فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب فضل من مات لَهُ أولاد صغار

رقم الحديث 952 ( عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما من مسلم يموت له ثلاثة) أي من الأولاد ( لم يبلغوا الحنث) بكسر المهملة وسكون النون بعدها مثلثة كذا لجميع الرواة.
وحكى ابن قرقول عن الداودي أنه ضبطه الخبث بفتح المعجمة والموحدة وفسره بأن المراد لم يبلغوا، أو أن يعملوا المعاصي، قال: ولم يذكره غيره كذلك، والمحفوظ الأول والمعنى لم يبلغوا الحلم فتكتب عليهم الآثام.
قال الخليل: بلغ الغلام الحنث: أي جرى عليه القلم، والحنث الذنب، قال الله تعالى: { وكانوا يصرون على الحنث العظيم} ( الواقعة: 46) وقال الراغب غبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يؤاخذ بما يرتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر لأنه الذي يحصل بالبلوغ لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر، وعليه فمن بلغ الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبه صرح كثير من العلماء.
وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصوّر منه العقوق المقتضي لعدم الرحمة، بخلاف الصغير فإنه لا يتصوّر منه ذلك إذ ليس مخاطباً.
وقال ابن المنير: بل يدخل الكبير في ذلك من طريق الفحوى، لأنه ثبت ذلك من الطفل الذي هو كلّ على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي ببلغ معه السعي وحصل له منه النفع وتوجه إليه الخطاب بالحقوق اهـ.
قال في «فتح الباري» : ويؤيد الأول قوله ( إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم) لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم منهم، وهل يلتحق بالصغار من بلغ مجنونا مثلاً واستمر على ذلكفمات؛ فيه نظر لكونهم لا إثم عليهم يقتضي الإلحاق، وكون الامتحان بهم يخفّ لموتهم يقتضي عدمه، قال: ولم يقع التقييد في طرق الحديث بشدة الحبّ ولا عدمه، وكان القياس يقتضي ذلك لما يوجد من كراهة بعض الناس لولده وتبريه منه لاسيما من كان ضيق الحال، لكن لما كان الولد مظنة المحبة والشفقة نيط الحكم به وإن تخلف في بعض الأفراد.
وعند أبي ماجه من حديث عقبة مرفوعاً حديث نحو حديث الباب لكن قال فيه «إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل» ويشهد له رواه النسائي بإسناد صحيح من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً من أثناء حديث «أما يسرك أنك لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك؟» والضمير في قوله «بفضل رحمته إياهم» يرجع إلى الله تعالى: أي بفضل رحمة الله للأولاد، وقال ابن التين: يرجع للأب: أي لكونه يرحمهم في الدنيا جوزى برحمته في الآخرة.
قال الحافظ: والأولى أولى، ويؤيده أن في رواية ابن ماجه من هذا الوجه بفضل رحمة الله إياهم.
وللنسائي من حديث أبي ذرّ «إلا غفر الله لهما بفضل رحمته» وضمير إياهم راجع للأولاد خلافاً لما توهمه الكرماني من كونه راجعاً لمسلم وإن جمعه باعتبر عمومه لكونه في سياق النفي ( متفق عليه) لكن اقتصر السيوطي في كتاب فقد الولد على عزوه للبخاري فقط، ولعله لكونه عنده بهنا اللفظ، وزاد: ورواه النسائي وابن ماجه.


رقم الحديث 953 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: لا يموت لأحد من المسلمين ثلاث من الولد) بفتحتين اسم جنس يقع على الواحد فما فوقه وجمعه ولد بضم فسكون، والمراد ثلاثة منهم مطلقاً أو لم يبلغوا الحنث كم تقدم فيما قبله ( لا تمسه النار) برفع تمسه جزماً كما قال في «فتح الباري» قال الكرماني: هو في حكم البدل من لا يموت فكأنه قال: لا تمس النار من مات له ثلاث من الأولاد من المسلمين ( إلا تحلة) بفتح المثناة الفوقية وكسر المهملة وتشديد اللام ( القسم) أي إلا بقدر ما ينحل به القسم وهو اليمين.
والتحلة مصدر حلل اليمين كفرها، يقال حللته تحليلاً وتحلة وتحللاً بغير هاء والثالثة شاذة.
