فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب العفو والإِعراض عن الجاهلين

رقم الحديث -75 أي عن الجاني ( والإعراض) بترك المؤاخذة ( عن الجاهلين) فلا يؤاخذهم بما يصدر منهم من قول وعمل.
( قال الله تعالى) : ( { خذ العفو} ) وهو وإن كان معناه ما سبق في الباب قبله إلا أن عموم لفظه متناول للعفو عن الظالم ( { وأمر بالعرف} ) أي بالمعروف شرعاً ( { وأعرض عن الجاهلين} ) وذلك لأن في الإعراض عنه إخماداً لشرّه وإذهاباً للهيب جهله قال الشافعي: قالوا سكتّ وقد خوصمت قلت لهم إن الجواب لباب الشر مفتاح ( وقال تعالى) : ( { فاصفح الصفح الجميل} ) أي عاملهم معاملة الحليم الصفوح.
( وقال تعالى) في شأن الصدّيق رضي الله عنه لما آلى ألاّ ينفق على مسطح لقوله في الإفك ما قال ( { وليعفوا} ) أي عما فرط منهم ( { وليصفحوا} ) بالإغماض عنه ( { ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟} ) بعفوكم عن الناس وصفحكم.
( وقال تعالى) : ( { والعافين عن الناس} ) التاركين عقوبة من استحقها طلباً لمرضاة الله تعالى ( { والله يحب المحسنين} ) فيه إيماء إلى أن المذكور في الآية صفات المحسنين وأن القائم بها في مقام الإحسان.
( وقال تعالى) : ( { ولمن صبر} ) على الأذى ( { وغفر} ) ولم ينتصر ( { إن ذلك} ) أي صبره المذكور ( { لمن عزم الأمور} ) والآيات قد تقدم الكلام عليها، بعضها في الباب قبله وبعضها قبل ذلك ( والآيات في الباب) أي العفو عن المذنب والإعراض عن الجاهل ( كثيرة معلومة) .


رقم الحديث 643 ( وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت) بفتح الهمزة بدل اشتمال من الضميرالمجرور: أي وعنها قولها ( للنبي: هل أتى) أي مرّ ( عليك يوم) أي زمان ( كان أشد من يوم أحد) بضمتين: الجبل المعروف عند المدينة: أي غزوته، وكانت في السنة الرابعة من الهجرة، فإنه شجّ فيها وجهه وكسرت رباعيته وسقط في الحفرة التي حفرها الفاسق الذي كان يلقبه الكفار بالراهب وحصل ما حصل في المؤمنين من قتل نيف وسبعين منهم ( قال: لقد لقيت من قومك) أي كفار قريش ( وكان) أي ذلك ( أشد ما لقيته منهم) والجملة معترضة بين الفعل ومفعوله ( يوم العقبة) لم أر من تعرض لبيان محلها والمراد منها في هذا الحديث، لا المصنف في «شرح مسلم» ولا الحافظ في «الفتح» ، ولعلها عقبة عند الطائف بدليل قوله ( إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل) طالباً منه النصر والإعانة على إقامة الدين، ويا ليل بتحتية وبعد الألف لام مكسورة ثم تحتية ساكنة ثم لام ( ابن عبد كلال) بضم الكاف وتخفيف اللامين بينهما ألف واسمه كنانة، قال في «الفتح» : والذي في المغازي أن الذي كلمه هو عبد يا ليل نفسه، وعند أهل النسب أن عبد كلال أخوه لا أبوه، وأنه عبد يا ليل بن عمر بن عمير بن عوف، ويقال اسم عبد يا ليل مسعود وكان ابن عبد يا ليل من أكبر أهل الطائف من ثقيف، وقد ذكر موسى بن عقبة في مغازيه وابن إسحاق أن عبد يا ليل اسمه كنانة وفد مع وفد الطائف سنة عشر فأسلموا، وذكر ابن عبد البر في الصحابة كذلك، لكن ذكر القاضي أن الوفد أسلموا إلا كنانة، وأنه خرج إلى الروم بعد ومات بها والله أعلم.
