فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب تحريم الظلم والأمر بردِّ المظالم

رقم الحديث 203 ( وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا الظلم) أي: اجتنبوا ظلمالعباد ومنهم النفس، وظلمها بمنعها حقها أو إعانتها على معصية الله وإطاعتها فيها ( فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) .
قال القاضي عياض: هو على ظاهره، فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا، كما أن المؤمن يسعى بنور هو مسبب عن إيمانه في الدنيا، قال تعالى: { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} ( الحديد: 12) اهـ.
قيل ويحتمل أن الظلمات هنا الشدائد وبه فسر قوله تعالى: { قل من ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر} ( الأنعام: 63) ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات.
قال الطيبي: قوله على ظاهره يوهم أن قوله ظلمات هنا ليس مجازاً بل حقيقة، لكنه مجاز لأنه حمل المسبب على السبب، فالمراد ظلمات حقيقة مسببة عن الظلم، والفرق بين الشدائد والأنكال أن الشدائد كائنة في العرصات قبل دخول النار والأنكال بعد دخولها اهـ.
وقال ابن الجوزي: الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ حق الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة والمعصية فيه أشد من غيرها، لأنه لا يقع غالباً إلا بالتضعيف الذي لا يقدر على الانتصار وإنما ينشأ من ظلمة القلب لأنه لو استنار القلب بنور الهدى لاعتبر ( واتقوا الشح) هو بالشين المعجمة وهي مثلثة والضم أعلى، والشحّ أشد البخل، وقيل: البخل مع الحرص، وقيل: البخل في أفراد الأمور، والشحّ عام.
وقيل: البخل بالمال والشحّ به وبالمعروف ( فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم) أي: من الأمم والهلاك فيه محتمل للهلاك المعنوي والهلاك الحسي ويؤيده قوله: ( حملهم على أن سفكوا دماءهم) أي: قتل بعضهم بعضاً كما قتل ذلك الإسرائيلي ابن عمه الذي يرثه استعجالاً للإرث حتى كشف الله أمره بقصة البقرة واستحلوا محارمهم.
قال المظهري في «المفاتيح» : يعني لحرصهم على جمع المال الحرام يقتل بعضهم بعضاً لأخذ أموالهم ( واستحلوا محارمهم) أي: اتخذوا ما حرم الله من نسائهم حلالاً: أي فعلوا بهن الفاحشة، وأقرب منه أنهم احتالوا إلى بيع ما حرم الله تعالى عليهم أكله كالشحوم جملوها فباعوها، وكالصيد يوم السبت فحفروا للصيد حفائر لينحبس فيها السمك يومئذٍ فيأخذوه بعد، ففيه تقبيح التحليل للحرام بما لم يرد الإذن للتخلص به من الحرام كبيع العينة، أخذاً من أمره لبلال أن يبيع التمر الرديء بالدراهم ويشتري بالدراهم الجيد من التمر ونهاه عن شراء مدّ جيد بمدين من الرديء ( رواه مسلم) .
قال السيوطي في «الجامع الصغير» ورواهأحمد والبخاري في الأدب، وروى قوله: «الظلم ظلمات يوم القيامة» البخاري ومسلم والترمذي من حديث ابن عمر مرفوعاً.


رقم الحديث 204 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لتؤدن الحقوق) بضم الفوقية وفتح الهمزة وتشديد الدال المفتوحة لاتصال نون التوكيد المباشرة بها فعل مبني للمجهول واللام في أوله مؤذنة بقسم مقدر لتأكيد المقام وحذف الفاعل به: أي وا ليؤدنّ الله الحقوق ( إلى أهلها) مستحقها ( يوم القيامة حتى) غاية في إيفاء الحق: أي إلى أن ( يقاد للشاة الجلحاء) بفتح الجيم وسكون اللام بعدها مهملة وبعدها ألف ممدودة: هي الجمّاء التي لا قرن لها ( من الشاة القرناء) .
قال المصنف: هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة وإعادتها كما يعاد أهل التكليف من الآدميين وكما يعاد الأطفال والمجانين، وعلى هذا تظاهرت دلائل الكتاب والسنة، قال تعالى: { وإذا الوحوش حشرت} ( التكوير: 5) وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع وجب حمله على ظاهره.
قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة المجازاة والعقاب والثواب.
وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس من قصاص التكليف إذ لا تكلف عليها بل هو قصاص مقابلة اهـ ( رواه مسلم) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : ورواه أحمد والبخاري في «الأدب المفرد» والترمذي.


