمصِي وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.

والْحَدِيث أخرجه مُسلم من طَرِيق يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للمدينة: ( ليتركنها أَهلهَا على خير مَا كَانَت مذللة للعواف) ، يَعْنِي: السبَاع، وَالطير، وَمن رِوَايَة عقيل بن خَالِد عَن ابْن شهَاب أَنه قَالَ: أَخْبرنِي سعيد بن الْمسيب أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ( تتركون الْمَدِينَة) إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، غير أَنَّهَا فِي رِوَايَته: ( ثمَّ يخرج راعيان من مزينة ينعقان بغنمها) .
قَوْله: ( تتركون) بتاء الْمُخَاطب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَالْمرَاد بذلك غير المخاطبين، لكِنهمْ من أهل الْبَلَد وَمن نسل المخاطبين، وَقيل: نوع المخاطبين من أهل الْمَدِينَة، ويروى: يتركون، بياء الْغَيْبَة وَرجحه الْقُرْطُبِيّ.
قَوْله: ( على خير مَا كَانَت) ، أَي: على أحسن حَالَة كَانَت عَلَيْهِ من قبل، يَعْنِي: أعمرها وأكثرها ثمارا.
قَوْله: ( لَا يَغْشَاهَا) ، أَي: لَا يقربهَا وَلَا يَأْتِيهَا إلاَّ العواف، جمع عَافِيَة، وَهِي طلاب الرزق من الدَّوَابّ وَالطير.
.

     وَقَالَ  ابْن سَيّده: الْعَافِيَة والعفاة والعفاء: الأضياف وطلاب الْمَعْرُوف، وَقيل: هم الَّذين يعفونك أَي يأتونك يطْلبُونَ مَا عنْدك، والعافي أَيْضا: الرائد والوارد، لِأَن ذَلِك كُله طلب.
قَوْله: ( يُرِيد عوافي الطير وَالسِّبَاع) ، تَفْسِير لقَوْله: العواف،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: اجْتمع فِي العوافي شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا طالبة لأقواتها من قَوْلك: عَفَوْت فلَانا أعفوه فَأَنا عافٍ، وَالْجمع: عفاة أَي: أتيت أطلب مَعْرُوفَة.
وَالثَّانِي: من العفاء، وَهُوَ الْموضع الْخَالِي الَّذِي لَا أنيس بِهِ، فَإِن الطير والوحش تقصده لأمنها على نَفسهَا فِيهِ.
.

     وَقَالَ  عِيَاض: وَقد وجد ذَلِك حَيْثُ صَارَت، أَي: الْمَدِينَة مَعْدن الْخلَافَة ومقصد النَّاس وملجأهم، وحملت إِلَيْهَا خيرات الأَرْض وَصَارَت من أعمر الْبِلَاد، فَلَمَّا انْتَقَلت الْخلَافَة مِنْهَا إِلَى الشَّام ثمَّ إِلَى الْعرَاق وتغلبت عَلَيْهَا الْأَعْرَاب وتعاورتها الْفِتَن، وخلت من أَهلهَا فقصدتها عوافي الطير وَالسِّبَاع، وَذكر الإخباريون أَنَّهَا خلت من أَهلهَا فِي بعض الْفِتَن الَّتِي جرت بِالْمَدِينَةِ، وَبقيت ثمارها للعوافي، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وخلت مُدَّة ثمَّ تراجع النَّاس إِلَيْهَا، وَفِي حَال خلوها عَدَت الْكلاب على سواري الْمَسْجِد، وَعَن مَالك: حَتَّى يدْخل الْكَلْب أَو الذِّئْب فيعوي على بعض سواري الْمَسْجِد،.