وقد جاء عند أبي موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري أنه لما مات أبو طالب توجه إلى الطائف أن يؤووه، فعمدوا إلى ثلاثة نفر من ثقيف وهم ساداتهم وهم إخوة، عبد يا ليل وحبيب ومسعود، بنو عمرو فعرض نفسه عليهم وشكا إليهم ما انتهك مه قومه فردوا عليه أقبح رد، وكذا ذكره ابن إسحاق وذكر ابن سعد أن ذلك كان في شوال سنة عشر من المبعث بعد موت خديجة وأبي طالب اهـ ملخصاً ( فلم يجبني إلى ما أردت) أي من الإيواء والإعانة على تبليغ الرسالة إلى العباد ( فانطلقت وأنا مهموم) فيه جواز طروء الهم من الأعراض البشرية على الأنبياء وهذا هم في أخروي والمذموم الهم على ما فات من أمور الدنيا ( على وجهي) أي الجهة المواجهة لي ( فلم أستفق) أي من الغمرة التي لحقته من عدم تسديد أولئك وتأييدهم له.
وقال المصنف: أي لم أفطن لنفسي وأنتبه لحالي وللموضع الذي أنا ذاهب إليه وفيه ( إلا وأنا بقرن الثعالب) هو بسكون الراء على الصحيح ميقات أهل نجد،ويقال له قرن المنازل على يوم وليلة من مكة، والقرن: كل جبل صغير منقطع منه جبل كبير.
وحكى عياض أن بعض الرواة يفتح الراء قال القاضي عياص: وهو غلط.
وحكى الفاسي أن من سكن الراء أراد الجبل ومن حركتها أراد الطريق التي تتفرق منه، وأفاد ابن سعد أن مدة إقامته بالطائف كانت عشرة أيام ( فرفعت رأسي) يحتمل أن يكون ذلك لكونه أحس بشيء من جانب العلوي أو يكون اتفاقاً فصادف ما قاله ( وإذا أنا بسحابة قد أظلتني) أي كستني الظلّ عن الشمس ( فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام) إذا فيه وفيما قبله: فجائية وجبريل حينئذ لم يكن في صورته الأصلية لما جاء أنه لم يره فيها إلا في بدء الرسالة وعند سدرة المنتهى ( فسلم عليّ) فيه بدء القادم بالسلام ( ثم قال) لعل الإتيان بثم إيماء إلى تراخي إخبار جبريل عن أمر الملك باشتغاله بأمر آخر إما مع النبي أو مع غيره من الأملاك ( إن الله قد سمع قول قومك) أي الذين دعوتهم إلى الإيمان ( وما ردوا عليك) في جواب الدعوة ( وقد بعث إليك ملك الجبال) أي الموكل بها المتصرف بما يرد عليه فيها من حضرة الحق ( لتأمره بما شئت فيهم) ما فيه موصول اسمي: أي بالذي أردته منهم والعائد محذوف، ويحتمل كونها مصدرية: أي بمشيئتك فيهم، ويؤيد الأخير قول ملك الجبال: لتأمرني بأمرك، وأتى به كذلك ليعم ما يراد منها من التعذيب ( فناداني ملك الجبال) أي عقب كلام جبريل كما يومىء إليه الفاء ( فسلم عليّ ثم قال: يا محمد قد سمع الله قول قومك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك) أي من رجم وإطباق، وقله ( فما شئت) الفاء تفريعية وما استفهامية منصوبة المحل مفعولاً به مقدماً، ومقتضى كلام الحافظ في فتح الباري أنه عند البخاري فيما شئت بكسر الفاء وزيادة تحتية.
قال: وقد رواه الطبراني عن مقدام بن داود عن عبد الله بن يوسف شيخ البخاري قال: «يا محمد إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت» اهـ.