رقم الحديث 205 (وعن) عبد الله (بن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما قال: كنا نتحدث بحجة) بفتح الحاء وكسرها (الوداع) بكسر الواو وفتحها، وسميت بذلك لأن النبيّ ودّعهم فيها، وتسمى حجة البلاغ لقوله: «هل بلغت» وتسمى حجة الإسلام إذ لا مشرك فيها، قاله ابن النحوي في «التوضيح على الجامع الصغير» (والنبيّ بين أظهرنا) جملة في محل الحال أي جالس بيننا مستظهراً لا مستخفياً يقال بين أظهرنا وظهرانينا بمعنى بيننا (ولا ندريأي: نعرف (ما حجة الوداع) أي: ما وجه تسميتها به.
قال في «التوشيح» : كأنه شيء ذكره النبي فتحدثوا به، وما فهموا أن المراد بالوداع وداع النبي حتى وقعت وفاته بعد ذلك بقليل فعرفوا بذلك، وأشار إلى ذلك بما تضمنه قوله: (حتى حمد ا) بالنصب على المفعولية وتقديمه للاختصاص (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليه) يحتمل أن يكون من عطف الرديف وأن يكون من عطف المغاير أي: حمد الله بأوصاف الكمال وأثنى عليه بتنزيهه عما لا يجوز عليه (ثم ذكر المسيح) بفتح الميم وكسر السين المهملة مخففة وبالحاء المهملة (الدجال) أي: المبالغ في الكذب بادعائه الإحياء والإماتة وغيرهما مما يقطع كل عاقل فضلاً عن مؤمن بكذبه فيه، والمسيح إذا أطلق ينصرف لسيدنا عيسى عليه السلام ويطلق على الدجال لكن مقيداً به كما هنا.
وقال أبو داود: إنه في الدجال بتشديد السين وفي عيسى بتخفيفها والأول هو المشهور.
وقيل يقال في كل منهما بالتشديد والتخفيف، ولقب به الدجال قيل لأنه ممسوح العين فإن إحدى عينيه ممسوحة، وقيل لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحاً لا عين ولا حاجب فيه، وقيل لأنه ممسوح من كل خير: في مبعود ومطرود، وعلى كل حال فهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل: بل هو بمعنى فاعل، ولقب به لأنه يمسخ معظم الأرضين: أي يقطعها في أيام معدودة.
وقيل: إنه بالخاء المعجمة ونسب قائله إلى التصحيف.
وقال ابن دحية في «مجمع البحرين» : إنه خطأ، وقيل: إنه مسيح بوزن مسكن بكسر ثالثة.
وقال أبو عبيدة: أظنه بالشين المعجمة كما تنطق به اليهود ثم عرّب (فأطنب في) بيان (ذكره) محذراً من فتنته لعظمها (وقال: ما بعث ا) أي: أرسل (من نبيّ) أي رسول إذ هو الذي ينذر قومه ومن مزيدة لاستغراق العموم (إلا أنذر أمته) منه وأعلمهم ببعض أوصافه (أنذره نوح) أي: أنذر منه نوح قومه (والنبيون من بعده) أممهم ففيه حذف المفعول وجملة أنذر نوح لتفصيل ما قبلها (وإنه إن يخرج فيكم) إذ لا أمة بعدكم ولا بد من خروجه، فإذا لم يخرج في الأمم السابقة فلم يبق إلا خروجه في هذه الأمة بعدكم ولا بد من خروجه، فإذا لم يخرج في الأمم السابقة فلم يبق إلا خروجه في هذه الأمة (فما) شرطية: أي فأي شيء (خفي عليكم من) للتبعيض أي بعض (شأنه فليس يخفى عليكم، أن ربكم ليس بأعور) أن ومعمولاها فاعل يخفى لكن رأيته مضبوطاً بالقلم في أصل مصحح بكسر الهمزة ولعل الإسناد للجملة: أي لا يخفىعليكم مضمون هذا الكلام من انتفاء النقائص عن الباري جل وعز (إنه) يعني: الدجال وهي ومعمولاها بدل من إن الأولى أو استئناف قال الكرماني (أعور عين اليمنى) بالجر من إضافة الموصوف إلى صفته وتأويله عند البصريين أعور عين صفحة وجهه اليمنى (كأن عينه عنبة) بكسر العين وفتح النون والموحدة، لا يخفى ما فيه من المحسن البديعي، وهو الجناس الخطي المسمى بالجناس المصحف ومنه حديث «ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى» (طافية) بلا همز أي: بارزة من طفا الشيء يطفو: إذا علا على غيره، وشبهها بالعنبة التي تقع في العنقود بارزة عن نظائرها (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح يتنبه لما بعده ( { إن الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم} ) يقدر في الأول سفك وفي الثاني أخذ لأن الذوات لا تحرم (كحرمة يومكم هذا) أي: يوم النحر (في بلدكم هذا) أي حرم مكة، قيل: المشبه به أخفض رتبة من المشبه وهو خلاف القاعدة.