     وَقَالَ  عِيَاض: هَذَا مِمَّا جرى فِي الْعَصْر الأول وانقضى، وَهَذَا من معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الْمُخْتَار أَن هَذَا التّرْك يكون فِي آخر الزَّمَان عِنْد قيام السَّاعَة، ويوضحه قضة الراعبين، فقد وَقع عِنْد مُسلم بِلَفْظ: ( ثمَّ يحْشر راعيان) ، وَفِي البُخَارِيّ: أَنَّهُمَا آخر من يحْشر، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم وَغَيرهمَا من حَدِيث محجن بن الأدرع الْأَسْلَمِيّ، قَالَ: ( بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحَاجَة، ثمَّ لَقِيَنِي وَأَنا خَارج من بعض طرق الْمَدِينَة، فَأخذ بيَدي حَتَّى أَتَيْنَا أحدا، ثمَّ أقبل على الْمَدِينَة، فَقَالَ: ويل أمهَا قَرْيَة يَوْم يَدعهَا أَهلا كأينع مَا يكون؟ قلت: يَا رَسُول الله { من يَأْكُل ثَمَرهَا؟ قَالَ: عَافِيَة الطير وَالسِّبَاع) .
وروى عمر بن شبة بِإِسْنَاد صَحِيح، ( عَن عَوْف بن مَالك، قَالَ: دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَسْجِد ثمَّ نظر إِلَيْنَا، فَقَالَ: أما وَالله لتدعنها مذللة أَرْبَعِينَ عَاما للعوافي} أَتَدْرُونَ مَا العوافي؟ الطير وَالسِّبَاع)
.
انْتهى.
وَهَذَا لم يَقع قطعا.
قَالَ الْمُهلب: فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْمَدِينَة تسكن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَإِن خلت فِي بعض الْأَوْقَات يقْصد الراعيان بغنمهما إِلَى الْمَدِينَة.
قَوْله: ( وَآخر من يحْشر راعيان) أَي: يساق ويجلى من الوطن.
قَوْله: ( من مزينة) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الزَّاي: قَبيلَة من مُضر.
وَفِي ( التَّلْوِيح) : فَإِن قيل: فَمَا معنى قَوْله: ( آخر من يحْشر راعيان؟) وَلم يذكر حشرهما، وَإِنَّمَا قَالَ: ( يخران على وُجُوههمَا أَمْوَاتًا؟) فَالْجَوَاب: أَنه لَا يحْشر أحد إلاَّ بعد الْمَوْت، فهما آخر من يَمُوت بِالْمَدِينَةِ، وَآخر من يحْشر بعد ذَلِك فِي ( أَخْبَار الْمَدِينَة) لأبي زيد بن عمر بن شبة: عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: ( آخر من يحْشر رجلَانِ، رجل من مزينة وَآخر من جُهَيْنَة، فَيَقُولَانِ: أَيْن النَّاس؟ فيأتيان الْمَدِينَة، فَلَا يريان إلاَّ الثعالب، فَينزل إِلَيْهِمَا ملكان فيسحبانهما على وُجُوههمَا حَتَّى يلحقاهما بِالنَّاسِ) .
قَوْله: ( ينعقان بغنمهما) ، من النعق وَهُوَ دُعَاء الرَّاعِي الشَّاء، قَالَه الْأَزْهَرِي عَن الْفراء وَغَيره، يُقَال: أنعق بضأنِكَ، أَي: ادعها.
وَقد نعق الرَّاعِي بهَا نعيقا.
وَفِي ( الموعب) : نعيقا ونعاقا: إِذا صَاح بهَا الرَّاعِي زجرا، ونعقا ونعقانا وَقد نعق ينعق، من بابُُ: علم يعلم، وَأغْرب الدَّاودِيّ فَقَالَ: مَعْنَاهُ يطْلب الْكلأ، فَكَأَنَّهُ فسره بِالْمَقْصُودِ من الزّجر.
لِأَنَّهُ يزجرها عَن المرعى الوبيل إِلَى المرعى الوسيم.
قَوْله: ( فيجدانها وحوشا) أَي: يجدان أَهلهَا وحوشا جمع وَحش، أَو يجدان الْمَدِينَة ذَات وحوش، ويروى: وحوشا، بِفَتْح الْوَاو أَي: يجدانها خَالِيَة.
، لَيْسَ بهَا أحد،.

