فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - بَابُ اليقين وَالتوكّل

رقم الحديث 84 ( الحادي عشر: عن أنس رضي الله عنه قال: كان أخوان) لم أقف على من سماهما ( على عهد) أي: زمن حياة ( رسول الله، فكان أحدهما يأتي مجلس النبي) ويلازمه ليتلقى من معارفه ويأخذ من أقواله وأفعاله ( والآخر يحترف) افتعال من الحرفة: وهي الصناعة وجهة الكسب ( فشكا المحترف أخاه) في ترك الاحتراف ( إلى النبي فقال) مسلياً لهوفي انفراده بالاحتراف ترك أخيه الأسباب ( فلعلك ترزق به) أي: فلعل قيامك بأمره سبب لتيسير رزقك، لأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
وفي الحديث أيضاً «وهل ترزقون» أو قال: «تنصرون إلا بضعفائكم» وفيه تنبيه على أن من انقطع إلى الله واكتفى بتدبيره عن تدبير نفسه وسكن تحت جري مقاديره كفاه مهماته.
وفي الحديث «تكفل الله لطالب العلم بالرزق» أي: بتيسير وصوله إليه لما خرج عن حاجة نفسه وأقبل على باب مولاه واكتفى به عن أفعال نفسه، وإلا فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ( رواه الترمذي بإسناد) هو رجال الطريق الموصلة إلى المتن ( على شرط مسلم) أي: إنهم روى عنهم مسلم في «صحيحه» ، وهذا هو المراد بقولهم على شرط الشيخين مثلاً ( يحترف) المذكور في الخبر معناه ( يكتسب ويتسبب) أي: يتعاطى الأسباب التي أبرزتها الحكمة ستراً للتصرفات الإلهية.
8

رقم الحديث -17 قال السيد في كتاب «تعريفات العلوم» : اليقين في اللغة: العلم الذي لا شك معه.
وفي الاصطلاح: اعتقاد الشيء أنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا، وهو مطابق للواقع غير ممكن الزوال.
وعند أهل الحقيقة رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبيان، وقيل: مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار (والتوكل) عرفه الشيخ العارف با أبو مدين بقوله في حكمه: التوكل وثوقك بالمضمون استبدالك الحركة بالسكون.
وعرّفه غيره بقوله: اعتمادك على مولاك ورجوعك إليه، وخروجك عن حولك وقوّتك وانطراحك بين يديه.
وقيل: اكتفاؤك بعلم الله فيك عن تعلق القلب بسواه، ورجوعك في كل الأمور إلىالله.
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير كذا في «شرح الحكم» المذكورة لعمي الشيخ العارف با أحمدبن علان الصديقي.
وفي «شرح مسلم» للمصنف، اختلفت عبارات السلف والخلف في حقيقة التوكل، فحكى الإمام أبو جعفر الطبري وغيره عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يستحق اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو عدوّ حتى لا يطلب الرزق ثقة بضمان الله رزقه.
وقالت طائفة: هو الثقة با والإيقان بأن قضاءه نافذ، واتباع سنة نبيه والسعي فيما لا بد منه من مطعم ومشرب، والتحرّز من العدوّ كما فعله الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
قال القاضي عياض: وهذا المذهب هو اختيار الطبري وعامة الفقهاء، والأول مذهب بعض المتصوفة وأصحاب علم القلوب والإشارات.
وذهب المحققون منهم إلى نحو مذهب الجمهور، ولكن لا يصح عندهم التوكل مع الالتفات والطمأنينة إلى الأسباب، بل فعل الأسباب سنة الله وحكمته والثقة بأنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضرّاً والكل منالله، هذا كلام القاضي.
وقال القشيري: اعلم أن التوكل محله القلب وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي توكل القلب بعد ما تحقق العبد أن التقدير من فعل الله عزّ وجلّ، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسر شيء فبتيسيره.
وقال سهلبن عبد الله التوكل في الاسترسال مع الله على ما يريد.
وقال أبو عثمان الحيري: التوكل الاكتفاء با تعالى مع الاعتماد عليه اهـ.