والجواب: أن تحريم اليوم والبلد كان ثابتاً في نفوسهم مقرراً عندهم بخلاف الأنفس والأموال، فكانت الجاهلية تستبيحها، فورد التشبيه بما هو مقرّر عندهم ومناط التشبيه ظهوره عند السامع (ألا) بتخفيف اللام (هل بلغت) والمستفهم منه الأمة الحاضرون وحذف المفعول ليعم: أي هل بلغتكم ما أمرت بإبلاغه إليكم (قالوا نعم: قال اللهم) أي يا أفحذف حرف النداء وعوض عنه الميم المشددة هذا هو الصحيح كما تقدم (اشهد) على شهادتهم بالتبليغ إليهم كيلا ينكر منكر ذلك يوم القيامة (ثلاثاً) أي قاله ثلاث مرات، وكان يكرر ما يحتاج للتكرير ثلاثاً كما جاء في الصحيح/ «وكان إذا تكلم بكلام أعاده ثلاثاً ليفهم منه» (ويلكم) بفتح الواو وسكون التحتية وفتح اللام.
قال في «الصحاح» : ويل كلمة مثل ويح إلا أنها كلمة عذاب، يقال ويله وويلك، وتقول ويل لزيد، فالنصب على إضمار الفعل.
قال في مادة ويح: كأنك قلت ألزمه الله ويلاً أو ويحاً أو نحو ذلك والرفع على الابتداء هذا إذا لم تضف، فإن أضفت فليس إلا النصب لأنك لو رفعته لم يكن له خبر اهـ (أو) شك من الراوي: أي قال (ويحكم) وفي الصحاح أيضاً ويح كلمة رحمة «وويل» كلمة عذاب، قال اليزيدي: هما بمعنى واحد (انظروا لا ترجعوا) أي: لا تصيروا.
قال ابن مالك في «توضيحه» : مما خفي على أكثر النحاة استمال رجع كصار معنى وعملاً ومنه هذا الحديث: أي: لا تصيروا (بعدي كفاراً) أي كالكفار فهو تشبيه أو من باب التغليظ فهو مجاز، والمراد معناهاللغوي وهو التستر بالأسلحة، وفيه عشرة أقوال حكاها السيوطي وحكاها عنه تلميذه العلقمي في آخر حاشيته على «الجامع الصغير» ، والأولى أنه على ظاهره، وأنه نهى عن الارتداد وأوله الخوارج بالكفر الذي هو الخروج عن الملة إذ كل معصية عندهم كفر (يضرب بعضكم رقاب بعض) .
قال القاضي عياض: الرواية بالرفع، كذا رواه المتقدمون والمتأخرون وهو الصواب، وبه يصح المقصود هنا، وضبطه بعض العلماء، وهو إحالة للمعنى والصواب الضم اهـ.
وفي «شرح المشارق» لابن ملك: يضرب بالرفع فيه وجوه: أحدها أن تكون الجملة صفة للكفار: أي لا ترجعوا بعدي كفاراً متصفين بهذه الصفة، يعني: يضرب بعضكم رقاب بعض.
الثاني أن يكون حالاً من ضمير لا ترجعوا: أي لا ترجعوا كفاراً حال ضرب بعضكم رقاب بعض.
فعلى الأول يجوز أن يكون المعنى: لا ترجعوا بعدي عن الدين فتصيروا مرتدين مقاتلين يضرب بعضكم بعضاً بغير حق على وجه التحقيق، وأن يكون المعنى: لا ترجعوا كالكفار المقاتل بعضهم بعضاً على وجه التشبيه بحذف أداته.
وعلى الثاني يجوز أن يكون معناه: لا تكفروا حال ضرب بعضكم رقاب بعض لأمر يعرض نبيكم باستحلال القتل بغير حق، وأن يكون المعنى: لا ترجعوا حال المقاتلة كالكفار في تهييج الشرّ وإثارة الفتن بغير إشفاق منكم بعضكم على بعض في ضرب الرقاب، وروي بجزم الباء على أنه بدل من ترجعوا، ومعناه: لا يضرب بعضكم رقاب بعض كفعل الكفار، ويجوز أن يكون جزاء لشرط مقدر على مذهب الكسائي: أي فإن رجعتم يضرب بعضكم رقاب بعض اهـ.
وقريب منه قول مغلطاي: من جزم أوّله على الكفر، ومن رفع لا يجعله متعلقاً بما قبله بل حالاً أو مستأنفاً.
(رواه البخاري) بجملته في كتاب المغازي من حديث ابن وهب عن عمربن محمدبن زيدبن عبد ابن عمر عن أبيه محمدبن زيد عن جده عبد ابن عمر ورواه مختصراً في مواضع أخر منه من طريق أخرى (وروى مسلم بعضه) في كتاب الإيمان وهو عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي أنه قال في حجة الوداع «ويحكم «أو قال ويلكم» لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» قال الحافظ المزي في «الأطراف» : ورواه أبو داود في «السنة» والنسائي في «المحاربة» وابن ماجه في «الفتن» مختصراً اهـ.