ثم رأيته في صحيح البخاري كما قال الحافظ وحينئذ فلعل هذا لفظ رواية مسلم ( إن شئت) حذف مفعوله: أي إطباق الأخشبين عليهم إيجازاً لدلالة وجوده في قوله ( أطبقت عليهم الأخشبين) بالمعجمتين بعدهما موحدة يأتي المراد به ( فقال النبيّ) ممتناً عليه بعفوهعما يتعلق بجنابه الشريف من إيذائهم له وإساءتهم في جوابهم له المقتضى لحلول ذلك بهم إيجازاً ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) المعطوف عليه ببل مقدر يدل عليه الكلام: أي لا آمرك بما فيه هلاكهم بل أرجو الخ، قال العلماء: وما جاء من ألفاظ الترجي في كلام الله سبحانه أو كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو واقع البتة، لكنه عبر بذلك على عادة الملوك، قال البيضاوي في التفسير: عسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها وإنما يطلقونه إظهار لوقارهم وإشعاراً بأن الرمز كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيده اهـ.
قال الحافظ: وفي الحديث بيان شفقة النبيّ على قومه ومزيد صبره وحلمه وهو موافق لقوله تعالى: { فيما رحمة من الله لنت لهم} ( آل عمران: 159) ولقوله: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ( الأنبياء: 17) ( متفق عليه) رواه البخاري في بدء الخلق ومسلم في المغازي ورواه النسائي في البعوث ( الأخشبان الجبلان المحيطان بمكة) في النهاية: هما المطبقان بمكة أبو قبيس والأحمر وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان ( والأخشب هو الجبل الغليظ العظيم) عبر بدله في النهاية بقوله الخشن.


رقم الحديث 644 ( وعنها قالت: ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً) من الحيوانات ولا من غيرها ( قط) أي في شيء من الأزمنة التي كان فيها وهي ماضية حال الأخبار عنه وقوله ( ولا امرأة ولا خادماً) من عطف الخاص علة العام، وصرح بهما لأنه يعتاد ضربهما وإذا لم يضربهما مع جريان العادة فغيرهما ممن لم يعتد ضربه أولى ( إلا أن يجاهد في سبيل الله) استثناء من أعم الأحوال: أي في حال من الأحوال إلا في حال الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى ( وما نيل) بالبناء للمجهول ( منه شيء) أي ما نال أحد منه شيئاً كما وقع من شج الكفار لرأسه في أحد وإسقاط رباعيته وغير ذلك مما وقع من جهالاتهم وإضراراتهم به في بدنه الشريف وغير ذلك ( قط فينتقم) بالنصب في جواب النفي ( من صاحبه) أي صاحب الذنب لنفسه، كان يعفو ويصفح ويزيد بالإحسان، كما ورد أنه قيل له يوم أحد: ادع الله عليهم فقال «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» فعفا عن حقه وصفح وزاد إحساناً بالدعاء لهم بغفر ذلك الذنب المتعلق بحقه، إذ لو سأل لهم مطلق لغفران لأجيبت دعوته وآمنوا حالاً واعتذر عنهم ( إلا أن ينتهك شيء من محارم الله) يحتمل كون الاستثناء متصلاً: أي إلا ما نيل منه بأن كان فيه انتهاك المحارم كالطعن بارتكاب المحارم ( فينتقم) حينئذ من ذلك الطاعن ( لـ) حق ( الله تعالى) لا لحق نفسه، وعدم انتقامه ممن قال في قسمته: هذه ما أريد بها وجه الله تعالى تأليفاً للقوم على الإسلام كما قال «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعاً وهو الأقرب، أي لكن إذا انتهكت حرمات الله تعالى انتقم من منتهكها كائناً ما كان ( رواه مسلم) .