     وَقَالَ  الجربي: الْوَحْش من الأَرْض هُوَ الْخَلَاء، وأصل الْوَحْش كل شَيْء توحش من الْحَيَوَان، وَقد يعبر بِوَاحِد عَن جمعه، وَعَن ابْن المرابط: مَعْنَاهُ أَن غنمها تصير وحوشا، إِمَّا أَن تنْقَلب ذَاتهَا فَتَصِير وحوشا، وَإِمَّا أَنَّهَا تنفر وتتوحش من أصواتهما، وَأنكر عِيَاض هَذَا، وَاخْتَارَ أَن يعود الضَّمِير إِلَى الْمَدِينَة.
وَفِي رِوَايَة مُسلم: فيجدانها وحشا، أَي: خَالِيَة لَيْسَ بهَا أحد.
قَوْله: ( ثنية الْوَدَاع) ، هِيَ عقبَة عِنْد حرم الْمَدِينَة، سميت بذلك لِأَن الْخَارِج من الْمَدِينَة يمشي مَعَه المودعون إِلَيْهَا.
قَوْله: ( خرّا) بتَشْديد الرَّاء.
أَي: سقطا ميتين، أَو سقطا بِمن أسقطهما، وَهُوَ الْملك.





[ قــ :1789 ... غــ :1875 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عَبْدِ الله بنِ الزُّبَيْرِ عنْ سفْيانَ بنِ أبِي زُهَيْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ تُفْتَحُ الْيَمَنُ فيَأتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فيَتَحَمَّلُونَ بأهْلِيهِمْ ومَنْ أطَاعَهُمْ والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وتفْتَحُ الشَّأمُ فيَأتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فيَتَحَمَّلُونَ بأهْلِهِمْ والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويُفْتَحُ العِرَاقُ فَيأتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فيَتَحَمَّلُونَ بأهْلِيهمْ ومنْ أطَاعَهُمْ والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم الْمَذْكُورين تفَرقُوا فِي الْبِلَاد بعد الفتوحات وَرَغبُوا عَن الْإِقَامَة فِي الْمَدِينَة، وَلَو صَبَرُوا على الْإِقَامَة فِيهَا لَكَانَ خيرا لَهُم، والترجمة فِيمَن رغب عَن الْمَدِينَة، وَهَؤُلَاء رَغِبُوا عَنْهَا، واختاروا غَيرهَا.

ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي، وَمَالك بن أنس، وَهِشَام بن عُرْوَة، وَأَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، وَعبد الله بن الزبير أَخُو عُرْوَة بن الزبير، وسُفْيَان بن أبي زُهَيْر، بِضَم الزَّاي: مصغر الزهر النمري، بالنُّون: الْأَزْدِيّ ويلقب بِابْن أبي القرد، بِفَتْح الْقَاف وَبعدهَا دَال مُهْملَة، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقيل: القرد هُوَ اسْم أبي زُهَيْر، وَقيل: اسْمه نمير، وَكَانَ نازلاً بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ الشنوئي من أَزْد شنُوءَة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَضم النُّون وَبعد الْوَاو همزَة مَفْتُوحَة، وَفِي النّسَب كَذَلِك، وَقيل: بِفَتْح النُّون بعْدهَا همزَة مَكْسُورَة بِلَا وَاو، وشنوءة هُوَ: عبد الله بن كَعْب بن مَالك بن نضر بن الأزد، وَسمي شنُوءَة لشنئان كَانَ بَينه وَبَين قومه.

ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: السماع وَالْقَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ لِأَن هشاما لَقِي بعض الصَّحَابَة.
وَفِيه: رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صَحَابِيّ.
وَفِيه: فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: عَن سُفْيَان بن أبي زُهَيْر، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة: عَن هِشَام عَن أَبِيه، كَذَلِك.