قال أهل اللغة يقال فعلته تحلة القسم: أي قدر ما حللت به يميني ولم أبالغ ( متفق عليه وتحلة القسم) المذكور في الحديث ( هو قول الله تعالى) : ( { وإن منكم إلا واردها} ) قال في «فتح الباري» : قال الكرماني: اختلف في المراد بهذا القسم، فقيل هو معين، وقيل غير معين، والجمهور على الأول، وقيل لم يعن به قسم معين وإنما معناه التقليل لأمر ورودها، وهذا اللفظ يستعمل في هذا القول يقال ما ينام فلان إلا تحلة الألية، وقيل الاستثناء بمعنى الواو: أي لا تمسه النار أصلاً ولا تحلة القسم، وجّز الفراء والأخفش مجىء إلا بمعنى الواو، والأول هو قول الجمهور، وبه جزم أبو عبيد وغيره وقالوا: المراد به قوله تعالى: { وإن منكم إلا واردها} ( مريم: 71) قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها، ولكنه يدخل مجتازاً ويكون ذلك الجواز بقدر ما يحلل الرجل به يمينه، ويدل لذلك ما وقع عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في آخر الحديث «إلا تحلة القسم» يعني الورود، وفي سنن سعد بن منصور عن سفين بن عيينة، ثم قرأ سفيان { وإن منكم إلا واردها} ومن طريق زمعة بنت صالح عن الزهري في آخره «قيل وما تحلة القسم؟ قال قوله تعالى: { وإن منكم إلا واردها} » وكذا حكاه عبد الملك بن حبيب عن مالك في تفسير هذا الحديث، وجاء عند الطبراني من حديث عبد الرحمن بن بشير الأنصاري مرفوعاً «من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل» يعني الجواز على الصراط.
واختلف في موضع القسم من الآية، فقيل هو مقدر: أي والله إن منكم إلا واردها، وقيل معطوف على القسم الماضي في قوله تعالى: { فوربك لنحشرنهم} ( مريم: 68) وقيل مستفاد من قوله: { حتماً مقتضياً} أي قسماً واجباً كذا رواه الطبراني وغيره، وقال الطيبي: يحتمل أن المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق، فإن قوله: { كان على ربك حتماً مقتضياً} تذييل وتقرير لقوله: { وإن منكم إلا واردها} فهو بمنزلة القسم بل أبلغ لمجىء الاستثناء بالنفي والإثبات.
واختلف في المراد بالورود في الآية، فقال المصنف ( والورود هو العبور على الصراط، وهو) أي الصراط ( جسر) بكسر الجيم وسكون المهملة أي ممر ( منصوب على ظهر جهنم، عافانا الله منها) وهذا القول رواه الطبراني وغيره منطريق بشر ابن سعيد عن أبي هريرة، ومن طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، ومن طريق معمر وسعيد عن قتادة، ومن طريق عن كعب الأحبار وزاد يستوون كلهم على منتهاه ثم ينادي منادٍ: أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فيخرج المؤمنون ندية أبدانهم.
وقيل «الورود» هو الدخول بها.
روى النسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعاً: «الورود الدخول لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً» .
وروى الترمذي وابن أبي حاتم من حديث ابن مسعود موقوفاً قال: «يردونها أو يلجونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم» .
قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لشعبة إن إسرائيل يرفعه، قال: صدق وعمداً أدعه.
ثم رواه الترمذي عن إسرائيل مرفوعاً.
قال في «فتح الباري» : وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك.
ولا تنافي بينهما لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور، ووجهه أن المارّ عليه فوق الصراط بمعنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارين باختلاف أعمالهم، فأعلى درجة من يمرّ كملح البرق.
ويؤيد الأول ما يراه مسلم من حديث أم مبشر أن حفصة قالت للنبي لما قال: لا يدخل أحد ممن شهد الحديبية النار، أليس الله تعالى يقول: { وإن منكم إلا واردها؟} فقال لها: أليس الله يقول: { ثم ننجي الذين اتقوا؟} ( مريم: 72) الآية.
وفي هذا بيان ضعف قول من قال: الورود مختص بالكفار، ومن قال معنى الورود الدنوّ منها، ومن قال معناه الإشراف عليها، ومن قال معناه ما يصيب المؤمن من الحمى في الدنيا، على أن هذا الأخير ليس ببعيد ولا ينافيه بقية الأحاديث اهـ.