رقم الحديث 645 ( وعن أنس رضي الله عنه قال كنت أمشي) أتى به بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية إشعاراً باستحضاره لذلك ( مع رسول الله وعليه برد) تقدم ضبطه ( نجراني) منسوب إلى نجران بلدة من بلاد همدان من اليمن، قال البكري: سميت باسم بانيها نجران بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان كذا في المصباح ( غليظ الحاشية) أتى به ليرتب عليه مزيد الأثر الآتي ( فأدركه أعرابيّ) لم أر من سماه ( فجبذه) قيل إنه لغة في جذب وقيل إنه مقلوبه ( جبذة شديدة) زاد في رواية «حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه» ( فنظرت إلى صفحة) بفتح المهملتين وسكون الفاء بينهما: أي جانب من ( عاتق النبيّ) وهو بالمهملة والفوقية والقاف ما بين العنق والكتف ( وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته) وذلك من سوء أدبه وجفائه على عادة الأعراب، فمن بدا جفا ( ثم قال) علىعادتهم في ذلك ( يا محمد) ويحتمل أن يكون قبل تحريم ندائه باسمه ( مر لي من مال الله الذي عندك) زاد البيهقي في روايته «فإنك لا تحمل من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي ثم قال: المال مال الله وأنا عبده» ( فالتفت إليه فضحك) أي من قوله المنبىء بشأنه فشأن الإنسان دليل عقله ( ثم أمر له بعطاء) العطاء عبارة عما يجتمع من الأموال من فىء أو غنيمة وخراج وتركة من لا وارث له، والمراد هنا أمر له بشيء من ذلك، وقد جاء أنه حمل له على بعير شعيراً وعلى الآخر تمراً ذكره في الشفاء، وهذا فيه مزيد حسن خلقه، فإنه عفا عن جنايته عليه بجبذه وإيلامه بحاشية ذلك البرد حتى أثر في عاتقه، وزاد على العفو بالبشر الذي هو كما قال من قال: بشاشة وجه المرء خير من القرى فكيف بمن يعطي القرى وهو يضحك ويبذل الإحسان ( متفق عليه) .


رقم الحديث 646 ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر) أي الآن ( إلى رسول الله) وعبر بما ذكره إيماء إلى استحضاره فكأنه يخبر عن معاين، وقوله ( يحكى نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) جملة حالية من رسول الله، وقوله ( ضربه قومه فأدموه) أي أجروا دمه بالجراحات ( وهو يمسح الدم) عن وجهه جملة حالية، إما من الضمير البارز في فأدموه لكونه أقرب فيكون حالاً متداخلة إن أعربت الجملة المعطوف عليها حالاً أو من نبياً ( ويقول) في تلك الحالة المثيرة للغضب المقتضية للانتقام بعد عفوه عنهم زيادة في الفضل ( اللهم اغفر لقومي) أي ما صنعوه معي من الضرب والإدماء، وقوله ( فإنهم لا يعلمون) كالتعليل لسؤال المغفرة لهم: أي ما أوقعهم في ذلك إلا جهلهم بقدر النبي وعدممعرفتهم بعلوّ مرتبته إذ لو عرفوه لقدروه حق قدره ففيه بعد الصفح زيادة الفضل بالدعاء لهم بالغفران والاعتذار عنهم بعدم العلم ( متفق عليه) .


رقم الحديث 647 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ليس الشديد) أي المحمود شدته شرعاً ( بالصرعة) بضم ففتح وهو الذي يكثر صرع الناس ويغلبهم.
أما الصرعة بضم فسكون: فهو الذي يصرعه الناس كثيراً ( إنما الشديد) أي المحمود شرعاً ( الذي يملك نفسه عند الغضب) أي الذي هو فوران دم القلب من حدوث أمر غير مرضي ممن هو دونك: أي فيملك نفسه حينئذ عن أن يقع منها إضراراً بالمغضوب منه، بل يعفو عنه ويكظم غيظه ( متفق عليه) ورواه الإمام أحمد أيضاً كما في الجامع الصغير.
76