رقم الحديث 206 ( وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ظلم قيد) بكسر القاف وسكون التحتية وبالدال المهملة: أي قدر ( شبر من الأرض) وذكر الشبر إشارة إلى استواء القليل والكثير في الوعيد المدلول عليه بقوله ( طوّقه) بالبناء للمجهول أي طوقه الله ( من سبع أرضين) بفتح الراء ويجوز إسكانها، قال الخطابي: قوله طوقه له وجهان: أحدهما: أن معناه كلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة.
والثاني: أن معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين فيكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه اهـ.
v قال الحافظ ابن حجر: ويؤيد الثاني رواية ابن عمر في البخاري بلفظ: «خسف به إلى سبع أرضين» ، وقيل: معناه كالأول، لكن بعد أن ينقل جميعه يجعل كله في عنقه طوقاً ويعظم قدر عنقه اهـ.
حتى يسمع ذلك كما ورد في غلظ جلد الكافر ونحو ذلك ويحتمل وهو الوجه الرابع أن المراد بقوله: طوقه أن يكلف أن يجعل له طوقاً ولا يستطيع ذلك فيعذب بذلك كما جاء في حق «من كذب في منامه كلف أن يعقد بين شعيرتين» ويحتمل وهو الوجه الخامس أن يكون التطويق الإثم، والمراد أن الظلم المذكور لازم له في عنقه ومنه قوله تعالى: { ألزمناه طائره في عنقه} ( الإسراء: 13) وبالوجه الأول جزم أبو الفتح القشيري وصححه البغوي ويحتمل أن تتنوع هذه الصفات لصاحب هذه الجناية، أو تنقسم أصحاب هذه الجناية فيعذب بعضهم بهذا وبعضهم بهذا بحسب قوة المسندة وضعفها اهـ ( متفق عليه) قال السيوطي في «الجامع الصغير» : أخرجه الشيخان وابن ماجه عن عائشة وعن سعيدبن زيد اهـ.
وذكره المزي في «الأطراف» من حديث سعيدبن زيد وقال: أخرجه البخاري في «المظالم» ، ولم يذكر مسلماً وابن ماجه فيمن خرّجه والله أعلم.


رقم الحديث 207 ( وعن أبي موسى) الأشعري ( رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله يملي) بضم التحتية: أي يمهل ( للظالم) ولا يعاجله بالعقوبة ( فإذا أخذه) أي: عاقبه بذنبه لم يكد بفلته أي لم يكد يخلصه: أي إذا أهلكه لا يرفع عنه الهلاك أبداً: أي: إن كان كافراً فإن حمل الظلم على أعم من الشرك حمل كل على ما يليق به.
قال في «الفتح» : وهذا أولى من قول بعضهم: معنى «لم يفلته» لم يؤخره لأنه يتبادر منه أن الظالم إذا صرف عن منصبه وأهين لا يعود إلى غيره، والمشاهد في بعضهم بخلاف ذلك، والأولى حمله على ما ذكرناه اهـ.
وقريب منه قول الكرماني: «لم يفلته» لم يخلصه لكثرة مظالمه، والنفي على التأبيد إن كان منها الكفر، وإن كان مؤمناً لم يخلصه مدة طويلة.
وفي رواية «لم يفلته» بحذف يكد ( ثم قرأ) مستدلاً لذلك قوله تعالى: ( { وكذلك} ) أي: مثل المذكور في الآي قبلها ( { أخذ ربك} ) قال البيضاوي: وقرىء أخذ بالفعل فيكون محل الكاف: أي: التي في قوله وكذلك النصب على المصدر ( { إذا أخذ القرى} ) أي: أهلها ( { وهي ظالمة} ) حال من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لم أقيمت مقامه أجريت عليها، وفائدتها الإشعار بأنهم أخذوا لظلمهم وإنذار كل ظالم لنفسه أو غيره من وخامة الظلم ( { إن أخذه أليم شديد} ) موجع غير مرجوّ الخلاص عنه، وهو مبالغة ومحمول على التهديد والتحذير، وأجراها المعتزلة على ظاهرها في سائر العصاة ( متفق عليه) ورواه الترمذي وابن ماجه.


رقم الحديث 208 ( وعن معاذ) بضم الميم بعدها عين مهملة ثم ألف بعدها ذال معجمة ابن جبل الأنصاري ( رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله) أي: أميراً على اليمن، وذلك أواخر سنة تسع عند منصرفه من تبوك، رواه الواقدي، ولم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد عمر فتوجه إلى الشام فمات بها في طاعون عمواس ( فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) يعنيبه اليهود والنصارى لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب وأغلب، وإنما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم ويعد الأدلة لإفحامهم لأنهم أهل علم سابق بخلاف المشركين وعبدة الأوثان ( فادعهم) أي: أولاً ( إلى شهادة أن لا إله إلاالله، و) إلى شهادة ( أني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك) أي: بالنطق بكلمتي التوحيد، قال القرطبي: وهذا الذي أمر النبي به معاذاً هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي أمراءه وقد اختلف في حكمها، وعلى هذا ففي الحديث حجة لمن يقول أول الواجبات التلفظ بكلمتي الشهادة مصدقاً بها.