(قال الله تعالى: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب} ) من الكفار ( { قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله} ) من الابتلاء والنصر ( { وصدق الله ورسوله} ) في الوعد ( { وما زادهم} ) ذلك ( { إلا إيماناً} ) تصديقاً بوعد الله ( { وتسليماً} ) لأمره.
(وقال تعالى: { الذين} ) بدل من الذين قبله أو نعت له ( { قال لهم الناس} ) أي: نعيمبن مسعود الأشجعي ( { إن الناس} ) أبا سفيان وأصحابه ( { قد جمعوا لكم} ) الجموع ليستأصلوكم ( { فاخشوهم} ) ولا تأتوهم ( { فزادهم} ) ذلك القول ( { إيماناً} ) تصديقاً با ويقيناً ( { وقالوا: حسبنا ا} ) كافنا أمرهم ( { ونعم الوكيل} ) المفوض إليه الأمر هو، وخرجوا مع النبيّ فوافوا سوق بدر الذي كان واعد النبيّ كفار قريش يوم أحد عليه، وألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وأصحابه فلم يأتوا، وكان مع الصحابة تجارات فباعوا وربحوا، قال تعالى: ( { فانقلبوا} ) رجعوا من بدر ( { بنعمة من الله وفضل} ) بسلامة وربح ( { لم يمسهم سوء} ) من قتل أو جرح ( { واتبعوا رضوان ا} ) بطاعته وطاعة رسوله في الخروج ( { وا ذو فضل عظيم} ) على أهل طاعته، وقد بسطت الكلام في هذه الآية في كتاب الجهاد من «شرح الأذكار» .
(وقال تعالى: { وتوكل} ) فيه إشارة لشرف الموكل، وأوجبه بعضهم مطلقاً، والظاهر وجوبه باعتبار لا مطلقاً.
أما التوكل بطرح الأسباب والاكتساب فهو من شأن أهل الكمال وهو المندوب، وفي «المفهم» للقرطبي: المتوكلون على حالين: الحال الأول حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من الأسباب بقلبه ولا يتعاطاها إلا بحكم الأمر.
والحال الثاني حال غير المتمكن، وهو الذي يقع له الالتفات إلى الأسباب أحياناً غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والأزواق الحالية، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه تعالى بجوده إلى مقام المتمكنين ويلحقه بدرجات العارفين اهـ.
( { على الحيّ الذي لا يموت} ) فيه إشارة إلى أن من توكل على غير الله فقد ضاع لأن الغير يموت؛ والعاقل لا ينبغي له أن يتوكل على من يموت ويفنى.
وقال بعضهم: الاعتماد على الغني غايته الفقر، والاعتماد على القوّة آخره الضعف، والاعتماد على الخلق هو طريق الخذلان، ومن اعتمد على سوى الله وتوكل على غيره فقد ضيع وقته وخاب سعيه، لأن الحيّ الذي لا تجري عليه فنون العوارض دعاك إليه بألطف دعواه فقال { وتوكل على الحي الذي لا يموت} .
( { وقال تعالى: وعلى ا} ) لا على غيره ( { فليتوكل المؤمنون} ) إذ هو الحي القيوم.
(وقال تعالى) : { فإذا عزمت} ) على إمضاء ما تريد بعد المشاورة ( { فتوكل على ا} ) أي: ثق به لا بالمشاورة (والآيات في الأمر بالتوكل كثيرة معلوماً) .
(وقال تعالى:) في فضل التوكل وثمراته ( { ومن يتوكل على ا) فهو حسبه} أي: كافيه (وقال تعالى) : { إنما المؤمنون} ) أي: الكاملو الإيمان ( { الذين إذ ذكر ا} ) أي وعيده ( { وجلت} ) خافت ( { قلوبهم} ) وقيل: «إذ ذكر الله وجلت قلوبهم» فزعت لذكره استعظاماً له وتهيباً من جلاله ( { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} ) تصديقاً، وإسناد الزيادة للآيات من الإسناد للسبب ( { وعلى ربهم يتوكلون} ) يفوضون أمرهم إليه ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه (والآيات في فضل التوكل) وثمراته (كثيرة معروفة) .