     وَقَالَ  فِي آخِره: قَالَ عُرْوَة: ثمَّ لقِيت سُفْيَان بن أبي زُهَيْر عِنْد مَوته فَأَخْبرنِي بِهَذَا الحَدِيث.
وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ، وَالله أعلم.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن آدم، وَعَن هَارُون بن عبد الله.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: ( تفتح الْيمن) ، قَالَ ابْن عبد الْبر وَغَيره: افتتحت الْيمن فِي أَيَّام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي أَيَّام أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وافتتحت الشَّام بعْدهَا، وَالْعراق بعْدهَا.
انْتهى.
قلت: يمن اسْم يعرب بن قحطان بن عَابِر، وَهُوَ هود، فَلذَلِك يُقَال أَرض يمن، ذكره فِي كتاب ( التيجان) وَذكر الْبكْرِيّ: إِنَّمَا سمي الْيمن يمنا لِأَنَّهُ عَن يَمِين الْكَعْبَة، كَمَا سمي الشَّام شاما لِأَنَّهُ عَن شمال الْكَعْبَة.
وَقيل: إِنَّمَا سمي بذلك قبل أَن تعرف الْكَعْبَة لِأَنَّهُ عَن يَمِين الشَّمْس، وَقيل: سميت الْيمن يمنا بيمن بن قحطان، وَحكى الْهَمدَانِي، قَالَ: لما طغت الْعَرَب العاربة أَقبلت بَنو يقطن بن عَابِر فتيامنوا، فَقَالَت الْعَرَب: تيامنت بَنو يقطن، فسموا الْيمن.
وتشأم الْآخرُونَ فسموا شاما.
قَوْله: ( يبسون) ، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة من: بس يبس بسا، والبس: سوق الْإِبِل.
تَقول: بس يبس عِنْد السُّوق وَإِرَادَة السرعة،.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر فِي رِوَايَة يحيى بن يحيى: يبسون، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقيل: إِن ابْن الْقَاسِم رَوَاهُ بضَمهَا قلت: حَاصله أَنه من بابُُ: نصر ينصر، وَمن بابُُ: ضرب يضْرب، وَفِي ( التَّلْوِيح) أَشَارَ إِلَى أَنه رُوِيَ بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، فعلى هَذَا يكون من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ من أبس يبس على وزن أفعل.
قَالَ الْحَرْبِيّ: وَمَعْنَاهُ يتحملون بأهليهم، وَقيل: مَعْنَاهُ يدعونَ النَّاس إِلَى بِلَاد الخصب،.

     وَقَالَ  الدَّاودِيّ مَعْنَاهُ: يزجرون دوابهم فيفتتون مَا يطؤنه من الأَرْض من شدَّة السّير فَيصير غبارا من قَوْله تَعَالَى: { وبست الْجبَال بسا} ( الْوَاقِعَة: 5) .
أَي: سَالَتْ سيلاً.
وَقيل: مَعْنَاهُ سَارَتْ سيرا.
.

     وَقَالَ  ابْن الْقَاسِم: البس الْمُبَالغَة فِي الفت، وَمِنْه قيل للدقيق الْمَصْنُوع بالدهن: بسيس، وَأنكر ذَلِك النَّوَوِيّ،.

     وَقَالَ : إِنَّه ضَعِيف أَو بَاطِل.
.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: وَقيل: معنى يبسون يسْأَلُون عَن الْبِلَاد، وتستقر لأهلهم الْبِلَاد الَّتِي تفتح ويدعونهم إِلَى سكناهَا فيتحملون بِسَبَب ذَلِك من الْمَدِينَة راحلين إِلَيْهَا، وَيشْهد لهَذَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد مُسلم: ( يَأْتِي على النَّاس زمَان يَدْعُو الرجل ابْن عَمه وقريبه إِلَى الْمَجِيء إِلَيْهَا لذَلِك، فيتحمل الْمَدْعُو بأَهْله وَأَتْبَاعه) .
.