وقد اختلف في أول الواجبات على أقوال كثيرة، والذي عليه أئمة الفتوى ومن بهم المقتدي كمالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من السلف أن أول الواجبات على كل مكلف الإيمان التصديقي الحزمي الذي لاريب معه الله ورسله وكتبه وما جاءت به الرسل كيفما حصل ذلك الإيمان وبأي طريق إليه يوصل.
وأما النطق باللسان فمظهر لما استقر في القلب من الإيمان وسبب ظاهر ترتب عليه أحكام الإسلام، ولا حجة في الخبر لمن قال بعدم مخاطبة الكفار بالفروع أخذاً من أمرهم بها بعد إطاعتهم إلى النطق بالشهادتين، لأن ذلك يحتمل أنه إنما قدم لكون الإيمان شرطاً مصححاً للأعمال الفرعية لا للخطاب بالفروع، إذ لا يصح فعلها إلا بتقدم وجوده، ويصح الخطاب بالإيمان وبالفروع معاً في وقت واحد وإن كانت في الوجود متعاقبة، قال القرطبي: وهذا الاحتمال أظهر مما تمسكوا به، ولو لم يكن أظهر فهو مساوٍ له، فيكون ذلك الخطاب مجملاً بالنسبة إلى هذا الحكم، أو أن النبي إنما رتب هذه القواعد ليبين الأهم فالأهم، والله أعلم اهـ ملخصاً ( فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في) مجموع ( كل يوم وليلة) «وإن» هنا وفيما بعد شرطية «وهم» فاعل فعل محذوف وجوباً دل عليه ما بعده فهو نظير: { وإن أحد من المشركين استجارك} ( التوبة: 6) فالجواب جملة «فأعلمهم» ( فإن هم أطاعوا لذلك) بالإقرار بالوجوب والعزم على فعلها ( فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة) أي: زكاة كما في رواية مسلم، وسميت صدقة لأنها تدل على صدق إيمان باذلها ( تؤخذ من أغنيائهم) أي: من أموالهم.
وعند مسلم «تؤخذ من أموالكم» قال المصنف: ويستدل بلفظ «من أموالهم» على أنه إذا امتنع من دفعالزكاة أخذت من ماله بغير اختياره، وهذا الحكم لا خلاف فيه، ولكن هل تبرأ ذمته ويجزئه في الباطن؟ وجهان لأصحابنا ( فترد) وعند مسلم: وترد ( على فقرائهم) واستدل به مالك على أن الزكاة لا تجب قسمتها على الأصناف المذكورين في الآية، وأنه يجوز للإمام صرفها إلى صنف واحد من الأصناف المذكورين في الآية إذا رآه نظراً ومصلحة دينية، قاله القرطبي.
قال ابن دقيق العيد: وفيه يحث لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء ( فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم) منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره.
قال ابن قتيبة: لا يجوز حذف الواو، والكرائم جمع كريمة: أي: نفيسة، ففيه ترك أخذ خيار المال.
والنكتة فيه أن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء إلا أن رضوا بذلك ( واتق دعوة المظلوم) .
قال الحافظ ابن حجر: أي: تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم، وفيه التنبيه على المنع من جميع الظلم.
والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الأشارة إلى أن أخذها ظلم.
وقال بعضهم: «واتق» عطف على عامل «إياك» المحذوف وجوباً فالتقدير: اتق نفسك أن تتعرض للكرائم، أو أشار بالعطف إلى أن أخذ الكرائم ظلم، ولكنه فيه إشارة إلى التحذير عن الظلم مطلقاً ( فإنه) قال القرطبي: الرواية الصحيحة بضمير المذكر على أن يكون ضمير الأمر والشأن، ويحتمل أنه يعود على مذكر الدعوة فإن الدعوة دعاء.
ووقع في بعض النسخ: أي: من مسلم «فإنها» بهاء التأنيث، وهو عائد على لفظ الدعوة ( ليس بينها وبين الله حجاب) أي: ليس لها صارف يصرفها ولا مانع، والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصياً كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد «دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه» وإسناده حسن، وليس المراد أن حجاباً يحجبه عن الناس.
قال الطيبي: فقوله اتق دعوة المظلوم تذييل لاشتماله على الظلم الخاص سن أخذ الكرائم وعلى غيره، وقوله: فإنه تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء كمن يقصد دار السلطان مظلوماً فلا يحجب.