رقم الحديث 954 ( وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاءت امرأة) أشار الحافظ في «الفتح» إليها أنها من نساء الأنصار ( إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك) أي منفردين به عن النساء ( فاجعل لنا من نفسك يوماً) فيه تجريد أو في الكلام مضاف: أي من أوقات نفسك: أي الأوقات التي تجعلها لنفسك منفرداً فيها عنهم، فإنه يجزىء أوقاته ثلاثاً كما في «شمائل الترمذي» ( نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله) الجملتان مستأنفتان بسبب طلبهن اليوم والمراد منه مطلق الوقت وفصلهما إيماء إلى استقلال كل منهما بالكفاية فيما طلبوا ( قال: اجتمعن يوم كذا وكذا) عينه لهن ليستعددن له وليكن أشوق، فتكونالموعظة أوقع لأن ما حصل بالطلب ليس كالحاصل بلا تعب ( فاجتمعن فأتاهن النبيّ فعلمهن مما علمه الله) أي من الأحكام المحتاجات إليها ( ثم قال) زيادة على مطلوبهن مبشراً ( ما منكن من امرأة) من الثانية مزيدة ومن في «منكن» لبيان إبهام المرأة حال منها: أي ما أمره منكن والمراد معشر النساء المسلمات ( تقدم ثلاثة من الولد) بفتحتين يشمل الذكر والأنثى والمفرد والجمع ( إلا كانوا) لبعض، رواة البخاري «كن» بضم الكاف وتشديد النون وكأن التأنيث باعتبار النفس أو النسمة ( لها حجاباً من النار) الظرف الأول لغو متعلق بكان على الأصح من تعلق الظرف بها، ويجوز إعرابه حالاً من حجاباً، كان وصفاً له فنقدم فأعرب حالاً والظرف الثاني في محل الصفة.
قال القرطبي: وخصت الثلاثة لأنها أول مراتب الكثرة فتعظم المصيبة بكثرة الأجر، فأما إذا زاد عليها فقد يخف أمر المصيبة لكونها تصير كالعادة اهـ.
وتعقبه الحافظ ابن حجر فيما أوهمه كلامه من قصر ذلك على من فقد له ثلاثة دون من فقد له أربعة أو خمسة بأنه جمود شديد، فإن مات له أربعة مات له ثلاثة ضرورة وثبت له أجرهم وموت الرابع إن لم يزد في الأجر لا يرفعه والحق أن تناول الخبر لما فوق الثلاثة بالأولى والأحرى، ويؤيده أنهم لم يسألوا عن الأربعة فما فوق لأن ذلك كالملعلوم عندهم من الثلاثة ( فقالت امرأة) هي أم سليم أم أنس بن مالك كما رواه الطبراني عنها أنها سألته عن الاثنين، ووقع لأم مبشر الأنصارية السؤال عن ذلك، رواه الطبراني أيضاً، وجاء من حديث جابر بن سمرة أن أم أيمن ممن سأله عنه، ومن حديث ابن عباس أن عائشة أيضاً منهن.
وحكى ابن بشكوال أن أم هانىء أيضاً سألت عنه قال في «فتح الباري» : فيحتمل أن كلاً منهن سألت عن ذلك في ذلك المجلس واحتمال تعدد القصة فيه بعد لأنه لما سئل عن الاثنين بعد ذكر الثلاثة أجاب بأن الاثنين كذلك.
والظاهر أنه كان بوحي أوحي إليه في الحال، وبذلك جزم ابن بطال وغيره، وإذا كان كذلك كان الاقتصار على الثلاثة بعد ذلك مستبعداً لأن المفهوم يخرج الاثنين اللذين ثبت لهما ذلك الحكم بناء على الحكم بمفهوم العدد وهو المعتبر، نعم قد جاء في حديث جابر بن عبد الله أنه ممن سأل عن ذلك، وكذا عمر وحديثه عند الحاكم والبزار، وهذا لا بعد في تعدده لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال به ( واثنين) هذا اللفظ رواية مسلم، والتقدير: وما حكم اثنين، وعند البخاري واثنان بالألف: أي وإذا مات اثنان ما الحكم، وهذا منها بناء على عدم اعتبار مفهوم العدد إذ لو اعتبرته لعلمتانتفاء الحكم عما عدا الثلاثة لكنها جوزته فسألت، قاله عياض.
وتعقبه الحافظ في «الفتح» بأن الظاهر أنها اعتبرت مفهوم العدد إذ لو لم تعتبره لما سألت.
والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست نصية بل محتملة فلذا سألت ( فقال رسول الله: واثنين) هو بالياء أيضاً وهو لفظ مسلم: أي وحكم اثنين كذلك، وعند البخاري بالألف وتقديره: وإذا مات اثنان فالحكم كذلك، وهذا ظاهر التسوية في حكم الثلاثة والاثنين، وقد تقدم عن ابن بطال أنه أوحى إليه بذلك في الحال، ولا بعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلاً لكنه أشفق عليهن أن يتكلوا، لأن موت الاثنين غالباً أكثر من موت الثلاثة كما وقع في حديث معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد، ثم لما سئل عنه لم يكن له بد من الجواب قاله الحافظ ( متفق عليه) .
165