     وَقَالَ  النَّوَوِيّ: الصَّوَاب أَن مَعْنَاهُ: الْإِخْبَار عَمَّن خرج من الْمَدِينَة متحملاً بأَهْله، بَأْسا فِي سيره، مسرعا إِلَى الرخَاء والأمصار المفتتحة، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة عَن هِشَام بن عُرْوَة فِي هَذَا الحَدِيث: ( تفتح الشَّام فَيخرج النَّاس من الْمَدِينَة يبسون، وَالْمَدينَة خير لَهُم لَو كَانُوا يعلمُونَ) .
وروى أَحْمد فِي ( مُسْنده) من حَدِيث جَابر، سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ( ليأتينَّ على أهل الْمَدِينَة زمَان ينْطَلق النَّاس فِيهَا إِلَى الأرياف يَلْتَمِسُونَ الرخَاء فيجدون رخاء، ثمَّ يأْتونَ فيتحملون بأهليهم إِلَى الرخَاء وَالْمَدينَة خير لَو كَانُوا يعلمُونَ) .
وَفِي إِسْنَاده عبد الله بن لَهِيعَة وَفِيه مقَال، وَلَكِن أَحْمد قبله وَرَضي بِهِ، وَلَا بَأْس بِهِ فِي المتابعات.
قَوْله: ( لَو كَانُوا يعلمُونَ) أَي: بفضلها من الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ وثواب الْإِقَامَة فِيهَا لِأَنَّهَا حرم الرَّسُول ومهبط الْوَحْي ومنزل البركات.
فَإِن قلت: أَيْن جَوَاب: لَو؟ قلت: مَحْذُوف، دلّ عَلَيْهِ مَا قبله أَي: لَو كَانُوا من أهل الْعلم لعرفوا ذَلِك، وَلما فارقوا الْمَدِينَة.
وَإِن كَانَت: لَو، بِمَعْنى: لَيْت، فَلَا جَوَاب لَهَا، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَفِيهِ تجهيل لمن فَارقهَا لتفويته على نَفسه خيرا عَظِيما، وَفِيه معجزات للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ أخبر بِفَتْح هَذِه الأقاليم، وَأَن النَّاس يتحملون بِأَهَالِيِهِمْ ويفارقون الْمَدِينَة، وَأَن هَذِه الأقاليم تفتح على هَذَا التَّرْتِيب الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وَوجد جَمِيع ذَلِك.
قَوْله: ( وَمن أطاعهم) أَي: ويتحملون بِمن أطَاع أَهْليهمْ من النَّاس.
قَوْله: ( وَالْمَدينَة خير لَهُم) الْوَاو فِيهِ للْحَال،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: نكر قوما لتحقيرهم وتوهين أَمرهم، ثمَّ وَصفهم بقوله: ( يبسون) إشعارا بركاكة عُقُولهمْ، وَأَنَّهُمْ مِمَّن ركنوا إِلَى الحظوظ البهيمية، وحطام الدُّنْيَا الفانية العاجلة وأعرضوا عَن الْإِقَامَة فِي جوَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومهبط الْوَحْي، وَلذَلِك كرر قوما وَوَصفه فِي كل قرينَة بقوله: ( يبسون) ، استحضارا لتِلْك الْهَيْئَة البهيمية.
.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ أَيْضا الَّذِي يَقْتَضِي هَذَا الْمقَام أَن ينزل يعلمُونَ منزلَة اللَّازِم لينتفي عَنْهُم الْعلم والمعرفة بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَو ذهب مَعَ ذَلِك إِلَى معنى التَّمَنِّي لَكَانَ أبلغ، لِأَن التَّمَنِّي طلب مَا لَا يُمكن حُصُوله أَي: ليتهم كَانُوا من أهل الْعلم تَغْلِيظًا وتشديدا.
انْتهى.
وَقَالُوا: المُرَاد بِهِ الخارجون من الْمَدِينَة رَغْبَة عَنْهَا كارهين لَهَا، وَأما من خرج لحَاجَة أَو تِجَارَة أَو جِهَاد أَو نَحْو ذَلِك فَلَيْسَ بداخل فِي معنى الحَدِيث.