قال ابن العربي: إلا أنه وإن كان مطلقاً فهو مقيد بالحديث الآخر «إن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه وإما أن يدفع عنه من السوء مثله» وهذا كما قيد مطلق قوله تعالى: { أمن يجيب المضطرّ إذا دعاه} ( النمل: 62) بقوله: { فيكشف ما تدعون إليه إنشاء} ( الأنعام: 41) .
فائدة: لم يقع في الحديث ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كان أواخر الأمر كما تقدم.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني نقلاً عن شيخه شيخ الإسلام: يعني سراج الدين البلقيني: إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منها بشيء كحديث ابن عمر «بني الإسلام على خمس» أما إذا كان في الدعاء إلا الإسلام اكتفى بالأركان الثلاثة الشهادة والصلاة والزكاة، ولو كان بعد وجوب فرض الصوم والحج كقوله تعالى: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتو الزكوة} ( التوبة: 5) في الموضعين من «براءة» مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج قطعاً وكحديث ابن عمر «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاالله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» وغير ذلك من الأحاديث، قال والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة اعتقادي وهو الشهادة وبدنيّ وهو الصلاة وماليّ وهو الزكاة، فاقتصر في الدعاء إلى الإسلام عليها ليفرع الركنين الآخرين عليها، فإن الصوم بدنيّ مخص والحج بدني مالي، وأيضاً فكلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقة على الكفار، والصلوات شاقة لتكررها، والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حبّ المال، فإذا أذعن لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها اهـ ( متفق عليه) فأخرجه البخاري في كتاب الزكاة وفي التوحيد وفي مواضع أخر من صحيحه بأسانيد، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، وأخرجه أبو داود في الزكاة وأخرجه الترمذي في الزكاة بتمامه وفي البرّ «دعوة المظلوم» حسب، وقال حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه في الزكاة كذا لخص من كتاب «الأطراف» للمزي.


رقم الحديث 209 ( وعن أبي حميد) بضم الحاء المهملة وفتح الميم وسكون التحتية بعدها مهملة ( عبد الرحمنبن سعد الساعدي رضي الله عنه) قال الذهبي في «تجريد الصحابة» : أبو حميد الساعديهو: عبد الرحمنبن عمروبن سعد، وقيل: المنذربن سعد.
زاد ابن الأثير: ابن مالك بن خالدبن ثعلبةبن حارثةبن عمروبن الخزرج، زاد المصنف في «التهذيب» : ابن ساعدة بن كعببن الخزرج، ويقال ابن عمروبن سعدبن المنذربن مالك يعدّ في أهل المدينة، توفي آخر خلافة معاوية.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وعشرون حديثاً اتفق الشيخان على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بآخر ( قال: استعمل النبي رجلاً من الأزد) .
قال الحازمي في «عجلة المبتدي» : والأزد اسمه داود، ويقال دراءبن الغوثبن مالك بن رددبن كهلانبن سبأبن يشجببن يعرببن قحطان، وإليه جماع الأنصار، وكان أنسبن مالك يقول: إن لم نكن من الأزد فلسنا من الناس، وجاء في الحديث «الأزد جرثومة العرب» وجاء ذكرهم في غير حديث والثناء عليهم عن أنس عن النبي «الأزد أسد الله في الأرض، يريد الناس أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم، وليأتينّ على الناس زمان يقول الرجل: يا ليتني كان أبي أزديا، يا ليتني كانت أمي أزدية» هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ويقال فيه الأسد بالسين المهملة بدل الزاي اهـ ملخصاً ( يقال له ابن اللتبية) بضم اللام وإسكان المثناة الفوقية بعدها موحدة فتحتية مشددة نسبة لبني لتب بطن من الأسد.
قال المصنف في «التهذيب» : ويقال فيه ابن اللتبية بفتح الفوقية وابن الأتبية بالهمزة وإسكان التاء وليسا بصحيحين، والصواب الأول، واسم هذا الرجل عبد الله كذا في «التهذيب» .
وقال الذهبي في «التجريد» : يقال اسمه عبد الله ( على الصدقة) أي: الزكاة ( فلما قدم) بكسر الدال ( قال هذا لكم) معشر المسلمين ( وهذا أهدي) بالبناء للمجهول ( إليّ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر) بكسر الميم وسكون النون وفتح الموحدة من النبر وهو الارتفاع ( فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد) بالبناء على الضم: أي: بعد ما ذكر من الحمد والثناء ( فإني أستعمل الرجل منكم) أي: أجعله ( على العمل مما) من العمل الذي ( ولاني ا) العائد ضمير المفعول محذوف أي ولانية الله: أي جعل لي التصرف فيه من الزكوات والغنائم ( فيأتي) أي: من عمله ( فيقول لكم وهذا هدية أهديت لي) هذا الكلام المنكر على العامل لم يصرح باسم القائل، لأن مراده التحذير من مثل ذلك سواء فيه القائل أوّلاوغيره وهذا من مزيد فضله وحسن خلقه ( أفلا جلس في بيت أبيه أو) قال ابن حجر الهيثمي: للشك أو للتنويع ( بيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً) في قوله: «هذا أهدي إليّ» إذ ظاهره أنه أهدي له لذاته، وإنما أهدي إليه لولايته عليهم ففيه كما قال العاقولي تعيير له وتحقير لشأنه وتعريض بأنه لولا هذه الولاية لكان فقيراً محتاجاً لا يلتفت إليه، فالهدية إليه ليست لذاته بل لتوليته عليهم، وفي الحديث دليل على حرمة هدايا العمال مطلقاً ( وا) أتى به تأكيداً للأمر ( لا يأخذ أحد منكم) معاشر العمال على الأعمال ( شيئاً) مما يعطاه وهو عامل ( بغير حق إلا لقي الله يحمله يوم القيامة) زاد في رواية في «الصحيحين» على رقبته: فإن قلت: الذي في الآية { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} ( الأنعام: 13) قلت: الظهور تشمل ما هو قريب منها أو الآية في أوزار الكافرين، وهذا في أوزار المؤمنين، أو ذاك في مطلق الأوزار وهذا في عامل الزكاة فقط تمييزاً لها لمزيد قبحها باعتبار أن فيها حقين: حقاً تعالى، وحقاً للآدمي فلا أعرفنّ أحداً منكم لقي الله حال كونه ( يحمل بعيراً له رغاء) بضم الراء وبعدها غين معجمة وبعدها ألف ممدودة: صوت الإبل يقال رغا يرغو ( أو بقرة لها خوار) بضم الخاء المعجمة وتخفيف الواو وآخره راء: صوت البقرة ( أو شاة تيعر) بمثناة فوقية فمثناة تحتية فعين مهملة مكسورة ومفتوحة، ومعناه تصحيح، ومصدره اليعار، وهو صوت الشاة.
وحكمة تلك الأصوات من تلك المحمولات الزيادة في تحقيره وفضيحته ( ثم رفع يديه حتى) غاية لمحذوف: أي: وبالغ في الرفع إلى أن ( رأينا عفرة إبطية) بضم العين المهملة وفتحها والفاء ساكنة فيهما: أي: بياضهما الذي ليس بالناصح بل فيه شيء كلون الأرض مأخوذ من عفرة الأرض وهو وجهها وذلك في إبطية إما باعتبار ما يرى من البعد أو لوجود شعر بفرض أن ثم شعراً، وفي روايات غير هذا الحديث التعبير ببياض إبطيه، ولعله باعتبار النظر إليهما من قرب مع عدم الشعر بهما فلا تنافي بين الروايتين.
قال الحافظ زين الدين العراقي: والقول بأن من خصائصه عدم نبات الشعر بإبطيه لم يثبت ما يدل له، ورواية «بياض إبيطيه» معارضة براوية «عفرة إبطيه» نعم من خصائصه أن لا ريح لإبطيه ( ثمقال) بعد تمام الرفع إلى ما ذكر ( اللهم هل بلغت.
متفق عليه)
ورواه أبو داود في «الخراج» ، قاله المزي في «الأطراف» .


رقم الحديث 210 ( وعن أبي هريرة رضي الى عنه عن النبي قال: من كانت عنده مظلمة) بفتح الميم وضم اللام ( لأخيه من عرضه) في محل الحال بيان لمظلمة ( أو من شيء) من عطف العام على الخاص فتدخل فيه اللطمة ونحوها، وفي رواية الترمذي «من عرض أو مال» ؛ والعرض كما في «الصحاح» : النفس يقال أكرمت عنه عرضي: أي: صنت عنه نفسي، وفلان نقي العرض: أي: برىء من أن يشتم أو يعاب.
وقد قيل عرض الرجل حسبه اهـ.
وقال في «التوشيح» : العرض بالكسر موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان نفسه أو سلفه ( فليتحلله منه اليوم) أي: في الدنيا ( من قبل ألا يكون) يوجه ( دينار ولا درهم) أي: يوم القيامة.
قال العسقلاني: وثبت ذلك في رواية على ابن الجعد عن ابن أبي ذئب عن الإسماعيلي ( إن كان له) أي: لمن عنده المظلمة ( عمل صالح أخذ) يحتمل أن يكون بالبناء للفاعل: أي صاحب المظلمة وأن يكون بالبناء للمفعول: أي أمر الله أن يؤخذ ( منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات) مفهوم الجمع غير مراد: أي وإن لم تكن له حسنة، إذ من له حسنة داخل في العمل الصالح، فلا يكون من أفراد هذا القسم القسيم لذلك ( أخذ) بالبناء للمفعول ( من سيئات صاحبه) أي: وهو صاحب المظلمة ( فحمل عليه) أي: على الظالم.
( رواه البخاري) قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحديث قد أخرج مسلم معناه من وجه آخر وهو أوضح سياقاً من هذا ولفظه «المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصياموزكاة» يعني الحديث الآتي أواخر الباب.
ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى} ( الأنعام: 164) لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه: ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله في عباده اهـ.


رقم الحديث 211 ( وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما) قال المصنف: العاص أكثر ما يأتي في كتب الحديث والفقه بحذف الياء وهي لغة، والصحيح الفصيح العاصي بإثبات الياء، ولا اعتبار بوجودها في كتب الحديث أو أكثرها بحذفها اهـ.
وقال الهروي في «المرقاة» : الأصح عدم ثبوت الياء إما تخفيفاً أو بتاء على أنه أجوف، ويدل عليه ما في «القاموس» : الأعياص من قريش أولاد أميةبن عبد شمسبن العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص، فعليه لا يجوز كتابة العاص بالياء ولا قراءته بها لا وفقاً ولا وصلاً فإنه معتل العين، بخلاف ما يتوهمه بعض الناس أنه اسم فاعل معتل اللام من عصى، فحينئذٍ يجوز إثبات الياء وحذفها وقفاً ووصلاً بناء على أنه معتل اللام اهـ ( عن النبي قال: المسلم) أي: الكامل الإسلام، قال المصنف: وليس المراد نفي أصل الإسلام عمن لم يكن بالصفة المذكورة في قوله: ( من سلم المسلمون من لسانه ويده) بل هذا كما يقال العلم ما نفع أو العالم زيد: الكامل أو المحبوب فكله على التفضيل لا الحصر، ثم ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه أشد، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكفّ عنه والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك: وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس واليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد لأنه يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم يمكن أن يشارك اللسان في ذلك بالكتابة وإن أثرها في ذلك لعظيم، ويستثنى من ذلك شرعاً تعاطى الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك.
وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة فيدخل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق.
فائدة: كمال الإسلام والمسلم متعلق بخصال أخر كثيرة، وإنما خص ما ذكر لمادعا إليه من الحاجة الخاصة ( والمهاجر) من الهجر: وهو الترك وهو بمعنى المهاجر، وإن كان لفظ المفاعلة يقتضي وقوع فعل من اثنين لكنه هنا للواحد كالمسافر.
ويحتمل أن يكون هنا على بابه لأن من لازم كونه هاجراً وطنه مثلاً أنه مهجور منه.
والهجرة ضربان: ظاهرة وهي الفرار بالدين من الفتن، وباطنة وهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وهو ما أشار إليه بقوله: ( من هجر ما حرم ا) وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد النحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون هذا القول وقع بعد انقطاع الهجرة، قاله لما فتحت مكة تطييباً لقلب من لم يدرك ذلك: أي: إن حقيقة الهجرة يحصل لمن هجر ما نهي الله عنه فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع معاني الكلم والحكم ( متفق عليه) قال في «الجامع الصغير» : ورواه أبو داود والنسائي.


رقم الحديث 212 ( وعنه) أي: عن عبد ابن عمرو ( كان على ثقل رسول الله) الثقل بفتح المثلثة والقاف: العيال وما يثقل حمله من الأمتعة ( رجل يقال له كركرة) قال الحافظ ابن حجر الواقدي: إنه كان أسود يمسك دابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القتال.
وروي أبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى أنه كان نوبيا أهداه له هوذةبن علي الحنفي صاحب اليمامة فأعتقه.
وذكر البلاذري أنه مات في الرق.
واختلف في ضبطه فذكر عياض أنه بفتح الكافين.
وبكسرهما قال النووي، إنما اختلف في كافه الأولى، أما الثانية فمكسورة اتفاقاً.
وقد أشار البخاري إلى الخلاف في ذلك ( فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو في النار) أي: يعذب على معصيته، أو المراد هو في النار إن لم يعف الله عنه ( فذهبوا ينظرون إليه) أي: إلى السبب الذي قد يحال عليه العذاب ( فوجدوا عباءة) قال القاضي عياض في «المشارق» : العباء ممدود، قال ابن دريد: العباء كساء معروف والجمع أعبية، وقال الخليل: العباءة ضرب من الأكسية فيه خطوط سود، وأدخله الزبيدي في حرف الباء وغير المهموز.
وقال غيره: العباءة لغة فيه،ويقال كل كساء فيه خطوط فهو عباءة ( قد غلها) الغلول هنا: الخيانة في المغنم، قال ابن قتيبة: سمي بذلك لأن آخذه يغله في متاعه: أي يخفيه فيه، ونقل المصنف الإجماع على أنه من الكبائر.
قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث تحريم قليل الغول وكثيره ( رواه البخاري) في كتاب الجهاد وأخرجه ابن ماجه فيه أيضاً.